/
حضور ″ التكوين ″ و ″ البنية ″ في التعريف بالقران: لحظتا ″ الانفصال ″ و ″ الاتصال ″
يوسف بن عدي
أولا : في استئناف النظر ... وشرعيــــــــة الاختـــــــــــــــلاف... 1- خطــــــــوات المنهج ومنطلقات الرؤيــــــــــــة قبل أن نخوض في تقريب مرتكزات كتاب : « مدخل إلى القران الكريم » ( الجزء الأول/2006 ) للمفكر المغربي محمد عابد الجابري لا بأس أن ننبه إلى بعض الاعتبارات النظرية والمنهجية الأساسية وهي كالتالي: أ- إن النص الذي سنعمل على مقاربته إنما يعتبر حلقة من حلقات « مشروع نقد العقل العربي »، إذ من الخطأ الاعتقاد أن موضوع « في التعريف بالقران » منفصل انفصالا كاملا عن التصور العام للأجزاء الرباعية لنقد العقل... ومن ثمة، فإن جذور هذا الكتاب كائنة بقوة وبصورة واضحة للعيان في ″ التحليل التكويني ″ و ″ التحليل البنيوي ″ لمشروع نقد العقل العربي. ب- لا ريب أن طبيعة الموضوع الذي تطرق له د. الجابري يختلف عن الموضوعات السابقة سواء في ″ التكوين ″ أو ″ البنية ″... وهذا إنما يفرض تكييف العدة المنهجية وخطواتها ومنطلقاتها الرؤية وفق الموضوع. والحال أن طبيعة الموضوع هو الذي يحدد طبيعة الرؤية. ج- إن قراءة القارئ لأي نص من النصوص سواء أكانت كلامية أم دينية أم فلسفية أم شعرية... إنما هو في عمقه إعادة إنتاجه، أي صياغة مقولاته وتصوراته، وتحويل بنياته، وتركيب مفاهيمه تركيبا يفضي إلى التباين والاختلاف بدلا من الوحدة والمطابقة، يقول الكاتب علي حرب : « ولا يعني عدم التطابق بين القراءة والنص المقروء، أن القارئ للنص ما يخطئ بالضرورة، في شرحه، أو يسيء تفسيره أو يغلو في تأويله، أو يغش في نقده وتقويمه، فليس هذا القصد البتة [...] وإنما قوام الإشكالية كما نراها، انه لا تطابق ممكنا، الأصل، بين القارئ والمقروء، إذ النص يحتمل بذاته أكثر من قراءة وانه لا قراءة منزهة مجردة، إذ لكل قراءة في نص ما، هي حرف لألفاظه، وإزاحة لمعانيه ». (1) وبهذا تضحى قراءتي، هي اختيار منهجي ونظري، ومدخل من مداخل نعتقد بأنه إستراتيجية الكاتب... في بناء تصوراته وتأسيس قناعاته المعرفية والإيديولوجية. وهكذا فإن قراءتي هاته إنما تحكمها هاجسان : الهاجس ″ النظري والمنهجي ″ والهاجس ″ الوظيفي / الإجرائي ″. أما الضرب الأول أو الهاجس الأول إنما نقصد به مدى توظيف الكاتب محمد عابد الجابري « لخطوات المنهج ومستويات القراءة » وعمليات الرؤية ومنطلقاتها من حضورها بقوة في نص : « مدخل إلى القران الكريم » ( الجزء الأول )، إذ أن استثمارها في « تكوين العقل العربي » ( 1984 ) و « بنية العقل العربي » ( 1986 ) و « العقل الأخلاقي العربي » ( 2001 )... قد أدت إلى بناء صرح فكري ضخم ألا وهي « النظم المعرفية : النظام البياني والنظام البرهاني والنظام العرفاني » وقد كان بناءا خصبا ومثمرا وخلاقا في الوقت نفســــــــــــــــــــــه. وعلى هذا نقول إن : « التعريف بالقران » ( 2006 ) حظي أيضا بحضور «التحليل التكويني » و « التحليل البنيوي » في العملية ذاتها، كما كان الأمر في تقريب القيم والموروثات الأخلاقية : « العقل الأخلاقي العربي »، وبذلك يكون النظر في موضوع ″ القران ″ هو ″ إعادة قراءة حقل آخر من حقول ثقافتنا العربية الإسلامية ″ (2) وبالتالي، جاء الكتاب المنظور فيه في هذا المقال كالتالي: القسم الأول : « قراءات في محيط القران الكريم » و القسم الثاني : « مسار الكون