/

 

 

قراءة نقدية في منهج طنطاوي جوهري في تفسيره الجواهر

حازم محيي الدين

عنوان الكتاب: الجواهر في تفسير القرآن الكريم المشتمل على عجائب بدائع المكونات وغرائب الآيات الباهرات

المؤلف : طنطاوي الجوهري

الناشر : دار الفكر

المدينة : بيروت

السنة : 1935

يُعد تفسير "الجواهر" آخر مؤلفات الشيخ طنطاوي جوهري، ويمكن اعتباره خلاصة عامة جامعة، ومركزة لكل الأفكار التي أفنى عمره كله في سبيل اكتسابها، ونشرها بين الناس. وفي الحقيقة، فقد بدأت علاقة جوهري بالتفسير في وقت مبكر في حياته، حيث بدأ يفسِّر بعض الآيات القرآنية، ويلقيها على مسامع طلابه منذ أن كان مدرساً في مدرسة دار العلوم، ثم بدأ يكتب بعض المقالات التي تتناول تفسير بعض الآيات الكريمة ممزوجة بالعلوم الكونية الحديثة، وكان يقوم بنشر هذه المقالات في بعض المجلات مثل "الملاجئ العباسية"، وجريدة "المؤيد"، وجريدة "اللواء "[1]، وكان يقوم أيضاً بإعادة نشر هذه المقالات في كتبه التي كان ينشرها في ذلك الوقت[2]. ثم بدا له بعد أن استقال من عمله الحكومي عام (1922م)[3] أنْ يقوم بتفسير كامل للقرآن الكريم من أوله إلى آخره، فأقبل منذ ذلك التاريخ على كتابة تفسيره الذي أعطاه اسما مشتقاً من اسمه الشخصي "الجواهر في تفسير القرآن" على غرار أسلوبه في تسمية معظم كتبه السابقة.

ولقد انتهى الشيخ من كتابة تفسيره بشكل كامل سنة (1925م)، وكان التفسير آنذاك لا يزيد على 11جزءاً، ثم استمر في تنقيحه والإضافة عليه حتى وصل إلى حجمه الحالي أي 26 جزءاً تقع في 13 مجلداً. وقد طُبع في حياته مرتين بين عامي (1925ـ 1935)[4].

وقد أعلن جوهري في مقدمة تفسيره أن هدفه الرئيس من هذا التفسير هو تفهيم المسلمين العلوم الكونية وحثهم على الإقبال عليها والتفوق في دراستها كمقدمة ضرورية لاستئناف المدنية الإسلامية المجهضة[5].

وقد أشار بوضوح تام في مكان آخر أن تجديد الأمة، وترقية الجنس البشري بشكل عام هو الهدف الأخير من وضع هذا التفسير: "وعسى الله أن يُجدد لهذه الأمة أمرها، ويُرجع مجدها، ويرفع عنها نيرها، ويجعلها رحمة للعالمين. اللهم إني لا أريد بكتابي إلا رقي النوع الإنساني، وأن يكون المسلمون أرشد العالمين، وأصلح بني الإنسان، وأن يكونوا قادة وسادة ورحمة لهم لا يظلمون ولا يُظلمون"[6] .

وبهذا نفهم أن الغاية الإصلاحية هي الغاية التي هيمنت هيمنة تامة على تفسير "الجواهر"، ومن هنا يحق لنا أن نستغرب كيف تم إغفال دراسة وتحليل هذا التفسير ضمن تفاسير المدرسة الإصلاحية، وكيف تمَّ تصنيفه في مدرسة التفسير العلمي فقط مع أن التفسير العلمي بالنسبة للشيخ جوهري على الرغم من أهميته المركزية لا يزيد على أن يكون الوسيلة الرئيسة للتجديد والإصلاح، وليس هو الهدف الأخير من هذا التفسير.

المنهج وأبعاده الإصلاحية

قد يكون من نافلة القول الإشارة هنا إلى أن الكلام عن منهج وطريقة طنطاوي جوهري في تفسيره لا يمكن إيفاؤه حقه في حدود هذه الفقرة المحدودة، وكل الذي سنقوم به هنا لا يزيد عن الإشارة العامة إلى أهم العناصر المكونة لهذا المنهج، وهذه الطريقة.

والهدف من هذه الإشارة، هو الاطلاع العام على منهج وطريقة طنطاوي في التفسير أولاً، والوقوف بعد ذلك قدر الإمكان على موقع البعد الإصلاحي في مجمل منهجيته في التفسير. ويجب التنبيه منذ البداية إلى أن طنطاوي جوهري كان يوجِّه تفسيره بشكل رئيس إلى قارئ يدعوه بالقارئ الذكي الفَطِن، فتفسيره يتوجه إلى قارئ معين، نفهم من خلال التفسير نفسه أن هذا القارئ مطلعٌ على الثقافة الإسلامية، والثقافة التاريخية والفلسفية والعلمية المعاصرة، وبهذا يمكن أن نصف مستوى خطابه بشكل عام في التفسير بأنه خطاب نخبة.

ويمكن لنا أن نفهم أن اصطناع جوهري لحوار مع شخص مفتَرض في مواضع كثيرة من تفسيره، كان عبارة عن استباق منه للإجابة على الانتقادات المتوقعة لتفسيره، ومنهجه فيه، وهذا يدل دلالة كبيرة على أن جوهري كان يعي وعياً تاماً بجدة خطابه التفسيري، وتفرّده بمنهجٍ قد يثير الكثير من الاعتراضات عليه من ناحية الشكل والمضمون[7]. ومن المحتمل أن يكون جوهري قد لجأ إلى اصطناع هذه الشخصية التي أنطقها باسم من ينقد أفكاره في مجتمعه، ليعوّض بها نفسه عن حالة التواصل والتفاعل العلمي الكبير التي كان يأمل أن يتلقاه بها المجتمع العلمي في مصر.

ولنبدأ الآن بذكر الخطوط العريضة لطريقته ومنهجه في التفسير.

