التدين السياسي: آفات الحداثة المادية المستعارة()
يبدو أن حركات "التَّديُّن السِّياسيّ الإسلاميّ" قد غفلت في خطابها وسلوكها عن مراعاة الجانب الرُّوحيِّ في الممارسة الإسلاميَّة، الأمر الذي أفضى إلى طغيان الجانب التَّسْيِيسي على الجانب التَّأْنِيسيّ الذي يحكم الظَّاهرة الدينية عمومًا، والتي تتسم بالشُّموليَّة والتَّكامليَّة، ولعلَّ الاستعجال في تدارك التَّقدم الحضاريّ الذي نتج عن الصَّدمة الحضاريَّة الغربيّة التي وقعت عقب الاحتكاك المباشر مع القوى الاستعماريَّة، أفضى إلى الوُقُوع في شرك الاستعارة والتَّقليد لسلوك الحداثة الماديَّة الغربيّة المتغلبة، والتي أخذت بنمطٍ حداثيٍّ يستند إلى مبدأ نبذ الأخلاق باعتبارها عائقًا يحول دون الدُّخول في أُفُق المعرفة والتقنيَّة.
إنَّ الآليَّات المنتجة لخطاب أنصار "التَّديُّن السِّياسيّ" غفلت عن إدراك الشُّروط العلميَّة والعمليَّة التَّجديديَّة؛ فالتَّجديد المفضي إلى إحداثِ النَّهضة والتَّقدم بحسب الحضارة الإسلاميّة، يتوجه إلى الإنسان أوَّلًا، باعتباره كائنًا أخلاقيًّا قبل أن يكون سياسيًّا، والخروج من جملة الآفات التي تعاني منها حركة "التَّديُّن السِّياسيّ" كالتَّضييق والتَّشنيع لا تتمُّ إلا بالتَّرفع عن المستوى النَّفعي الدُّنيوي، وسلوكيات التَّغلب السِّياسيِّ المؤسّسة على التَّنازع والصِّراع والصِّدام، والاشتغال بما هو أرفع وأشرف طلبًا للتَّجديد وإحياء الفاعليَّة المنتجة، بالانتقال من المستوى الدُّنيوي الأدنى إلى المستوى الرَّباني الأشرف، من المستوى السِّياسيّ الأضيق إلى المستوى الإنساني الأوسع.
لقد جلب الاشتغال بالجانب السِّياسيّ دون الإنسانيّ استبدادًا طاغيًا، وتضيقًا منظمًا، وتشنيعًا مكثفًا، ذلك أن اشتغال السِّياسيِّ قائمٌ على مبادئ التَّغلب والمغالبة، والتَّنازع على السُّلطة الطامحة إلى الهيمنة والتَّحكم والسَّيطرة.
إن مفهوم "التَّديُّن السِّياسيّ" يشير إلى معنًى يقوم على أساس فهم مخصوصٍ للإسلام، وقراءةٍ موجَّهة لنصوص الكتاب والسنة والممارسة التَّاريخية الإسلاميّة، عملت على بناء خطاب أيديولوجي تعبويّ؛ غايته إجراء عمليات فرز واستقطاب حادة، تطمح إلى قلب أنظمة الحكم باعتبارها أنظمةً جاهليةً أو كافرةً، في سبيل إقامة دولة تتمثَّل بالتجربة الإسلاميّة الأولى التي أساسها النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الرَّاشدين من بعده.
فـ"التَّديُّن السِّياسيّ" هو ذلك التَّوجه من لدن فعاليات و حركات وجماعات تضع المسألة السِّياسيَّة في قلب الأطروحة الدِّينيَّة، وتتوافر على اعتقادٍ راسخٍ بقدرة الجانب السِّياسيّ وحده بالقيام بالإصلاح والتَّغْيير والنُّهوض.
لقد عُرفت ظاهرة "التَّديُّن السِّياسيّ" من لدن الباحثين والمفكرين بتسميات عدَّة، فهي أصولية حينًا، وإسلاميوة حينًا آخر، وعند البعض الإسلام السِّياسيّ، أو الإسلام الحركي، ويذهب آخرون إلى نعتها بالحركات التَّماميَّة.