والتكوين » والقسم الثالث : « القصص في القران الكريم ». أما الهاجس الثاني ( الوظيفي/الإجرائي ) : ونعني به مدى استثمار مقولات : الموضوعية أو ″ لحظة الانفصال ″ والاستمرارية أو ″ لحظة الاتصال ″ والقطيعة الابستيمولوجية (3)، والمخيال الاجتماعي واللاشعور المعرفي والتي تم توظيفها في تقريب مكونات العقل العربي وبنياته. وعلى هذا فقد راهن د. الجابري على ″ تشخيص ″ الخطاب العربي المعاصر، كما راهن على ″ نقد العقل العربي ″، تكوينا وبنية محققا بذلك انجازات قوية ترسم طريق النهوض العربي والتقدم والتنوير المنشود. وهاهو اليوم في الألفية الثالثة يعود لرهان آخر وهو استئناف النظر في ثقافتنا العربية الإسلامية، عبر ″ إيجاد طريقة – ملائمة – للتعامل مع تراثه ″ (4) والأمر كما يظهر يتعلق بموضوع مصدره الوحي وغايته ″ الناسوت ″، لذا طرح د. الجابري طائفة من التساؤلات النظرية والمنهجية التي تبرز طبيعة الرهان : ″ هل الخوض في هذا الموضوع هو بمثابة تأسيس لما سبق أم انه هو له أشبه بـ - ذيل وتكملة - ، أم أن الأمر يتعلق بموضوع مختلف تماما ″ (5) انه موضوع يطرح مأزقا أي ″ العلاقة بين المطلق والنسبي التي ستظل تلاحقنا ″(6). لقد شرع د. الجابري في نصه : « التعريف بالقران » إلى استذكار الروح العامة لمشروع نقد العقل العربي، وغايته القصوى بلغة الفلاسفة، ألا وهي انه « لا سبيل إلى التجديد والتحديث، ونحن هنا نتحدث عن العقل العربي إلا من داخل التراث نفسه، وبوسائله الخاصة وإمكاناته الذاتية » وهذا لم يتحقق إلا عبر « خطوات المنهج ومنطلقات الرؤية » المحكومة بلحظتي : « الانفصال » و « الاتصال » القائمة على أنقاض نقد القراءات... السلفية ( الليبرالية والسلفية والاستشراقية ) (7) والتي تجعلنا نتحول من ″ كائنات تراثية ″ إلى كائنات لها تراث. وهكذا فان رهان الجابري الذي كان في ″ العقل الأخلاقي العربي ″ هو الجمع بين البنية والتكوين، حيث تم إدماج العمليتين في لحظة واحدة مع « تعديل الطريقة في ممارسة وانجاز هذه الخطوات » (8). إذ أن تقريب حقل القيم والأخلاق لا يستدعي استحضار مفاهيم اللاشعور المعرفي والمخيال الاجتماعي... ذلك لأنها، أي القيم، تندرج في سلم التراتبية والتفاضلية وانفلاتا من المعقوليات. ولعل هذا الأمر المنهجي والمعرفي ينسحب على العموم على موضوع : ″ التعريف بالقران ″ ( الجزء الأول ). كما لا يفوتني أن أشير إلى ارتباط تأليف ″ مدخل إلى القران الكريم ″ ( التعريف بالقران ) بهواجس إيديولوجية وسياسية حاضرة في الواقع العربي وتحولاته، وسياق الصراع الدولي ضد الإرهاب والتطرف والعنف... عقب أحداث سبتمبر 2001، « مثلما يمكن النظر إلى ″ نحن والتراث ″ وبالتالي ″ نقد العقل العربي ″ بأجزائه الأربعة، كنوع من الاستجابة لظروف ″ النكسة التي عاشها العالم العربي بعد 1967 بما في ذلك حرب أكتوبر 1973... [...] المشروع الذي اعتمدت فيه النقد الابستيمولوجي ضدا على النقد الإيديولوجي وانحزت فيه صراحة إلى العقلانية والديمقراطية ″. (9) وهذا لا يعني في اعتقادنا أن الجابري مرهون بردود فعل ضد الآخر، وأن شق طريق البناء والتأسيس هو محكوم برد فعل لا بالحفر المعرفي والإيديولوجي. بل إن د. الجابري ينظر للتحولات والأزمات نظرة الفيلسوف والمفكر الذي يستحضر التاريخ لإحراج السياسة، يقول الجابري : ″ إذا جاز لي أن اعتز بشيء في هذه المسيرة فهو حرصي الدائم على إحراج السياسة