ـ استخدم، أسوةً بكافة المفسرين السابقين، منهج التفسير التحليلي، بمعنى أنه فسَّر القرآن الكريم كاملا حسب الترتيب العثماني، حيث بدأ بسورة الفاتحة، وانتهى بسورة الناس. وبهذا يُعد تفسير الجواهر أول تفسير كامل للقرآن الكريم في مصر في العصر الحديث.

ـ يمكن تلخيص طريقته في التفسير بأنه كان يقسِّم كل سورة إلى عدة أقسام، يجمع في كل قسم مجموعة آيات يرى أنها تُشكل وحدة نصية واحدة، تتناول معنى واحداً، ثم يفسِّر السور قسماً قسماً مفتتحاً كلَّ قسم بتفسير لفظي موجز له، يحرص فيه على تعريف الكلمات والمفاهيم الرئيسة الواردة فيه بشكل واضح ومنضبط, ثم ينتقل بعد ذلك إلى ذكر المعنى الإجمالي لآيات القسم الذي يشرحه، وهو هنا لا يزيد على ذكر المعاني العامة المذكورة على وجه الإجمال في التفاسير السابق, ثم يختار بعض الكلمات والمعاني الواردة في القسم الذي يفسّره، ويعقد لها فقرات خاصة تحت أسماء خاصة يختارها غالبا من أسماء الجواهر وصفاتها (مثل: الجوهرة، الزمردة، الزبرجدة، الياقوتة..)، ثم يبدأ بذكر صفحات عديدة تتناول كل ما يتعلق بهذه الكلمات والمعاني من معلومات طبيعية واجتماعية ونفسية وتاريخية كشف عنها العلم الحديث. وفي نهاية كل سورة يعقد غالباً فقرة خاصة تحمل اسم "النظرة العامة للسورة" يلخص فيها أهم الأفكار والمعاني الواردة فيها.

وقد استخدم جوهري في الأقسام التي خصصها لتفسير المعنى الإجمالي، منهج التفسير بالأثر، حيث استعان، ولو بشكل مقتضب ومحدود، ودون تحقيق وعزوٍ للأقوال إلى أصحابها، على فهم المعاني العامة للآيات، بالقرآن الكريم نفسه، وبأسباب النزول، وبعض الأحاديث النبوية، واللغة والبلاغة، والقليل من الأخبار الواردة عن السلف رضوان الله عليهم أجمعين.

ـ استخدم أسلوب القص، والحكاية، والحوار بشكل متميز، والحكايات التي ذكرها إما حوادث شخصية جرت معه، أو حكايات من التراث الإسلامي، أو من ثقافات العالم الهندية، واليونانية، والأوربية[8]. وهو بهذه الحكايات قام بغرس معاني الآيات التي فسَّرها غرساً عميقاً في عقل القارىء، وقام بتوسيع آفاقه ومداركه في الوقت نفسه من خلال اطلاعه على جزءٍ من تاريخ وثقافات العالم من حوله. هذا فضلاً عن أن ذكره للحكايات في سياق تفسيره كان يساعد القارىء على استرجاع نشاطه الذهني، واستعادة تركيزه وانتباهه، وبهذا يمكن تشبيه حكايات جوهري في تفسيره بمحطات الراحة والاستجمام التي ينزل فيها القارىء في أثناء معاناته قراءة تفسيرٍ مليء بالمسائل العلمية، والقضايا الفلسفية، والمشاغل الإصلاحية.

ـ استخدم في تفسيره الرسوم التوضيحية، والجداول، وصور النباتات والحيوانات، والمناظر الطبيعية، وقام أحياناً بتلخيص تفسير آية ما عن طريق تحويل هذا التلخيص إلى جدولٍ على طريقة البيانات والمخططات الحديثة[9]. ومما لا شكَّ فيه أنه متأثرٌ بعمله هذا بخبرته التربوية الطويلة، والعميقة في ميدان التربية والتعليم، فهذه الطريقة، وإن كانت غريبة تماماً عن كتب التفسير القديمة والحديثة على السواء، فإنها لا تخلو من فائدة في توضيح المعاني، وتثبيتها في ذهن القارئ من جهة، وتشويقه، ودفعه لمتابعة قراءة التفسير دون كلل أو ملل من جهة أخرى، وفي الحقيقة، فإنه لا يوجد أي سبب أو دليل شرعي يمنعه من استخدامها.

ـ حرص في بداية كثيرٍ من السور القرآنية على بيان المعاني الكلية التي تعالجها السورة، فسورة البقرة تدور في نظره حول محورين عامين هما: الإيمان والعمل[10]، وبهذا يمكن أن نقول إن تفسير الجواهر كان خطوة مهمة على طريق الاهتمام بالوحدة الموضوعية للسور القرآنية، وهو الطريق الذي شهد تطوراً ملحوظاً على يد سيد قطب (ت1966م) في تفسيره "في ظلال القرآن".

ـ كان يحرص حرصاً شديداً على بيان وجوه الاتصال والتناسب بين السور القرآنية، وبين الآيات داخل كل سورة على حدة[11]، ولعل هذا الاهتمام يأتي متسقاً مع اهتمامه الحثيث بالبحث عن روح النظام والنسق في الكون والأمم، وكتاب الله تعالى، في نظره، يتطابق مع نظام الكون من حيث إنه كلام الله، والكون فعله، وبالتالي لا بد من التطابق بينهما على مستوى البناء والتنظيم الخارجي، وعلى مستوى المحتوى، والمضمون الداخلي.

ـ اعتنى جوهري عناية كبيرة، بإبراز السياق التاريخي والثقافي لنزول القرآن الكريم، وتحديد البيئة التاريخية، أماكنها وأحداثها وأشخاصها، التي نزل القرآن الكريم فيها، من خلال حرصه الشديد على جمع وذكر أسباب نزول الآيات الكريمة، وحرصه كذلك على ذكر العادات، وظروف البيئة العربية التي سبقت ورافقت نزول هذه الآيات [12].

