/

 

 

بنية التأسيس العلمي للمجتمع دراسة في علاقة الفكر بالذات الجزائرية المفكرة

محمد عمر سعيد

تمهيد:

نحاول في هذا البحث تقديم منظورنا لإشكالية الفكر العربي الإسلامي من حيث فاعليته في الواقع الاجتماعي العربي عموما وعلاج أزمة انكفاء دور النخبة المفكرة في الجزائر عن أداء دورها الفاعل في المجتمع، وذلك بتقسيم الدراسة إلى قسمين الأول منها يعالج الوجه التصوري الذي عنه نتجت الأزمة، والثاني الوجه العملي الذي به نعالج أزمة الفصام النكد الذي تعانيه النخب الفكرية ـ وعلى رأسها النخبة الأكاديمية في تخصصاتها الإنسانية من أصحاب الاختصاصات في الفلسفة والنفس والاجتماع ـ بينها وبين الواقع الاجتماعي. فنسأل عن مدى ارتباط المثقف الجزائري بواقعه الذي يعالجه، وقبل ذلك عن المبدأ الذي يربط المفكر بالثقافة الفاعلة ابتداء أو القدرة على التدوين المؤسس للتراكم المعرفي، ووصولا إلى تأسيس الاجتماعين الثقافي والعلمي وما يسبقهما من جهد معرفي.

لذلك سيكون محور دراستنا القصيرة هذه مرتكزا على تحليل مفاهيم ثلاث هي: أولا الجهد المعرفي (بوصفه موجودا بالقوة لدى كل الناس)، ثانيا المجتمع العلمي (ما تتفق عليه الجماعة العلمية أو النخبة المفكرة)، وذلك في تحليلنا للوجه التصوري، ومن ثم نختتم في الوجه العملي بتحليل المجتمع الثقافي (المؤسسة الوسيطة بين النخبة وعموم الناس) مطبقين إياه على أنموذج العلاقة بين العناصر الثلاث في المجتمع الجزائري.          

مدخل:

تعد القدرة على التدوين أهم مؤشرات الحراك الثقافي وفعاليته، وذلك لكون القدرة على إنتاج النصوص غاية جهد معرفي خلاّق وبداية سعي علمي هادف إلى الحقيقة بكشف المشهود الحاضر منها واستكشاف الغائب منها كذلك. والبحث عن مبررات السعي العلمي هو استكشاف لسبل الجهد المعرفي وكيفية مراسه المراس الأوفى، بلوغا إلى إمكان التراكم الثقافي (التدوين أو الإنتاج الثقافي) الممكّن من تأسيس المجتمع الثقافي بدايةً، ووصولا إلى تحقيق التراكم العلمي (التأليف أو الإنتاج العلمي) الممكّن من تأسيس المجتمع العلمي غايةً.

إذ إن التأسيس للمجتمع الثقافي لا يعني حتما طريقا إلى تأسيس نظيره العلمي، والعكس ليس بصحيح، فالتأسيس الثاني يشترط بالضرورة تحقيق الأول، وذلك لعلّة واجبة: هي أن المجتمع العلمي غير ممكن تأسيسه إلا باحتراف التدوين.

وأما كون التدوين غير موجب بالضرورة للمجتمع العلمي فذلك لإمكان التدوين فيما هو خارج عن المعطى العلمي، إذ يكون حينها غير نابع عن الجهد المعرفي المبدئي.

من ذلك كله تأتي أهمية بحث علاقة الوصل بين الجهد المعرفي وسبل مراسه، وبين المجتمع العلمي وكيفية تأسيسه، علاقة وصل بين حدّين يتوسطهما حد ثالث هو المجتمع الثقافي غير الضامن لتحقيق الغاية التي هي المجتمع العلمي.

ولئن كانت الفرضية الأصلية تعطينا إمكان ضمان الوصل السليم بين الحدود الثلاث وصلا مبدئيا وبالتالي فإن أداء الجهد المعرفي يفضي حتما إلى تأسيس المجتمع العلمي؛ إلا أن توسط المجتمع الثقافي الحتمي للحدين يقوّض حتمية الفرضية الأصلية ويحيلها إلى صنف الاحتمال، فيصبح المجتمع الثقافي إذ ذاك الحد المحدّد (بكسر الدال المشددة)، ففيه تجرى العمليات المركزية لتحديد النتيجة غير المعروفة سلفا التي هي مضمونة من حيث الظهور الطبيعي كون الجهد المعرفي تام الأداء من حيث الشكل.

