/

 

 

النزعة الإنسانية في فكر رضوان السيد

فاطمة حافظ

يشير مفهوم «النزعة الإنسانوية» إلى المذهب الفلسفي الذي نشأ في إيطاليا إبان عصر النهضة والذي يتمركز حول الإنسان ويجعل منه القيمة العليا في الوجود؛ بيد أننا نستخدمه هاهنا لنشير إلى الدائرة الإنسانية في فكر رضوان السيد والتي تتبدى من خلالها رؤيته للإنسان ودوره وموقعه، وكيف تتأسس علاقته بالآخر، وما هي المفاهيم الحاكمة لها، وكيف يمكن أن نؤسس لعلاقة أفضل تضمن الاعتراف والاحترام المتبادلين.

وحيث أننا بصدد مؤرخ أفكار تمثل المفاهيم محورا ينبني عليه مشروعه الفكري بأسره إذ ينطلق في دراسته للتاريخ الثقافي مما يسميه «المفاهيم المفاتيح» في الفكر الإسلامي، باحثاً عن تمظهراتها على هيئة أفكار وأيديولوجيات واتجاهات فكرية[1] ، وحرى بنا أن ندور معه بالضرورة فنبحث عن ملامح النزعة الإنسانوية وأبعادها وتجلياتها ضمن مشروعه الفكري انطلاقا من المفاهيم المتداولة لديه من قبيل: التعارف، التآخي، المساواة، التسامح، الحرية إلى غير ذلك من المفاهيم ونبحث في مدلولاتها. ومن الأرضية المفاهيمية إلى الممارسات التطبيقية نتوقف معه أمام كيفية تمثل التاريخ الإسلامي للمفاهيم القرآنية المحددة لطبيعة العلاقة مع الآخر والتي تكفل حرية المعتقد الديني، ونختتم برؤيته التحليلية المقارنة للإنسان وحقوقه وكيف ينظر إليها أبناء الحضارتين الإسلامية والغربية، وما هي الآفاق التي يمكن أن تبلغها هذه الحقوق في العالم العربي.

ويجدر أن نشير ابتداء إلى أن من يدقق في النزوع الإنسانوي لدى رضوان السيد يسترعي انتباهه أنه يرفد من رافد أساسي هو القرآن الكريم الذي أفاض السيد في تبيان ملامح مشروعه لإعادة بناء الإنسان والعلاقات الإنسانية على أسس قوامها المساواة في الخلق والقيمة، غير أنه لا يعدم ملاحظة خط آخر موازٍ يتغذى منه هذا النزوع يستند إلى قيم الانسانوية العالمية ممثلة في دعاوى الحوار بين الثقافات، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يعده خطوة واسعة في المجال الإنسان.

 

الرؤية القرآنية للاختلاف الإنساني

يقف رضوان السيد أمام القرآن الكريم مقلبا النظر في رؤيته للإنسان والطبيعة الإنسانية فيجد أن القرآن اعتبر الإنسان مقولة قائمة بذاتها من الناحيتين الوجودية واللغوية وقد تحير فيها المعجميون واللغويون وما استطاعوا الاتفاق على جذرٍ لها[2]. ويمتلك القرآن، حسب السيد، رؤية متكاملة للعالم تستند إلى إدراك عميق للطبيعة الإنسانية الاختلافية التي تجد مصداقها في قوله تعالى ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ( (الحجرات: 13). هذا الاختلاف الذي أورده القرآن على مراتب عدة: اختلاف إثني ثقافي (تعددية الألسنة واللهجات والألوان)، وفي أشكال التنظيم الاجتماعي (الشعوب والقبائل)، وفي الانتماء الديني.

وهذا الاختلاف الطبيعي والخلاف الناجم عنه، وفق قراءة رضوان السيد، لا يفضيان بالضرورة إلى شرور وتشرذم ومشاحنات، وذلك لعاملين اثنين: أن خالق البشر أحد لا شريك له، وأن الوحدة كانت أصلا بين البشر ثم حدث الاختلاف )ومَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا( (يونس: 19). أما عن كيفية إدارة هذا الاختلاف وتحويله إلى أمر مثمر وإيجابي فهذا ما يرجعه إلى التعارف الذي يشكل المفهوم المركزي في شبكة المفاهيم الإسلامية الضابطة للاختلاف المؤلفة من (التعارف، الخيرات، المسئولية). ويولي السيد أهمية قصوى لمفهوم التعارف ويراه يحمل من المعاني والدلالات ما يؤسس لعلاقات إنسانية رحبة تحول دون ادعاء الاصطفائية أو التقوقع حول الذات تحت مسمى الهوية والخصوصية. ويعني التعارف لديه أمور ثلاثة:

أولها: الاعتراف المتبادل بين جميع الأطراف بالمصالح المختلفة والاهتمامات المتباينة.

