/

 

 

الحداثة و الإبادة و نفسية الاستبداد

الزهيد علوي

يذكر أحد مؤرخي الغزوات القبلية في أوروبا في القرن السابع نصيحة أم أحد الملوك البرابرة لولدها: " إذا رمت عملا يرفع ذكرك، فعليك بهدم كل ما شاده غيرك و الفتك بكل من ظفرت به، فإنك لن تشيد خيرا مما شاده سابقوك، و ليس في مقدورك تحقيق إنجاز أنبل ليذيع صيتك"(1).
و في أحد الأيام طلعت علينا إحدى القنوات الفضائية الغربية بمشهد مرعب جدا يصور شخصا يحاول الاقتراب من أسد لأخذ صورة فوتوغرافية له، و في غفلة من هذا الشخص تنقض عليه لبوءة من الخلف فتفترسه بعد مقاومة شديدة منه. يصبح هذا المشهد مقرفا عندما نعلم أن من صوره كان بإمكانه التدخل و انقاد الضحية، أما إذا علمنا أن من صوره بهذه البرودة هي زوجة الضحية، فيصبح المشهد أشد قرفا، لأنها استغلت الفرصة لتحول ذلك المشهد إلى مادة إعلامية تحقق بها شهرة عالمية.
مثل هذه المواقف تطرح أكثر من تساؤل حول قيمة الإنسان و العلاقات الإنسانية في أعلى مستوياتها عندما تطرح في مقابلها نزعة الارتقاء و التقدم أو غيرها من النزعات الدنيوية التي برزت مع تطور الفكر الغربي.
كثيرا ما يستشكل علينا الأمر عند محاولة قراءة و فهم ظاهرة الإبادة و نفسية الاستبداد التي طبعت المجتمع الغربي منذ بداية عصر النهضة إلى تاريخنا الراهن، و كثيرا ما نحاول إرجاع هذه الظاهرة إلى الصراعات السياسية التي كانت تقوم بين مكونات المجتمع الغربي بسبب التناقضات السياسية و الاجتماعية التي كان يفرزها الحراك السياسي داخله، وكثيرا ما غنى حداثيونا بأن السعادة التي سيفرزها مسار تطور المجتمع الغربي للعالم سينسخ كل تلك النقط السوداء في تاريخ الغرب، وينسينا إياها و العبرة بالخاتمة.
المؤسف هو أن هذه الظاهرة بما تحمله من ممارسات تفكيكية و تدميرية للإنسان سواء كانت شمولية أو جزئية جماعية أو فردية لا يكفي تفسيرها بموقف سياسي أو إحساس اجتماعي أو نظرة ثقافية، و إنما الأمر يتجاوز ذلك إلى نسق فلسفي مادي يؤطر هذه المجالات التي تؤسس لنفسية الإستبداد و تفرز الممارسات الإبادية الوحشية.
إن المحتوى التاريخي للحداثة – كما يشير إلى ذلك السياق التاريخي منذ عصر النهضة إلى تأريخنا الراهن – و ما نتج عنه من تغيرات و انقلابات، يؤكد و يوضح أن الحداثة لا يمكنها إلا أن ترادف الإبادة و الاستبداد، و تكفي نظرة بانورامية سريعة لتاريخ الغرب الحديث و المعاصر لإبراز هذه النتيجة، فتاريخ الغرب يحمل في طياته نتانة مفرطة تفرزها صور الإبادة و التقتيل و التدمير داخل المجتمع الغربي و خارجه.
نتفق إلى حد كبير مع المؤرخ الأمريكي كافين رايلي Kevin reily في أنه ليس ثمة أسباب تحمل على الاعتقاد بأن فريقا من الناس أجنح إلى العدوان و الغزو الإبادة من فريق آخر لأسباب بيولوجية، فتوزيع الجينات لا يتغير من جماعة إنسانية لأخرى تقريبا، و لكن فكر المجتمع و ثقافته هي التي تمجد العدوان و الإبادة أو تكبتها (2)، و من المؤكد أن الصيرورة التاريخية لأي مجتمع لا تتم في فراغ مها يكن مستوى التحولات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية التي تحملها هذه الصيرورة، و المناخ الفكري و الثقافي و النفسي يساعد على تحقيق المسار النهائي لهذا الواقع إلى حد كبير، و تبني المجتمع الغربي لسلاح الإبادة كوسيلة لتعبيد الطريق أمام التقدم و الحداثة و تحقيق القوة لم يكن لينبع من الاعتبارات السياسية أو الاقتصادية وحدها، فهو مرتبط بإطار ثقافي و حضاري و نفسي أوسع (3).