 

ما الجهد المعرفي؟

هو المثابرة في سبيل تحصيل الحقيقة أيا كانت، وتحصيلها يعني إدراكها الإدراك الرابط بين اللغة المعبرة عن الأشياء والأشياء ذاتها، والمعلوم أن عملية القيام بالربط بين اللغة والأشياء أعسر العمليات الإدراكية الممكنة للإنسان، ذلك أنها شد بين ذهن الإنسان (الصور العقلية المجردة رمزا للموضوع) وبين كيانه النفسي (الانفعال الوجداني المتجسد رمزا للذات).

والإمساك بالرابطة الصحيحة بين المعطيين اللغوي والواقعي هو جوهر العمل المعرفي الموصل الوصل الصحيح بين الذات وموضوعها.

فالذات هي ذات مفكرة في ذاتها أولا وذات الموضوع ثانيا، هذا لكون التعقل الصحيح المفترض بين اللغة والأشياء إنما وجب أن ينطلق من إدراك الذات لذاتها وبذاتها وصولا إلى إدراك الموضوع، ليس بشرط الترتيب ولكن بشرط الانطلاق من الذات لتكون هي المحور في العملية الإدراكية من وعي إمكان عدم الإحاطة (القصور) أو عدم إصابة (الخطأ)، إذ من الممكن أن يكون ظهور الموضوع للذات جزئيا لحدس الإنسان، كما يمكن أن يكون ظهور الموضوع للذات خادعا لحسه. فيكون هذا الاحتراز المبدئي أصلا واجب الحصول لكل جهد معرفي سليم الغاية.

والحال أن العملية الاحترازية إنما هي أداة فصل الذات الأصلية عن الذات والموضوع الفرعيان اللذان يقومان بالوصل بين الأسماء وأشيائها بما هي محاولة لمطابقة المقدرات الذهنية (التصور) مع المقدّرات العينية (الماصدق)؛ كما أن العملية الاحترازية في الجهد المعرفي فصل للموضوع الأصلي عن الموضوع والذات الفرعيان للمطابقة بين الوجود والذهن، والموصلان بين الأشياء وأسمائها وصلا يعكس سابقه عكسا نظريا تصوريا غير ممكن الفصل عمليا، ذلك أننا نميز بين ضربين من ضروب الوجود هما الوجود الأصلي والوجود الفرعي في كل من الذات والموضوع باعتبارها حيلة نحتال بها على الإدراك القابل للوهم قصورا وخطأ.

نكون إذا أمام أربع وجودات بأربع تقابلات هي[1]:

1-        مقابلة الذات الفرعية للذات والموضوع الأصليان: انطلاقا من الوجدان المنفعل غير المختبر للحقيقة (=الذات المفكرة)

2-        مقابلة الموضوع الفرعي للذات والموضوع الأصليان: انطلاقا من الموضوع المجرد غير المختبر للحقيقة (=الموضوع الأصلي)

3-        مقابلة الذات الأصلية للذات والموضوع الفرعيان: بما هو انطلاق من الذات التي ليس لها لاختبار الحقيقة إلا الحدس إشارة إلى الجهد المعرفي الخلاّق (=الذات المبدعة).

4-        مقابلة الموضوع الأصلي للذات والموضوع الفرعيان: بما هو انطلاق من الموضوع الذي ليس له لاختبار الحقيقة إلا الحس إشارة إلى العمل العلمي الهادف (=الموضوع المشترك).

والمخمس الجامع بين التقابلات الأربع حقيقة الجهد المعرفي الوجودية بوصفها الذات المحورية التي تقاطب بين العناصر الأربعة وتقابلاتها المذكورة، وهي ذات جوهر ـ  Essenceـ وليست الذات الأنا ـ Soi ـ المكونة من الذاتين الأصلية والفرعية، فالذات الجوهر مفارقة للذات الأنا، والمحايثة الممكنة بينهما هي وعي الأنا لقصورها عن إدراك الذات الجوهر، وذلك الشكل الوحيد للعلاقة السليمة بين الأنا والجوهر.

