تمثِّل جهود الباحث الياباني الراحل الأستاذ توشيهيكو إيزوتسو في دراسة معاني القرآن الكريم إضافةً على قدر كبير من الأهمية إلى المكتبة القرآنية وإلى الدّرس الدلاليّ الرّصين. وقد استشعر عددٌ من الباحثين المهتمين بالفكر الإسلاميّ والدّرس القرآني في ديار العرب والمسلمين قيمةَ النتاج الفكري لهذا المفكر الكبير. وربّما كان من مجالي التوفيق أن تصدر في العام 2007 م ترجمتان عربيّتان لكتابه النفيس الذي ألّفه بالإنكليزيّة: God and Man in the Koran ، واستجابة لهذا الاهتمام العربيّ الإسلاميّ بآثار السيد إيزوتسو, تجيء ترجمتي لكتابه الثاني الذي يحمل العنوان:Ethico – Religious Concepts in the Quran
وههنا نجد أنفسنا نُدير الحديث حول ثلاثة محاور رئيسة: الكتاب, والمؤلّف, والترجمة.
أمّا الكتاب فيذكر المؤلّف في مقدّمته أنّه نسخةٌ منقّحة لكتابه الأقدم عهدًا الذي نشرته عام 1959 م جامعةُ كِيُو Keio University في طوكيو، تحت العنوان:The Structure of the Ethical Terms in the Koran أي: بنيةُ التّعابير الأخلاقيّة في القرآن. ويذكر المؤلّف أنّه أراد أن يجعل كتابه تعبيرًا أكثر إرضاءً عن آرائه الرّاهنة عندما شاء تنقيحه وإعادة النّظر فيه. ويبيّن أنّ تغييرًا كبيرًا قد أُجري على الكتاب، لكنّ المادّة المستخدمة ظلّت كما هي. و يشير إلى أنّ العنوان نفسه قد غُيِّر لكي لا يخطئ القارئُ في اعتقاد أنّ الكتاب يعالج كلّيّةَ التّعابير الأخلاقيّة في القرآن. وقد أكّد المؤلّف ههنا أمرين: أوّلهما أنّ الكتاب لا يدرس إلّا التّعابير ذات الطّبيعة الأخلاقيّة ـ الدّينيّة، التي تضربُ مفهوماتُها جذورها في جبلّة الإنسان من حيث هو إنسانٌ متديِّن بطبعه، ولا يلتفت إلى ما يُسمّى الأخلاق الاجتماعيّة التي ميدانُها تعاملُ الإنسان مع أخيه الإنسان. الثّاني أنّ هذه الأخلاق البشرية المتحدَّث عنها دينيّةٌ وأخلاقيّة في الوقت نفسه؛ ذلك لأنّ الإسلام نفسَه دينٌ أخلاقيّ أساسًا؛ بمعنى أنّ إحسان الحقّ سبحانه إلى البشر جميعًا يجب أخلاقيًّا أن يُقابَل بالإحسان. وهذه نقطة ما انفكّ المؤلّفُ ينبِّه عليها في تضاعيف مؤلَّفه.
ويشير المؤلّفُ في مقدّمته أيضًا إلى أنّه في الطّبعة الأصليّة للكتاب أعطى مجالًا واسعًا للتأملات النظريّة فيما يتّصل بالنظريّات الحالية للّغة الأخلاقيّة، ونثَرَ ملاحظاتٍ منهجيّة على امتداد الكتاب. أمّا في الطّبعة الجديدة فقد استعاض عن نظريّة تجريديّة للّغة الأخلاقيّة بنظريّة أكثر أصوليّة للنظرة اللغويّة أو الدّلاليّة إلى العالَم، تشكّل الأساس لجملة العمل التّحليليّ الذي قام به، كما أنّه جمع المبادئ المنهجيّة التي تنظّم التّحليل في مدخل.
وقد صمّم المؤلّف كتابه وفق مخطّط ثلاثيّ سمح له بأن يعالج مفصّلًا ثلاثة مجالات غطّت مباحثُها الدّاخليّة جملةَ ما شاء أن يقوله، وهي:
1ـ شرح مفصّل للمبادئ المنهجيّة للتحليل الدّلاليّ الذي قام به.
2- العلاقة الإيجابيّة و السّلبيّة بين الدّستور الأخلاقيّ القبَليّ لدى عرب الجاهليّة والأخلاق الإسلاميّة القرآنيّة.
3ـ تحليل مُفصّل للمفهومات الأخلاقيّة ـ الدّينيّة الرّئيسة في القرآن من خلال تطبيق دقيق للمبادئ المنهجيّة المشروحة في القسم الأوّل.
وسنعرض ههنا بقدر ما يأذن لنا المقام للفِكَر الرّئيسة التي تضمّنتها مباحثُ الكتاب.
في القسم الأوّل من الكتاب يبسط المؤلّف القولَ في مبادئ التّحليل الدّلاليّ الذي سيتبناه في دراسته التّطبيقيّة. ويعرض في هذا القسم لثلاث قضايا هي: اللغة والثّقافة، وقد جعل ذلك مدخلًا؛ ومجالُ الدّراسة وصميمُها؛ ومنهج التّحليل وكيفيّة تطبيقه. وهي قضايا نظريّة أيّدها بأمثلة تطبيقيّة أحيانًا.
في المدخل، حيث أدار المؤلّف حديثَه حول العلاقة بين لغة الإنسان وثقافته، يبيّن أنّه في مستطاع الدّارس أن يتناول المفهومات الأخلاقيّة الدّينيّة في القرآن بعدد من الطّرائق المختلفة. فقد ينطلق من أنظمة الشّريعة الإسلاميّة المحكمة التي نظّمت أنماط السّلوك البشريّ؛ وقد ينطلق من أنظمة علم الكلام الإسلاميّ المنظّمة جدًّا أيضًا؛ وقد تكون نقطةُ انطلاقه انتزاعَ تعاليم وآراء مختلفة في موضوع التّعاليم الأخلاقيّة في القرآن و ترتيبها وتأليف كتاب يُسمّى (أخلاق القرآن). وينبّه المؤلّفُ على أنّ صنيعه في هذا الكتاب مختلف عن ذلك كلّه، ويتمثّل الاختلافُ أساسًا في المنهج التّحليليّ الذي سيطبّقه على المعلومات القرآنيّة؛ الأمر الذي يجعل القرآنَ يفسِّر مفهوماته ويتحدّث عن نفسه. فالصميميُّ في بحثه ليس المادّة بقدر ما هو منهج التّحليل اللغويّ المطبَّق على المادّة. ويشدِّد المؤلّف هنا على أمر مهمّ في رأيه هو أهميّة عدم الاعتماد البتّة على مايسمّيه البيِّنة غير المباشرة التي تقدّمها نصوصٌ مترجمة. فالكلماتُ والجملُ المترجمة غيرُ قادرة أبدًا على تقديم مادّة موثوق بها لدراسة بنية النّظرة الأخلاقيّة إلى العالَم لدى شعب من الشّعوب. وفي هذه النقطة يقول المؤلّفُ: "إنّنا حتّى عندما نقرأ فعليًّا نصًّا من النصوص في أصله نميل على نحو غير واعٍ تقريبًا إلى أن نقرأ في هذا النصّ مفهوماتنا الخاصّة التي غذّتها لغتُنا الأمّ، و هكذا إلى أن نُحوّل كثيرًا من تعابيره المفتاحيّة، إنْ لم نحوّلها جميعًا، إلى تعابير مرادفة يمكن الحصولُ عليها في لغتنا الأمّ".