فقارئ هذا التفسير يخرج من قراءته بفهم معقول للسياق التاريخي الثقافي لنزول القرآن الكريم، ولا شك أنّ جهد جوهري في هذا المجال هو جهد علمي مشكور، وقد شكَّل حجراً أساسياً لكل منْ جاء بعده من المفسرين الذين أخذوا بعين الاعتبار هذا السياق في تفسيرهم، وأخص بالذكر منهم سيد قطب (ت1966م)، وعزة دروزة (ت1984م).

ـ لم يُظهر الشيخ جوهري اهتماماً كافياً بالتفسير الفقهي للآيات التشريعية بشكل عام، وكان يكتفي في تفسير أحكام هذه الآيات بذكر الأقوال الفقهية بشكل موجز جداً، منسوبة إلى أصحابها من علماء الصحابة والسلف وأئمة المذاهب، مع عناية خاصة بالمذهبين الحنفي والشافعي، من دون اللجوء إلى ذكر أدلة كل فريق في الأغلب، أو حتى وجه دلالة الآية المفسَّرة عليها، ودون الترجيح بين هذه الأقوال في الغالب. وكان يرجع في نقل هذه الأقوال إلى كتب التفسير السابقة، كتفسير الطبري، وابن كثير، والبغوي والرازي[13].

وفي الحقيقة، فإن عدم اهتمام جوهري بالجانب الفقهي من التفسير ينسجم مع رؤيته الإصلاحية التي يضع فيها الاعتناء بالعلوم الكونية في المقام الأول، ويرى فيها أن الآيات الكونية أولى بالاهتمام والعناية من آيات الأحكام بشكل عام. وقد يكون السبب في ذلك أيضاً هو أن العلماء والمفسرين الذي سبقوه، قد أعطوا تلك الآيات التشريعية جلّ اهتمامهم في تفاسيرهم، ولم يعطوا الآيات الكونية ما تستحقه من اهتمام ودراسة وبحث، لذا انصبَّ اهتمامه الزائد على دراستها وتفسيرها، دون آيات الأحكام، التي لم يُبق السابقون في تفسيرها، واستنباط الأحكام منها مزيداً لمستزيد من اللاحقين.

ـ لم يلجأ جوهري إلى استخدام التحليل اللغوي والبلاغي إلا في أدنى الحدود، وبقدر الحاجة، وبأبسط طريقة ممكنة، وجلّ اهتمامه اللغوي كان ينصب على تحليل الكلمات الغريبة للوقوف على أصل اشتقاقها لتحديد معناها بدقة[14].

وقد كان من منهجه وخطته في التفسير بشكل عام أن لا يخوض في بحر القضايا الخلافية التي لا يرى من ورائها فائدة علمية، أو عملية ذات قيمة[15].

ولعل في اقتصاد جوهري الشديد في المسائل الشرعية، والفقهية، واللغوية، والبلاغية، والقضايا الخلافية، وتوسعه الشديد في مقابل ذلك في القضايا العلمية والروحية، والمسائل الإصلاحية، دليلاً واضحاً على مدى انسجام منهجه في التفسير مع هدفه من هذا التفسير، أي اتخاذ التفسير منبراً عالياً لتبليغ مشروعه الإصلاحي لمسلمي عصره، ولا يهمه بعد ذلك، إذا لم يُعط التفسير حقه من التمحيص والتحقيق العلمي للمسائل التي يطرحها النصُّ القرآني نفسه سواءً على الصعيد العقدي أم على الصعيد التشريعي، أم لا .

ـ تظهر في التفسير مسحة صوفية شفافة، ونزعة خلقية راقية، التفت جوهري من خلالها للمعاني الروحية العميقة التي يتضمنها كتاب الله عزَّ وجلَّ، وقد عمل جوهري على استثمار هذه النزعة والفهم الصوفي الذي تقبله حدود اللغة العربية وحقل دلالتها، في سبيل تحريك طاقة المسلم نحو العمل، وحفزه إلى العلم، والسير في الأرض، وتحمل أعباء الإصلاح[16]، وهكذا فقد شكَّلت إشاراته الصوفية دافعاً إضافياً للعقل والجهد البشري للعمل في ميدان عمارة الأرض، وإصلاح أحوالها، بدل أن تكون ـ كما حدث على يد كثير من متصوفي عصره الذين انتقدهم بشدة ـ دعوة إلى استقالة العقل البشري، وتكبيل قدرة المسلم على العمل والإنجاز، والإخلاد والاستكانة لإكراهات الواقع وتصاريفه، باسم الدين ونصوصه[17].

وفي المقابل فقد أكثرَ في تفسيره من النقل عن التوراة والإنجيل، وبشكل خاص إنجيل برنابا[18].وأكثرَ النقل من كتب الإمام الغزالي، وبشكل خاص كتابيه: "جواهر القرآن"، و"إحياء علوم الدين"[19]، وأكثر النقل أيضاً من رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء ذات البعد العرفاني[20]. كما أكثر جداً من النقول من كتب الفلاسفة القدماء، وخصوصا أفلاطون وسقراط[21]، وفلاسفة وعلماء الغرب المعاصرين سواء في مجال علوم الطبيعية، أم في مجال النظريات الروحية، التي تؤمن بوجود الأرواح وقدرتها على مخاطبة الأحياء والتأثير فيهم، ويقينية المعرفة المتلقاة عن طريق الأرواح!

