حديث «خير القرون قرني» من الأحاديث المعروفة جداً، وقد شكَّل جزءاً أساسياً من الرؤية الإسلامية للفترة التي سميت لاحقاً بالقرون المفضلة- ولأن هذه الفترة تمتلك خصوصية مهمة في التاريخ الإسلامي، فإن مفهوم «خير القرون» -صار جزءاً من الرؤية الإسلامية- للعالم ولدورنا في هذا العالم.
الحديث صحيح بالتأكيد، وهو يكاد يدخل في فئة المتواتر اللفظي، ويدخل حتماً في فئة التواتر المعنوي، أي أن نصه قطعي الثبوت.. لكن ماذا عن دلالة هذا النص؟ ماذا عن الدلالة التي تم استخدامها وتوظيفها في الرؤية السائدة، هل هي الدلالة الوحيدة المستنبطة من النص، أم أن هناك دلالات أخرى تتوافق مع نص الحديث الشريف، ومع مجموع نصوص أخرى، ومقاصد القرآن بشكل عام..؟
بشكل عام، استخدم هذا النص الثابت لدعم دلالتين لا تملكان نفس ثبوت نص الحديث.. الدلالة الأولى دعمت، وإن بشكل غير مباشر، وربما غير مقصود ابتداءً، فكرة «حتمية التدهور التاريخي»، أي فكرة أن التاريخ يمضي دوماً إلى ما هو أسوأ، وهي فكرة مليئة بالدلالات السلبية و لها تأثيراتها المحبطة حتماً، فالعقل الجمعي الذي تقبل فكرة حتمية التدهور، وجعلها جزءاً من رؤيته للعالم، سيتقبل حتماً «التدهور» الذي سيطول كل جوانب حياته، سواء كان ذلك استبداداً أم استغلالاً أم استعماراً، أو حتى تدهوراً في أحوال الطبيعة.. هذه الفكرة ستنزع منه أية محاولة لمقاومة التدهور أو تبديل الأوضاع، لأنه سيعتبر أن ذلك كله محض قدر، لا بد أن يحدث، جزء من طبيعة الأمور.. هذه الفكرة تعززت بحقائق التاريخ (للأسف)، كما أنها منحت نوعاً من التعزية والمواساة للتدهور، باعتباره قدراً مقدوراً.
الدلالة الثانية تتعلق بمفهوم «السلف الصالح»، وهو المفهوم الذي ارتبط بالقرون الثلاثة ارتباطاً جذرياً، ولأن هذه القرون «الثلاثة» قد شهدت مولد المذاهب الفقهية الأساسية في الإسلام، فإن هناك رؤية سائدة (سلفية خاصة) تتحدث عن قراءة النص «القرآن والسنة» مربوطاً بفهم السلف الصالح حصرياً، أي فهم القرون الثلاث الأولى.
هناك عدة ملاحظات ينبغي تسجيلها هنا..
الأولى: أن الحديث باللفظ الذي اشتهر به لا أصل له، أي بلفظ «خير القرون قرني» المتداول، فالصحيح والمتفق عليه هو لفظ «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم..» أي إن كلمة الناس، هي التي استخدمت في اللفظ الصحيح وليس «القرون». هل من فرق هنا؟ ربما لا يبدو فرقاً كبيراً، لكن هناك احتمال أن المقارنة هنا لا تتم بين «قرون» بالمعنى الزمني، ما دام الحديث الصحيح يتحدث عن الناس ابتداءً، وهنا سيكون معنى «القرن» الوارد في الحديث مرتبطاً بمفهوم الأمة، أو الجيل الذي اقترن مع بعضه، والمعنى الأول مدعوم قرآنياً، والثاني تتوافر له شواهد في لسان العرب. وفي الحالتين فإن مفهوم «السلف الصالح» سيحتاج إلى تعديل ليتناسب مع اللفظ الصحيح للحديث. مع العلم أن خيرية الجيل الأول وأفضليته المطلقة ستبقى محسومة، وهي أفضلية مدعومة بنص القرآن أصلاً، قبل الحديث.