ويبدو أنّ جزءًا من تحذير الأستاذ إيزوتسو من اعتماد التّرجمات أساسًا لدراسة النّظرة الأخلاقيّة لدى شعبٍ من الشّعوب, راجعٌ إلى ما يراه في التّأليف الأخلاقيّ المعاصر، خاصّة في المجال المرتبط بالدّرس المقارن لأنظمة مختلفة من الفِكَر الأخلاقيّة، هذا الدّرس الذي عزّزه التّطور المذهل لعلم الإنسان الثّقافي cultural anthropology في الأزمنة الحديثة. إذ يرى المؤلّف أنّه في كثير من حالات الدّرس المقارن للتعابير الأخلاقيّة القائم على التّلاعب غير الواعي بـ (المفهومات المحوَّلة) تُستخلص استنتاجات خطيرة وماحقة. ويمثِّل المؤلّفُ لأخطاء هذا القبيل الموجودة في الكتابات المعاصرة في الأخلاق بكتابات بعض الباحثين الغربيّين عندما يعوِّلون على الترجمات الإنكليزيّة وحدها في صياغة آرائهم حول فِكَر الصلاح والعدالة في الشنتويّة اليابانيّة أو الكنفوشيوسيّة الصينيّة. وقد أراد المؤلّف من ذلك كلّه أن يبيِّن خطر أن نُقاد من دون قصد إلى نظرياتٍ خاطئة حول طبيعة الحقائق الأخلاقيّة بالتلاعب بمفهومات مترجمة، وعدمِ تحليل المفهومات الأصليّة نفسها تحليلًا علميًّا فعّالًا. ويمضي المؤلّف إلى تأكيد أنّ المحتوى الدّلاليّ لكلّ تعبير أخلاقيّ يُصاغ وسط الواقع العِياني لحياة الإنسان؛ بمعنى أنّ الدّساتير الأخلاقيّة لا تختلف في النّقاط الرّئيسة للمبدأ، بل ينشأ الاختلاف في الحياة العملية التّطبيقيّة. ويبيِّن أنّه قدّم هذه التأملات لتشرح الكثير في شأن الموقف الذي سيتّخذه إزاء المظاهر الدّلاليّة للّغة. ويحدّد بعض ملامح منهجه الخاصّ بالقول:"سأميل بقوة إلى نظريّة تعدّديّةa pluralistic theory تذهب إلى أنّ نظرات شعب من الشّعوب إلى ما هو حسَنٌ وقبيح، أو صحيح وخاطئ، تختلف من مكان إلى آخر ومن زمانٍ إلى آخر؛ وتختلف جذريًّا، ليس من حيث هي تفاصيل تافهة تفسَّر بعيدًا بوصفها درجاتٍ في سلّم تطوّر ثقافيّ متكامل، بل من حيث هي اختلافاتٌ ثقافيّة أساسيّة لها جذورها الضّاربة في تربة العادات اللغويّة لكلّ جماعة بعينها".
ويوضح المؤلّفُ أنّ نظريّة المعنى التي تشكّل الأساسَ للبنية الكلّيّة لكتابه ليست أبدًا إسهامًا خاصًّا له. بل هي مبنيّة على نمط لعِلم الدّلالة طوّره وأحكمه في ألمانية الغربيّة الأستاذ ليو فايسجربر Leo Weisgerber وسمّاه التصوّر اللغويّ للعالم sprachliche Weltanschauungslehre. ويشير إلى أنّ هذه النظريّة تتّفق كثيرًا في خلاصاتها الرّئيسة مع ما هو معروف عادةً اليومَ بـ "عِلم اللغة العرقيّ ethnolinguistics", وهي نظريّة للعلاقات بين الأنماط اللغوية والأنماط الثّقافيّة وضع أساسها إدوارد سابير في سنيه الأخيرة في الولايات المتحدة. وقد حاول المؤلّف في هذا المدخل أن يدمج بين المدرستين ويقدّم النّقاط الرّئيسة لمناقشتهما التي تهمّه في دراسته. ويمضي بعد ذلك في عرض الأمثلة التي توضح النّظريّة التي اعتمدها. ويخلص من ذلك إلى القول إنّه ليس هناك تطابق موضوعيّ واضح دقيق تمامًا بين الشّيء واسمه. فبين هذين الاثنين يأتي دائمًا نشاطٌ عقليّ، عملٌ إبداعيّ يتمثّل في رؤية الشّيء ذاتيًّا. وههنا يقرِّر المؤلّف أنّ هناك اختلافًا بين الشّعوب في تحديد خاصّيات الأشياء ومن ثمّ تحديد أسمائها؛ فهناك شعوبٌ تهتمّ بالغرض من الشّيء أو الفائدة العملية له و تعطيه صنفًا واسمًا خاصَّينِ تبعًا لذلك, في حين أنّ هناك شعوبًا تهتمّ بشكل الشّيء وصورته، وتصنّفه وتعطيه اسمًا على هذا الأساس. ويمثّل لذلك بكلمة (مائدة table), التي قد تكون مستديرةً أو مربَّعةً أو مستطيلة؛ فإذ يكون منظورنا الخاصّ هو مبدأ النّفعيّة العمليّة نتجاهل معيار المستدير والمربّع ونصنّف كلًّا منهما بأنّها (مائدة) لمجرّد أنّ كلًّا منهما مصنوعةٌ لتؤدّي الغرضَ نفسه. وههنا يتراجع الاختلافُ الشّكليُّ إلى الخلفيّة. أمّا لدى بعض الشّعوب الأخرى فإنّ شكل الشّيء هو العامل الحاسمُ؛ لأنّ الناس هناك ينظرون إلى العالم بمنطق الشكل, لا بمنطق الغرض. ويسوق المؤلّفُ ذلك كلّه ليؤكّد استحالة الاعتماد على التّرجمة في دراسة التّعابير الأخلاقيّة ـ الدّينيّة عند شعب من الشّعوب, "فإنّ كلّ واحدة من كلماتنا تمثّل منظورًا خاصًّا نرى فيه العالَم، وما يُسمّى (مفهوماً) ليس سوى بلورة لمثل هذا المنظور الذّاتي". ويوضح المؤلّف أنّ هذا المنظور ليس فرديًّا بل هو اجتماعيّ؛ لأنه مِلكيّة مشتركة لجماعة كاملة، وهي ملكيّة منحدرة من الأعصر السّابقة بفضل التّقليد التّاريخيّ. وما علمُ الدلالة Semantics سوى دراسة تحليليّة لمثل هذه المنظورات المتبلورة في كلمات. ويُسهب المؤلّف في شرح هذه الفِكْرة بالقول إنّ معجمًا لغويًّا ثريًّا كمعجم اللغة العربيّة يشير إلى أنّ الشّعب الذي يستخدم اللغة قد عزل وحداتٍ مُستقلّة من جملة الواقع أكثرَ مما عَزَله شعبٌ ذو معجم لغويّ فقير. وإنّ كلّ شعب اعتمد طريقةً خاصّة في تحديد ما يمكن عزلُه وإعطاؤه اسمًا. وعمليةُ تخليص أشكال مستقلّة معتمدةٌ دائمًا على الاهتمام الذّاتيّ لكلّ جماعة خاصّة وموجَّهةٌ بهذا الاهتمام. وهذا التّخليصُ أو العَزْلُ لا يحدِّده التشابُهُ الموضوعيّ بين الأشياء بقدر ما يحدّده المنظورُ الذاتيّ الذي يُنظر من خلاله إلى هذه الأشياء. ويحدّد المؤلّف على هذا النّحو قصّة اللغة فيقول: "أيُّ مظهر للواقع يبدو مهمًّا لأملنا وتَوْقنا، أو رغبتنا وإرادتنا، أو فعلنا وعملنا، هو وحده الذي يُخرَج بوصفه قسمًا مستقلًّا و يتلقّى العلامةَ المميّزة المسمّاة (اسمًا), متحوِّلًا بذلك إلى (مفهوم)". ويضيف المؤلّف أنّ الكلمات والمفهومات التي ترمز إليها تؤلّف نظامًا معقّدًا ذا إضافات وتوسُّعات. ويعمل هذا الكلُّ المنظّمُ كأنّه شاشةٌ متوسطةٌ بين عقل الإنسان والواقع قبل المفهوميّ الذي يصل إليه معدّلًا ومعكوسًا وحتى محرَّفًا بفعل التّركيب الخاصّ للشاشة. ويرى المؤلّف ما يراه الوجوديّون من أهميّة العملية العقليّة المتمثّلة في تقسيم الموادّ الأوليّة للتجربة المباشرة على عدد من الوحدات المستقلّة. ويضيف القولَ إننا لا نحتاج إلى أن نحدث هذا التّفصيلَ أو العزْل لعناصر الواقع لكي نعطيها أسماءً؛ لأننا نجد أمامنا نظامًا جاهزًا في صورة معجمٍ لغويّ vocabulary موروث ثقافيًّا من الأجداد، ونحن نتمثّل هذا المعجم عندما نتعلّم لغتنا الأمّ. وعلى هذا النّحو لا يُقدَّم الواقع المباشر لتصوّرنا كما هو أصلًا وطبيعيًّا، بل من خلال موشور الرّموز المسجّلة في معجمنا اللغويّ. وموشورُ الرّموز هذا ليس نسخةً مطابقةً للواقع الأصليّ، بل هو مجموعة من الأشكال التّصوّرية.