وثانيها: التعرف على المشتركات التي يمكن أن يتلاقى عليها البشر استنادا إلى الطبيعة الإنسانية الفطرية والمصالح الموجودة في الاجتماع الإنساني.

وثالثها: معرفة الآخر التي تولد أنسا وتوادا؛ حيث أن الجهل بالآخر وعدم معرفته هو الداعية الرئيس للتخاصم والافتراق.

ويتحدد مضمون التعارف وفق الآية الكريمة )قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ( (آل عمران، 64) وهو يتأسس على «وحدانية الله الخالق، والتعامل بين البشر على قدم المساواة في القيمة الإنسانية وفي الحقوق المترتبة على ذلك شكلا وموضوعا. والمساواة تعني أنه لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة أو لديه تفوق أخلاقي متفرد.... فتأسيسا على الوحدانية في الخلق والعبادة تترتب رؤية لعالم بني الإنسان قائمة على الحرية والمساواة والندية»[3] وانطلاقا من هذا يذهب رضوان السيد إلى أنه لا يحق للموحدين ادعاء ميزة على غيرهم من الخلائق وإنما ميزتهم الوحيدة –إن صح التعبير- هي في تحولهم إن أحسنوا القيام بمسئولياتهم إلى شهود في عالم بني الإنسان.والشهادة دعوة وحضور فضلا عن كونها مسئولية )وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ((سورة الزخرف: 44) وهي ليست مسئولية أخروية وحسب وإنما هي مسئولية دنيوية بالأساس، فأصحاب الديانات التوحيدية على السواء هم من يقع على عاتقهم تحقيق نهج التعارف وهم المسئولون عن تحريفه وسوف يسألون عن ذلك كله.

ومقصد العملية التعارفية القرآنية وغايتها الكبرى تحقيق الخيرات )وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ( (البقرة:148)، والخير مفهوم يتسم بالعمومية والشمولية تتطابق حدوده لدى رضوان السيد مع مفهوم المعروف. وحسبما يلحظ فإن «القرآن يدعو المسلمين للتنافس مع غيرهم في استباق الخيرات دونما تحديد لتلك الخيرات باعتبارها معروفة ومشتركة بين بني البشر ولا ينفرد بها المسلمون معرفة وتحديدا» وبالتالي فليس من حق المسلمين الانفراد بتحديد القيم التي يشاركون فيها البشرية حيث أنهم ينفصلون بهذا عن بقية البشر وتتعملق لديهم أوهام الخصوصية [4].

وإلى جوار المنظومة التعارفية يلمح رضوان السيد طريقة قرآنية ثانية تُشكل مستوى آخر من مستويات تنظيم الاختلاف الإنساني ألا وهي التآلف بين المؤمنين بالإله من أهل الديانات التوحيدية بما يتجاوز الاعتراف إلى التآخي )قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ( (آل عمران:64) ويردف أن الإعراض عن التعارف وعن التآخي لا يعني حتمية التنازع إنما هناك حدود دنيا يمكن أن تصل إليها العلاقة عبرت عنها الآية الكريمة ) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ( (الممتحنة:8).

التسامح والحرية

في مقابل تلك المنظومة من المفاهيم القرآنية ينتقل رضوان السيد إلى مفهوم التسامح المأخوذ من الفضاء الحضاري الغربي، والذي رغم حداثته النسبية إلا أنه بات يشكل المفهوم المركزي حين التحدث عن ضرورات قبول الاختلاف. وقد بحث السيد عن رؤى التسامح والاعتراف بالآخر فوجدها تكاد تنحصر في ثلاث:

أولا: الرؤية المسيحية التي تقوم على «المحبة» والتي تأسست على المفاهيم المسيحية الكبرى في التجسد والصلب والفداء والقيامة، بيد أن هناك عدد من العوامل التاريخية قلصت من مفهوم المحبة وقصرته على المؤمنين بالمسيح وكنيسته مما أسفر عن حروب دينية طاحنة عرفتها القارة الأوروبية امتدت من القرن الرابع عشر حتى القرن التاسع عشر.

