/
قراءة في منهج رشيد رضا في تفسير المنار وموقف النقاد منه
حازم محيي الدين
تأليف : رشيد رضا الناشر : دار المعرفة سنة النشر : 1973 بعد أن استقر المقام برشيد رضا في القاهرة (عام 1898م)، وانتهى من إقناع شيخه محمد عبده بضرورة تأسيس مجلة "المنار"، عقد العزم على إقناع أستاذه أن يكتب تفسيراً كاملاً للقرآن الكريم، يعكس منهجه في الإصلاح والتجديد، لكن الشيخ عبده رفض هذا الاقتراح قائلاً: "إن القرآن لا يحتاج إلى تفسير كامل من كل وجه، فله تفاسير كثيرة أتقن بعضها ما لم يتقنها بعض، ولكن الحاجة شديدة إلى تفسير بعض الآيات، ولعل العمر لا يتسع لتفسير كامل" (تفسير المنار، 1 /12). ثم اقترح عليه أن يكتب تفسيراً يقتصر فيه على حاجة العصر، ويترك كل ما هو موجود في كتب التفسير السابقة، ويبين ما أهملوه فيها، غير أنَّ محمد عبده رفض هذا الاقتراح أيضاً محتجاً أنَّ "الكتب لا تفيد القلوب العُمي...، إذا وصل لأيدي هؤلاء العلماء كتابٌ فيه غير ما يعلمون، لا يعقلون المراد منه، وإذا عقلوا منه شيئاً يردونه، ولا يقبلونه، وإذا قبلوه حرَّفوه إلى ما يوافق علمهم ومشربهم، كما جروا عليه في نصوص الكتاب والسنة التي نريد بيان معناها الصحيح، وما تفيده" (تفسير المنار، 1/13). ثم ذكر له محمد عبده أنه قد سبقت له محاولات في تدريس التفسير، بسبب إيمانه بقدرة الكلام المسموع على التأثير في النفوس أكثر من الكلام المقروء إلا أن هذه المحاولات لم يهتم بها أحد، مع أنها كان من حقها أن تدوَّن، وتُكتب، لذلك فهو لا يفضل تكرار هذه المحاولات الفاشلة. وهنا ردَّ عليه رشيد رضا بقوله: "إن الزمان لا يخلو ممنْ يقدِّر كلام الإصلاح قدره، وإن كانوا قليلين، وسيزيد عددهم يوماً فيوما، فالكتابة تكون مرشداً لهم في سيرهم. وإنَّ الكلام الحق، وإنْ قلَّ الآخذ به، والعارف بشأنه لا بدَّ أن يُحفظ، وينمو بمصادفة المباءة المناسبة له" [1]. هكذا استمر الحوار بينهما حتى انتهى باقتناع عبده بوجهة نظر رضا، وبدأ بالفعل بإلقاء دروس في التفسير في الأزهر ابتداءً من شهر محرم سنة (1317هـ/ 1899م)، وانتهى منه في منتصف محرم سنة (1323هـ/ 1905م) قُبَيل وفاة عبده، مبتدئاً من بداية القرآن الكريم، منتهياً عند تفسير قوله تعالى {وكان الله بكلِّ شيءٍ محيطاً} من الآية 125 من سورة النساء. كان منهج محمد عبده في التفسير "أن يتوسع فيما أغفله، أو قصَّر فيه المفسرون، ويختصر فيما برزوا فيه من مباحث الألفاظ، والإعراب، ونُكت البلاغة، وفي الروايات التي لا تدل عليها ولا تتوقف على فهمها الآيات، ويتوكأ في ذلك على عبارة تفسير الجلالين الذي هو أوجز التفاسير، فكان يقرأ عبارته فيقرها، أو ينتقد منها ما يراه منتَقداً، ثم يتكلم في الآية أو الآيات المنزلة في معنى واحد بما فتح الله عليه مما فيه هداية وعبرة" (تفسير المنار، 1/15) وكان رشيد رضا في أثناء دروس محمد عبده يدوّن أهم ما يسمعه منه في مذكرات خاصة، ثم بدأ ينشر ما جمعه فيها ابتداءً من أول محرم سنة (1318هـ / 1900م)، وذلك في المجلد الثالث من مجلة "المنار". ولم يكتف رضا في أثناء حياة شيخه بالنقل عنه، وتدوين أفكاره وآرائه فقط بل كان يضيف إلى كل ذلك زيادات كثيرة، وكان يميز في معظم الأحيان، أقواله عن أقوال محمد عبده، بقوله: "وأقول"، "وأنا أقول"، "وأزيد الآن" (تفسير المنار، 1/15). وبعد وفاة محمد عبده سنة (1323هـ / 1905م) استقلَّ رشيد رضا بكتابة التفسير، وكان ينوي القيام بتفسيرٍ كامل للقرآن الكريم، ويظهر هذا جلياً من كلامه في نهاية معظم