ويتقدّم المؤلّف من هذا إلى القول إنّه ليس المهمّ أنّ كلّ جماعة بشريّة لها طريقتها الخاصّة لعَزْل الأجزاء والوحدات، بل أنّ هذه الأجزاء والوحدات تؤلّف معًا منظومةً a system. وهذه المنظومة في غاية النّظام والانضباط. والطّريقة التي تُدمج بها ويُربط فيها بعضُها ببعض ليست اقلَّ تمييزًا للجماعة من طبيعة الأجزاء نفسها. هذا الكلُّ المنظَّم الخاصّ بكلّ جماعة, هو الذي يسمّى المعجمَ اللغويّ vocabulary.
ويلحّ الأستاذ إيزوتسو على إبراز فِكرة أنّ كلّ معجم لغويّ يمثِّل ويجسّد نظرةً خاصّة إلى العالَم تحوّل المادّةَ الأوليّة للتجربة إلى عالَم مليءٍ بالمعنى،(مُفَسَّر). والمعجم اللغويّ ليس بنيةً بسيطة ذات طبقة واحدة, بل يشتمل في داخله على عدد من المعجمات اللغوية الثّانويّة موجودًا بعضُها إلى جانب بعض. وإنّ شبكة المفهومات التي تنشئها التّعابير الأخلاقيّة واحد من هذه المعجمات اللغويّة. والدستورُ الأخلاقيّ لجماعة من الجماعات هو قطاعٌ من هذا العالَم (المفسَّر) على نحو مليء بالدّلالة. وفي هذا الشّأن يتحدّث المؤلّف عن نقاط التّشابه بينه وبين الدكتور جون لاد Johon Lad الذي يقول إنّ الدّستور الأخلاقيّ جزء من الثقافة، وعن اختلاف أساسيّ بينهما من جهة أنّه يهتمّ في عمله بالمادّة المنطوقة وليس بالمفهومات التي تُدرَك من (البيانات). ويخلص المؤلّف هنا إلى القول:"إنّ كلّ ثقافة لديها عددٌ من الأنماط التّقليديّة للتقييم الأخلاقيّ التي تتبلور تاريخيًّا في جملة تعابيرها الأخلاقيّة، وهذه على نحو عكسيّ تزوّدُ متحدّثي اللغة بمجموعة كاملة من القنوات يصنّفون من خلالها كلّ الظّواهر الأخلاقيّة. وباستخدام الأنماط الدّلاليّة للّغة القوميّة لدى جماعةٍ من الجماعات، يستطيع أعضاء هذه الجماعة بسهولة أن يحلّلوا ويصفوا ويقيّموا أيَّ فعل أو شخصيّة إنسانيّة".
وههنا يتساءل المؤلّفُ عن المنهج الأسْلم لتحليل البنية الأساسيّة لحقل دلاليّ كهذا. فيقول مجيبًا: "إنّ خير طريقة لأن نتقدّم، في رأيي، هي أن نحاول أن نصنّف الصّنف الدّلاليّ للكلمة على أساس الشّروط التي تُستخدم فيها".
وتمكّن جملةُ المقدّمات السّابقة المؤلّفَ من الدّخول إلى موضوع دراسته. وههنا نجده يذهب إلى أنّ التّعابير الأخلاقيّة ـ الدّينيّة في لغة من اللغات تؤلّف منظومةً خاصّة من الأصناف ضمن المنظومة الإيحائيّة الأكبر للّغة المعنيّة. والمهمّ لدى الباحث هنا هو البحثُ عن الخصائص المحدِّدة لكلّ تعبير التي على أساسها يصنَّف عدد لا نهاية له من الأشخاص أو الأفعال المختلفين جدًّا في صنف معيّن؛ وهكذا يُعطَون اسمًا مشتركًا. وبالفحص التّحليليّ للتعابير الأخلاقيّة الدّينيّة المفتاحيّة في لغة من اللغات، قد يتعرّف الباحث تدريجيًّا البنيةَ الأساسيّة للمنظومة التي بها تُصفّى كلُّ الأحداث التي تشترك في الحكم الأخلاقيّ.
ويصل المؤلّف في نهاية هذا المدخل إلى تحديد ما سيقوم به تطبيقيًّا في شأن التّعابير الأخلاقيّة ـ الدّينيّة في القرآن الكريم. فيذكر أنّه سيبدأ بأن يُلاحظ على نحو دقيق كلّ الأمثلة المتوافرة للاستخدام الفعليّ لهذه التّعابير، وسيحلّل تحليلًا دقيقًا سياقات الموقف، ويضع الفَرْضيات التي عليه أيضًا أن يفحصها بمقابلتها بأدلّة أوضح ويعدّلها عند الضرورة. وبعد ذلك يتحدّث المؤلّف عن مزايا هذا المنهج التّحليليّ.
في المبحث الثّاني من هذا القسم الأوّل يعالج المؤلّف (مجال الدّراسة وصميمها). وههنا ينبّه على أهميّة الإطار البيئي والتّاريخيّ للمادّة التي اختار أن يدرسها، وهي جزيرة العرب في القرن السّابع الميلاديّ؛ حيث دخلت المعايير الأخلاقيّة القَبَليّة المتمتّعة بقداسة القِدَم في صراعٍ دامٍ مع المثُل العليا الجديدة للحياة، وهكذا تقدّم جزيرةُ العرب في هذه المرحلة مادّةً ممتازة لدراسة ولادة دستور أخلاقيّ ونموّه. ويوضح المؤلّف ههنا قصْدَه من الدّراسة فيقول:"وبالتّتبع الدّقيق للتحوّلات الدّلاليّة التي خضعت لها التّعابير الأخلاقيّة الرّئيسة في لغة العرب إبّان هذه المرحلة الحاسمة من تاريخها، لا آمل فقط أن أكشف الرّوح الموجِّه للدستور الأخلاقيّ الإسلاميّ، بل أيضًا ألقي ضوءًا جديدًا على المسائل النظريّة الأكثر عمومًا للخطاب الأخلاقيّ والوظيفة التي قام بها في الثّقافة الإنسانيّة".