ثانيا: الرؤية الإنسانوية التي ظهرت في أوروبا خلال القرنين السابع والثامن عشر، وهي تبحث عن إقرار الأمن والسلام الاجتماعي بعيدا عن العقائد والأديان التي اعتقد أنها علة الحروب بين المؤمنين بين الأديان المختلفة، وهذه الرؤية تتأسس على مبدأ اللاأدرية ، وتذهب هذه الرؤية إلى أن لكل إنسان حق طبيعي هو نتاج طبيعته الإنسانية وهذا الحق يخوله أن يكون حرا في اختياراته العقدية والاجتماعية والسياسية.

ثالثا: الرؤية الإسلامية، وقد أسلفنا القول أنها تستند إلى مفاهيم التعارف والمسئولية والخيرات[5].

وبحثا عن سياقات المفهوم في العالم العربي يتتبع تاريخ تداول المفهوم في الأدبيات؛ فيجد أنه بدأ يتخلل أدبيات النهضويين في الربع الأول من القرن العشرين للتعبير عن الاختلاف مع الآخر حيث حل بديلا لمفهومي التساهل والتحمل. وكان استخدامهم له على استحياء وبحذر وذلك حكم ارتباط المفهوم بالنزعة الإنسانوية المستندة إلى اللاإرادية .ويلاحظ في هذا السياق أن الإسلاميين بعد انتصاف القرن عملوا على إسقاط حمولته الدلالية وإضفاء الصبغة الإسلامية؛ فأعادوا بنائه على أرضية إسلامية استنادا إلى القرآن الكريم وإلى التجربة التاريخية الإسلامية؛ وبذلك لم يعد لديهم أدنى حرج في التعامل معه. ورغم هذه المقاربات الإسلامية للمفهوم يذهب رضوان السيد إلى «منهج التعارف القرآني –هو- الأقرب من التسامح إلى طبيعة الإسلام»[6] وهذا لا يعني رفضا منه لمفهوم التسامح وأن يكون ركيزة لتقبل الاختلاف مع الآخر، وإنما يجد أن التعارف أكثر شمولا وقربا من طبيعة الإسلام لكونه نابع من كتابه المنزل.

ومن التسامح إلى مفهوم آخر أكثر محورية هو مفهوم الحرية الذي شيد حوله البناء الفلسفي الغربي بأسره، يناقش السيد مسألة الحرية الفردية في سياقها الغربي ذاهبا إلى أنه لا يصح اعتبار تحقق الحرية الفردية دليلا على أن النظام السياسي قد كفل الحريات والديمقراطية، ويبرر ذلك بقوله أننا ينبغي أن نميز ما بين النوازع والمصالح الفردية وبين الالتزام الثقافي بالحرية فـ«الواصل المنطقي والعملي بين الفردية والنظام هي ما يمكن تسميتها بالأخلاق؛ بمعنى أن الالتزام الأخلاقي هو المنقذ من سلبيات الفردية ومن هوامات الجماعية، والأخلاق تعني الأمور القيمية وتدبير الشأن العام ». وبحسب السيد فإن الأخلاق قد ارتبطت ارتباطا عضويا منذ الأزل بالدين ولذلك كان الفصل العنيف بين الدين والدولة في أدبيات وممارسات الثورة الفرنسية ضربا للقيم الأخلاقية وإضعافا بالتالي لفكرة الحرية الفردية والجماعية إذ لم تعد مقرونة بالقيم الأخلاقية رغم أنها منوطة بإدارة الشأن العام؛ ولعل هذا ما يفسر لديه كثرة الديكتاتوريات والفاشيات في تاريخ أوروبا العلمانية الحديثة[7].