وفي الحقيقة، فإن الشيخ طنطاوي كان يعتقد بهذه النظريات اعتقاداً راسخاً إلى درجة جعلته يشارك مشاركة فعالة في تأسيس أول جمعية روحية في مصر لتحضير الأرواح ومخاطبتها، وهي دائرة القاهرة الروحية[22]، وقد أثَّرت آراؤه الروحية في تفسيره إلى درجة يمكن لنا أن ننظر إليه على أنه تفسير "علمي" و"روحي" في آن معا[23]. ومما لا شك فيه فإن جمع جوهري بين الرؤية "الروحية" والرؤية الفلسفية العرفانية، وبين الدعوة العلمية والسننية الصارمة في تفسيره وفكره عموماً، يشير إلى مأزق عميق في بنية خطابه الإصلاحي، وقد تكون هذه الازدواجية القلقة في فكره قد ساهمت ـ إلى جانب عوامل أخرى ـ في أن لا يترك تفسيره الأثر الكبير الذي كان يتوقعه له صاحبه.

ومن جهة أخرى، فإنه يمكن القول إن ظاهرة إدراج نصوص كثيرة مأخوذة من مراجع وكتب إسلامية، وأوربية عديدة، ومن مجلات وجرائد مصرية، وعربية، وأوربية متنوعة، وإدراج نصوص طويلة جداً من معظم كتبه، ومقالاته المنشورة سابقاً، هي سمة بارزة من سمات تفسير "الجواهر"، وقد تكون هذه السمة مؤشر ملحوظ على انفتاح تفكير جوهري على المصادر والمعارف البشرية بغض النظر عن أصحابها، وهذا أمر إيجابي بحد ذاته، ويمكن أن نعزو إليها السبب في ضخامة هذا التفسير الكبير الذي بلغ ثلاثة عشر مجلداً من القطع الكبير، ولكننا في الوقت نفسه نشير إلى أن هذه السمة مسؤولة عن ظاهرة تقطيع وحدة وانسجام وتماسك التفسير نفسه، وخاصة إذا عرفنا أن أغلب هذه النصوص المدرَجة بعيد الصلة عن أجواء الآيات المفسَّرة التي جاءت تلك النصوص في سياقها[24].

ـ كان يقرِّب الأشياء التي لا تخضع للتفسير العلمي المادي كإحياء الموتى، ووجود الملائكة والجن والبعث والنشور والخوارق والأمور الغيبية إلى الأذهان بشكل عام باستخدام المعلومات العلمية الموجودة بين يديه، وباستخدام أسلوب قياس الغائب على الشاهد الشائع عند متكلمي الخلف من أجل تقريب هذه المعاني الغيبية إلى مثقفي عصره الماديين. فهو يقيس الملائكة على النفس (المخ) في الإنسان، فكما أن النفس تسيطر على الجسد، وتدبر شؤونه، فكذلك الملائكة، فهي قد تكون ـ من باب التقريب ـ قوى خلقها الله تعالى تدبر وتسيطر على كل ما خلقه الله في الكون من الكواكب والشمس والقمر والنبات والحيوان[25].

وكان لا يتردد في بعض الأحيان عن تأويل بعض الآيات بما يتوافق مع النظريات الروحية التي شاعت في عصره في بعض المحافل في أوربا وأمريكا بطريقة لا تخلو من تكلف وتعسف كبيرين[26].

ـ وظِّف مجموعة من العلوم الكونية الحديثة، وقام بإدراج نصوصٍ منها بشكل مطول في تفسيره[27]

لمجرد ورود كلمة لها علاقة بأي مظهر من مظاهر الكون. وهنا تجدر الإشارة إلى أنَّ جوهري كان يعتقد أن الإشارات التاريخية والعلمية الواردة في القرآن الكريم مذكورة بطريقة مجملة، وهي تشكِّل في مجموعها مقدماتٍ دافعة للبحث العلمي الذي يجب أن يقوم به علماء الأمم، وبشكل خاص المسلمون منهم الذين سبق لهم تلاوة الآيات التي تتضمن هذه الإشارات. فالقرآن الكريم يذكر الحقائق مجملة عامة من حيث تضمنه الإشارة إلى كل الظواهر الكونية من جهة، ويحث علماء الأمم على استقصاء هذه الحقائق والوقوف على تفاصيلها من جهة أخرى، فبيان وتفصيل المسائل العلمية والتاريخية من مهام العقل والخبرة البشرية، وليس من مهام الوحي الذي يكتفي بالإجمال، وإثارة الرغبة عند البشر في اكتشاف هذه العلوم، وليرتقوا بعد ذلك بقدر تعمقهم في دراسة هذه العلوم في مدارج الحضارة والتقدم. يقول جوهري: "واعلم أن خلق آدم وحواء ليس هناك دليل قطعي على كيفيته، والقرآن أتى به مجملاً على مقتضى ما تقبله العقول وتفهمه النفوس، فأما التفصيل، فليس للكتب السماوية، وإنما هذه مقدمات يُؤتى بها للمقاصد، فأما التفصيل فقد قام به علماء الأمم من عجم وعرب"[28].

ويقول في موضع آخر في حوارٍ له مع شخصٍ آخر نافياً عن نفسه تهمة من نسبَ له القول إنّ كل العلوم التي ظهرت في الغرب موجودة في القرآن الكريم[29]: "وأنا لم أقل إن أهل أوروبا استنتجوه من القرآن، بل استنتجوه بعقولهم، ولقد بعث الله الغراب وغير الغراب لهم كما بعث لنا، وأراهم الغراب وغير الغراب كما أرانا، ولكن هم رأوا، ونحن ما رأينا، وهذا عار على أمة الإسلام أن تجهل عقلها، وتجهل دينها، فأنا لم ألصق بالقرآن يا صاحِ علماً ولا صناعةً، وإنما أنا متبع لا مبتدع [يقصد أنه متبع لعلماء الإسلام الذين أوجبوا دراسة العلوم الكونية، واعتبروها من فروض الكفايات التي تتوقف عليها مصالح المسلمين، مثل الجويني والغزالي[30]]، فقال: لقد أحسنتَ، كل الإحسان، وأجبتَ ما في صدري، وعلمتُ اليوم أن الذي يقولون فيك ما قلتُه الآن [أي اتهامه بإلصاق كل شيء بالقرآن والدين] جُهَّال لم يقرؤوا مقالةً تامة من كلامك، فقلتُ: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات"[31]. وبهذا يمكن أن نقول إنه قد تمّ فهم علاقة تفسير "الجواهر" بالعلوم الكونية بشكل مغلوط.