ويشير المؤلّف هنا إلى ثلاثة أصناف من المفهومات الأخلاقيّة في القرآن: تلك التي تتحدّث عن صفات الله تعالى الأخلاقيّة، وتلك التي تصف الموقف الأصليّ للإنسان من الله تعالى، وتلك التي تشير إلى مبادئ السّلوك التي تحكم العلاقات الأخلاقيّة بين أفراد الجماعة المسلمة. ويبيّن المؤلّف أنّ دراسته لا تهتمّ بالصفات الإلهيّة أو الأخلاق الإلهيّة، ولا تهتمّ بالعلاقات الأخلاقيّة بين أفراد المجتمع المسلم، بل تتناول بالتحليل العلميّ الدّقيق المجموعةَ الثّانية التي موضوعها العلاقةُ الأخلاقيّة للإنسان بربّه. وههنا يشير المؤلّف إلى فِكرَة محوريّة لديه بالقول إنّ "عين حقيقة أنّ الله، وفقًا للتصوّر القرآنيّ، ذو صفة أخلاقيّة ويتعامل مع الإنسان بطريقة أخلاقيّة، تحمل الدّلالة الخطيرة المتمثّلة في أنّ الإنسان أيضًا يُتوقّع منه أن يستجيب بطريقة أخلاقيّة". ويضيف إلى ذلك فِكرة مهمّة أخرى فحواها أنّ استجابة الإنسان الأخلاقيّة لأفعال الله تعالى تعني في المنظور القرآنيّ الدّينَ نفسه، فهي أخلاق ودين. ويبدو أنّ هذا الفهم من العوامل التي دفعت المؤلّفَ إلى تغيير عنوان دراسته في الطّبعة الثّانية ليجعله: المفهومات الأخلاقيّة ـ الدّينيّة في القرآن، بدلًا من: بنية التّعابير الأخلاقيّة في القرآن. ويقول ههنا "إنّ جملة المفهومات المتصلة بهذا الصّنف الثّاني يمكن أن توصف بأنّها مفهومات أخلاقيّة دينيّة". وهذه المفهومات هي مجالُ الدّراسة وصميمُها.
ويبيّن المؤلّف أنّ هذه الأصناف الثّلاثة للمفهومات الأخلاقيّة في القرآن لا يقف بعضُها بعيدًا عن بعض، بل هي شديدة التّرابط، وذلك راجع إلى ارتكاز نظرة القرآن إلى العالم على الله سبحانه. ويعني هذا دلاليًّا أنّه لا يوجد مفهومٌ رئيس في القرآن يكون مستقلًّا تمامًا عن مفهوم (الله) سبحانه، وأنّ المفهومات الأخلاقيّة المفتاحيّة في القرآن إمّا انعكاس باهت للأخلاق الإلهيّة, وإمّا تعبير عن استجابة خاصّة تحدثها الأفعال الإلهيّة.
ثمّ يُنبّه المؤلّف على أنّ التأليف الأخلاقيّ المعاصر ينشغل كثيرًا بكلمات المستوى الأخلاقيّ الثّانويّ للخطاب الأخلاقيّ من مثل(خَيْر) و(شرّ)، ويأخذ على فلاسفة الأخلاق إهمالهم حقيقة أنّه في الحياة العمليّة تُقام تقييماتنا الأخلاقيّة في المقام الأوّل على المستوى الأوّليّ للخطاب وليس على المستوى الثّانويّ. ويُعنى بالمستوى الأوّلي التّعابيرُ الأخلاقيّة الوصفيّة العاديّة من مثل (وَرِع)و(مُنافِق)و(مُتواضِع)و(كَرِيم)أمّا تعابير المستوى الثّانويّ فهي التّعابير التّصنيفيّة التّقييميّة كقولنا عن التّواضع أو الكرَم إنّه صفة جيّدة.
ويشدّد المؤلّف على ضرورة أن نتذكّر، ونحن نحاول تحليل اللغة الأخلاقيّة لأيّة جماعة، أنّ الكتلة الرّئيسة لدستور أخلاقيّ ما مؤلّفةٌ دائمًا, من الوجهة اللغوية، من كلماتٍ من الصّنف الأوّلي. وهذا منطبق طبعًا على الدّستور الأخلاقيّ القرآنيّ؛ فالآليّة الحقيقيّة للدستور الأخلاقيّ القرآنيّ تعمل على مستوى التّعابير الأخلاقيّة الأوّليّة. وتتضح هذه الحقيقةُ أكثر عندما ننظر إلى الأصناف الخمسة للأحكام التي طوّرها علماء الفقه في الأعصر اللاحقة، وهي تمثّل التّعابير الأخلاقيّة الثّانوية الحقيقيّة، وهي: الواجب، والمندوب، والجائز،والمكروه، والمحظور. وهذه المصطلحات الخمسة لأصناف أفعال المؤمنين منظومةٌ محكمة مما يسمّى وراء اللغة metalanguage، وهي غير موجودة في القرآن نفسه. ويوضح المؤلّفُ الفرقَ بين تعابير المستوى الأوّليّ
وتعابير المستوى الثّانويّ في مجال المفهومات الأخلاقيّة الدّينيّة بالمقارنة بين كلمتي (كُفر)و(ذَنب). فإنّ كلمة (كُفْر) واحدة من كلمات القيمة الأكثر أهميّة في القرآن. وتعني الكلمة أصلًا موقفَ نُكران الجميل إزاء إحسانٍ مقدّم. ولأنّها كذلك تكون كلمةً وصفيّة ذات مضمون عمليّ ملموس. وواضح في الوقت نفسه أنّ هذه الكلمة مغلّفة بهالة تقييميّة تجعلها أكثر من وصف صرف. وهذه الهالةُ التّقييميّة التي تحيط بالنواة الوصفيّة لمعناها هي التي تجعلها تعبيرًا أخلاقيًّا حقيقيًّا على المستوى الأوّليّ. كلمةُ (ذنب) تشير في معظم الحالات إلى ما تشير إليه كلمة (كُفْر). وكلتا الكلمتين يمكن أن تشير في النّهاية إلى الحالة نفسها، لكنّهما تشيران إلى الشّيء نفسه بطريقتين مختلفتين تمامًا. فبينما تنقل كلمة(كُفْر)، أوّليًّا، معلوماتٍ عمليّةً عن حالةٍ من نُكران الجميل أو عدم الاعتقاد وتوحي ثانويًّا فقط بأنّه(شرّ)، تأتي كلمةُ (ذنب) أوّليًّا لتدينه بوصفه منتميًا إلى صنف الخاصّيات السّلبيّة أو المستحقّة للتوبيخ. في الأولى لا تكون القوّة التّقييميّة سوى هالة، وفي الثّانية يكون التّقييمُ نفسه هو الذي يؤلّف النّواةَ الدّلاليّة للكلمة. ويؤكّد المؤلّف ههنا ضرورةَ فصْلِ طبقتين مختلفتين في السّلوك الدّلاليّ للتعابير الأخلاقيّة الأوّلية: طبقة وصْفيّة descriptive، وطبقة تقييميّة evaluative. ويوضح هذا بمثال عمليّ مستمدّ من التّطوّر الأخلاقيّ الذي أصاب الحياة العربيّة بين الجاهليّة والإسلام، مذكّرًا بأنّه في السّياق غير الدّينيّ أساسًا للجاهلية عُدَّ (التّواضعُ)، و(الاستسلام المطلق) شيئًا مخزيًا، مظهرًا لشخصية ضعيفة ودنيئة. أمّا (التّكبّر) و(رفض الطّاعة) فقد كانا في أنظار عرب الجاهليّة أمارتي طبع سام رفيع. لكنّه مع مجيء الإسلام قُلب الميزان تمامًا. وحدث أنّه في السّياق التّوحيديّ الصّرف للإسلام غَدا (التّواضعُ) في حضرة الله و(الاستسلامُ) المطلق له سبحانه أسمى القِيَم، وغَدا (التّكبّر) و(الامتناع عن الطّاعة) أمارتَينِ لعدم التّديّن. ويلخّص المؤلّف هذا المبحث بالقول:( إنّ الدّستور الأخلاقيّ القرآنيّ من حيث كونه بنيةً لغويّة مؤلَّفٌ أساسًا من تعابير أخلاقيّة أوليّة... مع قليل من التّعابير الثّانوية المبعثرة هنا وهناك. وإنّ إنشاء منظومة لما وراء اللغة الأخلاقيّة ethical metalanguage في الإسلام هو عمل القانون أو فلسفة التّشريع في قرونه الأولى. وإنّ الصّنف الأوّل من الكلمات هو الذي يؤدي الدّور الرّئيس في بناء الوعي الأخلاقيّ القرآنيّ).
