/
مُـسلمون شُـهداء لإلـهِ الـرَّحـمة
أبو زيد الإدريسي
مُـسلمون شُـهداء لإلـهِ الـرَّحـمة[1] تقديم المقال: ينظر الإسلام إلى الاختلاف على أنه خصب، وأن التعدد في زوايا النظر يؤدي إلى إخصاب الفكر والواقع الإنساني، بل والمشهد البشري على الأرض، ويقبل الإسلام الآخر ذاتا وفكرا، وهذا ما يدفعه إلى أن يضع نظرية في تدبير التعايش، بناء على أن الآخر أمر واقع، وأن الاختلاف مع الآخر أمر واقع أيضا،.. I. الله: إلـهُ الـرَّحـمة: إن الناظر في القرآن الكريم ليعجب من شيوع الرَّحمة بلفظها و معانيها فيه، شيوع الروح في الجسد، فألفاظ الرحمة و مرادفاتها و مشتقاتها تتوزع نسيج القرآن الكريم و تزركشهُ بمعانيها اللطيفة، حتى لتترجم بنيته اللُّغوية حقيقة كونه فعلا "هدى ورحمة لقوم يؤمنون"(الأعراف-52)، و ما أكثر تكرار وصف القرآن لنفسه بصفة الرحمة و ما يلابسها من شفاء و نور و هداية. و لو اقتصرنا على استقراء معنى الرحمة المرتبط حرفيا بالمادة المعجمية: [ ر ح م ] لدهشنا لنسبة تكرار حضور هذه المادة، فهي تتوزع صفحات المصحف كلها، و تبلغ: ( 340 ) موقعا، تكاد تكون بعدد أيام السنة، لتبلغ نسبة رحمة قرآنية في كل يوم ! و يزيد الأمر رسوخا أن هذا الرقم يتوزع على: ( 32 ) تصريفا واشتقاقا مما يدل على سعة تداول القرآن الكريم للفظة الرحمة وعظم تصرفها في ثناياه أفعالا وأسماء و صفات، بالمفرد والجمع، بالإسناد والإطلاق، منسوبة لله عز و جل في غالب الأحيان، ولرسوله وبعض الصالحين في باقي المواقع، موجهة إلى عموم الخلق، مخصوص بعضهم بدرجات خاصة منها لتحققهم بأفعال و صفات خاصة استحقوا بموجبها درجة هذا الاصطفاء. و يكفي أن أذكر أقواها وأرجحها (أرحم ـ رحمناهم ـ ترحمني ـ سيرحمهم ـ ترحمون ـ رحمة ـ الراحمين ـ الرحمان ـ الرحيم ـ المرحمة ـ الأرحام ـ رحماء ـ رحما)، و يبرز في هذا الحقل اللغوي الاشتقاقي البديع للرحمة في القرآن حضور لافت للنظر لكلمتي رحمان (57 موقعا) ورحيم (95 موقعا). ذلك أنهما صفتان من صفات الجليل، واسمان من أسمائه العلى، تطرزان كل سور القرآن الكريم مطلعا وابتداء (باستثناء سورة التوبة) وعلى رأس هذه السور فاتحة الكتاب، ذات السبع المثاني، وبذلك لا يكتفي القرآن بأن يفتتح، و المصحف بأن يبتدأ بالرحمة ''بسم الله الرحمن الرحيم''، وإنما يشفع ذلك بأن تكون الرحمة تطريزا لمطالع كل سور الهدي الكريم، ولم تكتفِ البسملة، و لا الذات العلية بالصفة العادية للرحمة، باستعمال اسم الفاعل:الراحم، بل جاوزتها إلى صيغتي مبالغة، تسند كل واحدة منهما الأخرى تكرارا وتوكيدا وتعزيزا وترسيخا: الرحمان والرحيم، وحين يستعمل القرآن الكريم نادرا صيغة اسم الفاعل يشفعها بأن يسند إليها اسم التفضيل، ويجعلها جمعا مطلقا: (...وأنت أرحم الراحمين)(الأنبياء/ 83 ). فإذا انتقل الناظر من اللغة المجردة إلى دلالاتها المضمونية، يدهشه أن الرحمة تكاد تكون كل شيء إيجابي في القرآن الكريم: كل خير أو فضل أو بر أو عمل صالح أو نعمة إلهية أو توفيق رباني أو صدقة أو حسنة أو طاعة في معروف يسميها القرآن رحمة، أو يعللها بالرحمة، أو يجعل غايتها الرحمة، حتى لتكاد تكون الرحمة الأول و الآخر والظاهر والباطن في النسق التعليلي لتشريع الأحكام والأمر بالأفعال والنهي عن المنكرات: فاللِّين رحمة (فبما رحمة من الله لنت لهم) (آل عمران-159) والوحي رحمة (قد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة) (الأنعام-57)، والنجاة