مجلدات تفسيره الاثني عشر، وذلك عندما كان يطلب من الله عزَّ وجلَّ أن يعينه على إتمام هذا التفسير، لكن قضاء الله تعالى حال دون تنفيذ ما كان ينوي ويضمر إذ توفاه الله تعالى بعد فراغه من تفسير قوله تعالى من سورة يوسف: {ربِّ قد آتَيتَني من المُلك وعلَّمتني من تأويلِ الأحاديثِ فاطِرَ السمواتِ والأرضِ أنتَ وليِّ في الدُّنيا والآخرةِ توفَّني مُسلِماً وأَلحِقني بالصالحينَ} (يوسف: 101). منهج رشيد رضا في تفسير المنار لا نستطيع أن نقرر بشكل قاطع، أنَّ للشيخ رشيد رضا منهجاً، وأسلوباً موحّداً، اتبعه في كامل تفسيره، لأنه فسّر ما فسّر في مدة تزيد على الثلاثين عاماً (ما بين 1317 هـ/ 1899م و1354 هـ/ 1935م)، وهذه مدة طويلة تمنع على الأرجح أي مفسِّر من اتّباع خطة تفصيلية موحّدة يلتزم بها في كل ما يفسِّره [2]، ولكننا مع ذلك نستطيع أن نستخرج الملامح الرئيسة لمنهجه وأسلوبه في التفسير، والتي إنْ زاد عليها في بعض الأحيان، ولكنه لم يخالفها على الإجمال في كامل تفسيره. ولكن قبل ذكر هذه الملامح العامة، أجد من الضروري، من الناحية المنهجية، ذكر نقطتين مهمتين: أولهما: كان تفسير المنار في الأصل عبارة عن دروس شفهية، كان محمد عبده يلقيها على جمهور من الطلبة والمثقفين المصريين في الجامع الأزهر، وكان رشيد رضا في الوقت نفسه يقوم بتدوين خلاصة أفكار هذه الدروس في مذكرات خاصة به مدةً من الزمن، ثم بدأ يحرّر هذه المذكرات، ويضيف عليها من كتب التفسير الأخرى، ومن أفكاره الخاصة، ويعرض كل ذلك على عبده ليأخذ موافقته عليه، ويقوم بعد ذلك بنشرها في مجلته المنار ابتداءً من الجزء السادس في المجلد الثالث الصادر في محرم سنة (1318هـ)/ إبريل (1900) م. وابتداءً من هذا التاريخ استمر رضا حتى وفاته بنشر تفسيره على صفحات مجلته "المنار"، علماً أنه قد بدأ منذ سنة (1908م) بجمع كل ما كان ينشره من التفسير في مجلته في نهاية كل سنة ويعيد نشره في مجلد مستقل [3]. أردتُ من ذكر ما سبق الإشارةَ إلى أن اختلاف فئة مُتلقيّ التفسير بين مرحلة عبده [4]، ومرحلة رضا، وخاصة بعد أن بدأ بنشر تفسيره على صفحات مجلته التي يقرؤها جمهورٌ عريض من المسلمين في معظم بلاد العالم الإسلامي آنذاك، فرض على رشيد رضا أن يستجيب أكثر لحاجات هذه الجماهير العريضة المتعطشة للهداية، والثقة بالدين وأحكامه بأكثر مما فعل عبده، وقد تجلَّت هذه الاستجابة في مظاهر عدة، أهمها ازدياد حضور النزعة الإصلاحية في التفسير، التي ازدادت وضوحاً وجلاءً من خلال الفصول الإصلاحية الاستطرادية الكثيرة [5] التي كتبها رشيد، وأدرجها في تفسيره دون أن تكون هناك دائماً حاجة واضحة لذكرها في المواضع التي ذُكرت فيها في التفسير [6] وكذلك الفصول الاستطرادية العديدة التي عقدها للرد على المبشرين وحملاتهم، وبشكل خاص تلك الفصول التي جعلهم فيها في موقع الدفاع عن النفس عندما هاجم وبكل قوة عقائد الصلب والتثليث والفداء. وكذلك اعتماد رضا أسلوباً في الكتابة بعيداً عن لغة التجريد والتنظير، والمصطلحات والمفاهيم الدقيقة التي تعلو عن مستوى عامة قرائه، وفي المقابل سعيه إلى مراعاة السهولة والجمال في التعبير، بحيث يتمكن القارئ المحدود الثقافة والعلم من فهم عباراته، ويقف دون صعوبة على مراده منها، وبذلك استطاع تفسيره أن يحقق الهدف الذي أراده له رشيد رضا منه، وهو أن يتدبَّر القارئ القرآن الكريم، ويهتدي به، ويُعينه على "النهوض بإصلاح أمته، وتجديد شباب ملّته، الذي هو المقصود بالذات منه" (تفسير المنار1/16). ثانيهما: أخبرنا رشيد رضا بنفسه عن منهجه في التفسير بعد أن انفرد في العمل بعد وفاة عبده، قائلاً: "هذا، وإنني لما استقللتُ بالعمل بعد وفاته، خالفتُ منهجه رحمه الله تعالى بالتوسع فيما يتعلق بالآية من السنة الصحيحة، سواء كان تفسيراً لها أو في حكمها، وفي تحقيق بعض المفردات أو الجمل اللغوية، والمسائل الخلافية بين العلماء، وفي الإكثار من شواهد الآيات في السور المختلفة" (تفسير المنار1/16). يمكن أن نفهم من هذا النص أنَّ رشيد رضا قام بعد استقلاله بالعمل بتضييق فسحة حرية النظر اللغوي، والعقلي المستقل التي كان يمنحها عبده لنفسه أثناء تفسيره لصالح توسيع دائرة الاعتماد على النصوص الدينية: قرآناً وسنةً، وعلى أقوال السلف، بالإضافة إلى زيادة الاعتماد على التفريع الفقهي، والتوسع الكلامي واللغوي. وتظهر آثار هذا التحول جليَّةً من خلال كثرة نُقولاته، الطويلة أحياناً، من مصادر التفسير بالأثر، وبشكل خاص: الطبري (ت310هـ)، والبغوي (ت516هـ)، وابن كثير (ت 774هـ)، والسيوطي (ت 911هـ). وكذلك نقله من مصادر التفسير اللغوي، وبشكل خاص تفسير الكشاف (ت538هـ)، بالإضافة إلى اعتماده على أمهات معاجم اللغة مثل لسان العرب لابن منظور (ت711هـ)، ومقاييس اللغة لابن فارس (ت 395هـ)، فضلاً عن اعتماده على معاجم ألفاظ القرآن الكريم، من مثل: "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب الأصفهاني (ت 502هـ). ويمكن لنا أن نقرأ دلالة هذا التحول عند رشيد على أنها محاولةٌ منه لإدراج أفكاره الإصلاحية المعروضة في تفسيره في سياق التراث الإسلامي المعتمد في ميدان التفسير، وبذلك يمكن أن يحصل على شرعية القول الجديد في التفسير بأقل قدرٍ ممكن من معارضة الجمهور العريض، وممثليه من العلماء الرسميين، وهذا هو الذي حدثَ فعلاً، حيث وجد هذا التفسير قبولاً عاماً عند قرائه، وبذلك يكون رضا قد تحاشى قسماً كبيراً من الموجة العاصفة من الاعتراضات، والانتقادات التي قيلت بحق تفسير محمد عبده المستقلّ، والتي حكمت على منهجه بأنه تفسيرٌ بالرأي، وتفسير عقلاني، توفيقي، الأمر الذي أدى إلى إقصاء تفسيره من دائرة التأثير العام التي كان يطمح إليها. ولنعد الآن إلى ذكر الملامح العامة التي ميّزت منهج وطريقة رشيد رضا في تفسيره: 1- كان رشيد رضا يلجأ في تفسيره للآيات الكريمة إلى القرآن الكريم نفسه أولاً، مؤكداً أنَّ "الآيات يفسِّر بعضها بعضاً إّذا نحن أخذنا القرآن بجملته كما أُمرنا " (تفسير المنار2/259) ثم كان يلجأ بعد ذلك كما صرح هو إلى "سنة رسول صلى الله عليه وسلم، وما جرى عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين في الصدر الأول.. وبأساليب لغة العرب، وسُنن الله في خلقه" (تفسير المنار، 6/196). أي الالتزام بالمنطق الداخلي المتماسك، والمنسجم للنص القرآني، والاعتصام بعواصم الأثر والخبر الصحيح، والأخذ بطرق اللغة العربية قي دلالة الألفاظ، والتراكيب على المعاني، ومقتضيات العقل السليم من خلال تحكيم سنن الله تعالى العاملة في الكون والتاريخ، واعتبارها إحدى مرجعيات، ومعايير التفسير السليم. 2- كان حريصاً في بداية تفسير كل مجموعة من الآيات الكريمة، أن يربط هذه الآيات ربطاً منطقياً محكماً بمجموعة الآيات التي تسبقها، أو بموضوع السورة الرئيسي الذي تتحدث عنه مجمل آيات السورة، وبذلك عمل رشيد رضا على إبراز الوحدة الموضوعية للسورة القرآنية، والسياق الواحد الذي يؤلف بين آياتها [7]. 