فهذا المجتمع عمد منذ تاريخه القديم إلى توجيه عدوانيته إلى وجهات دينية و إقطاعية، حيث كانت الاديولوجية الكنسية المتحالفة مع الإيديولوجية الإقطاعية تمجد ثقافة القتل و الإعدام و الاستعمال السريع للمقصلة و إشاعة الرعب و الترهيب، و إن كان هذا مرتبط بالرصيد الثقافي المسيحي فإنه لا ينفصل عن الدلالات الخصوصية للحضارة الغربية عبر استمراريتها التاريخية الطويلة . كما أن ردة الفعل التي جاءت لمواجهة هذا الواقع ( القوة التدميرية للكنيسة و الإقطاع ) و إفراغه من محتواه الدموي، كانت قد انطلقت من إطار فكري يمجد أخلاقا و قيما و يحط من أخرى، و اعتبر التحديث الخاص بالمجتمع الغربي انجازا غير مرتبط بطاغية مستنير و لا بثورة شعبية و لا بإرادة نخبة حاكمة، و إنما هو انجاز للعقل وحده و بالتالي للعلم و الفكر و التكنولوجية (4)، حيث تم الرفع من قيمة العقل و العلم و الحط من قيم الجهل و الاستبداد، و بذلك اعتبرت الحضارة الغربية المرتبطة بالحداثة حضارة عقلانية تكنولوجية تعلي من قيم المنفعة و الكفاءة و التقدم مهما كان الثمن المادي و المعنوي المدفوع فيها، و اعتبرت هذه السمات هي القادرة على تخليص العالم الغربي من براثن الطغيان و الاستبداد ، و تحقيق السعادة المرتبطة بالحرية و المساواة و التقدم. 
لكن المسار التاريخي الذي سار فيه المجتمع الغربي الحديث بعد تدشينه للحظات الحداثة المتتالية طرح من جديد نفس الإشكاليات المرتبطة بظاهرة الإبادة، و هذا ما يدفع إلى القول بأن ثمة عناصر تسم التشكيل الحضاري الغربي الحديث، جعلت الإبادة احتمالا كامنا فيه و ليست مجرد مسألة عرضية، و ولدت داخله استعدادا كبيرا للتخلص من العناصر غير المرغوب فيها عن طريق إبادتها بشكل عقلاني. و تحققت هذه الإمكانية بشكل غير متبلور في لحظات متفرقة، و كما يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري فقد قام الإنسان الغربي بعمليات الإبادة لا على الرغم من حضارته و حداثته و إنما بسببها (5).
لعل ذلك ما بدأت تتوصل إليه بعض الدراسات الغربية نفسها عندما تجاوزت الخطاب السياسي التحليلي المباشر إلى خطاب أوسع و أعم، و أول هذه الدراسات هي تلك التي اهتمت بالإبادة النازية لليهود، حيث نجد دراسة لجورج موس George Mosse " الأصول الفكرية للرايخ الثالث" التي صدرت في الستينات ، حيث يصدر المؤلف دراسته بقولة شهيرة: " لا يوجد شيء في تاريخ أوروبا غريب عن الهولوكوست"، و مع منتصف الثمانينات مع بداية اهتزاز ثقة الإنسان الغربي بمشروعه الحداثي ومع اكتشاف الكثير من الجوانب المظلمة للاستنارة الغربية ظهرت العديد من الدراسات التي ترى ظاهرة الإبادة الغربية باعتبارها تعبيرا متبلورا عن هذه النقائص، ففي كتابه " الحداثة و الهولوكوست"(1985) يذهب زيكمونت باومان Bauman Zygmant إلى أنه لا يوجد أي تناقض بين الحداثة و الإبادة، فالإبادة – في رأيه – هي تحقق لإحدى الإمكانات الجوهرية الكامنة في الحداثة، و هو يقول " لقد نبعت الحداثة من كل ما نعرفه عن