وإذا كانت هذه التسميات تتوافر على وجاهةٍ نسبيًّا، إلا أن تعبير "التَّديُّن السِّياسيّ" يبدوا أكثر مصداقيَّةً من غيره؛ لإصرار أتباعه على التصاق السِّياسة بالدِّين، ولذلك أمكن القول أن "التَّديُّن السِّياسيّ" يشير إلى ظاهرةٍ حديثةٍ نسبيًّا تضمُّ في إطارها جملة التَّنظيمات الدِّينية السِّياسيّة التي تقوم على الإسلام فكرًا وأيديولوجية، وتسعى إلى تغيير الواقع من خلال قلب أنظمة الحكم في العالمين العربي والإسلاميّين، وإقامة دولة الشريعة أو الخلافة.
إن مسارات تشكل ونشأة "التَّديُّن السِّياسيّ" بدأ مع الحركات الإصلاحيَّة التي ظهرت مع نهاية القرن التاسع عشر، واستمرت حتى عشرينيات القرن العشرين، وإذا كانت رموز الحركة الإصلاحيَّة؛ كالطهطاوي، وخير الدين التونسي، والأفغاني، ومحمد عبده، وصولًا إلى رشيد رضا، بنت رؤيتها للعالم من خلال الأنا والآخر، وعملت على بناء توفيقيَّة تستند إلى فكرة التَّنظيمات والمنافع العمومية، وتولي أهميةً فائقةً للمقاصديَّة؛ فإنَّ الصَّدمة الاستعماريَّة وإلغاء الخلافة عام 1924، أفضى إلى إحداث نوعٍ من القطيعة مع الفكرة الإصلاحيَّة، بدأت مع جماعة الإخوان المسلمون التي أسسها الشيخ حسن البنا في الإسماعيلية عام 1928.
ولعل تضخم ظاهرة "التَّديُّن السِّياسيّ"، تضاعفت مع أنظمة الاستقلال التي جاءت بمفهوم الدولة الوطنية، التي هيمنت على أطروحاتها نزعات قومية أو قطرية ذات طبيعةٍ علمانية صلبة، لقد أفضت الدَّولة الوطنية إلى ولاة الجيل الثاني من "التَّديُّن السِّياسيّ" مع سيد قطب، والتي ترتكز في مجلها أفكارها إلى أبو الأعلى المودوي ومفكري شبه القارة الهندية.
كانت فكرة الحاكمية والجاهلية ذروة التَّعبير عن القطيعة مع فكر الحركة الإصلاحيَّة، التي أفضت إلى ظهور حركات تديُّنٍ سياسيٍّ أكثر تسييسًا وعنفًا، فتحت المجال السِّياسيّ والاجتماعي على أبواب الفتنة والحرب الأهلية، تمثلت في "حركات التكفير والهجرة" ، و "جماعات الجهاد" ..، وغيرها من الحركات المشابهة في طول العالم الإسلاميّ وعرضه.
وبلغت مداها مع تجربة المقاومة الأفغانية للاحتلال السوفيتي التي ولدت من رحمها تنظيمات، دخلت في صدام عنيف في تسعينات القرن المنصرم في الجزائر ومصر وغيرها، وتوُّجت بتنظيم القاعدة الذي دفع بظاهرة "التَّديُّن السِّياسيّ" إلى أقصى مداها...
وعلى الرَّغم من الجدل المكثَّف حول علل وأسباب بروز ظاهرة "التَّديُّن السِّياسيّ" إلا أنه يمكن إجمالها في خمسةِ أسباب:
أولاً: فشل النُّخب العلمانيَّة القوميَّة، التي تحالفت مع الغرب الاستعماري، فالنُّخب الليبرالية السَّاذجة التي سادت ثلاثينيَّات القرن العشرين، ونخب الاشتراكية التي سادت في الستينات والسبعينيات، عملت على بناء نخب معزولة عن آمال الشعوب وتطلعاتها.
ثانيًا: نقص المشاركة السِّياسيّة، الذي أفضى إلى تآكل المجتمع المدنيّ بفعل الطبعة الدكتاتورية لأنظمة من بعد الاستعمار، والتي عملت على إغلاق المساهمات العامة الشَّرعية، وحملت أتباع "التَّديُّن السِّياسيّ" على العمل بتقويض النزعة الاحتكارية المتسلطة.