3- كان حريصاً عندما تتعرض الآية التي يفسّرها لقضيةٍ ما، أن يسرد ويحلّل بشكل موجز معظم الآيات الكريمة الأخرى التي تتحدث عن القضية نفسها، وبذلك يكون رضا من أوائل من تنبَّه لأهمية التفسير الموضوعي للقرآن الكريم في العصر الحديث. 4- كان معنياً بذكر أسباب النزول وتمحيص الروايات الواردة فيها، كما كان مهتماً بذكر القراءات القرآنية عند وجودها (تفسير المنار1/ 167، 3/ 247)، كما كان حريصاً أيضاً على ذكر الأحاديث النبوية التي تدور في فلك الآية أو الآيات التي يفسرها، ولم يغفل عند ذكره هذه الأحاديث، عن التعليق عليها، ونقد أسانيدها، وتمحيص رواتها، هذا فضلاً عن تخريجها، وعَزْوها إلى مصادر الحديث المعتمدة [8]. 5- لم يتوسَّع في نقل أقوال النحاة، وعلماء البلاغة في إعراب الآيات القرآنية الكريمة، ووجوه البلاغة فيها إلا ما كان منهما ضرورياً لبيان معنى الآيات، وجمال الأسلوب القرآني، ودقة التعبير فيها (تفسير المنار 10 /524)، وكان هدفه من هذا الاقتصاد هو ألاَّ يشغل القارئ عن وجوه الهداية، والإصلاح في معاني الآيات المفسرة، وهي مقصوده الأول من التفسير، كما كان ذلك مقصود شيخه محمد عبده من تفسير القرآن [9]. وبشكل عام، فإنَّ رشيد رضا لم يكن يُكثر النقل عن العلماء السابقين في المجلدات الأولى من تفسيره، ولكنه وابتداءً من المجلد السابع، بدأ يُكثر، وينقل بإسهاب من الكتب والتفاسير السابقة، وخصوصاً كتب ابن حزم (ت 456هـ)، والغزالي(ت 505هـ)، وفخر الدين الرازي (ت 606هـ)، وابن تيمية (ت 728هـ)، وابن قيِّم الجوزية (ت751 هـ)، وابن كثير(ت774هـ)، والشاطبي (ت 790هـ). 6- لم يكن رشيد رضا حاسماً منذ البداية في موقفه إزاء تفسير الآيات الكريمة المتعلقة بالله تعالى وصفاته، وأمور الغيب بشكل عام، حيث كان يتأرجح بين موقفي السلف والخلف، أي بين موقف التنزيه مع التفويض من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل، وبين موقف التنزيه مع التأويل فيما يتعلق في تفسير هذه الآيات الكريمة، حتى حسم موقفه بوضوح إزاء هذه القضايا بسبب إقباله الكبير على قراءة كتب أئمة الفكر السلفي، وعلى رأسهم ابن تيمية، وتَبَنيه لموقفهم بشكل كامل، مع الاحتفاظ لنفسه بذكر بعض تأويلات محمد عبده، وعلماء الخلف، وتأويلات خاصة به أحياناً، بسبب اقتناعه بضرورة هذه التأويلات في إقناع أصحاب الثقافة المادية والفلسفية الذين لا يقبلون التسليم بأمور الغيب كما وردت النصوص بها دون تأويل يُزيل التعارض الظاهري بينها، وبين العقل [10]. فهو مؤمن إيماناً تاماً بمنهج السلف في تفسير آيات الغيب، إلا أنه قدّم بعض التنازلات، عن قناعةٍ وإدراكٍ منه لِما يفعل، في هذا المجال إرضاءً لنزعته الإصلاحية التي قضت عليه هنا بسرد بعض التأويلات من أجل أن يكسب أنصاراً جدداً للإسلام من بين قُرائه من ذوي الثقافة العصرية، ومن أبناء المؤسسات التعليمية الحديثة الذين بدؤوا يهيمنون على مقاليد الحياة السياسية والثقافية في عصره. 7- لم يكن رشيد رضا يتحرَّج في مواضع كثيرة من مناقشة، ونقد شيخه محمد عبده في بعض آرائه، وخاصة في الأمور والمسائل العقدية التي مال فيها عبده عن مذهب السلف [11]، فهو لا يسلِّم له تسليماً مطلقاً، ولا يؤيِّد كلامه عندما يؤيده إلا بعد قناعةٍ منه، واتفاقٍ معه بالرأي، وليس عن طريق التقليد المحض الذي سبق أن ذمَّه كثيراً، وبهذا نعلم أن رشيد رضا كان يحتفظ بشخصيته العلمية المستقلة، حتى وهو ينقل كلام أستاذه، ومن باب أولى غيره من المفسرين [12]. 