/
في المعرفة التاريخية ...تأسيس الفهم وتأصيل الهوية
نجيب بن خيرة
إن التاريخ ليس كما يُخيّل للبعض مجرد حروب تُشن ، أو معاهدات تُبرم ، أو سلالات تحكم ثم تسقط ، أو شخصيات تملأ سمع الزمان وبصره ثم يطويها الموت الزؤام فتصير ذكرى.. إنه قبل هذا وبعده خبرة حضارية ، ومشروع للتعامل مع الإنسان ، وفرصة لاختبار قدرة العقائد ومنظومات القيم على التحقق في الزمان و المكان ، فتؤكد على واقعيتها ومصداقيتها . وعلى هذا فإن عرض تاريخنا لابد أن ينطلق مما لدينا من الحقائق التي تُظهر أصالتنا ، وقدرتنا على الإبداع و العطاء ، لا أن نتلهى بالنظر الغرير إلى مفاخرنا ، فيصدق علينا قول الشاعر : ألهى بني تغلب عن كل مكرمة قصيدة قالها عمرو بن كلثوم ومنذ عقود وقر في أذهان الآباء في ديارنا أن المعرفة التاريخية لا قيمة لها في ثقافة الأبناء ، وينسحب ذلك على معظم الفروع الإنسانية الأخرى ، دافعين أبناءهم صوب الفروع العلمية التطبيقية بدعوى أن المنتسبين إليها مستقبلهم مضمون ، ومكانة أصحابها في المجتمع أرفع !. وقد آن الأوان أن نُكفّر عن هذه الخطيئة المعرفية التي تجاوزتها المعرفة المعاصرة ، وصار الأخذ بها مما يثير الضحك و الإشفاق معا !!. فنغري الأجيال الحاضرة بالإفادة من فرص التعليم الجامعي ، فنولي هذا النوع من المعارف اهتماما خاصا ، نُكوّن به جبهة قادرة على التحدي الحضاري، باحثة عن الرصيد الباقي القدير على الحضور في قلب العصر ، وموطئةً لمستقبل أفضل ، يعيد صياغة الإنسان ، ويحقق مطامحه ،ويقوي مناعته ، ضد الثقافة الهاجمة التي تسعى إلى سحبه من دينه وتراثه وثقافته . وإن المعرفة التاريخية لا تعني التمسك بشرانق الماضي ، والتصلب على أفكار فوضوية ، وشعارات ساخنة ، وتعصبات لا أول لها ولا آخر ... بل هي تفتح الذهن على آفاق أرحب ، وتنأى بالدارس لها بعيدا عن التعصب و الغلو و التطرف ، لأن في التاريخ وأزمانه المتلاحقة تعايشت الأفكار و العقائد و المذاهب ، ، وفي شواهده ما يثبت أن التطرف قصير النفس ، ضعيف الحجة ، منكور الجانب ، تمجُّه الفطر السبليمة ، ويتهافت عبر الزمن ... ومن حق المدارس و الجامعات اليوم أن تفكر في مستقبل ابنائها ، وتسعى جاهدة إلى التخطيط الجيد لإدماجهم في سوق العمل ، وكسب لقمة العيش ، وتأمين ضرورات الحياة .ولكن الخطر يكمن في طبيعة المعرفة التقنية البحتة التي يتلقاها الطلاب بعيدا عن تأهيلهم للمساهمة في إيقاف التدهور الحاصل في المجتمع ، والإسفاف البيّن في القيم و المبادئ ...بالإضافة إلى جهل الأبناء بالرصيد التاريخي للمعارف و العلوم التي يتلقونها عبر مسيرة الحضارة الإسلامية ، من النشأة و التطوير إلى الإبداع و الإضافة ، فيشعرون بالفخار و العزة ، وتنشط مواهبهم في ما نشط فيه أسلافهم ، ويضيفون كالذي أضافوا....وقد صدق من قال : " إذا أردت أن تعرف المستقبل فانظر إلى الماضي " . و الواقع أن صناعة الوعي بالتاريخ ، ، تجعل منه محركا دافعا للشعور القومي ، وموقظا للحس الوطني ، الذي تجهد الدولة الوطنية المعاصرة إلى إنمائه ، وترسيخه ، في مواجهة الأجنبي الدخيل الذي تنكر لتاريخنا وأمجادنا وحضارتنا ..وإليك في الجزائر خير مثال على هذا المسلك : فقد كانت الفئة الواعية من النخب المثقفة ، والمؤرخين الأثبات يدركون أن مزاعم فرنسا من أن الجزائر ليس لها تاريخ ، وأنها جزء لا يتجزأ من فرنسا ، وأن الكتابات الفرنسية عن شمال إفريقيا و الجزائر خاصة ، مثل كتابات " ستيفن غزال "(steven gzell)، واوغستان برنار"(augustain Bernard)...