ومهما يكن من أمرٍ، فقد أفرط طنطاوي في استخدام العلوم الكونية في تفسيره، إلى درجة أنه اعتبرها مرجعية إجبارية لفهم القرآن وتفسيره، فها هو يقول: "هذا القرآن يستحيل أن ينتفع به المسلمون إلا إذا قرؤوا جميع العلوم، ومن أين يعرفون معنى هذه الآيات التي تُعرض على العامة والأطفال لأنها في السور الصغيرة المعروفة لكل قارئ [يقصد سور جزء عمَّ] إلا بالعلوم والمعارف، وأرجو أن يتم ذلك بعد انتشار هذا التفسير"[32]. ويقول في موضع آخر: "أوَ ليس في قوله [تعالى]: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط} ما يدعو إلى سائر العلوم، فإن القيام بالقسط هو نفس النظام، أي نظام الفلك، ونظام الطبيعة. وقد قال علماؤنا: لا يعرف معنى القيام بالقسط إلا من درس سائر العلوم، كما قالوا في قوله تعالى {ووضع الميزان}في سورة الرحمن، إن هذا الميزان لا يعقله إلا الذي درس كل علمٍ كالطبيعة والفلك والكيمياء"[33].

في كلام جوهري هذا خروجٌ عن طبيعة النص القرآني، ومنهجية فهمه، فالعلوم ضمن شروط منهجية منضبطة، قد تزيد عملية التفسير غنى وعمقاً، ولكن بلا شك فإنّّ الناس يستطيعون من دونها أن يفهموا القرآن الكريم في الحدود المعقولة الضامنة لتوظيفه في حركة التاريخ وصياغته، والدليل على ذلك ما فعله المسلمون الأوائل الذين لم تدخل العلوم الكونية في مرجعياتهم العلمية في فهم القرآن الكريم، وعلى الرغم من ذلك فقد فتحوا العالم، وأسسوا حضارة عالمية بكل المقاييس الحضارية المعروفة في تلك الأزمان.

ولكن تجدر الإشارة هنا إلى أن الشيخ طنطاوي كان يهدف من سرد شتى العلوم والمعارف في تفسيره إلى إيقاظ رغبة الأجيال الجديدة من المسلمين في دراسة العلوم الحديثة، ودفعهم دفعاً من خلال ربطها بالقرآن الكريم إلى الإبداع في هذه العلوم، والتفوق فيها على الغربيين الذين احتلوا بلادهم، وعملوا على منع وصول هذه العلوم إليهم، خوفاً من استيقاظهم، وانتزاع بلادهم منهم[34]. يقول جوهري موضحاً هدفه من ذكر العلوم الكونية في تفسيره: "أن تترقى العقول الإسلامية كما تترقى عقول البشر بهذه العلوم، ولذلك لما دخل الفرنجة بلادنا المصرية منذ 45 سنة، منعوا هذه العلوم عن المصريين ليحصروها في الجهالة..لأن علماءهم أفهموهم أن تعليم الأمم المحكومة يجعلها مدركة الحقائق، فتطرد المستعمرين، وهذا شأن الغاصب مع صاحب البلاد، وأنا أنصح المسلمين جميعاً أن يعرفوا هذه العلوم، ويقرؤوها لينفعوا أممهم، ويطردوا عدوهم، ويرضوا ربهم"[35].

وهكذا نفهم أنّ إدراج جوهري في تفسيره مئات الصفحات من المعلومات الكونية، حتى لو يكن لها أدنى علاقة بالآيات المفسَّرة إلا ورود اسم أو لفظ له علاقة بالأمور الكونية، لم يكن إدراجاً معرفياً فقط، كما قد يتبادر إلى الذهن، بل كان بالإضافة إلى ذلك تكتيكاً إيديولوجياً حاول من خلاله نفع الأمة وإنهاضها، وتأهيلها للتصدي للاستعمار والانعتاق من سلطته التي تعيق نهضة وتقدّم المجتمعات الإسلامية.

ـ تسود التفسير من أقصاه إلى أقصاه روح إصلاحية متوهجة، تدعو بحماس وإخلاص منقطعي النظير إلى إصلاح أحوال العالم الإسلامي، وتدعو المسلمين إلى استئناف نهضتهم، واستعادة دورهم التاريخي في العالم، وهي لا تفتر في تشخيص علل وأمراض الأمة الإسلامية، وتقترح في مقابل هذه العلل حلولاً ومخارج، كان يرى رحمه الله تعالى أنها مصيرية، وحاسمة، ولا بدّ من الأخذ بها[36].

وبسبب شدة وضوح وحضور هذه الروح الإصلاحية، يمكن لنا أن نصف تفسير جوهري بأنه تفسير عملي نضالي، بمعنى أنّ جوهري كان يحرص دائماً على توجيه كلامه لا لمجرد الإعلام والبيان والإظهار، بل من أجل دفع القارىء إلى ميدان الحركة والعمل، ميدان الانخراط في تبني وإنجاز المشروع الإصلاحي الذي يدعو إليه. فهو لا يكف عن توجيه الخطاب إلى القارىء الذكي، وإلى عموم الأمة الإسلامية ممثلة بعلمائها وأمرائها وحكامها، وحثهم على أن ينهضوا جميعاً، ويلتفوا حول أفكاره الإصلاحية قياماً بحق الإسلام، ونهضته العتيدة في العصر الحديث[37].

وبهذا قد يحق لنا النظر إلى تفسير "الجواهر"، على أنه خطاب سياسي، بمعنى من المعاني، وذلك على اعتبار أنّ الخطاب السياسي بمعناه الواسع هو كل خطاب يتجه إلى مجموعة بشرية محددة، ويحاول توجيه سلوكها، ونمط حياتها في اتجاه محدد.