بالتاريخ وليس العكس ″. (10) ثانيا : في وحدة الأصل ″ وأمية النبي ″ وحقيقة النبـــــــــــوة إن استئناف النظر في الثقافة العربية الإسلامية هو رهين بشرعية الاختلاف إذ لا نظر ولا تعقل إلا في دائرة التعدد والتباين، إلا في سياق اختلاف الآراء والمذاهب وهكذا فقد كانت ″ قراءة القران قد اختلفت وتعددت بحسب المدارس الكلامية والمذاهب الفقهية وبحسب الفروع العلمية والاختصاصات الفكرية، بل بحسب أشخاص العلماء أنفسهم، ولو كانوا على مذهب واحد أو ينتمون إلى المدرسة الفكرية نفسها ″ (11) والظاهر أن التراث العربي الإسلامي قد ساد فيه نوعان من الاختلاف : اختلاف في داخل المعتقد الواحد، ″ إلا أن الأطراف المختلفة لتسلم مع ذلك بمجموعة من الثوابت العقائدية المشتركة، ويكون الاختلاف في مستوى التأويل، فهناك نصوص إلا أنها تؤدي إلى تعدد المعنى وتؤول تأويلات مختلفة تقام عليها انساق من المذاهب. هكذا تكونت مذاهب الفقهاء، وفرق المتكلمين. هذا النوع من الاختلاف الدائر داخل العقيدة ″. (12) كما أن هناك اختلافا آخر ونوع آخر من الاختلاف هو خارج المعتقد أي مع الأطراف المناقضة، إذا هناك ″ كيفيات ومستويات يمثله الاختلاف الديني، وفي المجتمع الإسلامي التقليدي أعطى الدين السائد لأديان دون غيرها شرعية وحدود التواجد معه. وهي ″ الأديان الكتابية ″، وما عداها من عقائد فلا شرعية له ″. (13) إن هذين النوعين من ″ الاختلاف الديني ″ إنما يحجب عن القارئ والدارس الاختلاف ذاته في القران ذاته. وهذا ما عبر عنه أبو حامد الغزالي بقوله : « وليس المراد نفي اختلاف الناس فيه [ أي القران ]، بل نفي الاختلاف عن ذات القران ». (14) وأيضا قول الماوردي في هذا السياق : « كلام كل كتاب وأخبار كل نبي، لا يخلو من احتمال تأويلات مختلفة ». (15) انه الاختلاف في « التعريف بالقران »!! وبهذا فان علاقة شرعية الاختلاف باستئناف النظر في الثقافة العربية الإسلامية واضحة المعالم. فافتتاحية الجابري حول تعريف القران، هو فتح اختلاف المذاهب فيه واختلاف الفرق حوله، أي حول تعريف ماهيته وصفاته وخصائصه... وأما هل لهذه الفرق والمذاهب شرعية فهذه قضية أخرى !؟ وهكذا فقد ألف الناس والعلماء وبعض ( النخب ) من أن تعريف القران لا غبار عليه، وواضح للعيان، وبارز في الأذهان، بيد أن الأمر على غير هذا ″ اليقين ″ و ″ الاعتقاد ″ السائد. لقد عرج د. الجابري على جملة من التعاريف لعلة إبراز الاختلاف والتباين، وكمنفذ لرؤية ″ البداهة الهشة ″ وهي تتساقط في أذهاننا... فمن الفقهاء والمفسرين من عرف القران بـ ″ الذي يقرؤه المسلمون ويكتبونه في مصاحفهم ″ وهذا تعريف حيادي موضوعي – أما التعريف الثاني فيعتبره ″ القران الكريم كلام الله سبحانه نزل به جبريل عليه السلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو المكتوب في المصحف المبدوء بسورة الفاتحة المختم بسورة الناس ″، غير أن التعريف الثالث قد أضاف ″ وصفه بأنه المتحدى بإعجازه ″ وهذا الأخير فيه كلام في النبوة... واختلاف المذاهب. اما التعريف الآخر حيث ذهب بعضهم بأنه ″ كلام الله سبحانه ويقال غير مخلوق ″ ضد القائلين بأن ″ القران مخلوق ″. وهكذا فإن هذه التعاريف المنتخبة من قبل الجابري إنما تجعلنا رهيني ″ المنطق المذهبي ″ و اللغة الإيديولوجية السائدة عصرئد من صراعات بين الأشاعرة والمعتزلة، بين الفقهاء والمتصوفة. ومن ثمة، فقد سارع د. الجابري وفق خطوة