وفي الجهة المقابلة يقارب رضوان السيد مفهوم الحرية في الإسلام منطلقا من أن علاقة العبودية بين الله والعبد هي أساس فكرة الحرية بمعنى أنها التزام من جانب العبد وضمان من الله سبحانه وتعالى للحرية الإنسانية، وهي ما يعبر عنه المتصوفة بقولهم «انقطاع العلائق مع الخلائق». وتجد الحرية ركيزتها في الإيمان بالله وبأنه مصدر النظام الأخلاقي، فأساس الحرية في الإسلام ليس النقاشات الكلامية الطويلة لعلماء الكلام حول خلق أفعال الإنسان أو عدم خلقها من جانب الله سبحانه وتعالى بل في تأسيس فكرة الحرية على مصدر الخلق والأخلاق لتصبح المشكلات تقنية أو إجرائية بحيث يصبح التساؤل هو كيفية إنجاز الحرية فرديا وجماعيا «وليس معنى ذلك الاشتراط أن يكون الإنسان مؤمناً لكي يكون حرا؛ لكن الإيمان ضمان للحرية الأخلاقية التي لا تقع في المسلمات والأوهام والتأليهات التي لا تنتهي كما هو شأن العقائد والفلسفات الشمولية في القرن العشرين».

وفي عبارة مكثفة بالغة الدلالة يجمل رأيه الانتقادي لواقع الحرية كما يمارسها الشرقيون والغربيون قائلا: إن الذي يتوحد بنفسه ويظن أنه صار حرا بذلك إنما يخضع حريته لمنزع واحد يصبح معبودا لديه -يعني الممارسات الغربية -، والذي تقوده فكرة شخص واحد وإن كانت أخلاقية –يقصد الممارسات العربية- يخرج بذلك من آفاق الحرية إلى التبعية والوهم[8].

 

الحرية الدينية في الدولة الإسلامية: قراءة تاريخية

ومن الأرضية المفاهيمية إلى البحث في كيفية تمثل التاريخ الإسلامي لقيم ومفاهيم العلاقة مع الآخر غير المسلم والتي صيغت معالمه الأساسية من خلال نظام «أهل الذمة» الذي اقتصر في البداية المسيحيين واليهود وامتد بعد ذلك ليشمل الزرادشتين (المجوس) والبوذيين والهندوس، ممن أدخلوا تحت فئة (الصابئين) الذين ذكرهم القرآن. وعلى الرغم مما يحاط بالمفهوم من مدلولات سلبية معاصرة فإن رضوان السيد ينظر إليه نظرة مغايرة مبديا عليه بعض الملاحظات التي تعيد موضعته في إطاره التاريخي،

أولها أن نظام أهل الذمة قد تجاوز التعارف والاعتراف إلى ما يقرب من الأخوة، بحسب ما نص عليه القرآن، للاشتراك في أصل الإيمان بالإله الواحد والعقائد الأساسية.

وثانيها أن نظام أهل الذمة في أكثر وجوهه اجتهادي وليس قرآنيا إلا من حيث أصله ومن ثم كان عرضة للتأثر بالظروف التاريخية وبعلائق الدولة الخارجية لاسيما في حروبها الطويلة مع الفرنجة والتي أثرت في تعامل الدولة مع رعاياها المسيحيين في الداخل إلا أن هذا لم يتحول إلى سياسة مقررة في أي حقبة من الحقب.

وثالثها أن التقسيم إلى مسلمين وذميين تصنيف إسلامي داخلي وضع لأجل التنظيم وليس بغرض التمييز، وعلى شاكلته صيغت تقسيمات أخرى مثل دار الإسلام ودار الحرب، إلا أنه رغم التسمية بدار الحرب فإن أكثر الدول خارج دار الإسلام كانت تشملها تنظيمات أخرى، مثل: دار الموادعة، ودار العهد، ودار الاستئمان وهي جميعا تعبير عن أنواع العلاقات القائمة بين الدولة الإسلامية مع غيرها من الدول.

وبعيدا عن تلك التقسيمات الفقهية والواقعية فإن القاعدة الجماهيرية المسلمة قد حكمها مع غير المسلم مبدأ )لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ((البقرة:256) إذ ما أجبر أحد من الذميين على اعتناق الإسلام بقوة الدولة أو الضغط الاجتماعي، ووفقا لرضوان السيد، فقد بقي المسيحيون أكثرية في مصر والشام إلى عصر الحروب الصليبية وإلى ما بعد ذلك في الأندلس ونواح أخرى[9]. وهذا لا ينفي حدوث أخطاء كثيرة في التصرفات ما كانت آتية من جانب الدولة بل الفقهاء شاركوا فيها وأسهم فيها العامة بنصيب وافر.