الثانية:أن للحديث تتمة، لا تذكر عادة عندما يستشهد به في مختلف السياقات. فقد جاءت ألفاظ مختلفة تكمل الحديث، وكلها تدور حول محاور أخلاقية.. فالنص الكامل للحديث في صحيح البخاري مثلاً «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوامٌ تسبق شهادة أَحدهم يمينه، ويمينه شهادته» وقريب منها في صحيح مسلم، بينما في سنن الترمذي «ثم يأتي من بعدهم قوم يتسمنون ويحبون السمن يعطون الشهادة قبل أن يسألوها» وفي سنن الترمذي أيضاً «ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل ولا يستشهد، ويحلف الرجل ولا يستحلف» وهذه كلها إشارات أخلاقية لها دلالات لا تخفى.
فلنرجع الآن إلى فكرة التدهور التاريخي، نص الحديث بريء من هذه الفكرة تماماً، فالحديث النبوي لم يشر قط إلى أن التدهور سيستمر، بل هو حصر الأمر في المقارنة بين ثلاث «قرون»، ولم يقل قط إن آلية للتدهور ستستمر تباعاً، ولم ينف أيضاً إمكانية أن يظهر جيل أو قرن يعكس التدهور، ويبدأ من جديد انبعاثاً «خيرياً»، دون أن يلغي ذلك طبعاً من الأفضلية المطلقة للقرن الأول..، أو للجيل الأول.
والحقيقة أن هذا المعنى هو الذي يتلاءم مع نصوص أخرى، قرآنية، ونبوية، فوعد الله للمؤمنين بإظهار دينه، وبالنصر، وبالتمكين، وعد قرآني مشروط بالالتزام بقوانين وسنن معينة، وغير محدد بجيل معين أو بقرن { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَن الْمُنكَرِ } [آل عمران: 110]. فالخيرية هنا لا ترتبط بفترة زمنية أو جيل معين يعيش في تلك الفترة، بل ترتبط بوجود نموذج عملي يطبق المبادئ التي تحدد معنى الخير.
كما أن اللحاق بالجيل الأول، جيل المهاجرين والأنصار قد تحدد قرآنيا بالاتباع بإحسان { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِن الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم وَرَضُوا عَنْهُ } [التوبة : 100]، وهو شرط لا يدخل في موضوع القرون وقربها أو بعدها من زمن الجيل الأول، بقدر ما يدخل في موضوع الإحسان. فالاتباع بإحسان ممكن في القرن الخامس، وممكن أيضاً في القرن الخامس عشر، أو العشرين.
ولو تأملنا في تقسيمات سورة الواقعة لأصناف البشر، لوجدنا ذلك واضحاً بشكل أكبر، فالسابقون السابقون، وهم أصحاب الريادة، سيكونون ثلة من الأولين، وقلة من الآخرين (أي إن أكثرهم سيكون مرتبطاً بالجيل الأول زمنياً، دون أن يعني ذلك انتفاء وجود آخرين سيتجاوزون ذلك ويتمكنون من اللحاق بالرواد، رغم قلة عددهم. أما أصحاب اليمين ومكانتهم محفوظة ولا تقليل من شأنها على الإطلاق، فسيكونون ثلة من الأولين والآخرين على حد سواء.. أي إن السبق والخير المطلق سيبقى حتماً للجيل الأول، لكن أجيالاً متأخرة ستتمكن من تجاوز أجيالاً سابقة لها زمنياً، وتحوز مكانة تقترب نسبياً من مكانة الجيل الأول.. إنها تلك الأجيال التي ستكسر آلية التدهور، وتتمكن من الاتباع بإحسان، لتتصل بمنطلقات الجيل الأول ومحفزاته..
وكذلك فإن الأحاديث النبوية، مثل حديث «الخلافة ثلاثون سنة..» تشير فعلاً إلى التدهور، لكنها تشير أيضاً إلى حدوث تصحيح لاحق لهذا التدهور، عبر «الخلافة على منهاج النبوة» – كما يشير الحديث.
