بعد أزيد من نصف قرن من ظهورها، تراجعت معظم الحركات الإسلامية في العالم عن عدد من القضايا الفكرية والممارسات الميدانية، التي كانت تعوق حركتها أو تشوش على مسيرتها، أو تجعلها في مواجهة دائمة ومباشرة مع الأنظمة الحاكمة، من قبيل:تبني العنف والمواجهة المسلحة مع الأنظمة ومؤسسات الدولة. وتجاوزت فكرة احتكار الإسلام، إذ أصبح العديد من الحركات الإسلامية يتسمى بأسماء لا تحمل صفة "إسلامية" بشكل صريح.. كما تراجعت عن فكرة التكفير والحكم بجاهلية المجتمعات الإسلامية التي نظّـر لها أبو الأعلى المودودي والأخوين قطب...
ولئن استطاعت هذه الحركات أن تبلغ هذا النضج، بعد هذا الزمن الطويل نسبيا، فإنها مدعوة إلى أن تعيد النظر في عدد آخر من القضايا لا يزال عالقا.. لكونه يشكل في جزء كبير منه سبب عدم نجاح هذه الحركات في إقناع المجتمع، عموما، وأهل السلطان والحكم والمحيط الدولي، خصوصا، بأهمية وعدالة وديمقراطية وإنسانية المشروع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والحضاري الذي تدعو إليه هذه الحركات وتناضل من أجل نصرته والتمكين له..
أولا: في معنى المراجعة
لا نريد بالمراجعة هنا ممارسة "التقية" تجاه المحيط الخارجي، بتقديم تنازلات مجانية له أو العدول عن الحق -كما هو لا كما نراه- أو تبرير أخطاء واضحة بينة، أو الإحجام عن المواقف الصائبة.. أو ما شابه ذلك من الهواجس التي تتناثر في أذهان البعض حين تطرق أسماعهم هذه الكلمة.. بل المقصود هو تلك العملية التقويمية الهادئة القائمة على أربعة أسس:
أولا: عدم المساس بالثوابت والمسلمات.
ثانيا: مراعاة مقاصد الشرع نظرا وتنزيلا.
ثالثا: فقه المحيط سياسة واجتماعا واقتصادا وحضارة.
رابعا: تحقيق المصلحة الراجحة للأمة.
فالمراجعة على هذا النحو فعل إيجابي يروم بلوغ الفهم السليم لجوهر الإسلام والممارسة الناضجة لأحكامه وتعاليمه، وإضافة كسب إسلامي حديث ومفيد للأمة وللإنسانية عامة قابل للتطبيق..
ثانيا: دواعي المراجعة
ثمة دواعي كثيرة، ذاتية وموضوعية، تحتم على الحركة الإسلامية ضرورة مقاربة هذا الموضوع بشيء من الجرأة وعدم التردد، ويمكن إجمالها في:
أولا: إن كثيرا من الحركات الإسلامية، لا تتجه إلى مراجعة أفكارها وخططها إلا حين تعرضها لضغوط التغيرات السياسية والثقافية والدينية في محيطها، بينما توثر الجمود وتأبى المراجعة والتجديد الذاتيين واتخاذ قرارات جذرية أو تغييرية، وفق استراتيجية مرسومة سلفا، واضحة المعالم، لا تحتاج إلى حدوث رجات خارجية بالضرورة من أجل البروز..
ثانيا: تعرض الحركة الإسلامية للمساءلة والامتحان في قضايا مستجدة من قبل الأنظمة أو من طرف الجهات الموالية لها، مما يضطرها إلى الإجابة الفورية غير الناضجة، وهذا له تأثيره السلبي على المصداقية وعلى الثوابت، والتي يمكن أن تتحول تحت الضغط المستمر إلى مجرد شكليات وأثريات لا أثر لها في الواقع، وبتوالي مثل هذه الامتحانات تصبح الحركة الإسلامية في وضع لا هي ناشطة في التجديد، ولا هي قادرة على التجميد.
ثالثا: صعود أسهم الحركات الإسلامية في بورصة الاستحقاقات الانتخابية في عدد من البلدان العربية والإسلامية، بل وشغل بعضها لحقائب وزارية وإمكانية وصول البعض الآخر إلى مقاليد السلطة، مما يثير مخاوف الأطراف الأخرى المنافسة أو المعادية للمشروع الإسلامي، خاصة في ظل التجارب الإسلامية السلبية في الحكم (السودان، أفغانستان) وكذا وجود الالتباس والتناقض أحيانا بين المسطر في البرامج والممارس في الواقع..