من الهلاك رحمة (فأنجيناه والذين معه برحمة منا) (الأعراف- 172)، والنبي رحمة (يؤمن بالله و يؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا) (التوبة-16) وبر الوالدين رحمة (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة)(الإسراء- 24)، وبعثُ المسيح: " ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى بن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة و رحمة"(الحديد-27) . وكذلك شأن تعميم الهداية وإنزال التوراة ونزول المطر وعموم المغفرة والنجاة من العذاب وحصول الطاعة وحضور التقوى والخشوع في الصلاة وإيتاء الزكاة والاستغفار والإصلاح بين الناس والصبر والهجرة وتشريع القصاص واستمرار الخليقة، وجعل الأصل الإباحة والرزق والحكمة والعدل والبعث والجنة والحساب العادل وكشف الغمة وتلمس أسباب النجاة والرفق بالأيتام والإحسان لذوي الحاجات وتجنب القنوط والدعاء للوالدين، وبناء سد يأجوج و مأجوج ونعمة الزوجية على الآدميين وغيرها من المعاني السامية والنعم الربانية كلها توصف في القرآن بأنها رحمة، أو أن سببها رحمة، أو أن الغاية إنزال الرحمة و تعميمها على العباد والصالحين و المستضعفين. لا يكتفي القرآن باعتماد الرحمة معيارا للأفعال النبيلة، و مسارا لرسم الغايات، وبيانا لنزول الآيات و تنـزل النعمات، وإنما يوجه المخاطبين إلى طلب الرحمة (وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين) (المؤمنون/ 118)، إطلاقا وتثبتا عند المصائب (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة)(البقرة-157)، وتفهما لحكمة الشريعة الغراء: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه، إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا، أو لحم خنزير فإنه رجس، أو فسقا أهل لغير الله به، فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم)(الأنعام- 145) وتعليما لنا كيف نقدر ربنا ونفتح باب الأمل في وجه تقصيرنا وخطايانا، بعبارات ندية تنسج نسيج الرحمة والتوبة والمغفرة والسلام لعموم الخاطئين (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم) (الأنعام/54). لكن هذه الرحمة لا تأخذ مصداقيتها إلا من عموميتها، إذ لو كانت خاصة، لصارت امتيازا واحتكارا لفئة محظوظة فتحولت بالنسبة للمحرومين منها إلى نقيضها نقمة وشقاء، وحاشا لله العادل الرحيم، ووحيه الحق الحكيم أن يسير بمنطق الديانات الباطلة أو المحرفة والنحل المنغلقة التي تشرع لأهواء الطبقات والفئات فتحتكر حتى الوحي و تحوله إلى امتياز . القرآن الكريم واضح وصارم بصدد عمومية الرحمة، فهو يخاطب بها الناس جميعا، لا قوما ولا جنسا ولا طبقة ولا قبيلة مخصوصة محظوظة: (يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين، قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا، هو خير مما يجمعون) (يونس/57 و58) إنها رحمة واسعة (ورحمتي وسعت كل شيء) تسع كل العالمين، وتعرض عليهم بيسر وتواضع شروطها البسيطة لتنال منهم جميعا بلا استثناء (فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة و الذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) (الأعراف/ 156 – 157) فليس مطلوبا ممن يريد أخص أنواع هذه الرحمة وأعلاها وهي الجنة سوى أن يستجيب لفطرة التوحيد والتجافي عن الخبائث وسلامة