منهجية ورؤية محددة، وهي محاولة الإمساك بتعريف لا مذهبية فيه ولا نزوع لهذه الفرقة أو تلك... وهي ″ المعالجة البنيوية ″ وهي معالجة تطمح لقراءة الألفاظ في بنية متكاملة، بدلا من قراءة المعنى – وذلك بقصد ″ التعريف على كيان النص، وذلك من خلال رصد عملية نموه الداخلي من جهة، ومن خلال تتبع الكيفية أو الكيفيات التي تم التعامل بها معه خلال مسيرته نحو اكتمال وجوده بين الناس كنص نهائي ″ (17) كل ذلك من اجل تحقيق ″ الموضوعية ″ اعني ″ فصل المقروء عن القارئ ″ ومن اجل حصول ″ الاستمرارية ″ ″ وصل القارئ بالمقروء ″... يقول الجابري : « تجديد طرح كثير من الأسئلة التي طرحت سابقا وفسح المجال لأسئلة أخرى قد تطرحها اهتمامات عصرنا الفكرية والمنهجية لأنه يغير تجديد التفكير في الأسئلة القديمة، وطرح أخرى جديدة لنا بتأسيس الارتفاع مستوى فهمنا ″ للظاهرة القرآنية ″ إلى الدرجة التي تجعلنا معاصرين لنا ». (18) ويردف أيضا بعبارة بارزة ″ كل ما نعد القارئ هو أننا سنحاول الخروج من شرنقة السؤال القديم لنعيد طرحه داخل شرنقتنا نفسها ليست سوى واحدة من حلقات تاريخنا الثقافي في لحظات من لحظات تطور وعينا ″ (19) وهذا هو الذي دفعنا لمحاولة إبراز في قراءتنا هاته ″ لخطوات المنهج ومستويات القراءة ″ أو بالأحرى حضور ″ التكوين ″ و ″ البنية ″ في « مدخل القران الكريم »، مع فارق. إن موضوع ″ التعريف بالقران ″ هو تجربة روحية أو ما يعبر عنه بـ ″ الظاهرة القرآنية ″ وحتى يتمكن د. الجابري من رصد تعريف له فقد عاد إلى ترتيب النزول ″ لتعريف القران في القران ″ ووفق مسار الكون التكوين... القران كما ″ يشرح بعضه بعضا ″، ويكون الحكم فيه هو ″ قصد الشارع ″، وليس للزمن والتاريخ... كما تناول د. الجابري عدة قضايا وموضوعات بشأن ″ التعريف بالقران ″ وهي قضايا جادة وجديدة في صياغتها وبنائها، وتجديد تساؤلاتنا حولها... كقضية ″ النبي الأمي ″ و ″ الأصل الواحد للأديان السماوية ″ ومنزلة ″ الذين قالوا إنا نصارى ″ في سياق المقارنة بين الأديان ومسارها... وكذلك مذهب اريوس وعلاقته بالإمبراطورية البيزنطية... أما قضية ″ النبي الأمي ″ فقد عرج الكاتب في البحث عن لفظ ″ الأمي ″ في المعاجم اللغوية القديمة... وتحقق بعد بحث فيها بأن هذا اللفظ هو قراني، هذا من جهة، أما من جهة ثانية فإن الزجاج هو الذي قام بتعريف ″ الأمي ″ الذي لا يقرأ و لا يكتب، حتى أصبحت قاعدة ثابتة، كل ذلك من اجل خدمة ″ المذهب الكلامي البلاغي ″ (20). في حين أن المعنى الاصطلاحي هو أن الأميين هم الذين ليس لهم كتابا سماويا، وهم في مقابل ″ أهل الكتاب ″ ومن هنا تضاربت الروايات في مدى قراءة النبي وكتابته... وهما رواية ابن إسحاق ورواية البخاري والاختلاف بين اقرأ : ماذا اقرأ ؟... أو ما أنا بقارئ. (21) كل ذلك من اجل ″ محاولة فهم موضوعي لما ورد في القران ″. (22) ولعل انتشار الكتابة والقراءة عند قريش لا يفيد أن وصف القران للعرب « بكونهم ″ أميين ″ لا يفيد بالضرورة أنهم كانوا لا يقرؤون ولا يكتبون ». (23) فضلا على كتابة وثيقة صلح الحديبية... (24) وما يهمنا هنا، أن د. الجابري قد استند على مفسرين لهم باع طويل في الرواية والتفسير منهم، القرطبي والقاضي عياض... والغاية هو محو أن عدم القراءة والكتابة دليل وحجة على إعجاز القران...