رابعا: وقوع الحركات الإسلامية منذ أكثر من سبعين عاماً في أنماط متكررة من الأخطاء التي تتشابه قلوبها، وإن تباينت قوالبها، بسبب ضعف الوعي بالسنن التاريخية التي تحكم صيرورة التجارب الإنسانية أو تجاهلها بدعوى رهن التجربة "للتوفيق الإلهي" هكذا بإطلاق.
خامسا: تنامي ظاهرة المستقلين في العمل الإسلامي، وأغلبهم كانت لهم انتماءات سابقة، إلا أنهم تخلوا عنها بسبب ضيق مساحة الحرية المتاحة للمراجعة والنقد في صفوف كثير من الحركات الإسلامية وإصرارها على إخضاع الجميع للثقافة "الإجماعية"(نسبة إلى الإجماع)، مما يفوت على هذه الحركات طاقات فكرية وسياسية وازنة في مجالاتها..
سادسا: شعور عدد من أبناء الحركات الإسلامية بالملل حينا والامتعاض أحيانا أخرى جراء حالات الجمود الفكري والمنهجي المرافقة للعمل الإسلامي منذ فترة ليست باليسيرة، وكثير منهم يتوق للتغيير، ويتلهف بحثاً عن فكرة جديدة أو رؤية متجددة.
ثالثا: مجالات المراجعة
لا يتسع المقام لحصر كل المجالات التي تحتاج إلى مراجعة وإعادة النظر في فكر وممارسة الحركة الإسلامية المعاصرة، ولذا سنكتفي بالإشارة إلى بعض النماذج التي تثير بعض الخلافات الداخلية أو تلك التي تثير شيئا من الحساسية الخارجية. على أن نعود إلى الموضوع لاحقا – إن شاء الله – لبسط قضايا أخرى لا تقل أهمية عن التي سنعرضها حالا.
1ـ مفهوم الدولة الإسلامية على الرغم من الجهود الكبيرة التي أنفقها الإسلاميون في الفكر السياسي الحديث لبناء "نظام سياسي إسلامي"، منذ سقوط الخلافة العثمانية، إلا أنهم عجزوا -حتى الآن- عن تحقيق ذلك على أرض الواقع تحت مسمى "الدولة الإسلامية"، لعجزهم عن تحديد مضمون هذا المفهوم، لكونهم يطرحونه -غالبا- كشعار إيديولوجي وليس كمشروع نهضوي ثقافي وحضاري عام، مما يجعله سهل المنال من قبل الجماعات الحداثوية والماركسية التي تثير حوله العديد من الشبهات ذات الصلة بالمكاسب التي أتت بها الدولة الديمقراطية الحديثة، والمرتبطة أساسا بقضايا التعددية واحترام حقوق الإنسان والعمل المشترك في إطار مبدإ المواطنة وحفظ حقوق الأقليات..
مما يجعله مفهوما "مستفزا" و"مرعبا"!!، خاصة في ظل انخراط الحركة الإسلامية المتزايد في إطار التعددية السياسية القائمة في البلدان العربية والإسلامية، الشيء الذي يستدعي من النظار الإسلاميين إعادة النظر في هذا المفهوم وجعله تحت مجهر التمحيص والكشف الدقيق إزالة للبس، ودفعا للوهم، وإيضاحا للرؤية، وتقريبا للواقع، وابتعادا عن المثالية الزائدة..
-2 إشكالية القيادة بين الدعوي والسياسي تتوزع قيادة العمل الإسلامي في كثير من الأقطار بين قطبين، أحدهما دعوي يتزعمه العلماء، والآخر سياسي يقوده القادة السياسيون، ويكمن الإشكال في مثل هذه الحال في التنازع حول مشروعية القيادة بين القطبين؛ فالعلماء يعتقدون أنهم المرجعية الأولى والأخيرة، وأن الجميع ـ بما فيهم القادة الميدانيون ـ تلاميذ في مدرستهم يجب أن يسمعوا ويذعنوا لآرائهم وتعليماتهم، وإن عدم اعتماد فصائل الحركة الإسلامية في عمومها على عمل العلماء العاملين أفقدها في كثير من الأحيان الصواب في اختيار الوسائل الموصلة للأهداف المنشودة، كما فرض على كثير من الدعاة والنخب الإسلامية الاضطلاع بمهمات قد لا تتناسب وملكاتهم، مما جعل كثيرًا من اجتهاداتهم تجانب مصلحة المشروع الإسلامي، بل زجت في بعض الأحيان بأبناء الصحوة الإسلامية في معارك أنهكتهم وعطلت مسيرة المشروع الإسلامي.. في حين تعتقد القيادات السياسية أنها أولى بالاجتهاد وتحديد المواقف المناسبة في ما له صلة بالعمل الميداني، وأن مهمة العلماء تكمن في التنظير والتقريب لكن دون فرض التوجيه..