8- قام بربط تفسير الآيات ومضمونها بواقع المسلمين ومشاكلهم السياسية والاجتماعية، واتخذ من تفسير الآيات وسيلة لتنبيه المسلمين، وتذكيرهم بالواجبات الملقاة على عاتقهم، وكثيراً ما كان يستفيد من هذا الربط، ويقوم بالانتقاد الشديد لمعظم علماء وشيوخ عصره الذين تمسكوا بالتقليد، وابتعدوا عن الاجتهاد، ولم يقوموا بدورهم في تذكير المسلمين، وربط حياتهم بالقرآن الكريم، والسنة الصحيحة. (تفسير المنار، 4/ 98، 318) 9- كان حريصاً في نهاية تفسير كل سورة تقريباً، على كتابة خلاصة إجمالية لأحكامها، وقواعدها، ومقاصدها [13]، يركِّز فيها بشكل خاص على السُنن الإلهية الكثيرة التي أوردها في ثنايا الآيات المفسَّرة (تفسير المنار، 9 / 559 - 585)، بحيث يمكننا القول: إنَّ استنباط السُنن الإلهية في الخلق والتكوين، وفي الاجتماع والعمران البشري، وشؤون الأمم من القرآن الكريم، من أهم وأبرز السِّمات والخصائص التي تمَيَّز تفسير المنار بها عن مختلف التفاسير الأخرى. نقد تفسير المنار على الرغم من المكانة المتميزة التي احتلها تفسير المنار في سياق حركة التفسير الحديثة، وموقعه المؤثر في مجمل حركة الفكر الإسلامي في العصر الحديث، فقد تعرَّض إلى انتقادات كثيرة من قِبل فئات عدة، يأتي في مقدمتهم بعض علماء المدرسة السلفية الحديثة الذين رأوا في تساهل رشيد رضا في ذكر بعض التأويلات، وتأويل بعض المعجزات، وردّ بعض الأحاديث النبوية، وانفراده ببعض الآراء الفقهية [14]، وقسوته أحياناً على بعض العلماء السابقين، اتباعاً أعمى من رشيد رضا لمنهج شيخه محمد عبده الذي أسرف في نظرهم في الاعتماد على العقل والرأي في التفسير. ولم يشفع لرشيد رضا أمام هؤلاء العلماء ما ذهب إليه، بعد وفاة شيخه، من ترجيح مذهب السلف على مذهب الخلَف العقلي، وأخذه الواضح بمقومات المنهج الأثري في التفسير، وتوسعه الكبير في الاقتباس من أمهات التفسير المعتمدة عند أهل السنة والجماعة، فقد بقي في نظرهم، وفي مؤلفاتهم أحد نماذج العلماء المسلمين الذين انهزموا فكريا أمام الغرب المتقدِّم، والذين قدَّموا من أجل التوفيق بين الإسلام، وبين حضارة الغرب الغالبة تنازلات على حساب خصوصية الإسلام، ومنهجه المستقل في العقيدة والتشريع، ولعل أهم من يمثل علماء هذه المدرسة هو الدكتور فهد الرومي أحد أبرز العلماء السعوديين المعاصرين [15]. وقد تعرّض رشيد رضا وتفسيره إلى نقد طائفة أخرى من العلماء، يمكن تصنيفهم ضمن علماء المؤسسة الدينية الرسمية، والمؤسسة الصوفية الشعبية، فقد وجَّه إليه بعض علماء هاتين المدرستين انتقادات شديدة بسبب زحزحته المكانة التقليدية المرموقة التي كان يتمتع بها كل من الفقهاء التقليديين، وشيوخ الطرق الصوفية في المجتمع، وذلك من خلال الحملة العنيفة التي قام بها على صفحات تفسيره على التقليد المذهبي وعلمائه (12/ 220ـ 221.) وعلى البدع والخرافات الدينية الشائعة الذيوع في كثير من البيئات الصوفية الطُرقية. ومن خلال دعوته اللاهبة في مقابل ذلك إلى إحياء روح الاجتهاد، وروح الزهد والتزكية وفق نصوص الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح فقط. ولقد تركزت معظم انتقادات هذا الفريق من العلماء على الميول السلفية والوهابية التي ظهرت جلياً في تفسير المنار، بالإضافة إلى تأويله لبعض المعجزات، وإنكاره لكثير من الكرامات التي يدعيها شيوخ الطرق الصوفية. ونذكر من علماء هذه الطائفة التي تصدت لرشيد رضا الشيخ الأزهري المتصوف يوسف الدجوي (ت 1946م) الذي قاد حملة صحفية قوية ضد رشيد رضا، على صفحات مجلة الجامع الأزهر آنذاك "نور الإسلام"، واتهمه