حضارتنا الحديثة أو أولوياتها و رؤيتها الجوهرية للعالم"(5). و يذهب جويتس آلي Goetz ally و سوزان هايم Susanne Heim في دراستهما بعنوان " اقتصاديات الحل النهائي" (1988) إلى أن فكرة الإبادة ليست نتاج أساطير خاصة بالعرق و الأرض، و إنما هي نتاج تفكير علمي رشيد يتصل بالاعتبارات الاقتصادية و السياسات السكانية. أما بيرل لانج Berel Lang فقد أكد في دراسته " الفعل و الفكرة في الإبادة النازية" (1990) العلاقة الوثيقة بين الإبادة وفكر حركة الاستنارة، فالعقلانية بنزوعها نحو الكلية و العالمية و عدم تسامحها المبدئي مع الخصوصية بشكل عام خلقت أرضية خصبة أو سببية احتمالية للإبادة، فمفاهيم الاستنارة الأساسية في تصوره تشكل الإطار الفكري للإبادة(6).
بقي أن نوضح بأن الحديث عن الحضارة الغربية, يقتضي بالضرورة عدم التمييز بين مختلف تياراتها و تمظهراتها سياسية كانت أم فكرية، فالإبادة التي قامت بها الرأسمالية الإمبريالية داخل المستعمرات لا تختلف كثيرا عن الإبادة التي قامت بها الشيوعية لإرساء أسس النظام الاشتراكي، و لا تختلف عن الإبادة التي مارستها النازية للتخلص من الجماعات اليهودية بألمانيا، و لاتختلف عن الإبادة التي تمارسها اليوم الصهيونية ضد الفلسطينيين. فهذه التمظهرات و إن اختلفت في لحظاتها التاريخية و بعض أشكالها، فهي لا تملك أن تكون مغايرة في بنائها و سماتها الجوهرية، فالرأسمالية و الشيوعية و النازية و الصهيونية أجزاء أصيلة قي الحضارة الغربية، و بذلك فكل الجرائم الإنسانية التي قامت بها تحسب على الحضارة الغربية و تدخل في مسؤوليتها.
و في الأخير نؤكد على أن حجم المسؤولية الذي وضعت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها فيه من خلال الإبادة الممارسة في العراق و أفغانستان و كوانتانامو و الدعم المطلق بمختلف الأشكال للإبادة الصهيونية ضد الفلسطيتيين، يرتبط باعتبارها النمو الأشد تطرفا للحضارة الغربية الأوروبية، و هذا ما ذهب إليه المؤرخ الأمريكي كافين رايلي Kevin reily عندما اعتبر أن الولايات المتحدة الأمريكية هي الأقدر بالفعل على تنمية إمكانات أوروبا التي تشكلت في العصور الحديثة، و هو يقول: " إذا كانت أوروبا الغربية – في الألف سنة الأخيرة –من أكثر مجتمعات التاريخ البشري نزوعا إلى العدوان و التنافس و الإبادة و الغزو، فلعل أشد فروعها نجاحا و تمتعا بالاستقلال ( أعني أمريكا ) كان أقلها كبحا لجماح هذه النوازع" (7). و لهذا فمن أراد أن يبحث في جذور المواقف الأمريكية من الإرهاب و العنف و الحرب عليه أن يبحث في جذور الحضارة الغربية الأوروبية. 

الهوامش:
(1) – كافين رايلي، الغرب و العالم تاريخ الحضارة من خلال موضوعات، الجزء 1، سلسلة عالم المعرفة، رقم 90، يونيو 1985، ص: 186.
(2) - نفسه.
(3) - عبد الوهاب المسيري، الصهيونية و النازية و نهاية التاريخ، دار الشروق، ط 1، 1997، ص 25.
(4) آلان تورين، نقد الحداثة، المجلس الأعلى للثقافة 1997، ص 16.
(5) عبد الوهاب المسيري، المرجع السابق.
(6) Bauman Zygmant, Modernity and holocaust, Cambridge, polity press1989.
(7) كافين رايلي، المرجع السابق. 

 

 

24-11-2008 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=688