وهذا ما سيدافع عنه ابن رشد بعقلانية متميزة عن مسالة النبوة كما سنرى فيما بعد. فقبل أن نشير إلى قضايا أخرى، لابد من التوقف على الخطوات المنهجية المستثمرة في هذا القسم، هو ربط وحدة ″ الفكر ″ بوحدة الإشكالية، إذ لكل عصر أو مجتمع معين مهما تباينت تياراته واتجاهاته، ومهما اختلفت توجهاته ومساراته فهو محكوم بإشكالية محددة. (25) هذا من جانب، أما من جانب آخر، هو أن ″ القران الكريم ″ قد خاطب قريش والنبي عليه السلام وفق مناسبات معينة، بل إن نزول القران هو إجابات عن تساؤلات... إن القران الكريم مصدره الوحي وخطاب الهي، وهو خطاب تاريخي لمخاطبته للناس، وأحكامه، كما يقول المعتزلة، نافدة على الموجود والمعدوم على السواء. فهذه الرؤية المنهجية هي التي حكمت عودة الجابري للأصل الواحد للأديان السماوية، والحديث عن مركزية الجزيرة العربية، وانتشار فرقة ″ التوحيدية ″ النصارى، ونعتهم بـ ″ الابيونيون ″ « الشيء الذي يعني أن عقيدتهم لم تتأثر بالفلسفة اليونانية ولا بالغنوصية ». (26) والعودة إلى حدث الوحي وغيابه في معهود « العرب اللغوي والثقافي الشيء لا بد أن يكون سهلا على خصوم الدعوة المحمدية الدعاية ضدها وصرف الناس عنها ». (27) كل ذلك من اجل رسم ″ الطريق السليم – في نظرنا – يجعل القران معاصرا لنا أيضا، لا على صعيد التجربة الدينية، فذلك ما هو قائم دوما، بصورة ما، بل أيضا على صعيد الفهم والمعقولية″. (28) في حين نجد مسالة النبوة... هي دائرة متاحة لاستحضار النظم المعرفية ( العرفانية والبرهانية ) ومدى تقريبهم للنبوة والولاية والإمامة – من ثمة، فقد كانت مسالة النبوة ليست فحسب مسالة الاختلاف الكلامي والمعرفي بين آراء الفلاسفة والمتكلمين والمتصوفة والشيعة، بقدر ما كانت أيضا محط اختلاف وإنكار منكري النبوة، كالبراهمة وأفكارهم السائدة في القرن الثالث الهجري. وعلى هذا، فقد سعى الفيلسوف العربي الكندي ( 185 / 252 هـ ) إلى اعتبار « الحقيقة الدينية إذن لا تتناقض مع العقل بل قد يستلزم الأمر اللجوء إلى التأويل » (29) في الوقت الذي نجد فيه أبو نصر الفارابي يدافع عن نظرية الفيض وعلاقتها بالعقول وقوة النظرية وقوة المتخيلة. (30) أما بشان أهل التصوف والمذهب الاسماعيلي والشيعة عامة، فإنهم يتشبثون برؤية وطريقة تقوم على « الولاية ″ كسلطة إلهية ″ خص الله بها الأنبياء والأولياء » (31) وهنا يجب التمييز وفق قول ″ الجابري بين « العرفان كموقف » و « العرفان كنظرية ». فالعرفان كموقف هو عرفان المتصوفة ″ السنيون ″، والعرفان كنظرية هو عرفان الشيعة عامة. أما السكوت عن ابن سينا، فإن ذلك يرتد إلى أن التصور السينوي الاشراقي ممتد جذوره وأصوله أو تجلياته بحيث أن « التيارات العرفانية الباطنية والاشراقية التي غرفت من مؤلفات الشيخ الرئيس كعرفانية ابن عربي واشراقية السهروردي ستكون التعبير المطابق، الحقيقي والتاريخي، عن هذا الطابع اللاعقلاني السينوية » أي أن منهم من ″ مال إلى الأفق العرفاني الاشراقي السينوي الشيعي كالسهروردي ومنهم من بقي مخلصا للعرفانية المحض كابن سبعين ″. (32) في حين يتأسس الخطاب البرهاني مع ابن رشد على الاستدلال ومبدأ السببية والضرورة الطبيعية... ضد الإمكان والجواز ″ وخرق العادة ″، فالشارح الأكبر إنما يعتقد أن برهان النبوة المحمدية هو القران ذاته، وليس ″ خرق العادة ″! وبالتالي تطفو على السطح تلك ″ القطيعة الابستيمولوجية ″ مع الخطابات العرفانية والغنوصية الدائرة حول محوري : الظاهر والباطن، والنبوة والولاية... أي