باتهامات خطيرة، مثل: إنكار الملائكة والجن، وإنكار بعض المعجزات، والإيمان بمذهب دارون، وردّ بعض الأحاديث الصحيحة، ونشر مقالاته تلك في كتاب سماه "صواعق من نار في الرد على صاحب المنار"، الأمر الذي دفع رضا للرد، وتبيين حقيقة، وسلامة موقفه إزاء القضايا التي اتهمه فيها، في مقالات عديدة جمعها ونشرها في كتاب سماه: "المنار والأزهر" [16]. وهناك فريق آخر من الباحثين المعاصرين ممن ينتمون إلى تيار إعادة قراءة القرآن الكريم وفق مناهج ومكتسبات العلوم الاجتماعية والإنسانية الحديثة، يرى أنَّ مساهمة رشيد رضا في تفسير "المنار" ما هي إلا خطوة تراجعية عن بعض ما أنجزته مدرسة المنار على يد رائديها الأفغاني وعبده ـ وهو في نظرهم إنجاز محدود، وموضع نقد وتقويم ـ وذلك بسبب ما قام به رضا من إعادة العمل التفسيري إلى تخوم المدرسة التقليدية القديمة في التفسير، وتظهر أهم ملامح تلك العودة، في نظرهم، من خلال إكثاره من النُقول الواسعة عن علماء التفسير السابقين، فضلاً عن استطراداته الواسعة فيما يتعلق بقضايا العقيدة والتشريع، هذا بالإضافة إلى عجزه عن الاستفادة من المناهج الغربية الحديثة في دراسة، ونقد النصوص المقدسة؛ وكأحد نماذج هذه المدرسة يقول الدكتور عبد المجيد الشرفي في معرض تقييمه لتفسير المنار: "فنلاحظ إذن أنه لا يمت بصلة إلى حركة التفسير "الكتابي" -نسبة إلى الكتب المقدسة عند اليهود والمسيحيين- التي عرفها الغرب منذ أواخر القرن السابع عشر بالخصوص، والتي كانت أبرز ملامحها متمثلة في استقلالها عن علم اللاهوت، واعتمادها منهجاً نقدياً في تناول النصوص المقدسة. فتفسير المنار أبعد ما يكون عن التفسير النقدي، وليس فيه أدنى إعادة نظر في المسلَّمات المتعلقة بالترتيب الرسمي والتعبُّدي للسور والآيات، ومواطن الإشكال في عدد من التعابير القرآنية، ويتبنى بالطبع المفهوم التقليدي للوحي الذي يكون فيه الرسول مجرد مبلِّغ سلبي للرسالة الإلهية، فلا مجال فيه لأثر ما لشخصية النبي وللظروف التاريخية التي أحاطت به، ولا لمشكلة الانتقال من الكلام الإلهي المفارق إلى الكلام البشري المحدود بالضرورة. وبعبارة أخرى فقد كان تفسير المنار تفسيراً إيمانياً بالدرجة الأولى" [17]. يكاد الدكتور عبد المجيد الشرفي بكلامه هذا يستعيد بشكل شبه كامل ما قاله المستشرق آرثر جيفري قبل أكثر من سبعين عاماً في مجلة "العالم الإسلامي"، في مقالة بعنوان " النقد العالي للقرآن" طالب فيها علماء المسلمين باقتفاء أثر علماء الغرب بإخضاع القرآن الكريم إلى معايير النقد التاريخي والأدبي التي أخضعوا لها نصوصهم المقدسة، دون أدنى اعتبار منه للاختلافات الصريحة بين طبيعة النص القرآني المقطوع بصحته التاريخية، وإيمان المسلمين القاطع بأنه كلام الله تعالى الذي أنزله لفظاً ومعنىً على قلب رسوله محمد r، وبين نصوصهم المقدسة التي تعرضت للتحريف والتزوير التاريخي باعترافهم هم، وأنها نصوص مقدسة دوَّنها أتباع الرسل عليهم السلام، ولا تُعَد كلام الله تعالى نفسه لفظاً ومعنىً في وقت واحد كما هو حال القرآن الكريم [18]. وفي الحقيقة، فإنه يمكن القول بأن ما يريده أصحاب هذا الاتجاه ـ فضلاً عن إخضاع النص القرآني لأسئلة الحداثة وإشكالاتها النقدية المتعلقة بالنصوص المقدسة ـ هو عزل النص القرآني عن شبكة النصوص التفسيرية التي أحاطت به، وأصبحت مدخلاً إجبارياً لفهمه، وأصبحت معاني القرآن الكريم بالتالي أسيرةً لمنهجية هذه النصوص في تحديد المعنى بشكل عام، لذلك فقد اعتبروا محاولة رضا