/

 

 

المتديّنون الجدد

عز الدين عناية

يمتدّ عمر النخبة الفكرية الحالية في البلاد العربية على فترة ما بعد الاستقلالات، أو بصفة أوضح وأشمل على مدى النصف الثاني من القرن العشرين وحتى الرّاهن، صاغت خلالها، على تنوّعاتها، رؤى نظر شتّى بين جماهير عريضة، تميز أغلبها بالتضارب وافتقاد الإجماع. فخُذْ مثلا مقولة العلمانية وما يصحبها من جدل بيزنطي وسفسطة عن فصل الدّين عن الدّولة في بلاد العرب، وهي مقولات تكشف عن تدنّي الوعي السوسيولوجي بالظواهر الدّينية والاجتماعية وفاعليتها وحضورها، لدى المتديّن واللاّمتديّن على حد سواء. فالاعتداد العقلي وادعاء الصوابية في تقدير المسائل الدّينية، من السمات التي تستحوذ على المفكّرين لدينا، وغالبا ما منعتهم تلك الادعاءات من مراجعة مقولاتهم أو تصحيحها. ولكن برغم ذلك تبقى لدى لجماهير مقدُرة كامنة في إدراك مسارات تحوّلاتها المعيشية والرّوحية، أعمق مما لدى من يدعون الوصاية الفكرية عليها.

وفي ظل غياب المتابعة العلمية للتحوّلات الدّينية في البلاد العربية تبقى المعاينة الظّواهرية المنفذ المتيسّر للاقتراب من رصد أنواع التبدّلات، لذلك لا نزعم أن ما سنشير إليه مبني على إحصائيات ومتابعات بل هو مستمدّ بالأساس من معاينة مرئية مباشرة أراد الكاتب الإشارة إليها.

فمع توالي المحن التي عاشتها شعوب المنطقة، والتي تصاعدت بضراوة حتى كارثة احتلال العراق، حضّت تلك الأمور قطاعات واسعة من الجماهير على إعادة النّظر في الخطاب الدّيني واللاّديني السائدين والمستهلكين، تلخّص في التساؤل: قد تكون علّتنا في وعينا البائس بالدّيني الذي جرّ علينا تلك الويلات الكارثية؟ خلّف الأمر حالة من النسبية في الذاكرة الجمعية، كانت وراء إذكاء ظاهرة التديّن المستجدّ، الخارج عن الضوابط المعهودة.

وبرغم قمع جلّ السّلطات وحصارها لكلّ نفس ديني ديمقراطي، يطلّ المتديّنون الجدد بحضورهم متجاوزين عسف السّلطات، وحجاجية الحركات الإسلامية، ونقيضاتها المسماة بالعلمانية، وتنظيرات أوصياء الوعي ذوي التعامل السّجالي لا العلمي. فأزمة الواقع العربي الحالي من الطبيعي أن تدفع الفرد لمساءلة مخزونه الدّيني وتأمّل الناطقين باسمه، خاصة وأن ثقافة العربي الوجودية مسكونة ومستبطنة للرّموز والمعايير والتفسيرات الدّينية بكثافة، بيد أنه نادرا ما تسعفه الإجابات المروّجة بما يشفي الغليل، خاصة وان استثمار تلك الثقافة، يحكمه ويوجهه وكلاء دينيون متنوّعون حالفوا السّلطان والشّيطان وغالبا ما تنكّروا للإنسان.

فجرّاء تلك النخبة المتعالية، بقي التفكير الدّيني الحرّ يرزح محاصرا بإكليروس، ديني، يدّعي التأصيل، وحداثي، يدّعي التقدمية. ولذا ترى الحوارات بين مجمل تلك الأطراف مشادات كلامية أكثر منها مساءلة وتفحص وتدبّر. فتنفضّ المهاترات بتقسيم المشاهدين والمتابعين، وبترسيخ الفرقة والتعصّب بينهم، في حين ما تتطلع إليه الجماهير هو البحث عن إجابة واقعية لتساؤلاتها ومشاغلها.