نقد وتقويم

يقول رشيد رضا في معرض تقييمه لتفسير "الجواهر" رداً على سؤال ورد إلى مجلته من سائل تونسي يسأله عن قيمة هذا التفسير: "الأستاذ الشيخ طنطاوي مغرم بالعلوم والفنون التي هي قطب رحى الصناعات والثروة والسيادة في هذا العصر، ويعتقد بحق أنَّ المسلمين ما ضعفوا، وافتقروا، واستعبدهم الأقوياء إلا بجهلها، وأنهم لن يقووا، ويثروا، ويستعيدوا استقلالهم المفقود إلا بتعلمها على الوجه العملي بحذقها مع محافظتهم على عقائد دينهم، وآدابه، وعباداته وتشريعه، ويعتقد حقاً أن الإسلام يرشدهم إلى هذا بل يوجبه عليهم، فألف كتباً صغيرة في الحثّ على هذه العلوم والفنون، والتشويق إليها من طريق الدين، وتقوية الإسلام بدلائل العلم، ثم توسَّع في ذلك بوضع هذا التفسير الذي يرجو أن يجذب طلاب فهم القرآن إلى العلم، ومحبي العلم إلى هدى القرآن في الجملة، والإقناع بأنه يحث على العلم لا كما يدَّعي الجامدون من تحريمه له، أو صدِّه عنه، فهو لم يُعن ببيان معاني الآيات كلها، وما فيها من الهدى والأحكام بقدر ما عُنيبسرد المسائل العلمية، وأسرار الكون وعجائبه.. ولا يمكن أن يُقال: إنَّ كل ما أورده فيه يصح أن يُسمَّى تفسيراً له، ولا أنه مُراد الله تعالى من آياته، وما أظن أنه هو يعتقد هذا.. وجملة القول إن هذا الكتاب نافعٌ من الوجهين اللذين أشرنا إليهما.. وصاحبه جدير بالشكر عليه، والدعاء له، ولكن لا يعوّل عليه في حقائق التفسير، وفقه القرآن لمن أراده، فإنه إنما يذكر منه شيئاً مختصراً منقولاً من بعض التفاسير المتداولة"[38].

نلاحظ، من هذا النص، أنّ رشيد رضا قد أدرك عِظَم المهمة الإصلاحية التي نذر لها طنطاوي نفسه من خلال تفسيره، ألا وهي دعوة المسلمين لاستعادة نهضتهم الحضارية، واستقلالهم السياسي عن طريق تقريب العلم من أهل التدين، وتقريب الدين من أهلالعلم، ولا يستطيع أحدٌ أن يعرف قيمة هذه المهمة الجليلة إلا إذا علم أنّ مصر، وعموم بلاد العالم الإسلامي في مطلع القرن العشرين كانوا يعيشون أزمة روحية كبيرة كادت تقتلعهم من جذورهم، بسبب ظهور علامات تفوق الغرب الباهر على المسلمين في كافة الميادين العلمية، الأمر الذي دفع بكثير من المسلمين إلى فقدان الثقة بأنفسهم ودينهم، وإلى الاعتقاد أنّ الإسلام هو المسؤول عن تخلف المسلمين العلمي والحضاري، وقد دفع هذا الاعتقادُ الساذجُ الكثيرَ منهم إلى التخلي عن الإسلام والاستهتار به، ووصفه بأنه دين التخلف ودين القرون الوسطى المظلمة، ولا مكان له في العالم الحديث، عالم العلم والتقدُّم.

ولكن إقرار رضا لجوهري بهذا الدور الكبير الذي لعبه في خدمة وجلاء الوجه الحضاري للإسلام، لم يمنعه من نقده بسبب اقتصاده في بيان المعاني القرآنية، وبسبب حشده كماً هائلاً من المعلومات العلمية في سياق تفسيره، دون أن يكون لهذه المعلومات ضرورة في بيان المعنى المقصود من الآيات المفسَّرة، بل على العكس من ذلك فقد تقف هذه المعلومات الكثيفة حاجزاً دون الفهم المنشود من الآيات، وبالتالي تصرف ذهن القارئ لهذا التفسير عن مقاصد القرآن وهديه.

ولقد انتبه الشيخ أمين الخولي (ت 1966م) لما انتبه إليه من قبله رشيد رضا، عندما أدرك أنّ التفسير العلمي للإشارات الكونية الواردة في القرآن الكريم سيحول بين الناس ـ بسبب التفاصيل العلمية الكثيرة والمعقدة التي يستخدمها، والتي تندٌّ في مجملها عن تفكير المسلم العادي ـ وبين إدراك الدلالة المقصودة أصلاً من وراء هذه الإشارات، وهي: إثارة الشعور والفكر البشري بجمال وجلال الظواهر الكونية، وتنبيههما إلى مدى دلالتها من خلال نظامها الذي تجلت من خلاله على عظمة وقدرة الخالق الحكيم، فاطر هذا الكون، وصاحب الأمر فيه. وما يمكن أن تؤدي هذه الإثارة في النهاية من غرسٍ لعقيدة التوحيد من أقرب وأوضح طريق يشترك الناس كلهم، بنسب متفاوتة، في ملاحظته وإدراكه، ومن دفعٍ لهم بعد ذلك للإقبال على ضروب الهداية، ووجوه الإصلاح المودعة في القرآن الكريم. وهكذا، فكلُّ زيادة، وتوسُّع، وتكلُّف في تفسير هذه الإشارات القرآنية ستكون لا محالة إشغالاً للعقل الإسلامي بالوسيلة على حساب المقصد، وهذا الإشغال لا يتفق مع هدف القرآن من وراء استخدام هذه الإشارات. لذلك يرى أمين الخولي أنه "من الخير ألا توجه العناية إلى مثل هذا الضرب من التفسير العلمي، لأنه ليس بذي جدوى على القرآن نفسه، والقرآن غني عن أن يعتز بمثل هذا التكلف الذي يوشك أن يخرج به عن هدفه الإنساني الاجتماعي في إصلاح الحياة، ورياضة نفوس الناس جميعاً على اختلاف حظهم من العلوم الطبيعية الرياضية وما إليها"[39].