للعودة بتفسير القرآن الكريم إلى أحضان التراث، والارتباط بمنهجيته التفسيرية العامة بمثابة تراجع منهجي لا يساعد على تطوير علم التفسير [19]. وفي الحقيقة، فإنّ أصحاب هذا الرأي قد غفلوا عن الأخذ بعين الاعتبار السياق المعرفي والتاريخي الحرج الذي كان يكتب فيه رشيد رضا تفسيره، وتجاهلوا الحساسية الدينية والتاريخية الخاصة لقرّاء تفسيره، إذ هما، بالإضافة إلى اقتناعه العلمي بطبيعة الحال، اللذان أجبرا رشيد رضا على اختيار ما اختاره من إجراءات وأساليب في التفسير، حيث ما كان له أن يؤثر في وعي قرائه، ويكسب تأييدهم لأفكاره الإصلاحية المنبثّة في كل صفحات تفسيره، إلا إذا احترم ذاكرتهم الجمعية التي تضمن لهم أدنى حدود التضامن، والتماسك في اللحظات التاريخية العصيبة التي كانوا يمرون بها، وإلا إذا قام مخلصاً بالانتظام في داخلها، وتقديم أفكاره على قاعدةٍ متينة منها، وهذا هو بالضبط الذي فعله عندما استكثر من الاعتماد على تراث المفسرين من قبله أخذاً ونقاشاً ونقداً، واعتمد منهجيتهم العامة في التفسير. ____________ * باحث فلسطيني. [1] رضا، رشيد، تفسير المنار، 1 / 14. نلاحظ من كلام رشيد رضا هنا مدى وضوح وحضور الغاية الإصلاحية وراء اقتراحه بل إلحاحه على محمد عبده أن يكتب تفسيراً للقرآن الكريم. وعلى هذا يمكن أن نقول: إن مشروع كتابة تفسير "المنار" كان منذ اللحظة الأولى لولادته استجابةً معرفية لمشروع إصلاحي تغييري، ولم يكن استجابة للآمر العلمي المحض عند صاحبيه عبده ورضا على السواء. [2] لقد تركت هذه المدة الطويلة التي دُوِّن فيها تفسير "المنار"، وما حدث فيها من تقلبات سياسية، بعض الآثار السلبية عليه، مثل التطويل، والإسهاب، والتكرار، وظهور شيء من النزعة الخطابية في بعض المواضع. انظر، الشرباصي، أحمد، رشيد رضا الصحفي، المفسِّر، (القاهرة، مجمع البحوث الإسلامية، ط1، 1977م) 152ـ 157. [3] انظر، السلمان، محمد عبد الله، رشيد رضا ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، (الكويت، مكتبة المعلا، ط1، 1409هـ/1988م) 317. [4] يصف لنا رشيد رضا هوية الفئة التي كانت تحضر دروس محمد عبده بقوله: "هذا وإن درس التفسير في الأزهر كان أحفل الدروس وأنفعها في الدين، والاجتماع، والسياسة، والأدب والبلاغة، وكان يحضره كثير من علماء الأزهر، وأساتذة المدارس الثانوية والعالية، وكبار رجال القضاء الأهلي، وفضلاء الوجهاء، ورجال الحكومة". رضا، رشيد، تاريخ الأستاذ الإمام، (القاهرة، مطبعة المنار، ط1، 1350هـ/ 1931م) 1/769. [5] ذكر رشيد رضا أن سبب ذكر هذه الاستطرادات هو تحقيق "مسائل تشتد حاجة المسلمين إلى تحقيقها بما يُثبِّتهم بهداية دينهم في هذا العصر، أو يقوي حجتهم على خصومه من الكفار والمبتدعة، أو يحلَّ بعض المشكلات التي أَعيَا حلُّها بما يطمئن به القلب، وتسكن إليه النفس " تفسير المنار، 1/16. [6] كان رشيد رضا يدرك بنفسه هشاشة الصلة بين معظم هذه الفصول، وبين نسيج النص التفسيري الذي أٌضيفت إليه، لذلك لم يتردد في القول "وأستحسن للقارئ أن يقرأ الفصول الاستطرادية الطويلة وحدها في غير الوقت الذي يُقرأ فيه التفسير". المصدر السابق، 1/16. [7] انظر على سبيل المثال تقريره لارتباط آية الدَيْن الطويلة بما سبقها من آيات الحثّ على الصدقة وتحريم الربا في آخر سورة البقرة، تفسير المنار، 3 / 118 - 119. وانظر أيضاً، 4/ 122ـ 123، 256ـ 257، 434 ـ 435. [8] انظر، على سبيل المثال، تفسير المنار، 3 /82 - 91. وانظر أيضاً، شقير، شفيق، موقف