ويبقى الوجه الآخر لأوضاع الحرية الدينية في الداخل الإسلامي في العصور الوسيطة إذ يشدد رضوان السيد على أنه  بالرغم من بروز عدد كبير من الحركات والفرق الإسلامية والتي شكك بعضها في إيمان المخالفين لهم في العقائد والسلوك إلا أن المسلمين ما توصلوا قط إلى اشتراع «قانون إيمان» ذي بنود تخرج من الملة أو الدين أو تكون شروطا للدخول فيه. غير أن انتفاء هذا القانون لم يكن ليحول دون فرض الفقهاء تعزيرات على المرتدين عن الإسلام وذلك من منطلق أن الردة لا يمكن إدخالها ضمن دائرة الإكراه في الدين التي خضع لها غير المسلم «بيد أن الأمر انتهى إلى الاستتابة أو الحبس المؤقت، ولا نعرف إعدامات سياسية إلا ما يزيد على عدد أصابع اليدين. وهي في الواقع حالات ظلم لها علل غير دينية أو أنها ناجمة عن ضغوط اجتماعية محافظة».

لقد شهد الاجتماع السياسي والثقافي الإسلامي تطورات كبرى على شتى المستويات في القرون الثلاثة الأخيرة رافقتها حركة تعديلات فقهية واسعة بحيث غابت كثير من ملامح التنظيمات الوسيطة فقد أبطل نظام أهل الذمة وحل محله نظام المواطنة، كما رحلت تقسيمات دار الحرب ودار الإسلام إلا أن الفقهاء لم يذهبوا بعيدا في مسألة عقوبات الردة فظلت باقية على حالها بسبب الهواجس التي اعترتهم من الهجمات التبشيرية المصاحبة للاستعمار الغربي بحيث خشي إن تم التساهل في مسألة العقوبات أن تصب في صالح تسهيل مهمة التبشير، ولا يبدي رضوان السيد اقتناعا بهذا الطرح التسويغي ذاهبا إلى «أن الفقهاء أو كثيرا منهم يطالبون بما لا يطالب به القرآن الكريم الذي يكرر النص على الحرية الدينية ولا يشترع عقوبات دنيوية على المرتد»[10].

 

حقوق الإنسان بين العالمية والخصوصية

في معرض تناوله لإشكالية حقوق الإنسان يقدم رضوان السيد عرضا تحليليا نقديا مقارنا لسيرة المفهوم والمرتكزات التي يتأسس عليها، ونقطة البدء لديه الفقه الإسلامي الوسيط الذي شاع فيه مقولة أن الشريعة أنزلت من أجل خمس مصالح/مقاصد ضرورية لبني الإنسان هي: النفس (حق الحياة) والعقل والدين والنسل والمُلك. وهي المقولة التي تطورت تباعا حتى أصبحت منهجا نظريا متكاملا وضع قواعده الإمام الشاطبي في "الموافقات" حين قام بتصنيف هذه المقاصد إلى: ضروريات، وحاجيات، وتحسينيات. وهو الأمر الذي يعني برأي رضوان السيد أن الحقوق الإنسانية الأصلية تتفرع في شبكة تتوسع بقدر توسع إنسانية الإنسان، وأنها-أي الحقوق أو المقاصد- لا تخص الشريعة الإسلامية وحدها بل هي أمر إنساني عام وهو ما يدعمه قول الشاطبي «إنها مراعاة في كل ملة»[11].