القطيعة مع ″ الفعل العقلي، نشاط يتم بطريقة ما وبواسطة أدوات هي المفاهيم، وداخل حقل معرفي معين. قد يظل موضوع المعرفة هو هو، لكن طريقة معالجته والأدوات الذهنية التي تعتمدها هذه المعالجة والإشكالية التي توجهها والحقل المعرفي الذي تنمو داخله... ″. (33). يقول الجابري : « عندما ننتقل من الخطاب السني، المعتزلي الأشعري الحنبلي، حول إثبات النبوة إلى ″ فلسفة ″ النبوة والولاية كما طرحتها الشيعة والمتصوفة، فنحن ننتقل من نظام بياني يتعامل مع ظاهرة النص الديني قرانا وحديثا، إلى نظام معرفي عرفاني [...] يتعامل مع النص القرآني على انه ظاهر وباطن، والظاهر فيه هو مجرد مطية الباطن ». (34) ثالثا : في ″ البناء المنطقي ″ لمسار القران : الكون والتكوين يعرج د. الجابري في هذا القسم الثاني ( بفصوله الخمسة ) إلى محاولة الإمساك بتعريف القران ذاته، وفق عملية الكون والتكوين – وفق منطق ترتيب النزول... وقد استثمر الكاتب ″ التداول اللغوي ″ لمصطلح القران والقرائن وقران... داخل القران ذاته، اعني قراءة شبكة من العلاقات بين الألفاظ، قبل قراءة المعنى المفضي للاختلافات المذهبية والكلامية... كما سبق الإشارة لذلك. وهكذا فقد كان يطلق القران من داخل القران ذاته، كألفاظ ″ ذكر ″ و ″ ذكرى ″ و ″ تذكرة ″ والتي تشير إليها الكثير من الآيات والسور... ومن ثمة، فإن ″الذكر جزء من الوحي المحمدي أما القران فهو هذا الوحي بجميع أجزائه، الذي يقرؤه جبريل على النبي محمد ليبلغه للناس ″. (35) أما منزلة سورة الأعراف، فهي أن لها وظائف متميزة منها ″ مسألة إعادة ترتيب العلاقة مع خصوم الدعوة، والشروع في تحديد العلاقة مع أهل الكتاب من جهة أخرى ″ (36) كما أن لفظ ″ الكتاب ″ على القران له مغزى ودلالة قوية، وهي نقل العرب من وضع امة لا كتاب لها إلى وضع امة تتوفر على كتاب فضلا على أن لفظ ″ الفرقان ″ هو التفريق بين أهل الحق وأهل الباطل، وبهذا فإن اقتفاء مسار التكوين ″ القران ″ بالقران ذاته، انه بدأ، ذكرا وحديثا، ثم صار [...] قرانا نقوم بطريقة تلاوته وترتيله بتأثير ينقل موضوع الذكر والحديث إلى مشاهد صوتية منغمة تقرر وجود يحمل معه برهانه ″. (37) لقد اختلف المهتمون ″ بعلوم القران ″ في دلالة النص الموجود بين دفتي المصحف وعلاقته، أي القران، بسبعة أحرف... والحرف يعني القراءات... ويعني ذلك ″ لهجات سبع قبائل كل من القبائل العربية التي لها أصل واحتكاك بمكة ″ (38) وحتى يتم معرفة طبيعة القراءات وعلاقتها بالأحرف السبعة، لابد من النظر في عملية ″ جمع القران ″ و ″ النظر في أسرار البلاغة ″ ودلائل إعجازه وسحر بيانه ونظمه. (39) فلما تبين لنا ″ الطريقة التي سلكها القران في إقناع العرب بأنه هو كتاب من الله إليهم يرفعون من مستوى الأمم الأمية، التي ليس لها كتاب إلى صف الأمم الكتابية ″ (40). فإن موقف القران من ″ الأديان الكتابية ″ قد كان على مرحلتين : المرحلة المكية والمرحلة المدنية. إن المرحلة المكية هي مرحلة مواجهة ″ خصوم الدعوة المحمدية من مشركي قريش، عبدة الأصنام أساسا، أما النصارى فلم تكن لهم حينذاك علاقة مباشرة بالدعوة ″. (41) في حين تسعى المرحلة المدنية على « ترتيب العلاقة مع الشرائح » من خلال تدابير سياسية واجتماعية عبر عقد اجتماعي وسياسي بين مكونات مجتمع يثرب، بما فيهم اليهود ومنها « نظام المؤاخاة الذي أحدثه النبي بين المهاجرين والأنصار » (42) وبذلك فقد رتب