وقد اتفق مصطفى الطير، وهو من علماء التفسير في العصر الحديث، في تقويمه العام لمنهج الشيخ جوهري مع الشيخ رشيد رضا، حيث أثنى، من جهةٍ على الشيخ طنطاوي وعلى جهوده المخلصة في ميدان نهضة المسلمين العلمية، ومن جهة أخرى فقد نقَدَ إسرافه في حشد العلوم بين دفتي التفسير، وانتقده أيضاً لإقحامه آراء المدرسة الروحية الحديثة في التفسير، وخصوصا تحضير الأرواح، ومعرفة الغيب عن طريق الاتصال بالأرواح، وإعطائها مشروعية دينية وعلمية انطلاقاً من آيات قرآنية لا تحتمل هذه المعاني على الإطلاق[40].

ويقول في هذا الاتجاه نفسه محمد محمد حسين: "وأكبر ما يؤخذ على طنطاوي جوهري في كتبه، وفي تفسيره على وجه الخصوص، نُقوله الكثيرة في مواضع مختلفة متعددة عن دعاة تحضير الأرواح من الغربيين وانخداعه بدعاواهم ظناً منه أن ذلك يساعد على رد تيار الإلحاد الذي ينكر الحياة الأخرى، وينكر الحساب والثواب والعقاب. والواقع أن هؤلاء الروحيين كانوا ينشرون إلحاداً من نوع جديد"[41].

ونضيف إلى ما سبق القول: إنَّ لجوء طنطاوي إلى الاجتهادات البشرية في ميدان العلم الكوني في تفسيره للآيات القرآنية التي تحمل إشارات علمية، واستعانته بما استطاع تحصيله من علوم العصر، التي أخذ مادتها بشكل أساسي من علماء الغرب الذين يقولون هم أنفسُهم عن علومهم واكتشافاتهم بأنها علوم نسبية وخاضعة دائماً للمراجعة والتغيير والنقد على ضوء المستجدات العلمية، ما هو في حقيقة الأمر إلا تسليطٌ للمعارف المتغيرة بطبيعتها على الحقائق القرآنية التي يُفترض فيها الثبات والقطعية، وبذلك فقد فتح طنطاوي الباب، بعمله هذا من حيث لا يشعر، ولا يريد قطعاً، للعبث بالمدلولات القرآنية، وجعلها ساحةً للإثبات والنفي على حسب تغيُّر المعطيات العلمية التي تُفَسَّر بها، وفي هذا العبث ما فيه من الفساد والإساءة إلى فهم القرآن الكريم وتفسيره، هذا بالإضافة إلى جعل العلوم المتغيرة بطبيعتها ـ ومِن ورائها مَنْ يُنتج هذه العلوم، وهم في الأغلب علماء الغرب على الأقل على المدى المنظور ـ مرجعيةً ضروريةً لفهم القرآن الكريم، وبالتالي جعل المعنى القرآني تابعاً بشكلٍ أو بآخر لشيءٍ خارج عنه، وفي هذا خلخلة لمرجعية فهم القرآن الكريم النابعة أساساً من داخله (أي القرآن نفسه، والسنة النبوية، واللغة العربية التي تجلَّى فيها النظم القرآني).

وفيه أيضاً إضفاءُ شيء من الهالة والتعظيم على الحضارة الغربية، التي أصبحت بهذه الطريقة أحد مقاييس صدقية الوحي، وأصبحت "الحقائق العلمية" التي تأتي بها هي إحدى الضمانات للأخذ ببعض نصوصه، وفي هذا ما فيه من زيادة الافتتان بالغرب وحضارته، وزيادة هيمنته على العقلية الإسلامية التي حصرت مهمتها في كثير من الحالات بمتابعة الإنتاج العلمي في الغرب، والبحث عن مدى مطابقة هذا الإنتاج لنصوص الوحي.

وقد يكون من الحقيقة القول: إنََّّ الذي دفع الشيخ طنطاوي جوهري في هذا الاتجاه هو رغبته الصادقة والحميمة في دفع المسلمين إلى الانخراط في ميدان البحث والإنتاج العلمي في كل المجالات الكونية الذي مكَّن الغرب من التفوق على العالم الإسلامي بمراحل كثيرة، ومكَّنه من استعباد أبنائه، واحتلال بلاده، وهي دعوة بحد ذاتها ضرورية، وأتت في وقتها المناسب، ويمكن النظر إليها على أنها جهدٌ إصلاحي كبير يصبّ في مصلحة الأمة وسيادتها وتقدّمها، لكنه رحمه الله تعالى قد أخطأ الوسيلة المناسبة للقيام بهذه الدعوة عندما أقحم العلوم الكونية بتفصيلاتها المتغيرة بين دفتي تفسيره، ودعا إلى فهم القرآن الكريم في ضوئها، حيث كان يكفيه التركيز على ضرورة الاستفادة من الآيات القرآنية الداعية إلى العلم والتفكر والتدبر، والنظر في السموات والأرض، والسير في الأرض، وقراءة التاريخ، والبحث في الآفاق والأنفس، ومعرفة سنن الله تعالى في الكون والتاريخ والأمم كما دعا القرآن الكريم نفسه إلى ذلك في آيات كثيرة؛ للفت نظر المسلمين إلى تقصيرهم في ميدان العلم بمفهومه الشامل، وأثر هذا التقصير في فساد أحوالهم وأحوال مجتمعاتهم، وحثهم على تدارك هذا التقصير التاريخي بالانفتاح على كافة العلوم الكونية والإنسانية، والبحث والإبداع فيها جنباً إلى جنب كل العاملين في هذه المجالات، دون أن يضطر إلى الوقوع في الخطأ المنهجي الذي وقع فيه، أي تسخير القرآن الكريم لدلالات العلوم المتغيرة التي قد يؤدي تغيرها، وتناقضها أحياناً إلى نزع الثقة بالقرآن الكريم نفسه عند بعض الناس، وهذا ما لا يريده جوهري قطعاً.