ومن خلال تتبعه التاريخي لقواعد المنظومة الحقوقية والإنسانية لدى النهضويين يذهب رضوان السيد إلى أن الجيل الأول من النهضويين -ويعني تحديدا الطهطاوي والتونسي- كانوا في قبولهم للإنسانوية الأوروبية يعبرون عن المشترك الإنساني الجامع بين المسلمين وغيرهم؛ بيد أن تداعيات السياسة والتجربة الإمبريالية أحدثت عميق الأثر على الأجيال اللاحقة من المفكرين الإسلاميين الذين تعملقت هويتهم وتضخم لديهم الإحساس بخصوصيتهم. وهذا التحول على درجة من الوضوح بحيث يمكن تلمسه في حياة رجل واحد مثل السيد رشيد رضا الذي كان في مطلع القرن يجهر بالدعوة للاعتبار بحال الأوروبيين من أجل تمثل وإعادة فهم المفاهيم الإسلامية الأصيلة كالشورى؛ فإذا به يتراجع عن هذا كله في العشرينات على صفحات المنار على وقع انكشاف الوجه الإمبريالي الغربي بعد الحرب العالمية الأولى[12]. ويفهم من هذا أن رضوان السيد يرجح أن الإسلاميين لا يرفضون المنطلقات الإنسانوية بنيويا وبشكل مطلق وإنما الرفض نتاج الممارسات الإمبريالية التي اقترنت في أذهان هؤلاء بالتبشير والاستشراق والتي أثارت هواجس الهوية، وعليه إذا زالت مخاوف الهوية فإنهم يمكن أن يقبلوا بالمنطلقات الإنسانوية العالمية.

هكذا بينما دخل الفكر الإسلامي مرحلة الانكفاء حول الذات والتي يؤرخ لها منذ الأربعينات كان الفكر الغربي ينزع نحو الانفتاح والبحث عن صيغ للمشتركات الإنسانية أسفرت عن صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948 الذي يؤسس لفكرة القيم الإنسانية التي تقوم على "الحقوق الطبيعية" المركوزة في فطرة الإنسان. وبدوره يقر رضوان السيد أن هناك أوجه قصور تشوب الإعلان أرجعها إلى أن المنتصرين في الحرب العالمية الثانية هم من صاغوا بنوده وهم الذين عهد إليهم بالإشراف على تطبيقها.إلا أنه لا يذهب مذهب الإسلاميين في رفض الإعلان ابتداء لكونه يؤسس لحقوق الإنسان استنادا إلى الحق الطبيعي على حين أن الحقوق في الإسلام تقوم على الضمان الإلهي، فمشكلاته تنحصر لدى السيد في المجال الإجرائي المتعلق بكيفية تطبيق بنوده ومن يقوم عليها.

ينطلق المفكرون الإسلاميون في رفضهم إعلان حقوق الإنسان من أنه لا يجوز إخضاع الإسلام باعتباره دينا خاتما لمرجعية من خارجه؛ فالإسلام له منظومته القيمية الخاصة المكتملة التي تشرع للحقوق والواجبات، ولهذا استندت الإعلانات الإسلامية لحقوق الإنسان التي توالى صدورها تباعا منذ الثمانينات إلى النصوص التأسيسية من قرآن وسنة مما يولد نوعا من التمايز أو بالأحرى انفصالا مع المنظومة القيمية العالمية «فتظل الإعلانات الدولية حقوقا، بينما تصبح الإعلانات الإسلامية تكاليف» .ويفصل رضوان السيد في ذلك موضحا أن هناك توافقا بين جميع الإعلانات الإسلامية على التقيد بثلاثة أمور: الالتزام بأحكام الشريعة فيما يتعلق بالمعاملات الأسرية من زواج وطلاق وحضانة أطفال، الإصرار على استخدام المصطلح القرآني والتعبيرات الفقهية في الديباجات، الحرص على إبراز خصوصيات التشريع الإسلامي ومفارقته الكلية للتشريعات الوضعية.

وتوحي هذه النقطة الأخيرة إليه بأن الإعلانات الإسلامية قد تكون موجهة للخارج بأكثر مما هي موجهة للداخل أي إلى المجتمع الدولي الذي ينبغي أن يعلم تشديد المسلمين على التمايز والندية بسبب خصوصية نصوصهم، وأعرافهم وبالتالي شخصيتهم؛ فلا يمكن أن يذوبوا في المجتمعات الغربية[13].وحسب رضوان السيد فإن فكر الهوية هو فكر عقائدي يهتم اهتماما زائدا بالرموز ولا يستطيع الاستغناء عنها، ومن ثم يرفض قطعيا التسويات وأنصاف الحلول بحيث لا يمكنه أن يلتقي مع الآخر على أي مشتركات[14] وتحت تأثير فكر الهوية يتم النظر دوما «إلى القيم الإنسانية العالمية ورمزها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان باعتبارها قيم الآخر المسيحي أو الغربي، وهي في أحسن الأحوال نسبية وخاضعة لإعادة النظر في كل مرة استنادا إلى سلوك المؤسسات الدولية وسلوك القوى الغربية الكبرى تجاه قضايا العرب والمسلمين»[15]