وقد كان من بين الآثار السلبية لهذا التقاطب أن عزف كثير من العلماء عن الممارسة السياسية بدعوى أنها غير مسددة في كثير من أمورها بالنظر الشرعي، كما أثّر ذلك في مستوى الانسجام والالتحام بين فئات المجتمع المسلم لفقدانه للمرجعية الموحدة والمنسجمة في آرائها ومواقفها.. ولتجاوز هذه الحالة، فإنه لا بد من إقامة مرجعيات أو مجامع علمية أو هيئات تعاونية وحوارية بين أهل العلم وأهل السياسة، مهمتها التقريب بين وجهات النظر وتحديد المواقف المناسبة التي تصب في مصلحة المشروع الإسلامي بمختلف مجالاته وتوجهاته..
-3 بين الرسالية والتنظيمية، لقد كشفت الأحداث المتتالية في العالم الإسلامي أن المسألة الإسلامية لم تعد ظاهرة فئوية تخص التنظيمات الحركية وحسب، بل أصبحت مجتمعية تخص الجميع؛ ومن ثم فإن الحركة الإسلامية مدعوة إلى تحويل نظرتها وتعاملها مع العمل، باعتبارها مشروعا مجتمعيا وليس مجرد مشروع تنظيمي ضيق؛ فتجري انسحابا لمشاركة غيرها وفصلا تاما وحقيقيا في القيادة والعمل بين العمل السياسي الحزبي والعمل النقابي والخيري والعمل الدعوي، فلا يعقل أن تجد القائد الإسلامي المعاصر قائدًا محتكرا للعمل فتجده قائدا في العمل الخيري والدعوي والسياسيوالنقابي والنيابي!!
إن هذا الفصل الإجرائي في التطبيق، والذي يبدأ بمنع الجمع بين موقعين أو أكثر في العمل الإسلامي، سيحول ملكية هذا العمل وخبراته إلى المجتمع بأَسره، ويقلل من عقلية الاحتكار والوصاية وعدم الثقة بالآخرين، ويجعل الحالة الإسلامية أكثر تجذرا وانتشارا في المجتمع، وليست مسألة تخص تنظيمًا أو جماعة بعينها. فمسؤولية العمل والدعوة والإصلاح منوطة بكل مسلم، بل بجميع المواطنين، ووظيفة الحركة الإسلامية أن تحشد جميع الناس والفئات في مشروعها الإصلاحي، وليس منافستهم المغانم والمواقع والفرص.
4ـ العلاقة مع الغرب، إن الغرب باعتباره واقعا ثقافيا ومعطى حضاريا مهيمنا وتقدما علميا وتكنولوجيا مسيطرا، لا يزال ينظر إليه معظم الإسلاميين "نظرة التحدي الذي يجب الرد عليه"، على حد تعبير الدكتور حسن الترابي؛ مما جعل الغرب ينظر دائما إلى الإسلاميين نظرة توجس وتخوف وتشكيك، ويحشرهم جميعا في خانة واحدة تحت شعار "ليس في القنافد أملس"، ويسعى جاهدا إلى الحيلولة دون وصولهم إلى مرحلة التمكين الفعلي في بلدانهم، سواء بالقوة والتدخل المباشر أو بالحصار تارة والتهديد والترهيب تارات أخرى، أو بدعم القوى المنافسة لمشاريعهم في غالب الأحيان...
ولا شك أن هذا الموقف القائم على الندية والتقاطب بين الطرفين يرجع أساسا إلى عدد من المشاكل العالقة منذ عهود الاستعمار بين الإسلام والغرب، وهذه المشاكل لا يمكن بحال تجاهلها، بل تستوجب حلولا عادلة لها، إذا ما أراد الإسلاميون بناء علاقات إنسانية، وتقليص حدة العداء القائمة بين الطرفين.. ولعل المدخل لذلك يكمن في أمرين اثنين: أحدهما يتمثل في ضرورة استيعاب وتفهم الإسلاميين لكافة الاتجاهات الدولية، سواء اتخذت مواقف نقدية أو معادية أو متخوفة أو محذرة من المشروع الإسلامي المعاصر، لأن الفاعل الإسلامي حاضر ومؤثر، وبوتيرة متصاعدة، في المحيطين الداخلي والخارجي..