الآثار الاجتماعية

وفي الحقيقة، فقد تم استقبال هذا التفسير بشيءٍ من الفتور، وأحياناً بشيء من الإعراض والتجاهل في مصر، وبعض البلاد العربية في الأوساط الدينية ذات الثقافة التقليدية[42]، وربما يعود سبب هذا الفتور والإعراض، إلى ما ذهب إليه الشيخ بحماس شديد من تفسيرٍ للقرآن الكريم على ضوء النظريات العلمية، التي لم تصل هي نفسها بعد إلى درجة الحقائق العلمية، وما قام به من حشدٍ للمسائل الكونية في تفسيره دون إحكام الصلة بينها وبين السياق التفسيري الذي جاءت فيه.

وكذلك يمكن القول إنّ أحد أسباب ضعف استقبال تفسير "الجواهر"، وزهد كثير من الناس فيه، وبشكل خاص طلاب العلوم الشرعية، هو الحضور الكثيف للعلوم، والفلسفة ومصطلحاتها فيه، وحضور علم الأرواح وحوادثه وأحواله فيه ضمن إطار ورؤية فلسفية عميقةٍ شيئاً ما، وهو الأمر الذي استفزَّ الحسَّ الديني العفوي الذي لا يطيق صبراً على الفلسفة وتجريداتها، وهو بمنهجه هذا يكون قد خالف الشيخ محمد عبده (ت 1905م)، ومن قبله ابن رشد (ت 595هـ)، اللذيْن صرّحا بأن خلط الدين بالفلسفة خطأٌ معرفي ومنهجي في الآن نفسه، في حين أن دراسة الفلسفة بشكل مستقل أمر نافع بل يشكِّل ضرورة معرفية للعقل الإسلامي الباحث عن الحقيقة، والمستكشف للكون وآفاقه، أما خلطها بالدين فهو مُفسدٌ لها، وللدين نفسِه إذ لكل منهما منهج وموضوع يختص به دون الآخر، ومصلحة الاثنين تكمن في تعاونهما دون أي دمج أو تداخل بينهما على مستوى المنهج أو الموضوع[43].

وهذا هو الخطأ الكبير الذي وقع فيه جوهري عندما خلط الدين بالفلسفة، وقد دفع ثمن هذا الخلط غالياً، عندما زهد كثيرٌ من القراء فيه، ونظر عددٌ آخر منهم إليه نظرة ريبة وشكٍّ، وبهذا تقلصت قاعدة قرائه بشكل عام، وعجز بالتالي عن توصيل رسالته الإصلاحية كما كان يحب، ويريد من خلال تفسيره.

وفي هذا السياق نفسه، يمكن القول إنّ أحد أسباب محدودية انتشار تفسير الجواهر أيضاً، هو أنه نصٌ فاجأ قراءه آنذاك بمرجعية غربية بعيدة عن المرجعية الإسلامية الخالصة، وصادف أنَّ المرجعية الغربية في ذلك الوقت كانت تُشكِّل بالنسبة للوعي الجمعي الإسلامي، الذي يكتب من خلاله، وله، اعتداءً صارخاً عليه وعلى أرضه، ومقدساته، ورموزه لذلك حُكم بالإقصاء والإهمال على تفسير جوهري، وسبب استمرار هذا الإقصاء حتى على مستوى بعض النخبة المثقفة من المسلمين هو استمرار الظرف التاريخي المُنتج للحساسية والنفور من الغرب وثقافته من خلال استمرار حدوث ظواهر اعتداء الغرب على البلاد الإسلامية بين الحين والآخر تحت هذه الحجة أو تلك.

ولكن وفي مقابل هذا الموقف المتحفّظ بشكل عام في مصر، والعالم العربي، فقد لقي تفسير "الجواهر" إقبالاً كبيراً عند مسلمي آسيا، حيث شهد رواجاً كبيراً في الهند، وأفغانستان، وتركستان، والصين، واليابان، وبلاد الملايو، وقامت لجان مختلفة في بعض هذه البلاد بترجمته أو ترجمة أجزاء منه إلى لغاتهم المحلية.[44]

ويمكن تفسير سبب إقبال المسلمين في تلك البلاد على تفسير "الجواهر"، على خلاف ما حدث في مصر، والبلاد العربية عموماً، بأن ضعف اتصال المسلمين في تلك البلاد بالعلوم الشرعية بشكل عام، وعدم اطلاعهم الكافي على التراث التفسيري، ومناهج المفسرين السابقين فيه بشكل خاص، بسبب حاجز اللغة، وبسبب خضوع معظمهم لأزمان طويلة لسلطات أجنبية منعتهم من الاتصال بتراثهم الديني، صرفهم عن معايرة هذا التفسير بالتفاسير السابقة، وبالتالي صرفهم عن ملاحظة مدى ابتعاده عنها بما اختطه صاحبه لنفسه من منهج مختلف عما اعتمده القدماء في التفسير، هذا من جهة، وبسبب شوقهم الشديد لإنجاز نهضة إسلامية في بلادهم تضارع النهضة الكبيرة التي كانوا يراقبونها عن كَثَب تجري عند اليابانيين والصينيين والروس المجاورين لهم من جهة أخرى، والتي كانوا يُرجعونها إلى إقبال هذه الشعوب على العلوم الكونية، وتقصيرهم هم في هذا المجال بسبب النظرة الدينية الخاطئة لمنزلة العلوم واكتشاف الكون وتسخيره في الإسلام التي كان يشيعها بينهم بعض الفقهاء المقلدين، وبعض رجال الصوفية الجاهلين، لذلك فقد وجدوا في هذا التفسير الدواء الشافي الذي يتطلعون إليه للحاق بركب النهضة والتقدم الذي سبقهم إليه جيرانهم.

 

 

08-09-2009 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=775