من الواضح إذا أن الموقف الإسلامي يبدو مغايرا للموقف الغربي من المسألة الحقوقية، ولكن هذا التباين والتغاير، حسبما يرجح السيد، يعود إلى أن مشكلاتنا الثقافية مع الغرب ناجمة عن التشابه الشديد في الأصل وليس الاختلاف بمعنى أنه ربما كنا نتزاحم على منطقة واحدة. وهو يستدل على ذلك بما ذهب إليه جورج مقدسي من أن التقليدين الإنسانوي والسكولائي ظهرا في العالم الإسلامي أولا ثم تسربا إلى الغرب عن طريق الأندلس وإيطاليا مع الفارق أنه بينما عرف العالم الإسلامي الحركة الإنسانية أولا ثم تلاها النظام التعليمي؛ فإن أوروبا تعرفت على النظام التعليمي أولا ومن بعده التقاليد الإنسانية.[16]

وفي ختام هذا الاستعراض الموجز لرؤى رضوان السيد الإنسانوية يمكننا أن نقدم بعض الملاحظات الإجمالية بشأنها، أولها أن النزوع الإنسانوي لديه على درجة من الرسوخ والوضوح بحيث يتعذر ألا نلمحه من وراء سرده التاريخي أو تتبعه للأفكار.

ثانيها أنه كثيرا ما أعمل النقد باتجاه الذات أو الداخل الإسلامي كما أعمله باتجاه الآخر وبخاصة فيما يتعلق بقراءته التعسفية للتاريخ الإسلامي.

ثالثا يبدو جليا الحضور القوي للآخر في فكر رضوان السيد ولكن بينما يشكل الآخر هاجسا لدى الإسلاميين فإن الآخر يعني لديه تعددية وتوسعة للذات وخروجا من التشرنق حول الذات إلى رحابة المشترك الإنساني.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 (1) رضوان السيد، الجماعة والمجتمع والدولة: سلطة الأيديولوجيا في المجال العربي الإسلامي (بيروت، دار الكتاب العربي، 1997) ص 12.

(2) رضوان السيد، الإنسان وحقوقه لدى المسلمين والغربيين والمسؤوليات المشتركة، التسامح، العدد الثامن عشر (عمان ، ربيع 2007)، ص 25.

(3)  رضوان السيد، الدين والمجتمع والدولة في العلاقات والمصائر والمرجعيات، التسامح، العدد السابع عشر  (عمان، ، شتاء 2007) ص 18.

(4) نفس المرجع السابق، ص 18.

(5) رضوان السيد، التعدد والتسامح والاعتراف، نظرة في الثوابت والفهم والتجربة التاريخية، التسامح، العدد الثاني عشر  (عمان، خريف 2005) ص 11- 13.

(6) رضوان السيد، التعدد والتسامح والاعتراف، ص 20.

(7) رضوان السيد، الوجوه المتعددة للحرية والوجه الواحد للتبعية، التسامح. ، العدد السابع عشر (عمان،  ربيع 2006) ص 15-16

(8) نفس المرجع السابق، ص17

(9) رضوان السيد، التعدد والتسامح والاعتراف، ص 14-15.

(10) نفس المرجع السابق، ص 18.

(11) رضوان السيد، الإنسان وحقوقه لدى المسلمين والغربيين والمسؤوليات المشتركة، التسامح، العدد الثامن عشر (عمان، ربيع 2007)، ص 26.

(12) رضوان السيد، سياسات الإسلام المعاصر: مراجعات ومتابعات (بيروت، دار الكتاب العربي، 1997) ص 249.

(13) نفس المرجع السابق، ص 260.

(14) رضوان السيد، الهوية الثقافية بين الثوابت والمتغيرات، التسامح، العدد الثالث عشر.(عمان، شتاء 2006) ص  31

(15) رضوان السيد، الإنسان وحقوقه لدى المسلمين والغربيين والمسؤوليات المشتركة، ص 33.

(16) رضوان السيد، سياسات الإسلام المعاصر: مراجعات ومتابعات، ص 261.

 

مجلة رواق عربي

 

 

 

30-05-2009 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=746