القران العلاقة مع أهل الكتاب الذين انتهت بهجرة يهود المدينة وما حولها ″، ودعوة النصارى إلى الاعتراف بنبوة رسول الإسلام ″ من خلال رسائل النبي إلى كل من النجاشي، ملك الحبشة، وهرقل إمبراطور الروم البيزنطيين... وبالتالي يتضح أن الخطاب القرآني إنما يأتي ″ في مناسبات معينة، تحت واقعة أو بطرح سؤال، فتأني الآية أو الحديث جوابا وتشريعا ″. (43) لذلك اقر المفسرون والأصوليون [...] المهتمون بعلوم القران والحديث مبحثا خاصا سموه : « أسباب نزول بالنسبة للقران ». (44) وعلى هذا، فان ″ ترتيب النزول ″ و ″ جمع المصحف ″ من القضايا الأساسية التي اختلف فيها الشيعة ومراجعهم والسنة ومصادرهم. إذ نجد أهل السنة يقرون بأن ″ جمع القران ″ قد كان في ″ عهد أبي بكر لينتهي في عهد عثمان بإقرار مصحف رسمي وإحراق ما عداه ″. ( 45) وأهل الشيعة فإنهم يقرون بان جمع القران قد كان في زمن النبي (ص)، ووراء ذلك بعد سياسي واختلاف مذهبي في مسالة الإمامة الآيلة إلى علي بن أبي طالب. أما قضية ″ الزيادة والنقصان في القران ″ المنضوية تحت محور : أنواع التحريف، فالتحريف هو على غيرها نعتقد، فهو ″ التأويل بمعنى نقل معنى الشيء من أصله وتحويله إلى غيره أو بالنقص والزيادة في الحروف والحركات، وذلك كاختلاف في القراءات [...] وهناك معنى آخر للتحريف، وهو القول بأن ″ بعض المصحف الذي بين أيدينا ليس من الكلام المنزل وهذا مرفوض بإجماع المسلمين ″. (46) إن الزيادة والنقصان في عملية جمع القران، قد حصل إما ″ بسقوط ″ آيات وربما سور، أو ″ رفعت ″... استنادا لقوله تعالى : « ما ننسخ من آية أو ننسيها نأت بخير منها أو مثلها الم تعلم أن الله على كل شيء قدير » ( سورة البقرة ). هذا كائن عند المفسرين والرواة كالسيوطي والقرطبي والطبري... كآية الصفوف الأولى... وهكذا فإن الاختلاف بين أهل السنة ومصادرها هو الشيعة ومراجعهم إنما يرتد إلى الأولى للموقف السياسي ″ ولدى الثانية فيها إشكال ″. (47) أما القضية الأخيرة من قضايا القسم الثاني : ″ مسار الكون والتكوين ″، هي قضية ترتيب المصحف ومعياريته... انه ″ معيار الطول والقصر ″ والذي كان متداولا في زمن عثمان والصحابة كما تروي ذلك كتب الحديث عن ابن عباس (48) فضلا على أن التمييز بين المكي والمدني، إذ نجد سورة الفاتحة قيل أنها ″ أنزلت مرتين، مرة بمكة ومرة بالمدينة ″... وهذا موضوع اختلاف بين المفسرين والرواة، والمختصون في علم القران... هؤلاء الذين وضعوا معايير عامة، بحيث أن القران المكي ″ ،يتميز بكون موضوعاته تدور حول أمور العقيدة والآخرة ومجادلة المشركين [...] بينما يتميز القران المدني بكونه يدور حول موضوعات أخرى خاصة، منها العبادات والمعاملات ومجادلة اليهود والنصارى والمنافقين... ″ (49) وقد نبه د. الجابري إلى أبحاث المستشرقين في ″ مسالة ترتيب النزول ″ والتي توصل إلى أنها ″ لا جديد فيها ″، ومحاولة المرحوم محمد عزة الدروزة، الذي هو أيضا ″ لم يأت بجديد ″ (50) وبناء على هذا الوضع التصوري القائم، تمكن الجابري من بناء تصور منطقي عن ″ المسار التكويني للنص القرآني ″ (51) فهذا البناء المعقول والمنطقي مشروط بالاعتماد على ″ المرويات والسيرة النبوية ″ و ″ توظيف المنطق ″ دون الإخلال بـ : وبهذا فقد استثمر د. الجابري تلك المعايير وفق مراحل نزول القران، مرحلة الجهر بالدعوة... وبداية الصراع مع قريش...