ولا يمكن تحقيق الأنا لإنّيتها إلا باهتدائها بالجوهر؛ فنمثل لعلاقتهما بوضع القطار على سكته المرسومة سلفا، والقطار بوصفه الذات ـ سواـ والسكة بوصفها الجوهرـ إيسانس ـ، فلا فاعلية لأحدهما دون الآخر كما أن لا مسير لأحدهما دون الآخر كذلك، فضلا عن أن السكة هي محدد طريق الثاني. وهذا ما يمكن أن نحدد به ماهية أو طبيعة الجهد المعرفي.

المجتمع العلمي:

نفرغ الآن إلى بيان مفهوم المجتمع العلمي الذي سينتج بالضرورة عن الجهد المعرفي الذي وقفنا على ماهيته توا، الضرورة التي تنفي كل احتمال مغاير، لذلك سنسعى لإبراز تماسك الفرضية الأصلية الناصة على حصول المجتمع العلمي بالضرورة عن حصول الجهد المعرفي قبل الإفساد المحتمل لها من قبل المجتمع الثقافي.

فالمجتمع العلمي يكون العلم فيه بمنزلة السكة أو الجوهر في تحليلنا للجهد المعرفي، إذ يكون القيمة الأساس التي بانعدامها أو زوالها ينخرم المفهوم بين يدينا جملة قبل أن يتهافت في الواقع، والمفهوم من طبيعة مثالية خالصة فيه يتحد الوجودان الذهني بالواقعي إتحادا تنعدم وتعدم فيه الفواصل بين الذوات والموضوعات، انعدام هو نتيجة متفق عليها من قبل أفراد المجتمع العلمي، وإعداما بما هو عملية مستمرة في سبيل بلوغ الجهد المعرفي ذروته، حتى يحقق وجوده ويتمكن من بقائه حيا الحياة الحقيقية، فيكون شرط وجوده هو نفسه شرط بقائه.

وأما الاجتماع على العلم فهو الاجتماع على تحديد المشترك فيه، ولما كان العلم لغة من العلامة، والعلامة ما يتفق عليه الناس، كانت تلك العلامات ذواتا جوهرية غير متعينة بالتفصيل إلا على مستوى النهج الإشاري المتكون من الرمز (اللغة) والمرموز (الواقع)؛ ومنه كان العلم لذاته رمز إلى مرموزه وليس إلى جوهر متعين، ومرموزه الجوهري هو الجهد المعرفي المتقدم الكلام عنه.

فيصير العلم محض تعبيرات عن محاولات التوحيد الممكن بين الوجودين الذهني والواقعي التوحيد الأتم التمام النسبي وليس التمام المطلق الذي انتفى بفعل العملية الاحترازية المتقدم الكلام عنها، ومحور التوحيد هو الذات الجوهرية.  فتكون سمة العلم الرئيسة الربط والوصل المحكم (رمزا إلى واقعية الفكر بما هو تعبير عن واقع) واللطيف (رمزا إلى مثالية الفكر بما هو وجود متعال) بين الوجودين الذهني والواقعي.

ولما كان البيان غاية العلم ـ أي نهايته، وهنا نميز بين غاية العلم الهدف وغاية العلم التجلي النهائي أو التجسد وهي ما نعنيه هنا ـ، كان العلم أساس الاجتماع بفعل الخاصة التواصلية التي يوجبها البيان، مما يجعل كل من العلم والاجتماع مقترنان اقترانا معياريا، أعني أن اجتماع الناس على العلم هو اجتماع على البيان ذاته، بحيث يصير الاجتماع شرط العلم بتوسط البيان. فليس العلم إذن إلا للاجتماع على المعاني الحاصلة بالجهد المعرفي كما حدّدناه، فينتفي أن يكون العلم جوهرا أو عرضا وإنما ذات لا تتعين إلا بالاجتماع حول معانيها تعينا رمزيا يتجلى في الأبنية التي ترمز في الوجود الإنساني والمسماة المؤسسات العلمية أيا كان نوعها.