المدرسة العقلية الحديثة من الحديث الشريف: دراسة تطبيقية على تفسير المنار، (بيروت، المكتب الإسلامي، ط1، 1419هـ/ 1998م)، 275ـ 408. [9] أشار رشيد رضا إلى أن للقرآن الكريم بلاغتين، بلاغة مضمونه ومعانيه، وتأتي في المقام الأول، وبلاغة ألفاظه وأساليبه، وتأتي على الرغم من أهميتها في المقام الثاني. فها هو يقول "وإن كثرة البحث في الثاني -يقصد البلاغة اللفظية- ليشغل المفسر عن الأول الخاص منه بالهداية، وإصلاح النفس وتزكيتها، ولهذا السبب نقتصر منه في تفسيرنا على ما قصر فيه المفسرون باختصار لا يشغل عن الهداية المقصودة بالذات، وقد نجعله من باب الاستطراد بعد بيان معنى الآية أو الآيات". تفسير المنار، 12/ 91. انظر أيضاً، 10 / 524. [10] يقول رشيد رضا: "وينبغي أن تعلم أيها القارئ المؤمن أنَّ من الخير لك أن تطمئن قلباً بمذهب السلف، ولا تحفل بغيره، فإن لم يطمئن قلبك إلا بتأويلٍ يرضاه أسلوب اللغة العربية، فلا حرج عليك، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها.. والذي عليك قبل كل شيء أن توقن بأن كلام الله كله حق، وألا تؤول شيئاً منه بسوء قصد.. والتفسير الموافق للغة العرب لا يُسمى تأويلاً، وإنما يجب معه تنزيه الخالق، وعدم تشبيه عالم الغيب بعالم الشهادة من كل وجه". تفسير المنار، 1/ 252ـ 253. وفي الحقيقة فقد ذكر رضا هذا الكلام في المجلد الأول من تفسيره الذي نشره بشكل مستقل بعد أن أضاف عليه إضافات كثيرة، عام 1346هـ/1927م، أي في المرحلة التي تشبَّع فيها رضا من الفكر السلفي، دون أن يتخلى في الوقت نفسه عن تمسكّه بمشروع محمد عبده الإصلاحي بشكل عام. [11] انظر مناقشته لمحمد عبده في الفرق بين الذنب والسيئة، تفسير المنار، 4 / 302 - 304. وانظر نقده له في مسألة "الغُلو"، وانتصاره لمذهب السلف في تقرير هذه المسألة، تفسير المنار، 1 / 395. وانظر أيضاً، 2/ 139. [12] انظر على سبيل المثال نقده لفخر الدين الرازي، تفسير المنار، 1/ 68، 4/ 61ـ 63. ونقده لشهاب الدين الآلوسي (ت1854م) صاحب تفسير "روح المعاني "، 1/ 91ـ 94. [13] وصف رشيد رضا عمله هذا بأنه " أشق عمل في التفسير، ولم أُسبق لمثله ". أرسلان، شكيب، السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة، (دمشق، مطبعة ابن زيدون، ط1، 1356هـ/ 1937م) 615. [14] انظر على سبيل المثال ما ذهب إليه من أن المسافر يجوز له التيمم، حتى لو كان الماء بين يديه، ولا يوجد أي مانع يمنعه من استخدامه إلا كونه مسافراً. تفسير المنار، 5/ 120ـ 121. [15] انظر على سبيل المثال، الرومي، فهد، منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، (بيروت، مؤسسة الرسالة، ط4/ د.ت)، 809ـ 812، السلمان، محمد عبد الله، رشيد رضا ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، 333ـ 339. [16] انظر، السلمان، محمد عبد الله، رشيد رضا ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، 477 ـ 478. [17] انظر الشرفي، عبد المجيد، الإسلام والحداثة، (تونس، الدار التونسية للنشر، ط2، 1991م)، 67ـ 68. [18] Jeffrey, Arthur, Higher Criticism of Quran, the Confiscated of Commentary of Muhammad Abu Zaid, The Moslem World, Volume XXII, No, 1, January, 1932, pp 78-83. [19] انظر، النيفر، أحميدة، الإنسان والقرآن: التفاسير القرآنية المعاصرة، قراءة في المنهج، (دمشق، دار الفكر، ط1، 1421هـ/ 2000م)، 76.
09-05-2009 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=742 |