التصرف، فإذا به ينالها إلى جانب الأنبياء والأولياء والشهداء والصديقين يتقاسمها معهم بعمله بعد أن يدخلوها جميعا برحمة الله، سواء أكان سيدا عربيا أم عبدا حبشيا، ولد بواشنطن أو درج ببكين، عاصر النبي -صلى الله عليه وسلم- أو أدرك زمن الدَّجال، لسان حاله، كحال كل المسلمين لله: (ربنا وسعت كل شيء رحمة و علما، فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك و قهم عذاب الجحيم، ربنا و أدخلهم جنات عدن التي وعدتهم و من صلح من آبائهم و أزواجهم و ذرياتهم. إنك أنت العزيز الحكيم) (غافر/ 7و8) فأية رحمة، وأي تعميم لهذه الرحمة أوضح من هذا وذاك. ولهذا لا نعجب إذا وجدنا مصطلح ''الرحمة'' في صيغة مصدر متحرر من أي إضافة أو تخصيص أو إسناد تتكرر في القرآن 79 مرة ! إن أكبر دليل على أن الرحمة في القرآن - كما خوطب بها المسلمون- لا يمكن أبدا أن تكون مصدرا لاحتكار أو استعلاء أنها ترد مسندة إليهم في سياق الاشتراط عليهم بتصديق الأنبياء السابقين: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب، ما كان حديثا يفترى، و لكن تصديق الذي بين يديه، وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يومنون) (يوسف/ .111). ولا عجب إذا كانت هذه الآية الرقيقة خاتمة لسورة سميت باسم نبي من أنبياء بني إسرائيل! إنه القرآن الذي سمي سورة كاملة منه باسم سورة الرحمان!. ينسجم القرآن نسقياً في استعمالاته ومآلاته مع هذا التوجه العالمي للرحمة، فيتجرد من كل ما هو خصوصي باستعمال الاسم الموصول (1464 مرة ) ليتجرد من الأسماء الخاصة وينعتق من ربقة التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا ليسبح في فضاء المواقف والأعمال والاختيارات يربط بها أحكامه وسننه وحكمه، فليس هناك قبائل ولا أشخاص ولا مناطق ولا دول ولا طوائف ولا نحل ولا أجناس ولا ألوان ولا شعوب ولا جماعات ولا أقوام ولا سلالات، أي لا تخصيص ولا امتيازات، وإنما هي ثلاث مجموعات مفتوحة مرنة، يدخل إليها من شاء باختياره أو يخرج كما شاء، معلقا طائره بعنقه:1/ ''الذين آمنوا'' 2/ و''الذين كفروا''3/ و''الذين نافقوا''. وإنما هي أعمال واختيارات يحاسب بها كل مكلف، سواء أكانت:الذين هاجروا، جاهدوا، اتقوا، أنفقوا، تابوا ...أم كانت: الذين ينقضون، يظنون، يكتبون الكتاب بأيديهم، اشتروا الضلالة بالهدى، يكتمون ما أنزلنا، لا يعلمون، لا يعقلون، لا يومنون... وهي قوانين وسنن تسع الأمريكي والصيني، وليس فقط العربي والتركي، كما أنها تلائم ابن القرن الأربعين ملاءمتها لمن عاش في قرون الغابرين. وما عدا هذا من اختلاف ألوان وثقافات واجتهادات وميولات وأذواق واختيارات، فالإسلام لا يضيق بها، و إنما يراها نعما وآيات وإبداعات. وتلك نقطة فاصلة بين صاحب دين الحق الذي يقبل بالآخر، ولو كان على ضلال، ويفسح له حيزا للتعايش والتعاون على الخير، ومن باب أولى يقبل الاختلاف معه، بل ويحترم ذلك الاختلاف ويستفيد منه ويستثمره. لقد برهن الإسلام بما يكفي عن قبوله بالآخر، وعن قبوله بالاختلاف مع الآخر: أ- إن الإسلام يؤسس لقبول الآخر تأسيسا عمليا وواقعيا عندما يرفض كل أشكال العنصرية تجاه الآخر، كما أنه يرفض تصنيف الآخر بسبب اللون أو الجنس أو العرق أو الاعتقاد أو لغيره من المسببات ''غير الاختيارية''. وهكذا تنتفي ذاتيا كل أسباب ممارسة العنف أو الإرهاب ضد الآخر لإذلاله أو إقصائه أو محوه محوا ماديا