 

المجتمع الثقافي في الجزائر:

بعد بيان الوجه التصوري، نصل الآن إلى الجانب التطبيقي في بحثنا لنستطلع واقع العلاقة بين المؤسسة العلمية والمؤسسة الثقافية في الجزائر من خلال تحليل لآراء الدكتور عمار بلحسن[2] الذي نعرض له هذه الفقرة التي تعالج مفتتح ما يمكن أن يكون تأسيس للسياسة الثقافية في الجزائر في مرحلة ما بعد الاستقلال فيقول: "فكثير من حملة الليسانس يجهلون أبجديات وألفباء التعبير والحوار والثقافة... بل حتى اللغة، لدرجة أنهم لم يقرؤوا في حياتهم كتابا واحدا. ما أريد قوله هنا، أن جل ما اصطلح على تسميته بـ (المثقفين) يعومون في صحراء ثقافية، لا تملك أي مقاييس للنقاش، ولا أي ضوابط للتدخلات الفكرية (...) وعرفنا كتابا وفنانين لم يبدعوا إلا قصاصات صحف، في اتحادات ثقافية .. ولهم كل الحق في الإدلاء بأصواتهم ومنافسة الذين أعموا عيونهم بين الأوراق والكتب، وأبدعوا في معاناة كثيفة، ما شكل تجديدا في الثقافة الجزائرية"[3]، قدم المرحوم بلحسن هنا توصيفا معبرا ومجملا لظرفية الثقافة الجزائرية أظهر فيه أن الفضاء الثقافي الجزائري اخترق بمن هم ليسوا أهلا لها وأنهى مداخلته بالتساوي غير العادل في مساحات التعبير الثقافية في إشارة إلى غياب معايير الأهلية الثقافية التي تفرق بين المثقف والمتطفل على الثقافة.

ثم يضيف في توصيف المعضلة الثقافية في الجزائر: "إن ما يوجد حقيقة، هو دائريتين ثقافيتين كبيرتين، تحددهما اللغة وسيلة التعبير، هما دائرة المثقفين الجزائريين ذوي التعبير الفرنسي، ودائرة المثقفين الجزائريين ذوي التعبير العربي، هذا إضافة إلى لعدم وجود علاقات عضوية وفكرية بين أنواع مثقفي كل دائرة نظرا لأسباب كثيرة... "[4] ثم يضيف في مكان آخر: "يبدو لي ـ وأنا هنا، أتأمل تجربتي وتجربة زملائي من أدباء وجامعيين وكتابا وصحافيين ـ أن (المثقف) عندنا ليس وليد اختيار ذاتي وواعي، أو تملك معين لمصير أو وظيفة فكرية بقدر ما هو بحث واستعمال عن ولمهنة ووضعية كتب عليها القدر أو المجتمع أو الظروف ـ لا أعرف ـ ... إن المثقف لم يختر أن يكون كذلك في بلادنا، إنه إنتاج لظروف في غاية التعقد والتداخل والاعتباطية والعشوائية..."[5]، بهذا يكون عمار بلحسن قد عاد بنا في تحليل الأزمة الثقافية في الجزائر إلى علل ظاهرة لا يمكن أن ينكرها أحد إذ لا شك أن الازدواجية اللغوية تحضر بقوة في المشهد الثقافي إضافة على اعتباطية انتخاب المثقف في الجزائر، لكن السؤال هنا تحديدا هل يمكن أن نقوم بعلاج الظاهرة العلاج النظري ـ الذي وجب أن يسبق أي إجراءات عملية ـ بنفس المنطق "السياسي" بالمفهوم العام، والذي أعاد إليه بلحسن أسباب الأزمة؟، وقبل ذلك نسأل هل نكون محقين تماما عندما نسلم مع الدكتور بلحسن أننا نعيش أزمة "تصحر ثقافي" في الجزائر؟