، كل ذلك متعلق بأفق ″ فهمنا للقران بوقائع السيرة ″. (53) رابعا : في العبرة والبيان... والبرهــــــــــــــان "ما علاقة القصص القرآني بهذا الكتاب الذي موضوعه ″ التعريف بالقران ″؟ إن القصص القرآني هو بمثابة مرآة ترى فيها الدعوة المحمدية نفسها ماضيها وحاضرها ومستقبلها عبر ″ التاريخ المقدس ″ وتاريخ الأنبياء والرسل ». (54) انه التساوق بين مسار التكوين والكون للقران ومسار السيرة النبوية... ومن ثمة، فإن القصص في القران هو نوع من ضرب المثل ومن اجل البيان والعبرة. وهكذا فإن الغرض من ″ تدرج القصص القرآني حسب ترتيب النزول، منذ ابتداء البعثة المحمدية إلى وفاة الرسول (ص)، وهي ثلاثة أصناف ″ : أ- ″ صنف يتوخى توجيه الاهتمام إلى المصير الذي آلت إليه الأقوام التي كذبت رسلها ″. ب-″ صنف يهتم بالثناء على الأنبياء والتنويه بهم وإبراز ما خص الله به كلامهم من آيات ... ″. ج- ″ الصنف الثالث فتختص به المرحلة المدنية، ويتميز بالجدل مع اليهود والنصارى حول تصورهم واتهامهم بالتنكر للنعم التي انعم الله عليهم ″. (55) وبناء على هذا التصنيف فقد رصد د. الجابري مسار ″ ترتيب النزول ″ بدءا بـ سورة الفجر ( عاد وثمود وفرعون ) وسورة النجم – وسورة الشمس وسورة القلم ( أصحاب الجنة ) وسورة ″ ق ″ ( نوح - الرس - لوط )، وسورة القمر - ″ ص″ ومرورا بسورة مريم ( قطيعة مع أبيه ) وانتهاء بسورة الأنعام ( لا أحب الآفلين ) وسورة الصافات... وغيرها – من السور التي ينتهي بها هذا الترتيب للقران. والجدة في موضوع ″ القصص في القران ″ هو سورة الأعراف، التي تؤسس استراتيجيات... إنها : « تشكل نقلة نوعية على مستوى ″ القصص في القران ″ : ذلك أن القص المفصل، المستوفي لعناصره إنما يبدأ معها، فكثير من القصص التي سترد في السورة اللاحقة هي إما تفصيل لبعض الجوانب المذكورة في هذه السورة، وإما صياغة لها جديد حسب ما يقتضيه المقام. ففي هذه السورة نجد أنفسنا إزاء ما يشبه أن يكون مخططا ( أو برنامجا ) لقسم كبير من القصص القرآني يشمل قصص الأنبياء الذي لم يرد لهم ذكر في التوراة كما يعرض لمعظم أنبياء التوراة ». (56) ولعل المنبع لموضوعات سورة الأعراف منذ ادم وعلاقته بإبليس... وقصة نوح... يسجل أن هذا التكرار ″ لم يكن من اجل القصة نفسها، بل من اجل توظيفها في شرح بعض القضايا الأخرى التي يرد ذكرها بالقصد الأول ″، وقد سخر القصص القرآني وسيلة بيانية، والتي تقوم مقام الدليل والبرهان – وبالتالي، فإن سورة الأعراف هي الإطار المرجعي لهذه القصص ليس فقط على صعيد السياق والمضمون والعبر التي تحكمها، بل أيضا على صعيد النتيجة العامة التي يمكن استخلاصها من تكذيب أهل تلك القرى لرسلهم وإعراضهم عنهم ومحاولة الفتك بهم. (57) انه خطاب قراني مفتوح على المكان والزمان عكس خطاب التوراة المنغلق على شعب الله المختار... إذ كانت سورة البقرة تشير إلى يهود المدينة وكفرهم برسالة خاتم الأنبياء، وتذكيرهم بما قد انعم الله عليهم إنها لم ″ تخلو من مؤاخذة وعتاب ″... (58) وقد ازداد الصراع بين المسلمين واليهود بعد تحويل ″ القبلة من المسجد الأقصى بالقدس إلى المسجد الحرام بمكة ليكون إيذانا بقرب حدوث تحول تاريخي. وقد جاءت غزوة بدر الكبرى لتعلن عن بداية مرحلة جديدة في تاريخ الإسلام ″ (59).ومن ثمة، يتبين لنا أن القران المدني باعتباره ″ مرحلة الدولة أساسا ″(60).
23-08-2009 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=770 |