فلازال خطاب الفقيه و"المفكّر"، المشتركين في الطابع الدغمائي، متعاليا ووصائيا، أنت تسأل والشريعة والحكمة تجيبان، ونادرا ما تجده ينظر في واقعه ومعيشه عندما يفتي أو يفكّر، بل يلتفت إلى الخلف أو يقفز فوق واقعه، ويسعى ليبثّ بين العامة معرفة إملائية حشوية بالأساس، ليست وليدة بحث وقراءة وتدبّر بل مسقطة معبّرة عن محتكري الوعي الصائب ومسوّقيه، وما يجود به توظيفهم للأقوال والمواقف والفتاوى. والحال أنه ينبغي أن يتنازل المتعالم عن عليائه ليفكّر مع الناس في مشاغلهم، ويلزم نفسه بالوعي العلمي، النفسي والسوسيولوجي والإناسي والابستيمولوجي، ويهجر اللاّمعقول والتفكير الاسقاطي في تقدير الأمور.

إذ إصلاح النّظر والعمل في إخراج خطاب الدّين مما هو قسري وإلزامي إلى دائرة الحواري، وربما بناء التربية الدّينية ضمن هذا الأساس هو ما من شأنه أن يقلب التعامل الخاطئ والمتراكم عبر القرون، والجاثم على العقل سالبا إياه قدرات التفكير وفرص الحرية. فالأسلوب الذي يعلَّم به الدّين خاطئ في عمومه، ولذلك ترى قيم الدّين الخلقية والتربوية مثلا، ينؤو عنها الفرد كل البعد، كلما تخطى عتبة منزله أو عتبة المسجد. في حين الوعي الدّيني الصّائب لما يستحوذ على الذات يتحوّل إلى قوة فعلية، وبخلافه الوعي الخاطئ حين يعوضه فهو يتحوّل إلى شحنة فساد وإفساد للذات وللغير، ولعل هذا الصنف ما صار شائعا في أيامنا.

فتلك الأساليب البالية أنهكت الوعي الدّيني الذاتي، وحتى الحركات الإسلامية التي ادّعت التأصيل، ما انتبهت لأثرها، وغرقت هي أيضا في تقييد كينونة الفرد من حيث لا تدري، بما كبلته من حصر لسلوكه واعتقاده وولائه وموقفه، ضمن مرْضي عنه وغير مرْضي، ومقبول ومرفوض، لذلك شاعت المواقف الجاهزة بين الأتباع وبدون تفكير، من التطوّرية ومن العلمانية، من الغرب ومن الديمقراطية، من البنوك ومن الفن... وهي عملية خنق للوعي الذّاتي لدى الجماهير، تحالَف فيها الإسلام الأصولي مع الإسلام الرسمي، الذي غالبا ما عبرت عنه المجلاّت الدّينية التابعة لوزارات الشؤون الدّينية ومؤسسات الدولة، والتي افتراضا ينبغي أن تعبر عن مسارات الإشكاليات الدينية الاجتماعية المستحدثة داخل تلك البلدان، بيد أنها تبدو الأكثر عرضا لفكر مستقيل لا تربطه بالجماهير أية صلة، ناهيك عن بعض الأئمة الذين يحتكرون الصفحات الدّينية في الصّحف الرّسمية والمنابر الدّينية على شاشات التلفزيون، وأسلوبهم وفكرهم قد صار من الأوابد.

ولكن تلك السلبية ليس لها أن تستمر إلى ما لا نهاية، فتداول الأيّام جار، فكانت تترافق في الآن مع اهتزازات تعصف بالوجود العربي، كانت مدعاة لإفراز زعزعة لعديد الثوابت والمسلّمات والثقة، في السلطات الحاكمة، وأشباه الأوطان، والجيوش الجرّارة العاجزة، والإيديولوجيات الجوفاء، والتديّن الخاوي. فدفعت الأمور نحو حالة من الانسياب الصوفي المتطلّعة لاقتباس النّور الحقيقة بعيدا عن حجب الزّيف الكثيفة التي تلفّ عقل العربي وفكره. فانبرى البحث عن حلّ الإشكاليات داخل الوعي الذاتي والجدل المباشر مع الواقع. وبالقدر الذي تجاوز فيه المتديّنون الجدد التعبير الرّسمي عن الإسلام، تجاوزوا كذلك تعبير الحركات الإسلامية وتضييقات محنة تسييس الدّين، الذي جرّ لخنق وجود المسلم وحصره ورهنه بالمدخل السياسي فحسب، والحال أن وجوده أوسع من ضيق المدخل السياسي، الذي أنسى الفرد العلم والفن والأدب والأنترنيت وأغرقه في وعثاء السياسة، التي أخذته إلى ضلالات بعيدة عجز عن إدراكها أو فهمها.