كما إن حديثه عليه الصلاة والسلام عن «إخوانه» -أي أولئك الذين وصلوا إلى مكانة قريبة جداً منه- هم أولئك الذين آمنوا به رغم أنهم لم يروه.. (والحديث في صحيح مسلم، مسند الإمام أحمد، سنن النسائي) وهو معنى مفتوح وواسع يتجاوز الزمان، أما بخصوص الدلالة الثانية المستقاة من الحديث، دلالة «أفضلية فهم السلف الصالح» فالحديث لا يدل عليها، لأن السياق يتحدث عن سياق أخلاقي عام دون الدخول في آليات الفقه. والحديث لا ينفي ذلك، ولا يؤكده، ولا يقترب من ذلك أصلاً، ورغم أن هذه الدلالة تساق لصالح منظومة فقهية معينة، فإنه من الجدير هنا التذكير بأن الفترة المذكورة كانت غنية بمدارس فقهية متعددة، وتيارات فكرية مختلفة، تطور بعضها ليصير مذاهب، وبقي بعضها الآخر دون أن يصير كذلك، ولهذا فإن اختزال الفترة كلها بفهم واحد، هو ما يسمى حالياً «فهم السلف الصالح»، فيه من التجاوز والتبسيط الشيء الكثير. قد يكون هناك تيار واحد، من كل التيارات، هو الأقرب للفهم الصحيح، لكن هذا شيء آخر، ولا علاقة له بمفهوم القرون الثلاثة على الإطلاق، ولسنا الآن في مجال الدخول إلى تفاصيل ذلك.
على أن ما يجب الإشارة له هنا، ونحن في دلالة «القرآن والسنة بفهم السلف الصالح» إلى أن تعدد الأفهام لا يعني بالضرورة تصادمها وتناقضها، فالنص يواجه متغيرات عديدة، ولا بد أن تتراكم أفهام متنوعة له، فكرتنا عن الفهم الواحد الصحيح غير دقيقة، لأن هناك مجال دوماً لأفهام تتنوع دون تناقض، وتختلف دون تصادم، ولا أعني بذلك طبعاً الفهم الذي يعطل النص، بل الفهم الجديد الذي يفعّل النص ويعيد تنصيبه على الواقع..
عمَّ يتحدث نص الحديث إذن؟.. إلام يشير الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام؟.. الحديث، عندما يقرأ مع باقي النصوص، نرى فيه إشارة إلى قانون واضح من قوانين نشوء وازدهار، وانهيار الحضارات. وهي القوانين التي أشير إليها مراراً في القرآن الكريم. الحديث يتحدث عن مراحل نشوء الحضارة، حيث يتحمل الجيل الأول العبء الضخم، عبء البذرة الأولى التي ستشق الصعاب، وتحمل الفكرة من عالم التجريد إلى عالم الواقع – وسيبقى لها بذلك فضل الريادة والسبق بشكل مطلق، ثم يأتي دور الأجيال اللاحقة في حمل الشعلة: مرحلة للإنماء، ومرحلة للازدهار، ثم بعد ذلك تواجه كل حضارة دورة الترف الذي سيضعفها ويجعل أخلاقها تتدهور، وبذلك تفقد «خيريتها» – حيث يبتعد النموذج عن التطبيق، وتأتي هنا أهمية الإشارة إلى الأخلاق في تتمة الحديث الشريف، حيث إن الانهيار الخلقي علامة تدهور حضاري، وهو علامة بالذات على انتهاء تلك الدورة الحضارية، فإما أن تبدأ من جديد بجيل يرتبط بمنطلقات الرواد، ويتبعها بإحسان، ويعود بالنموذج إلى التطبيق، بذلك تعاد الدورة من جديد، أو أنه ينغمس في الانهيار مبتعداً أكثر فأكثر عن الجيل الرائد..
الحديث عندما يقرأ في ضوء القرآن والأحاديث الأخرى، ينبهنا إلى ذلك، إلى ضرورة عكس آلية التدهور، لا إلى اعتبارها حتمية لا مفر منها.. لكن منظومة فكرية كاملة، ولدت في التدهور وتعايشت معه، جعلتنا نفهمه بطريقة معاكسة.