ثالثًا: أزمة البرجوازيّة الصغيرة، فـ"التَّديُّن السِّياسيّ" ينبني على عقيدة البرجوازية الصغيرة، فواقع الاستغلال حمل نتائج غامضة للبرجوازية الصغيرة التي تمكنت من السَّيطرة على دولة ما بعد الاستعمار، إلا أنها بقيت عاجزة عن الوصول إلى السلطة والثروة بسبب سيطرة النخب الحاكمة، فالتعبئة التي عرفتها البرجوازية الصغيرة لم تنجح في الوصول إلى السلطة .
رابعًا: البترو دولار والتنمية الاقتصاديّة غير المتوازنة، إذ هناك علاقة بين العمليات الاقتصاديّة ودلالتها السِّياسيّة، فالنمو والتنمية الاقتصاديّين تذيب الروابط الاجتماعية التقليدية، وتولد طموحات مستحيلة في مجموعات اجتماعية ناشئة، فتدمير البُنَى التقليدية للحياة والغموض، يدفعان النَّاس إلى تأكيد طريقة حياتهم التَّقليدية.
خامسًا: نتائج التآكل الثَّقافيّ؛ فقد أدَّى تكامل المجتمعات المسلمة في النظام الرأسمالي العالمي الخاضع لسيطرة الغرب إلى إضعاف الهويات المسلمة؛ أي أنَّ ظاهرة "التَّديُّن السِّياسيّ" برزت كاستجابة للانضمام إلى نظامٍ عالميٍّ يقوده الغرب.
تبدو هذه الأطروحات معتبرة إذا ما تكاملت في تعليل بروز "التَّديُّن السِّياسيّ" في العالم الإسلاميّ إلَّا أن سلوك الظاهرة مع مناهضته للهيمنة والسَّيطرة وقع في آفة التَّقليد والاستعارة لنفس الحضارة المتغلِّبة، حيث سلك مسلك الحضارة الماديَّة في الأخذ بمقتضيات التَّسْيِيس، وترك ضرورات التَّأْنِيس؛ فالخطاب القرآني يضع الإنسان في مكانة مركزيَّة غفل عنها أنصار "التَّديُّن السِّياسيّ" بسبب الانشغالات السِّياسيّة المحضة.
والغفلة عن الجانب الأخلاقيّ كنتيجةٍ طبيعيَّة لتقليد مسارات الحداثة الماديَّة التي لا تتعلَّق إلا بالقِيَم الماديَّة للأشياء، ولأنَّ السِّياسة بالمفهوم الحَدَاثيّ الغربيّ ماديَّة يشوبها من الأهواء والشَّهوات ما يشوب الحظوظ والمصالح المسيَّسة، وهو مسار لا يعقل من القِيَم الرُّوحيَّة شيئًا، وحظُّه من التَّيقظ والتَّديُّن مدخولٌ، ويفضي في منطقه إلى سياسة تقوم على مبادئ القُوَّة والسَّيطرة والهيمنة والإخضاع، وهو الأمر الذي قاد إلى تعنيف السِّياسة، وحمل معنى الجهاد على القتال، وقصره على مفهوم العسكرة، مما أدَّى إلى الإخلال بمفاهيم الجهاد المدنيّ والثَّقافيّ والاقتصاديّ والأخلاقيّ.
كلُّ ذلك جاء نتيجةً منطقيَّةً لتقليد الحداثة الماديَّة المستعارة من الغرب، والتي اعتبرت المسألة الأخلاقيّة عائقًا أمام الدخول في أُفُق المعرفة والتقنيَّة، وبالتَّالي إغفال ظاهرة "التَّديُّن السِّياسيّ" للمسألة الإنسانيَّة التي ترتكز إلى مسلَّمات الظَّاهرة الدينيَّة التي تتَّسم بالشُّمول والتَّكامل عن طريقِ ربط العمل بالنَّظر، والعقل بالغيب، والنَّظر إلى الإنسان ككائنٍ أخلاقيٍّ في المقام الأول.
هذا المقال ملخص تقدَّم به الباحث الكاتب لمؤتمر: (فقه التدين: الواقع والتطلعات) في جامعة اليرموك في المملكة الأردنية الهاشمية، والذي انعقد بتاريخ: 23-24 ربيع الثاني 1429هـ، 29-30 نيسان 2008م.
نشر هذا البحث لاحقًا في «مجلة التَّسامح» - (فصليّة فكريّة إسلاميّة تصدر عن وزارة الأوقاف والشؤون الدينية) - ، عدد: 21، السنة السادسة، شتاء 1429هـ، 2008م، سلطنة عمان، مسقط.