في المبحث الثّالث من هذا القسم يعالج الأستاذ إيزوتسو (منهج التّحليل وتطبيقه). ونجده في هذا المبحث يلحّ على مسألة أنّه لا يمكن الاعتماد على ترجمات للتعابير الأخلاقيّة الدّينيّة القرآنيّة في دراسة المفهومات الأخلاقيّة القرآنيّة. ويخلص هنا إلى القول بضرورة اتّباع منهج للتحليل يمكّن من الوصول إلى تعار يف للتعابير الأخلاقيّة ـ الدّينيّة في القرآن تربط الكلمة حالًا بجزء محدّد من الواقع غير اللغويّ،أي بما تدلّ عليه في الواقع العيانيّ المحسوس. ويقول المؤلّف هنا: (إذا ما أردنا أن نُدرك الصّنف الدّلاليّ للكلمة نفسها، فعلينا أن ندرس أي نوع من النّاس، وأيّ نمط من الشّخصيات، وأيّ ضرب من الأفعال، تُحدّد ويُدَل عليها عمليًّا عند إطلاق هذا الاسم في العربيّة الفصحى ـ وفي الحالة التي نحن إزاءها الآن، في القرآن).
ويبدو أنّ ما ساقه الأستاذ إيزوتسو من حجاج ونقاش في هذا المبحث يفضي إلى ضرورة اتباع منهج في تفسير التّعابير الأخلاقيّة ـ الدّينيّة في القرآن يحصِّل مدلولات التّعابير من السّياقات النصّية التي ترد فيها، ويتفادى قدر المستطاع الاعتماد على المرجعيات الأخرى، برغم الإفادة منها أحيانًا كما يحدث عندما يرجع إلى قول بعض المفسّرين في شأن التّعبير المدروس أو إلى الشّعر العربيّ في العصر الجاهليّ. يريد المؤلّف إقناع قارئه بضرورة فهم مدلولات التّعابير الأخلاقيّة ـ الدّينيّة من السّياقات القرآنيّة نفسها؛ ليعتمد ذلك منطلقًا لدراسته التّطبيقية في القسم الثّالث من الكتاب. وابتغاء أن يوضح الأمر يأتي بأمثلة كثيرة نكتفي هنا بواحد منها. يقول المؤلّف:(حتّى مثالٌ واحد، شرط أن يكون مختارًا جيدًا ووثيق الصّلة بالموضوع، قد يثبت أنّه موضح جدًّا:"فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ(44)الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ(45)" [الأعراف44 ـ 45]. ألا يؤلّف هذا بعينه نوعًا من التّعريف اللفظيّ لـ (الظّلم)؟ ولدينا في القرآن عدد ضخم من الأمثلة المشابهة، لاستخدام الكلمة نفسها. وبجمع هذه الأمثلة على صعيد واحد، ومقارنتها، ومقابلة بعضها ببعض، ألا يكون من المعقول أن نؤمِّل الحصولَ على تعريف من نوع (الكلمة ـ الشّيء) لهذه الكلمة العربيّة؟ ـ وكون هذا أمرًا ممكنًا سيتجلّى في مناسبات كثيرة في رحلة هذا الكتاب).
هذا مثالٌ نموذجيّ لمنهج التّحليل الذي تبنّاه إيزوتسو وطبّقه. وجليّ تمامًا أنّه منهج يعتمد مبدأ تفسير القرآن بالقرآن. ويقدِّم المؤلّف في هذا الحيّز معالجات كثيرة توضح ملامح المنهج التحليليّ الذي اعتمده, ويستخلص جملة خلاصات في هذا الشأن، منها أنّ الصّنف الدّلاليّ لكلمة من الكلمات يميل إلى أن يكون متأثّرًا كثيرًا بالكلمات المجاورة المرتبطة بالحقل الدّلاليّ نفسه؛ وأنّ الكلمة المهيّأة لأن تُستخدم بتكرار واضح في سياقات محدّدة بجانب كلمة مضادّة لها في المعنى لابدّ من أن تكتسب قيمة دلاليّة واضحة من هذا الجمع المتكرّر. ويمثِّل لذلك بكلمة (كافر) التي تعني شيئًا مختلفًا وفقًا لاستخدامها ضدًّا لـ ( شاكر) أو ضدًّا لـ (مؤمن).إذ تعني في الحالة الأولى (جاحدًا للجميل)، وفي الثّانية (غيرَ مؤمن). ويذهب إلى القول إنّه كلّما كانت الكلمة معبّرة عن ملمح عِرقيّ عميق الجذور لثقافة من الثّقافات غَدا صعبًا أن تُترجم على نحو دقيق إلى لغة أخرى. وإنّ كلّ لغة تمتلك طريقتها الخاصّة لجمع العناصر المختارة في صنف دلاليّ خاصّ. ومن أجل التّمثيل لمنهجه التّحليليّ الذي سيعتمده في القسم التّطبيقيّ يقدّم تحليلًا مفصّلًا لدلالة ثلاث كلمات عربيّة هي: حماسة ومروءة وجهل.
ويخلص المؤلّف في هذا المبحث من كتابه إلى القول إنّ منهجه هو نوع من التّفسير السّياقي. ويقتبس قولًا للأستاذ ج. ماروزيو ينصح فيه من يرغبون في أن يصبحوا مترجمين ممتازين للاتينيّة الكلاسيكيّة: (إنّ خير طريقة لإيضاح معنى كلمة غامضة هو أوّلًا وقبل كلّ شيء أن تجمع، وتقارن، وتربط بين كلّ التّعابير التي تتشابه وتتضادّ وتتطابق). ويقول المؤلّف بعد ذلك: (لا يمكن أن تكون هناك على الحقيقة حكمةٌ أفضلُ لنا من أن نتبنّى هذه المبادئ في محاولتنا تحليل المعلومات القرآنيّة). ويحدّد في النّهاية سبعَ حالات يمكن فيها أيَّ مقطع أن يتخذ على نحو جليّ أهميّةً كبيرة في منظور منهج التّحليل الدّلاليّ الذي اتّبعه.
القسمُ الثّاني من الكتاب أعطاه المؤلّف هذا العنوانَ: (من دستور القبيلة إلى أخلاق الإسلام). وقد أراد أن يجعله مجالًا للحديث عن العلاقة الإيجابيّة والسلبيّة بين الدّستور الأخلاقيّ القبَليّ الجاهليّ والأخلاق الإسلاميّة. ومن هنا نجده يقول في مطلع البحث الأوّل من هذا القسم: (ربّما يتمثّل الملمح الأكثر بروزًا لتطوّر الفِكَر الأخلاقيّة في جزيرة العرب القديمة في أنّ الإسلام أعلن أخلاقيّة جديدة مبنيّة تمامًا على الإرادة المطلقة لله، بينما تمثّل المبدأ الرّئيس للحياة الأخلاقيّة الجاهلية في التّقليد القبَليّ أو (عادة أجدادنا).
