/
هجران الكاثوليك لعظة البابا
عز الدين عناية
تقديم المقال: ما العوامل التي تجعل المجتمع ينأى عن الكنيسة وبالمثل تبتعد الكنيسة عن المجتمع؟ يحصل ذلك حين تتحول الأديان إلى هياكل مفتقدة للروح، حين يصير المعبد أقدس من البشر، حين يتحول السدنة أنفذ سلطانا من الربوبية، وحين يصير بهرج الطقس أهم من الشعيرة، عندها يدخل الدين حالة الموات، لقد صارت الكنيسة مرفوضة حتى في فضاءاتها التقليدية،... هجران الكاثوليك لعظة البابا مع مستهلّ كل سنة ميلادية جديدة، عادة ما أتوجّه صبيحة أول يناير إلى ساحة القدّيس بطرس بروما في جولة روتينية، فأصغي إلى ما تيسّر من عظة البابا، وأتمعّن في الحشود الآتية من كل فجّ عميق، ثم أعرّج باتجاه المسرح الروماني، لأزور موضع المعتقل التاريخي الذي هلك فيه النوميدي يوغرطة. غير أن ما استرعى انتباهي هذه السنة، قلّة الزوار في ساحة القدّيس بطرس، كبرى ساحات الكاثوليكية في العالم. فعادة ما يتوافد الزوار بالألوف مع مستهلّ كل عام جديد، لكن هذه المرّة كانت الساحة مقفرة على غير عادتها، خلت من الوفود الحاشدة، إلا بضعة مئات من الحضور، فقد تمثل لي البابا يعظ التماثيل والأوثان التي تزدحم بها الساحة لا المؤمنين برسالته. والواقع أن تقلّص أعداد الوفود التي تفد على ساحة القديس بطرس، انطلق منذ اعتلاء البابا جوزيف راتسينغر كرسي الحبرية في 19 أبريل 2005. فقد قدِّر التراجع على مدى السنة الماضية بما يربو عن نصف مليون، وهو نزيف هائل في أعداد المتوافدين على كنيسة القديس بطرس، كنيسة البابا، ذلك ما تجلّى بحسب المعلومات الرسمية الأخيرى الصادرة عن القصر الرسولي بالفاتيكان. فخلال العام 2008 توافد على اللقاءات العامة مع البابا، سواء في كنيسة القديس بطرس أو في كاستل غاندولفو، مقرّ الإقامة الصيفية للبابا في ريف روما، مليونان ومئتا ألف من الزوار والأتباع والحجيج. ولتتضح الأمور بشكل جلي، يستدعي الأمر العودة لأرقام السنوات الماضية. فخلال الاثني عشر شهرا الأولى من حبرية راتسينغر توافد للاستماع لعظة البابا أكثر من أربعة ملايين شخصا. تراجعت أعداد الوافدين على الساحة للعام الثاني على التوالي، من مليونين وثمانمئة ألف سنة 2007 إلى مليونين ومئتي ألف خلال العام 2008، وقد بلغ العدد خلال العام 2006 زهاء ثلاثة ملايين ومئتي ألف. الملاحظ أن حشود الوافدين الكاثوليك على ساحة القدّيس بطرس، تأتي أساسا بغرض زيارة ضريح البابا السابق كارول ووجتيلا، وليس انجذابا لعظة البابا راتسينغر. وهو ما يدعمه إقبال الزوار والسياح على اقتناء البطاقات البريدية، والروزنامات، والألبومات، التي تضمّ صور البابا السابق أكثر من اقتناء مثيلاتها التي فيها البابا الحالي. الكاثوليك يفوق عددهم المليار ومئة ألف نسمة، لكن هذا العدد الهائل ما عاد يحفزه الانجذاب الكافي لرأس الكنيسة في روما. لابد من النظر إلى هذا التراجع ضمن بعدين: الأول ماكرومسيحي، ونعني به التراجع العام للمسيحية في الغرب وتطوّرها خارجه، خصوصا في إفريقيا، حيث ارتفع العدد ثلاث مرّات خلال ربع قرن، وهو الازدياد الأكثر ديناميكية في العالم الكاثوليكي. كان العدد خلال 1978 55 مليونا تقريبا، وبلغ مع حلول 2004 149 مليونا؛ والثاني ميكرومسيحي، وهو فقدان رجل الدين الكاثوليكي لدوره الروحي في المجتمع، وتحوله إلى حرس لنظام اجتماعي ليبرالي، فما عاد المؤمن يعنيه احتكار الكنيسة للقداسة في زمن ما بعد الحداثة. ففي قارة عتيقة، صارت حتى الكنيسة عتيقة، أو بالأحرى في قارة هرمة صارت حتى الكنيسة هرمة. فالأب المقدّس، أو الحبر المقدّس، أو رئيس الكنيسة الكاثوليكية، أو خليفة المسيح، بحسب نعوت المؤمنين به هو تجلي الربّ على الأرض، غير أن هذا التجلي ما عاد يجلب المؤمن، فأين الخلل؟ ثمة من يفسر ذلك الأمر بمحدودية كاريزما راتسينغر، وقلة شمائل جذبه، التي تمتد من لسانه الإيطالي الركيك، رغم مضي ما يناهز ثلاثة عقود على عيشه في إيطاليا، إلى ما يميزه من خجل مفرط. قد تكون تلك من العوامل التي تنفر الناس من راتسينغر، ولكن ما العوامل التي تجعل المجتمع ينأى عن الكنيسة وبالمثل تبتعد الكنيسة عن المجتمع، أو بحسب القول الشائع الذي يلخص النزيف المتواصل: "الساحات عامرة والكنائس خاوية"؟ يحصل ذلك حين تتحول الأديان إلى هياكل مفتقدة للروح، حين يصير المعبد أقدس من البشر، حين يتحول السدنة أنفذ سلطانا من الربوبية، وحين يصير بهرج الطقس أهم من الشعيرة، عندها يدخل الدين حالة الموات. لقد صارت الكنيسة مرفوضة حتى في فضاءاتها التقليدية، فأعتى الدول الكاثوليكية إيطاليا وإسبانيا، تشهدان مواسم "مقامع الصلبان"، فبعد حكم القاضي في إيطاليا بقانونية إنزال الصليب من قاعات التدريس، في حال مطالبة أحد أولياء التلاميذ بذلك ها هي إسبانيا في الثالث والعشرين من نوفمبر الماضي، يحكم فيها القاضي أليخاندرو فالنتين بقانونية إنزال الصليب من على جدران مدرسة عمومية، بعد أن كان من المقدسات، منذ أن عدَّ فرانكو الكاثوليكية دين الدولة.
28-02-2009 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=711 |