أما ثانيهما، فيكمن في ضرورة فتح حوار مع الغرب على كل الأصعدة الفكرية والدينية والسياسية، وذلك حتى يفهم هذا الغرب أن الإسلاميين هم أصحاب دعوة لا طلاب غنيمة -كما يقول الدكتور يوسف القرضاوي- ورسل رحمة لا نذر نقمة، ودعاة سلام لا أبواق حرب... ويقتنع بالتالي أن تعاون الطرفين وتعايشهما فيه مصلحة لهما وللإنسانية جمعاء، أو كما قال مالك بن نبي في كتابه "شروط النهضة": "إننا نحب أن نرى القوى الغربية ترحب بالصحوة الإسلامية ليس كخطر إسلامي، ولكن كنهضة لمئات الملايين من الناس الذين سيسهمون بمجهوداتهم الأخلاقية والفكرية لصالح الإنسانية"..
5ـ مسألة المواطنة، على الرغم من اهتمام الإسلاميين بقضية الهوية، تنظيرا وممارسة، إلا أن مبحث المواطنة لم ينل من نظارهم إلا النزر اليسير من البحث والتدقيق، رغم أنه يطرح عدة إشكالات فقهية وثقافية وتربوية واجتماعية وقانونية.. منها ما هو مرتبط بالتجربة التاريخية للمسلمين، ومنها ما هو إفراز للمواثيق الدولية الحديثة الناظمة لقضايا الأقليات الإثنية واللغوية في جميع أمم العالم الموقعة عليها، بما فيه الدول العربية والإسلامية، ومنها ما هو نابع من واقع الأقليات المسلمة في البلاد غير الإسلامية... ويمكن إجمال هذه الإشكالات في التساؤلات التالية:
هل يعتبر غير المسلمين من مواطني الدولة الإسلامية؟ وما هي طبيعة هذه المواطنة، هل هي مواطنة كاملة أم ناقصة؟ هل يحق لغير المسلمين تولي مناصب هامة في الدولة الإسلامية (رئاسة البرلمان ـ رئاسة الحكومة ـ تولي القضاء…)؟
هل يحق لغير المسلمين أن تكون لهم مؤسسات خاصة في الدولة الإسلامية: برلمان، محاكم للفصل في نزاعاتهم؟ هل ما أنتجه الفقه الإسلامي القديم من مفاهيم مثل: دار الحرب ودار الإسلام.. وأهل الذمة والمستأمنون...
مازالت صالحة للتداول والاستدلال في عصرنا هذا؟
ما موقع الأقليات المسلمة في بلاد غير المسلمين بين قوانين بلدانها الأصلية وبلدان إقامتها في المهجر؟
ما موقف الفقه المعاصر من مسألة تجنس المسلم بجنسية البلدان غير الإسلامية؟ وماذا يترتب عن ذلك من أحكام عقدية وفقهية؟
كيف ينظر الفقه المعاصر لمسألة الهجرة الطوعية والقسرية التي يقوم بها أبناء المسلمين إلى البلدان الغربية من أجل منافع مادية أو للحصول على حماية سياسية (اللجوء السياسي)؟
ما هي أوجه الاتفاق والاختلاف بين الأحكام الإسلامية والمواثيق الدولية فيما يخص قضايا حقوق الإنسان والأقليات ومواصفات المواطنة والقوانين الناظمة لحقوقها وواجباتها؟ أو بتعبير آخر: كيف يمكن تكييف تلك المواثيق مع روح النصوص الشرعية ومقاصدها؟ ما هي الخيارات التنظيمية التي في وسعها استيعاب غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، والتي من شأنها الحفاظ على وحدة وتماسك المجتمع دون المساس بحقوقهم؟
هل يحق للأقليات الدينية أو العرقية في البلدان الإسلامية تشكيل هيئات سياسية مستقلة للدفاع عن مصالحها، أم تلزم بالانخراط في الهيئات القائمة على اختلاف انتماءاتها الإيديولوجية؟
ونحوها من التساؤلات التي تتناسل في أذهان كثير من المعنيين بهذا الموضوع، لكن لم تجد بعد الإجابات الشافية في فكر الحركة الإسلامية..
خلاصة القول، إن القضايا المشار إليها أعلاه تحتاج من نظار المشروع الإسلامي جهدا تأصيليا وتكييفيا، لبناء نظريات متوازنة حول المجتمع المدني والسياسي الذي يأملون بناءهفي المجتمعات الإسلامية أو يبشرون به على الأقل، بعيدا عن الطروحات الاستنساخية الوافدة أو النظريات الماضوية الرافضة..