من الوجود، ما دام يتأسس في ضمير الإسلام التلقائي والمنطقي والمؤصل كل أشكال قبول الآخر، عوض كل أشكال رفضه. لنأخذ مثلا السبب الديني، والذي قد يبدو، بالنسبة لدين كالإسلام جاء يقول إنه خاتم الديانات وأنه ناسخها والمهيمن عليها، سببا وجيها، نجد أن القرآن الكريم في عدة مقاطع عندما يحدد علاقته بالديانات السابقة، قبل أن يقول: ''ومهيمنا عليه''، يقدم قبلها:(مصدقا لما بين يديه من الكتاب)(المائدة-84)، وليست الهيمنة إلغاء ولا إقصاء، وإنما هي منطق التصحيح والتنبيه إلى ما وقع من التحريف في هذه الديانات، وردها إلى أصلها المشترك مع الديانة الإسلامية، والذي هو الأصل الإبراهيمي أو الأصل الآدمي. ودليلي على أن ''الهيمنة'' هنا هي مفهوم تكاملي، وليس مفهوما إقصائيا هو ما نلمسه على مستوى التصور والسلوك النبويين، و كذلك سلوك الصحابة في فقه التعامل مع غير المسلمين. 1/ فعلى مستوى التصور: يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث نبوي صحيح بين فيه موضعه بوضوح عبر مثال فقال:''إنما مثلي و مثل الأنبياء من قبلي كرجل بنى بيتا فأحسنه و أكمله و جمله إلا موضع لبنة في ركن، ثم طفق الناس يطوفون بالبيت و يقولون ما أجمله و أكمله لولا تلك اللبنة...فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيئين''.[2] فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- لدوره ولرسالته ولموقعه موقع لبنة صغيرة في ركن قصي من بيت كبير. وهذا ليس تكاملا فقط، بل هو تواضع كبير أيضا! 2/ أما على مستوى الفقه النبوي وفقه الصحابة في التعامل مع الآخر: فعندما فتح عمر بن الخطاب بلاد فارس عرض له إشكال فقهي جديد في إطار المستجدات التي تحوج إلى اجتهاد، وهي أنه يتعامل مع نمط جديد من الاعتقادات الجماعية الذي هو المجوسية، فاستشار الصحابة واحتار في الأمر، ذلك أن القرآن والسنة النبوية يؤسسان للعلاقة مع اليهود والنصارى ضمن مفهوم ''أهل الذمة''، بحيث تقوم العلاقة معهم داخل الدولة الإسلامية، على عقد تشارطي يسمح لهم بالعيش مع المسلمين، والتمتع بالحرية في العبادة والعلاقات الاجتماعية، على أن يترك لهم كل ما يتعلق بالأمور الداخلية، لكن المجوسية ديانة أرضية غير سماوية وغير مذكورة في القرآن الكريم، و لا يوجد موقف صريح من أهلها فيه، وانطلاقا من مبدأ التوحيد الإسلامي الصارم، يفترض أن يكون هناك موقف جذري منها و هو الرفض، فإذا بعبد الرحمن بن عوف يقول:''أشهد على رسول الله أنه قال: سنوا بهم سنة أهل الكتاب''، [3]وبذلك تم توسيع مفهوم الذمية من حيث تأسيس لعلاقة إنسانية راقية تقبل الآخر، و تضمن له حقوق حرية العبادة وحرية الاعتقاد وحرية المؤسسات التعبدية، و الفقه الخاص الذي تنبني عليه العلاقات الاجتماعية والأحوال الشخصية، كما تم توسيع هذا المجال لكي يشمل كل الديانات المرفوضة مبدئيا بما فيها ديانات أرضية ووثنية وديانات ليس فيها موقع لله أصلا. ب- أما بصدد قبول الاختلاف: فالإسلام ينظر إلى الاختلاف كطبيعة، أي أنه جبلة بشرية متأصلة، فلا يعتبره القرآن العظيم انحرافا و لا منكرا، و لا استثناء، بل ينظر إليه على أنه الأصل. يقول تعالى:(و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم)(هود-81)، فيبين بذلك أنه خلقهم من أجل الاختلاف، وأن الاختلاف جزء من طبيعة وجودهم، لا ينتفي إلا بانتفائهم. والاختلاف في التصور الإسلامي رحمة، يكفي ما يقال عن