فالناظر في حالات التديّن الجديدة التي تزحف على البلاد العربية يلحظ خروجها عن النمط الكلاسيكي الذي عرفته العقود السّالفة مع التيّارات الإسلامية، والتي كان أغلبها يبحث عن التعالي على المجتمع بدعوى البحث عن إبراز النقاوة والتطهّر وعرض النفس نموذجا، فإذا بالمجتمع يدحرها وينفر من أساليبها الاستعلائية. وكان أبرز ما يميز ظاهرة التدين الجديدة التي بدأت تطل، خروجها وتجاوزها لضيق رؤية تلك التيارات وسعيها لبناء وعي تديّن ذاتي جدلي مع الواقع ومع الذات.

واللاّفت في التحوّل الجديد أنه غير خاضع للضوابط الفقهية السّلفية، أو لتحديدات الحركات الأصولية الإسلامية. فهو متمرد في ذهنه ووعيه في التعامل مع شؤون الحياة، وربما ما يميزه عدم التزامه بمدرسة دينية أو فقهية أو إمام أو فقيه محدد. وربما تفتيت المرجعية الذاكرية لدى المتديّنين الجدد، إحدى لوامع سبل التحرّر الدّيني التي تتطلّع إليها الذات الجماعية، ويبدو أن فترة ما قاله حسن البنا، أو سيد قطب، أو باقر الصدر، أو يوسف القرضاوي، أو سعيد حوى، أو حسن الترابي، أو راشد الغنّوشي، والذي كان بمثابة قدس الأقداس، آيل للزوال أمام هذا التحوّل اللاّمنتمي. فالعقلية المستجدّة لدى المتدينين الجدد مهمومة بالتعامل المباشر مع الأمور ومع الوقائع، والتساؤل فيها رأسا مع شروطها الحياتية، أكثر مما تنصت فيه إلى أقوال الشيوخ وأرثوذكسيتهم المطلقة.

لذلك يلاحظ أن المتديّنين الجدد لا يبالون بإتيان سلوكيات كانت في عداد الموبقات سابقا، فترى بين الإناث تقليعات شتّى للحجاب الإسلامي غير خاضعة لنمطية معينة، سعت فيها الحركات الإسلامية سابقا لتوحيدها. إلى جانب حضور الأنثى كما تريد إلى جانب الرجل وعدم تحرّجها من إسقاط عوائد كانت تحصرها في الخلف وتعزلها بعيدا، مثل استقباح جلوس الفتيات المحجّبات في المقاهي أو ارتيادهن أماكن اللّهو والترويح أو سياقتهن الدرّاجة أو السيّارة، مثل الذّكور المسموح لهم عرفا، أو تجوالها مع خطيبها أو صديقها في الطريق العام وتبادل الحديث معه وهي محجّبة وعلى سحنتها شيء من المساحيق. هذه الأمور ومثيلاتها ما كانت تسمح بها ضوابط التيارات الإسلامية الذكورية سابقا. لذلك يبدو هذا التديّن متمرّدا في سلوكه ومظهره، وهي سلوكيات تنم في شكل منها على تحطيم الحاجز الذكوري الذي كان يحتكر صبغة التديّن في البلاد العربية.

يبدو إسلام الحركات الإسلامية أمام تحدٍ تحول من داخل نفس البنية الدينية الاجتماعية، تجلو فيه لوامع لفترة ما بعد الأصولية، فالواقع الديني الحالي محكوم بالتحوّل شئنا أم أبينا.

 

 

30-03-2009 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=724