وفي هذا القسم يدرس المؤلّف أربعة مباحث هي: التّصوّر التّشاؤميّ للحياة الدّنيا، وروح التّضامن القَبَليّ، وأَسْلَمة الفضائل العربيّة القديمة، والثّنائية الأخلاقيّة الأساسيّة في الإسلام: أصحاب الجنّة وأصحاب النّار.
في المبحث الأوّل (التّصوّر التّشاؤمي للحياة الدّنيا) يعرض المؤلّفُ للحياة الأخلاقيّة الجاهليّة, ونجده ينفي إمكانية أن لا يكون لدى العرب الجاهليين تمييز بين الحقّ و الباطل, بين ما هو خير وما هو شرّ. فقد كان لديهم، كما يقول، قواعدُهم الصّارمة في السّلوك التي تمكِّنهم من إصدار الأحكام الأخلاقيّة، لكنّ أحكامهم محتاجة إلى أساس نظريّ متين، وكانت صفاتهم الأخلاقيّة عاجزة تمامًا في الغالب عن ضبط سلوكهم إبّان الشدائد إذا كانت مصلحة القبيلة في خطر. كانت العادات المتوارثة من الأجداد هي المهيمنة. وينبّه المؤلّف هنا على ملمحين مميّزين لروح العصر الجاهليّ هما النّزعة الدّنيويّة والرّوح القَبَليّ.
في شأن النّزعة الدّنيويّة يلاحظ المؤلّف أنّ الفقر في التّخيّل ترك مياسِمَه على كلّ شيء تقريبًا مما يمكن تمييزه بأنه عربيّ صرف. عند العقل العربيّ الواقعيّ، هذا العالمُ الحاضر بما فيه من آلاف الألوان والأشكال هو العالم الوحيد الموجود. ولا يمكن أن يكون هناك وجود وراء هذا العالم. وقد عرف العرب الجاهليون كلمة(الخلود) بمعنى الحياة الطّويلة السّرمديّة، لكنّ هذا(الخلود) لا بُدَّ من أن يكون في هذا العالم وليس في عالم آخر، لكنّه غير موجود فيه. وينبّه المؤلّف على أمر مهمّ هنا، هو أنّ هذا الوعي الحادّ بالاستحالة المطلقة لوجود (الخلود) في هذه الدّنيا كان في الوقت نفسه الطّريقَ المسدود الذي انساقت إليه الوثنيّة ونقطةَ البدء التي منها اتّخذ الإسلام سَيره الصّاعد. ويرى المؤلّف أنّ الجاهليّة والإسلام يتّحدان في إدراك زوال حياة الإنسان. والتّشاؤم المنبعث من وعي التّفاهة الجوهرية للحياة مشترَكٌ في كلّ من الشّعر الجاهليّ والكتاب العزيز. لكنّهما يختلفان اختلافًا جوهريًّا في تصوّر وجود عالم آخر غير هذا العالم؛ فالجاهليّة ما عرفت ولن تعرف أيَّ شيء وراء عالم الوجود الحاضر؛ أمّا الإسلام فقد كان دينًا مؤسَّسًا تمامًا على إيمان متّقد بالحياة الآخرة. وهكذا فإن (الخلود) الذي قدّم مثل هذه المشكلة المرعبة العصية على الحلّ لأناس الجاهليّة يحوَّل الآن ( في الإسلام ) من دون أيّة صعوبة إلى عالم يقع وراء أفق الوجود. وقد ترتّب على هذين الفهمين المتباينين أن جعل المسلمُ (مبدأَ الآخرة) الأساسَ الحقيقيّ لحياته؛ وجعل الجاهليُّ الحياةَ الدّنيا فرصةً لانتهاب اللذّات؛ لأنّه لا حياة بعدها. صارت الجِدّيةُ المطلقة المنبعثة من الإحساس الحادّ بدنوّ يوم الحساب، أو (التّقوى) وخشيةُ الله, هي المزاجَ السّائد في ظلّ الإسلام، بينما كان الابتهاجُ والإهمال التّامّ لمسائل الدّين الخطيرة هو المزاجَ المسيطر على الجاهليين.
في المبحث الثّاني من هذا القسم يناقش المؤلّفُ ( روحَ التّضامن القَبَليّ), وكان عليه أن يفعل ذلك ليكون في مقدوره بلورةُ دلالات التّعابير الأخلاقيّة ـ الدّينيّة في القرآن الكريم. ويقول المؤلّف هنا( إنّ القبيلة، أو فرعها العشيرة، كانت لدى عرب عصر ما قبل الإسلام ليست فقط الوحدةَ الوحيدة والأساسَ للحياة الاجتماعيّة بل مثّلت أوّلا وقبل كلّ شيء آخَر أسمى مبدأ للسّلوك , منشئةً نمطًا شاملًا للحياة كلّها، الفرديّة والجماعيّة معًا. كان الرّوحُ القبَليّ حقًّا المصدرَ لكلّ الفِكَر الأخلاقيّة الرّئيسة التي بُني
عليها المجتمع العربيّ). وقد جاء الإسلامُ ليعلن الأفضليةَ الواضحة للعلاقة الدّينيّة على روابط الدّم. ويستشهد المؤلّف هنا بقول الأستاذ فون غرونباوم: (إنّ العامل الأكثر تأثيرًا في اجتذاب النّاس إلى الإسلام كان، بصرف النّظر عن الحقائق الدّينيّة المتضمنة في رسالة محمّد، قدرتَه على العمل بوصفه نقطة تبلّر لوحدة اجتماعية ـ سياسية جديدة).
ويعقد المؤلّف في هذا المبحث عددًا من المقارنات بين الأخلاق الجاهليّة و الأخلاق الإسلاميّة القرآنيّة، ويحدّد كثيرًا من النقاط التي أحدث فيها الإسلام انقلابًا كبيرًا في الأخلاق. وقد أفضى به ذلك إلى المبحث الثّالث من هذا القسم وهو: (أسْلَمة الفضائل العربيّة القديمة).
يحدّد المؤلّف مجالَ حديثه في هذا المبحث بأنّه الاتصالُ بين وجهة النّظر القرآنيّة والنّظرة إلى العالم لدى العرب الأقدمين، والاختلافُ الواسع بينهما في الوقت نفسه، خاصّة في مجال الصّفات الأخلاقيّة. ويؤكّد المؤلّف هذا بالقول: ( هناك اعتبار ما ربّما يمكن أن نتحدّث فيه عن الجانب الأخلاقيّ للإسلام بوصفه إعادةَ بناء لبعض المثُل العليا العربيّة القديمة والمناقب البدويّة التي انحلّت وفسدت في أيدي تجّار مكّة الأغنياء قبل ظهور هذا الدّين). ويذهب المؤلّف هنا إلى تأكيد أنّ الصّور التي رسمها المؤلّفون المسلمون الورعون في العصور المتأخّرة للنبيّ الكريم محمّد عليه الصّلاة والسّلام، وكذلك المزايا الشّخصيّة المنسوبة إلى هذا النّبيّ الكريم، منسجمةٌ تمام الانسجام مع المثُل العليا البدويّة القديمة للرجل التي نجد أنّه يُثنى عليها كثيرًا في دواوين شعراء الجاهليّة. ويلاحظ المؤلّف أنّ الإسلام لم يُعِدْ بناء هذه الفضائل البدويّة كما وجدها بين عرب الصّحراء أو البدو، بل طهّرها وجدّدها جاعلًا طاقتها تنساب في قنوات محدّدة أعدّها. ويشير المؤلّف هنا إلى أمرٍ مهمّ للبحث فيقول: (نستطيع من الوجهة اللغويّة أن نقول إنّه مع مجيء الإسلام خضع بعضُ التّعابير الأخلاقيّة الرّئيسة في الجاهليّة لتحوّل دلاليّ خاصّ).