خلاف الفقهاء: ''خلاف العلماء رحمة''، لأن الاختلاف يؤسس للاجتهاد في الرأي، ولأن الاختلاف في زوايا النظرة الشرعية أو الفقهية أو السياسية هو الذي يؤسس للاجتهاد، ولأن الاختلاف جزء من الحرية، فإن الإسلام يجعل من حق الإنسان أن يختلف، ويبني هذا الاختلاف كسلوك فطري على أرضية هي في عمق هذه الفطرة، هي التَّوق إلى الحرية، والرغبة في الحياة بحرية. كما ينظر الإسلام إلى الاختلاف على أنه خصب، وأن التعدد في زوايا النظر يؤدي إلى إخصاب الفكر والواقع الإنساني، بل والمشهد البشري على الأرض. إن الإسلام يقبل الآخر ذاتا وفكرا، وهذا ما يدفعه إلى أن يضع نظرية في تدبير التعايش، بناء على أن الآخر أمر واقع، وأن الاختلاف مع الآخر أمر واقع أيضا، ويبني الإسلام تصوره لتدبير التعايش على جملة عناصر، نكتفي بذكر ثلاثة منها فقط، أولها تصوري وثانيها أخلاقي وثالثها عملي: أولا: التــفاهم: فالإسلام يبحث دوما عن أرضية مشتركة، ويدعو إلى توفيرها كي تجعل الخلاف قابلا، لأن يتعايش به في إطار مشترك يمكن أن يتحول إلى فعل مشترك، ومستقر ومنسجم. هكذا نقرأ قـول الله عز وجل في حوار مع اليهود والنصارى:(قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله)(آل عمران-36)، والقرآن يتنازل بموجب ذلك منهجيا عن الشق الثاني من الشهادة ''محمد رسول الله''، لأن هذا الأمر مرفوض من الآخرين، ليكتفي بالمشترك الذي هو الإيمان بالله، وليؤسس به أرضية إنسانية منسجمة تقوم على التعاون والتعايش بين الديانات الثلاث، هي ما يطلق عليها القرآن الكريم ''الكلمة السواء''. ثانيا:التــحاور: لقد رفض الإسلام كل الأشكال العنيفة للتدافع، وطالب بشكل حضاري سلمي معنوي للتدافع، هو التدافع بالفكرة والكلمة، وبكل ما يمكن أن يحقق التواصل وليس التنافر. والحوار هنا يأخذ مجالات أرقى، كما يوصف بصفات و يقيد بقيود منها قوله تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)(العنكبوت-)، هكذا نؤمر بأن نجادل ب''التي هي أحسن''، وقد أمرنا بذلك أيضا بقوله تعالى للنبي -صلى الله عليه وسلم-:(ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن)(النحل-521). وهنا التفاتة لطيفة عندما نلاحظ أن الموعظة تكون حسنة، أما الجدال فيكون أحسن، لأن الموعظة تكون للموافق، في حين أن الجدال يكون مع المخالف. وإذا أمر المسلمون بأن يحسنوا خطابهم مع الموافق، فقد أمروا بدرجة أعلى من التحسين مع المخالف، حيث يكون المحاور عرضة للانفلات والانزلاق إلى العنف المادي أو الرمزي، فيحتاج إلى الاحتياط وضبط النفس، وإلى مستوى عال من التحكم في الاندفاعات ''الغضبية'' عند الإنسان لمواجهة المحاور بغير خشونة، حتى يواجه الاختلاف متحليا ''بالأحسن'' ليكون حواره مقبولا وسليما. ثالثا: التــعاون: وهو يبسط المجال العملي لتدبير التعايش حتى لا يبقى مجرد محسنات وتحليات وعواطف و مجاملات، وإنما يتحول إلى إنجاز إنساني مشترك بين جميع الأطراف، يحقق التعاون فيما هو متفق عليه، فيما هو مشترك، أو في المجالات الحيوية والضرورية. والإسلام يحض على هذا التعاون بدءا بتناول الأطعمة بشكل يؤصل لبعد اجتماعي أخلاقي:(وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم)(المائدة-5)، إلى المصاهرة وتبادل العلاقات بالرحم والقربى، فالقتال المشترك في وجه المعتدين، بحيث أمرنا أن ننصر المظلوم ولو كان كافرا. ناهيك عن التعاون في تدبير