نبدأ بالجواب عن السؤال الابتدائي حول فرضية التصحر الثقافي التي ليست مجرد رؤية منفردة لمثقف راحل بل هي شعور مشترك جعل الدكتور عمر مهيبل ـ وبعد أزيد من عقدين من الزمن من تقديم الدكتور بلحسن لرؤيته ـ  يمر به إلى تحليل أسبابه الذاتية والموضوعية[6]، متسائلين عن مدى أهمية الأطر التي تفرزها الوضعية التاريخية متمثلة بعدم أهلية أصحاب الليسانس، والازدواجية الثقافية انتهاء إلى اختراق الفضاء الثقافي بمن هم ليسوا أهلا له، هذه الوضعية التي هي عرض لمرض قديم كلي وأوحد هو استدماج قسري نتج تقاطع النسقين الأوروبي المتمثل بالاستعمار الفرنسي بنسق الشمال أفريقي، الذي هو التقاء لنظام اجتماعي وسياسي استنفذ كل حاجاته الذاتية المتمثلة في البناء العقلاني والعلمي للمجتمع فصار يبحث له عن من يخدم نظامه بالبحث عن الأسواق واليد العاملة التي تريحه عن أداء عمله، بنظام أحسن ما يقال عنه أنه في مرحلة سبات شتوي لم يعرف حاجياته من كمالياته فضلا عن أن ينظم نفسه بما يضمن له أدنى قوة للمنافحة عن أرضه أو ذاته الحضارية، إذ السؤال الظرفي وجب أن يتمحور حول الآثار الناجمة عن هذا الدمج القسري بين النسقين.

هذا الاستدماج الذي ترافق مع عصر سمي بعصر النهضة العربية في المجالات الأدبية والسياسية والفكرية فضلا عن الإصلاح الديني الذي كانت الجزائر إحدى أهم حصونه، هذا العصر الذي لا ينكر أحد أنه خلف مساهمات هامة من خلال الحركة الثقافية والسياسية التي شهدتها مختلف مراحل الاستعمار الفرنسي للجزائر، والذي كانت معركة التحرير إحدى تجلياته.

هذه الحقيقة تجعلنا نعيد النظر في نظرية التصحر الثقافي المتولدة عن الاحتكام إلى ظرف لا يمكن القياس عليه[7]، فضلا عن أن المنطق الظرفي يتأسس على جملة من القطائع الناتجة عن قصور في رؤية المسيرة الثقافية ضمن امتداداتها الأفقية في التاريخ والعمودية في المجتمع.

أما جواب السؤال الثاني المتعلق بتسييس الأزمة الثقافية في الجزائر فهو كذلك عديم الفاعلية وذلك بالنظر إلى أن الممارسة العلمية تقتضي تناول المساءل في عمقها الوجودي ولا تكتفي بالتصنيف الذهني، هنا يأتي دور المثقف في أدائه الجهد المعرفي الممكن من تأسيس فعل ثقافي نافذ في دواليب السيرورة الاجتماعية للجماعات المحلية، وذلك يقتضي عملا من شقين هما: أولا تجاوز الأطر المعرفية التي تضعها الثقافات المحلية على إنسانها ومن ثم الانفتاح على أقصى الدوائر سعة ثانيا: ودون تخلي المثقف عن عضويته الفاعلية في المجتمع والتي تعني أول ما تعني الشعور بالانتماء، وهي عملية وجودية ليست في متناول الصنف الذي أتى بلحسن على ذكره في الاتخاذ من الثقافية مهنة للكسب والعيش. على أن هدفنا هنا ليس تقديم توجيهات وإرشادات بهذا الخصوص لكن المقصود مقابلة كل ذلك مع النزوع التسييسي للأزمة الثقافية التي يبقى الإنسان الفرد هدفها الرئيس، فالسعي إلى محاولة تفكيك البني الثقافية من خلال فهمها واستيعابها المتعذر من دون صدق المسعى للتحصيل العلمي، وذلك بما يمكن من تحقيق قوة معرفية معادلة للقوى المدروسة حتى يتم الفصل التام بين النظرية وتطبيقها، فتكون النظرية هي محور المثلث النظري بين الجهد المعرفي والمؤسستين الثقافية والعلمية في المجتمع.