وبعد ذلك يدير المؤلّف حديثًا مُفصّلًا حول مجموعة من الصّفات الخُلُقيّة الأساسيّة مبيّنًا نواحي التّطوّر التي أدخلها الإسلام فيها. ويتحدّث هنا عن فضائل الكرَم والشّجاعة والوفاء والصّبر، ويُفصّل القولَ في كلّ منها ويقول في ختام هذا المبحث: (لا يزعم الوصفُ السّابق أبدًا استنفادَ الفِكَر الأخلاقيّة الجاهليّة التي تبنّاها الإسلام. لكنّه يُقدّم على الأقلّ الأمثلةَ الأكثر وضوحًا، ويظهر لنا كيف أنّ أسْلَمة Islamization العناصر التي لم تكن إسلاميّة قد حدثت في هذه المرحلة المبكّرة. وفي التّاريخ اللاحق الممتدّ للإسلام، سيكون عليه أن يمرّ بعمليّة مشابهة مرّات عديدة عند عدد من المستويات المختلفة للثقافة، عندما ستواجهه مشكلةُ الفِكَر ذات الأصول اليونانيّة والفارسيّة والهنديّة، ثمّ أخيرًا المفهومات الغربيّة الحديثة).
في المبحث الأخير من القسم الثّاني من الكتاب يعالج المؤلّف موضوعًا أساسيًّا هو: (الثّنائية الأخلاقيّة الأساسيّة). ويرى أنّ القرآن في نقطة معيّنة أعلن الفصْلَ التّامّ بين الكفر والإيمان. ونجده في مفتتح المبحث يورد سورة (الكافرون) كاملةً ويقول معلّقًا عليها: (هذه الكلماتُ تحدّد على نحو مثير المغايرةَ الأكثر حسمًا مع الشّرك المحيط، التي وُجِّه إليها الإسلامُ بفضل موقفه الأساسيّ في مسائل الدّين. كان هذا، إذا جاز التّعبير، الإعلانَ الرسميّ للاستقلال من جانب الإسلام عن كلّ ما لم يكن منسجمًا جوهريًّا مع الإيمان التّوحيديّ الذي أعلنه. وفي مجال الممارسات الأخلاقيّة، استلزم إعلانُ الاستقلال هذا نتيجةً خطيرة. فقد أوحى بأنّه منذ الآن فصاعدًا يجب أن تُقاس القيَمُ الإنسانية جميعًا بمعيارٍ للتقييم موثوق به).
وههنا يتحدّث المؤلّف عن المنظومة الأخلاقيّة التي أوجدها الإسلام، فيبيّن أنّ التّصوّر القرآنيّ يقسم الصّفات الإنسانيّة جميعًا على صنفين متضادّين تمامًا يمكن تسميتُهما صنفَ الصّفات الأخلاقيّة الإيجابيّة وصنفَ الصّفات الأخلاقيّة السّلبيّة، ولوضوحهما وقوّة دلالتهما يمكن تسميتُهما (الخير) و(الشّرّ) أو(الحقّ)و(الباطل). ويتمثّل المقياسُ النّهائيّ الذي يُنفَّذ به هذا التقسيمُ في (الإيمان بالله الواحد الأحد الخالق للكائنات جميعًا). وهكذا تبرز في القرآن كلّه هذه الثّنائيةُ الأساسيّة: مؤمن، كافر. وإنّه بمقياس(الإيمان) هذا يستطيع الإنسان بسهولة أن يقرّر إلى أيٍّ من الصنفين ينتمي شخصٌ محدّد أو فعل معيّن. وكانت هذه الحقيقةُ مهمّةً جدًّا للتطوّر الأخلاقيّ عند العرب؛ لأنها مثّلت أوّلَ ظهور للمبدأ الأخلاقيّ المتماسك. وقد كان هذا حدثًا غير مسبوق في التّاريخ الرّوحي للعرب. ويمضي الأستاذ إيزوتسو إلى القول إنّه كان لدى عرب الجاهليّة عدد من القيم الأخلاقيّة المعترف بها، لكنّها لم تكن مبنيّة على مبدأ أساسيّ يسندها؛ كانت مبنيّة على نوع غير عقلاني من العاطفة الأخلاقيّة أو تعلّق أعمى وعنيف بشكل الحياة الذي تناقلته الأجيال بوصفه كنزًا قَبَليًّا لا يُقدّر بثمن. مكّن الإسلامُ العربَ لأوّل مرّة من أن يقيّموا السّلوكَ البشريّ كلّه بالاحتكام إلى مبدأ أخلاقيّ مبرّر نظريًّا. ويتحدّث المؤلّف بعد ذلك عن الصّور التي ترد عليها هذه الثّنائيةُ الأخلاقيّة في القرآن الكريم. ويبيّن أنّها قد ترد في صُوَر تضادّ بين الكافر والمؤمن، أو بين الكافر والمتّقي، أو بين المسلِم و المجرم، أو بين الضّال والمهتدي، أو بين أصحاب الجنّة وأصحاب النّار، أو بين أصحاب اليمين وأصحاب الشّمال. وقد تظهر في صُوَر أخرى هامشيّة.
وبعد ذلك يطيل المؤلّفُ الوقوفَ عند أصحاب الجنّة وعند أصحاب النّار، ويتحدّث عن الصّفات الأخلاقيّة لكلّ فريق ممّا يجعله جديرًا بدخول الجنّة أو النّار. ويشير المؤلّف أخيرًا إلى أنّ ما قدّمه في هذا المبحث من القسم الثّاني يؤهّله لتحليل كلمات القيمة الأساسيّة التي تنتمي إلى الصّنفين المتضادّين تضادًّا مطلقًا.
في القسم الثّالث، آخر أقسام الكتاب، يحلّل المؤلّف المفهومات الأخلاقيّة ـ الدّينيّة الرّئيسة تحليلًا دلاليًّا قائمًا على المتابعة والتّأمّل. ويمثّل هذا القسمُ الجانبَ التّطبيقيّ الأساسيّ من الدّراسة. وههنا يعالج المؤلّف خمس قضايا هي:
1ـ البنية الدّاخلية لمفهوم الكفر.
2ـ الحقل الدّلاليّ لـ (الكفر).
3ـ النّفاق الدّينيّ.
4ـ المؤمن.
5ـ الصّالح والسّيئ.
في المبحث الأوّل من هذا القسم (البنية الدّاخليّة لمفهوم الكفر) يبيّن المؤلّفُ السّببَ الذي دفعه إلى البدء بمفهوم الكفر بدلًا من أيٍّ من القيم الإيجابية بالقول إنّ (الكُفر) يحتلّ منزلة مهمّة في جملة منظومة أخلاق القرآن إلى درجة أنّ فهمًا واضحًا لكيفيّة تركيبه دلاليًّا يكون شرطًا لا بُدَّ منه تقريبًا للوصول إلى تقييم دقيق لمعظم الصّفات الإيجابيّة. وههنا يلخّص المؤلّفُ النّقاطَ التي استخلصها في المباحث السّابقة في شأن البنية الدّلاليّة لمفهوم (الكُفر). ويشرع بعد ذلك في الحديث عن بنية الكفر من خلال المحاور الآتية:1ـ عنصر نُكران الجميل في الكفر, 2ـ الكفر في مقابل الإيمان,3ـ صفات قلب الكافر,4ـ الكفر والشّرك, 5ـ الكفر في معنى (الضّلال),6ـ الهوى سببًا مباشرًا للضلال, 7ـ موقف التّكبّر ومجاليه والتّعابير القرآنيّة المرادفة له والقريبة منه.