الشأن العام والشأن الخاص والمحلي والشأن الدولي، سواء أتعلق الأمر بالحفاظ على المجال البيئي الحيوي أم الحفاظ على المجال الحضاري الإنساني. ويمكن أن نلخص الأساس التصوري العميق لهذه العناصر الثلاثة في قوله تعالى: (ليس بأمانيكم و لا أماني أهل الكتاب، من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا)(النساء-321). هذا المعنى الرائع ينفي عن المسلمين كبشر مبدأ التميز عن الآخرين، ويجعل الناس جميعا سواء أمام القانون الإلهي، سواء أكانوا يهودا أم نصارى أم مجوسا أم غيرهم، ويتعمق هذا المعنى أكثر بذكر سبب النزول. يذكر أن المسلمين اختلفوا مع اليهود والنصارى في عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وادعى كل واحد منهم أن له الحق والجنة احتكارا، وأن نبيهم هو النبي الحق، ففزع المسلمون إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يذكرون له ذلك وهم يتوقعون أن جوابه سيكون الجواب الطبيعي والمنطقي عند كل مسلم: إنكم أهل الحق وأهل الجنة احتكارا، لكن الوحي نزل يخيب أحلام الجميع، ويسويهم أمام قاعدة كونية، مفادها أن ليس بأمانيكم ولا بأماني أهل الكتاب، فبين أن هذا النقاش كله هو نقاش أهواء بعيدا عن الواقع وعن السنة الكونية وعن الأخذ بالأسباب في الدنيا و الآخرة. فالمسلمون سواء أمام الله مع بقية الناس، إذا أخطأوا المنهج وعملوا السوء فإنهم يعاقبون في الدنيا وفي الآخرة.[4] هكذا يؤصل الإسلام لأرضية مشتركة بين كل خلق الله، قائمة على العدالة الإلهية الحقيقية التي تجعل الناس سواء أمام القانون الإلهي، والذي يقوم على أن:" من أحسن فله الحسنى و من أساء فله السوء" في الدنيا و في الآخرة وفي هذا الإطار يتضح معنى قوله تعالى :" فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره" (الزلزلة- 8)، و " مَـنْ " هنا للعاقل المجرد و ليست موسومة بصفة دينية و لا صفة عرقية و لا جنسية و لا لونية، وهذا واضح في القرآن في تصحيح الانحرافات الدينية ، فعندما قال بعض اليهود و النصارى:" نحن أبناء الله و أحباءه"، أجابهم القرآن بقانون: "قل فَلِمَ يعذبكم بذنوبكم"، ويضيف:" بل أنتم بشر ممن خلق"(المائدة-20)، فأنزلهم إلى مستوى الآدمية المشتركة، ونفى أي صفة أو تأسيس لعقيدة عنصرية: عقيدة شعب الله المختار، أو عقيدة " نحن الأحق" أو " نحن الأولى"، التي تبيح للإنسان اللجوء إلى العنف. [5] II. مـحمدٌ- صلى الله عليه وسلم- شهيداً لإلـهِ الـرَّحـمة: الرحمة المهداة و النعمة المزجاة و السراج المنير، وبعث ليكون رحمة للعالمين، بشيرا و نذيرا. صنع من الرحمة وعجنت طينته من اللين، وجبل على التواضع و أدمن الخشية و التضرع و البكاء، ليقدم للبشرية في آخر عصورها وأقواها و أزهاها، نموذج الإنسان الكامل الذي أراده الله قدوة للبشر، بنوره، مهتدون وعلى سنته يمضون حتى لا يكون بعضهم لبعض إلا عونا في الخير لا الشر، وظهيرا في البناء لا الهدم. ها هو القرآن الكريم يعلنها واضحة، ويصرح بها جلية ناصعة:" وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" الأنبياء-107 فيحدد الغاية من خلق سيد الخلق ومن بعثه بالهدي وتكليفه بالرسالة: إنها رحمة للعباد كل العباد، بلا تخصيص و لا استثناء! أما كونه بعث للعرب خاصة ثم للناس كافة، فلا يقصد به تمييز قومه عن غيرهم بشيء، عدا بحمل الأمانة للناس، ونقلها إليهم مجاهدة للذات وجهادا بالنفس و