ختاما، لا يمكن أن نؤسس مجتمعا ثقافيا جزائريا ـ أو أي مجتمع ثقافي قُطري آخر ـ بخصوصياته وإشكالاته الذاتية دون ربط كل ذلك بالمسعيين المعرفي والعلمي اللذين لا يتوحدان عند ملة واحدة فضلا عن أن يتوحدا في جغرافية معينة، لكن المناط هو التعامل مع الخصوصيات بما يدفع إلى الكونية التي هي مطلب عرضي في الممارسة العلمية الحقة والجهد المعرفي الصادق، كما أن المجتمع الثقافي ليس إلا مطلبا عرضيا من العلم والمعرفة، وإن شئنا إسقاط منظورنا الذي عرضناه في صلب النص فإن المجتمع الثقافي هو ذاته الذي يعطي للفكر لونه وخصوصيته التي بها يتحرر عن أي ارتهان سواء كان للشرق أم للغرب.   

 

 



[1]- هذه الوجودات وهذه التقابلات التي هي نتاج العملية الاحترازية في المعرفة تسلتهم من مساهمتين رئيسيتن هما: المساهمة الوجودية لجون بول سارتر في (الوجود والعدم) وكما يعبر العنوان عن مقابلة بين ما اعتبره سارتر الوجود ونقيضه، وهي المقابلة التي نرى أنها وجب أن تكون بين وجودين هما وجود أصلي ووجود فرعي يعبر عن الأصل في إطار تفاعلي جدلي، فلا يكون العدم إثر ذالك إلا وجودا سالبا قياسا إلى الوجود الذي هو وجود موجب وإلا فإن العدم الحقيقي هو عدم العدم المتعذر أصلا على الذهن الإنساني اللهم إلا في نسخة سوفسطائية (أو علم الكلام كما في الفكر الإسلامي التاريخي)، والمساهمة العقلية لرينيه ديكارت الذي اقتصر في الكوجيتو على الذات الأنا دون الذات الجوهرية الموجبة لاكتمال دليله الوجودي: فعوضا عن "أنا أفكر إذن أنا موجود" نجد في الدليل الوجودي الأتم ما يلي: أنا أفكر (الذات الأنا) إذن أنا موجود (الذات الجوهر)، أي أنني أفكر في ذاتي وبذاتي ولذاتي، فنكون ـ في نهاية المخمس الذي سنأتي على عرضه في صلب النص ـ قد قمنا في تحليلنا للجهد المعرفي بعملين هما (التوحيد) بين الرؤيتين الوجودية والعقلية، فضلا عن (التعديل) الذي أجرينا عليهما، إذ لا يتسنى التوحيد بين الرؤيتين إلا بعد التعديل الذي ليس شكليا بقدر ما هو عملية جامعة بين التأمل العقلي المجرد (الباطن) والتحقيق الوجودي الفعلي (الظاهر).       

[2] - اعتمدنا في عرض آراء الد كتور عمار بلحسن على مقدمته للكتاب المشترك الذي أشرف عليه، انتلجانسيا أم مثقفون في الجزائر ؟!!، دار الحداثة بيروت لبنان الطبعة الأولى 1986، وكذا مساهمته بعنوان: ملاحظات من أجل حصيلة نقدية ص ص 157 189.

[3] - المرجع نفسه، ص 182 ص 183

[4]- المرجع نفسه، ص 176

[5] - المرجع نفسه، ص 179

[6] - أنظر مقدمة كتاب: عمر مهيبل، من النسق إلى الذات قراءات في الفكر الغربي المعاصر، منشورات الاختلاف الطبعة الأولى 2001، الرغاية ـ الجزائر، ص ص 07 11 

[7]- نميز هنا بين أمرين اثنين هما الإنتاج الثقافي وفاعلية الثقافة، فلنا أن نحكم بتراجع الفعل الثقافي لكن لايمكن بحال الحكم على خواء ثقافي هو ما قد عملت الكثير من الفعاليات على لعب دورها خلال المرحلة الاستعمارية مثل الإنتاجات الثقافية وأبرزها مشروع مشكلات الحضارة لمالك بن نبي الذي يمكن أن يشكل إلى غاية اليوم أفضل مرجعية في إحياء الثقافة الفاعلة، وواجب المثقف في كل زمان هو محاولة تقديم ثقافة تنويرية فاعلة دون النظر إلى الكم، فنحن راهنا ربما نعيش تخمة في الإنتاج الثقافي لكن دون فاعلية تضمن خريجين من كفاءات عالية من جامعاتنا مثلا.  

 

 

21-07-2009 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=757