وفي المبحث الثّاني من هذا القسم (الحقل الدّلاليّ للكفر) يحلّل المؤلّفُ التّعابيرَ المفتاحيّة الأخَر التي تحيط بهذا المفهوم الرّئيس بعد أن حلّل في المبحث الأوّل بنيته الدّاخلية. ويسمّي المؤلّفُ الشّبكةَ المفهومية التي نسجتها تلك الكلماتُ الشّديدة التّرابط المحيطة بالكفر: الحقلَ الدّلاليّ للكفر. ويدرس هنا الكلمات المفتاحيّة الآتية المُشكّلة للحقل الدّلاليّ للكفر، وهي:1ـ الفِسْق أو الفُسوق، 2ـ الفجور، 3ـ الظّلم، 4ـ الاعتداء، 5ـ الإسراف.
في مبحث (النّفاق الدّينيّ) يحلّل المؤلّفُ دلاليًّا مفهومَ (النّفاق)، ويشير إلى علاقته بالفِسْق. وينبِّه على بنيته الدّلاليّة الخاصّة ويذكر رأي بعض العلماء في عدّه صنفًا أصليًّا متميّزًا يشترك مع الكفر و الإيمان في تقسيم المجال التّامّ للأخلاق الإسلاميّة. ويحلّل المؤلّف تحليلًا دقيقًا السّياقات القرآنيّة التي يُذكر فيها النّفاقُ والمنافقون وطبائعهم وأخلاقهم.
المبحث الرابع من القسم الأخير مجالُ الحديث عن (المؤمن)، حيث يقول المؤلّف في مفتتح هذا المبحث: (مثلما أنّ الكفر يؤلّف، كما رأينا، المسألةَ المحوريّة التي تدور حولها كلّ الصّفات المذمومة، هكذا الإيمانُ هو صميم مجال الصّفات الأخلاقيّة الإيجابية. (الإيمانُ) هو المنبعُ لكلّ الفضائل الإسلاميّة؛ فهو يُوجِدُها جميعًا، ولا يمكن تصوّرُ فضيلة في الإسلام غير قائمة على الإيمان المخلص بالله وبوحيه). وههنا يتحدّث المؤلّف عن المؤمن المثاليّ: نوع الإنسان المؤمن، الصّفات المميّزة للإيمان، تصرّف المؤمن المثاليّ اجتماعيًا ودينيًا. ولإيضاح ذلك يحلّل كثيرًا من المقاطع القرآنيّة الدّائرة في فلك هذا الموضوع. ويقف عند محاور أساسيّة توضح البنيةَ الدّلاليّة لـ (الإيمان)؛ ومن ذلك: الإيمان من جهة كونه مضادًّا للكفر، والإسلام والمسلم، والهداية الإلهيّة، وتقوى الله، والشّكر.
في المبحث الخامس الأخير من هذا القسم يناقش المؤلّفُ على نحو مفصّل مفهومَي (الصّالح) و(السّيئ). ويبيّن هنا أنّه لا يوجد في القرآن منظومةٌ مطوّرة تمامًا لهذين المفهومين، وقد جاءت صياغةُ مثل هذه اللغة الأخلاقيّة من المستوى الثّانويّ على أيدي الفقهاء المسلمين. ويؤكّد إيزوتسو الطبيعةَ الخاصّة جدًّا لـ (الصّالح) و(السّيئ) في المنظور القرآنيّ؛ ذلك لأنّ الأخلاقيّة الإسلاميّة ذاتُ أصل دينيّ، وقد تطوّرت حصرًا ضمن إطار الدّين المتصل بالآخرة. وهذا الإطارُ الأخرويّ يجعل مصير الإنسان النّهائي معتمدًا على فعله في هذه الدّنيا. ثمّ يتناول بالتحليل الدّلاليّ كلمتي (صالح) و(سيّئ). وفي شأن (الصّالح) يشير إلى العلاقة الدّلاليّة القوية بين هذه الكلمة وبين(الإيمان). ويوضح هذه العلاقةَ بالقول: (إنّ ((الصّالحات) هي (إيمانٌ) معبّر عنه تمامًا في السّلوك الخارجيّ. وهكذا يحدث أن يكون تعبير: ﭽ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭼ أحدَ التّعابير المستخدمة على نحو متكرّر جدًّا في القرآن. فـ (ﭒ ﭓ ) ليسوا مؤمنين إلّا إذا جلّوا إيمانهم الدّاخليّ بأفعال محدّدة تستحقّ لقبَ (الصّالحات). ويبيّن أنّ الصّلة المحكمة بين (الإيمان) و(الصّالحات) في التّصوّر القرآنيّ أثارت مشكلةً خطيرة في علم الكلام الإسلاميّ فيما بعد؛ إذ فسّر كلّ من الخوارج والمرجئة هذه الصّلة بطريقة خاصّة. ويمضي المؤلّف في تحليل دلالة الصّالح والصّالحات داخل السّياقات القرآنيّة المختلفة، ويعرض لدلالات الكلمات القريبة في دلالتها من دلالة (الصّالحات)وأضداد هذه الكلمات، فيقف عند مفهومات(البِرّ) و(المعروف والمنكر) و(الخير والشرّ), و (الحسَن والسّيّئ) و(الفحشاء) أو(الفاحشة), و(الطيّب والخبيث)، و(الحرام والحلال). ويقف أخيرًا عند (الذّنوب)، ويشير إلى أنّه سيناقش ههنا التّعابير المفتاحيّة من المستوى الثّانويّ للخطاب، التي تتمثّل وظيفتُها في تصنيف الأعمال السّيئة دينيًّا التي تستحقّ العقوبة. ثمّ يمضي المؤلّف في استخلاص دلالات كلّ من الذّنب والإثم والخطيئة والجرم والجُناح والحَرَج مُفصّلاً القول في معانيها الأساسيّة وعلاقات بعضها ببعض. ويختم معالجاته بالقول: (في هذا الفصل عالجنا أهمّ تلك التّعابير القرآنيّة التي تطابق تقريبًا في المعنى الكلمتين الإنكليزيتين:good وbad؛ صالح وسيّئ. وقد أوضح تأمّلُنا الأمثلةَ على نحو جليّ أنّه من الخطأ التّامّ الجزمُ بأنّ القرآن لا يملك أيّةَ مفهومات(تجريديّة) متطوّرة جدًّا لـ (الصّالح) و(السّيّئ). والصّحيح أنّ بعض الكلمات, على غرار ما رأينا, وصفيّة descriptive أكثر منها تصنيفيّة classificatory. وكلماتٌ مثلُ الحرام والحلال والرّجس،مثلًا، وصفيّةٌ على نحو ملموس جدًّا. وإذا مَا قَيّمت فإنّها لا تقيّم إلّا على نحو غير مباشر، أي من خلال الوصف. لكنّه لا يمكن أيضًا إنكار أنّ بعض الكلمات التي درسناها في هذا الفصل يمكن عدُّها تصنيفيّةً أكثر منها وصفيّة.
وقد ختم المؤلّف كتابه بخلاصة محكمة لخّص فيها ما قام به من تحديد منهجه التّحليليّ والمقابلة بين الأخلاق الجاهليّة والأخلاق القرآنيّة، وما هداه إليه الدرسُ التّطبيقيّ المنظّم.
ولا غِنى عن القول هنا إنّه ليس من شأن هذا التّقديم أن يتناول بالتّفصيل كلّ الفِكَر و المناقشات والتّطبيقات التي قدّمها المؤلّف في تضاعيف كتابه، وهي في جملتها على قدر عالٍ من العمق والتّحقيق والجدّة. ولسنا نبالغ إذا قلنا إنّ المؤلّف يق