المال، تبليغا و توضيحا، وقدوة و مثالا. ولعمري إنها لأمانة ثقيلة ومسؤولية جسيمة، ليس فيها من الاصطفاء و التميز إلا ثقل الأمانة و عبء المسؤولية. إن قوله(صلى الله عليه وسلم):" بُـعثت لكم خاصة "، إنما هو إشارة لمرحلة انتقالية ضرورية واقعية، لأنه لا بد من نبي بشر يعيش في قومه، ينطلق في دعوته منهم، بما أن الأنبياء و الرسل لا يبعثون فوق السحاب، ولا ينزلون ملائكة من السماء! إنها مجرد محطة عابرة، يتحرك منها قطار الدعوة ليكون مستقره خطاب" يا أيها الناس"! و معاذ الله أن يكون التخصيص هنا، واقعا وقدرا ربانيا وخطابا نبويا، بمنطق "شعب الله المختار"! إنها رحمة تعليم الغلاظ، اللين:"فبما رحمة من الله لنت لهم"(آل عمران-159)و الرفق:" ما دخل الرفق شيء إلا زانه ولا خلا من سيء إلا شانه". ورحمة رفع الإصر و الأغلال عن البشرية جمعاء، وقلب موازين العلاقات الاجتماعية الطاغوتية في زمن الاستعباد:" إن الله ملككم إياهم ولو شاء لملكهم إياكم". إنها رحمة التلقائية في التعبير عن العواطف، لقوم تربوا على أن ذلك ضعف يثير الاحتقار:" يا رسول الله إن لي عشرة صبيان لم أٌبل أحدا منهم قط"، فيجيبه(صلى الله عليه وسلم): وما أفعل لك إن نزع الله الرحمة من قلبك"! رحمة عامة، فلا رحمة مع الاستثناء و التخصيص، بل هو الظلم و التمييز. وهذا ما فقهه ابن عباس حيث قصر فضل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على الأنبياء في الأرض، في كونه بعث للناس كافة، وبعثوا لأقوامهم خاصة[6] وهو الفهم الذي يزكيه قوله(صلى الله عليه وسلم)" أوتيت خمسا لم يؤتهن أحد قبلي(...) وبعثت للناس كافة أحمرهم و أسودهم، وبعث الأنبياء من قبلي لأقوامهم خاصة". " عن أبي صالح قال: كان النبي(صلى الله عليه وسلم) يناديهم" يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة"[7]. يكرر النبي(صلى الله عليه وسلم) حقيقة كونه رحمة عالمية حتى تبلغ هذه الحقيقة بالتكرار إلى العموم بالإلحاح فتنغرس في وعيهم(كان....)، ويخاطب بها العالمين لا قومه فقط (يا أيها الناس)، ويعبر بالمصدر لا بالصفة(رحمة) للإطلاق و المبالغة، ويعلنها بدون مقابل، مجانا لوجه الله لا يريد بها جزاء و لا شكورا، ولا يطل مقابلا لها على عظمها نعمة(مهداة)، ويستعمل أداة الحصر ليبين أنها رحمة خالصة لا منغص لها و لا شائبة تشوبها(إنما) ويعلن بها، يدلل عليها، ينادي بها(يا أيها الناس): ست حقائق عظيمة تجتمع في عبارة موجزة بليغة كي لا يتسرب لورثة رسالته من بعده أي شبهة احتكار أو علو أو إقصاء، و لا يتشكك عموم المخاطبين بهذه الرسالة بأنهم مثلهم مثل من سبقهم إلى الإسلام، أحق بهذه الرحمة وأهلها. إلحاح وتعميم وإطلاق وخلوص وإعلان: هذه هي الرحمة المحمدية مبذولة لكل طالب حق وخير. لا يقف الأمر عند الدعوى، وحاشاه(صلى الله عليه وسلم) منذ ذلك، فقد كان حقا رحمة مهداة للقريب والبعيد، و البر و الفاجر، و الكبير و الصغير، والمرأة و الرجل، و الكافر و المؤمن. أ-ها هو يرحم حتى في الرحمة! فالعبادة وهي رحمة بذاتها كان يراعي فيها أحوال الضعاف، يسرع في صلاته وقد أحس بدخول ناس خلفه:"عن أنس (رضي الله عنه)قال: كان رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يصلي في رمضان(...) فلما أحس أنا خلفه جعل يتجوز في الصلاة.ثم دخل رحله فصلى صلاة لا يصليها عندنا(...)قلنا له حين أصبحنا أفطنت لنا الليلة؟ فقال: نعم، ذاك الذي حملني على الذي صنعت(...)فأخذ يواصل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في آخر الشهر، فأخذ رجال من أصحابه يواصلون، فقال(...)ما بال رجال يواصلون؟ إنكم لستم مثلي"[8] ويحاذر في التكليف بما لا يطاق حتى في الأمر اليسير و الضروري:"عن أبي هريرة عن النبي(صلى الله عليه وسلم)قال:"لولا أن أشق على (...)أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"[9]. ويراعي الأم، فيصرفه ذلك عن لذة المناجاة السابحة في الزمن:عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):" إني لأدخل الصلاة أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي فأخفف من شدة وجد أمه به"[10]. يفعل ذلك(صلى الله عليه وسلم) ويأمر به ردعا للمتنطعين، وصدا لتلبيس إبليس يدخل على الصالحين من باب التشديد على الناس:"عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم)قال إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم السقيم و الضعيف و الكبير فإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء"[11]. ب-وها هو (صلى الله عليه وسلم) النابت في بيئة قاحلة العواطف قحولة الأرض، يترك ديدن قومه الذي عبر عنه الشاعر: وتجلدي للشامتين أريهمو أني لريب الدهر لا أتضعضع فيصرح بضعفه، ويكشف عطفه وعاطفته، مثل رحمته بالأطفال.يسمع حديث الواد، فيبكي بكاء الثكلى:"عن الوضين أن رجلا أتى النبي(صلى الله عليه وسلم) فقال يا رسول الله(...)كانت عندي ابنة لي فلما أجابت (...) فأخذت بيدها فرديت بها في بئر، وكان آخر عهدي بها أن تقول يا أبتاه.فبكى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)حتى وكف دمع عينيه، فقال له رجل من الجلساء(...)أحزنت رسول الله(صلى الله عليه وسلم).فقال له كف، فإنه يسأل عما أهمه.ثم قال له: أعد علي حديثك.فأعاده، فبكى حتى وكف الدمع من عينيه على لحيته ثم قال له:"إن الله قد وضع عن الجاهلية ما عملوا، فاستأنف عملك"[12]. ويحمي حقوق الوليد حتى ولو كان من علاقة آثمة:"عن عبد الله بن بريدة عن أبيه. قال: كنت جالسا عند النبي (صلى الله عليه وسلم) فجاءته امرأة من غامد. فقالت يا نبي الله: إني قد زنيت وأنا أريد أن تطهرني، فقال لها(...)ارجعي.قلما أن كان الغد أتته أيضا(...)فقال لها(...)ارجعي.فلما أن كان الغد أتته أيضا(...)فقال لها(...)ارجعي حتى تلدي.فلما ولدت جاءت بالصبي تحمله(...)قال فاذهبي فأرضعيه حتى تفطميه.فلما فطمته جاءت بالصبي في يده كسرة خبز."آنذاك فقط أقام عليها الحد، ونهى خالد بن الوليد عن سبها، وشهد لها بقبول توبتها:"لا تسبها فو الذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له.فأمر بها فصلى عليها و دفنت[13] . بل ويبكي بكاء مريرا لمشهد احتضار طفل:"فلما دخلنا ناولوا رسول الله(صلى الله عليه وسلم)الصبي ونسفه تقلقل(...)فبكى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فقال سعد بن عبادة أتبكي؟ فقال: إنما يرحم الله من عباده الرحماء"[14] ويرفق بطفل أن يزعجه في لعبه، حتى ولو كان ملعبه ظهر رسول الله(صلى الله عليه وسلم)!"قال الناس يا رسول الله: إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر أو أنه يوحى إليك.قال:"كل ذلك لم يكن، ولكن ابني رتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته"
16-03-2009 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=717 |