وأضرابهم ، كانت تسعى إلى نفي العروبة و الإسلام و الوطنية عن الجزائر . فانبرت هذه الفئة إلى التصدي لهذا المسخ و التجهيل ، فوضعوا التآليف ، وصنفوا الكتب ، وكتبوا الأبحاث و المقالات ، ووضعوا المناهج في المدارس الحرة ..فألف محمد مبارك الميلي " تاريخ الجزائر في القديم و الحديث " ، وكتب أحمد توفيق المدني كتاب " الجزائر " ، كما نشر عبد العزيز الثعالبي بحوثا عديدة عن تاريخ شمال إفريقيا وتاريخ العرب و المسلمين عموما ، وكتب عثمان الكعاك " موجز التاريخ العام للجزائر منذ العصر الحجري إلى الاحتلال الفرنسي " وجمع عبد الرحمن الجيلالي مصنفه الفذ حول " تاريخ الجزائر العام " ... وقد ساهمت هذه الكتابات في إيقاظ الشعب من سباته ، وصناعة الوعي في قلبه وعقله ليدرك تراثه المسلوب ، ويرتبط بوطنه المحروب ، وينتفض لنصرة قضيته ، وتحرير بلده ، وتخليص نفسه من بين مخالب مستعمر متعصب كفور .. وإن كنا نحسب أن هذه المنازعة في ساحات البقاء أمر طبيعي ومفهوم ، ولا يخلو من إيجابيات . فالصراع يوجِدُ روح المقاومة ، والأمة التي لا تُنَازل غيرها تُصاب بالتأسن و الترهل و الانحلال ..ويتراجع إنتاجها الحضاري بشكل عام !. وفي تصوري أن المدافعة الثقافية مع الآخر في هذا الميدان لا تتحقق إلا باستحضار عنصرين أساسيين : 1 ـ إبراز قيمة الأحداث التاريخية بما تحمله من ثقل أشخاصها وأبطالها ومواقفها . 2 ـ حسن عرض هذا الرصيد المعرفي الهام بالوسائل المعاصرة التي تقرب من عقل الناشئة وقلوبها ، فتستوعبه وتعيه ، ثم تحبه ، وتفخر بالانتساب إليه وينشأ ما يسميه " أرنولد توينبي "(Arnold Joseph Toynbee):" بمبدأ الأبوة و البنوة " أي تواصل الأجيال ، فإن الأبناء من دون تاريخ الآباء ، يعيشون لقطاء ، مقطوعي الصلة بماضيهم ، ذاهلين عن حاضرهم ، وبيقين فاشلين في صناعة مستقبلهم : وصدق أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال : مثل القوم نسو تاريخهم كلقيط عيّ في الحي انتسابا ولن يتم ذلك إلا بعد غربلة التاريخ ، وتخليصه من المبالغات و الفذلكات و الأكاذيب ، وعرضه عرضا ممحصا تنويريا يبعث على العمل لا على الفخر فحسب ، وينشط قارئه على القدوة لا على الذكرى ...، وهذا دور منوط بالمؤسسات الأكاديمية ، و المخابر العلمية ، و المجامع المتخصصة ، التي ينبغي أن تلقى الدعم و السند من الدولة و المجتمع على حد سواء . ونحن اليوم في أمس الحاجة إلى بلورة منهج متميز نصوغ به التاريخ الذي لابسه الغموض و التداخل وسوء التناول ، فنُعدّ أعمالا تاريخية بنائية تفكر في التاريخ وتفسره ، وتمضي بالتدرج الجاد إلى الحسم و الترجيح . ويتم ذلك في أطر من الشخصية الإسلامية المطلوبة ، التي تجمع بين التأطُّر والانفتاح ، فليست بتلك الشخصية المنغلقة الحسيرة ، و الساعية دوما إلى التقزم والانزواء ، ولا تهجس إلا بالخصوصيات ، ولا تحسن الخوض مع الآخر في شأن من شؤون العالم الذي نحن جزء منه ، كما أنها ليست بتلك العائمة الهائمة وراء موج هدّار من الثقافة المتدافعة ، تتسول ثقافة الآخر ، وتعيش على فتات موائد فكره ، دون أن يكون لها قرار من الخصوصية و المرجعية ، فهي وسط بين هذا وذاك . مع الحرص أن لا نستصحب معنا الشعور الدائم بالجبرية إزاء المخططات التي تُضبط ، والمؤامرات التي تُحاك ، فنصبح كأحجار الشطرنج يحركها غيرنا كما يشاء ، ومن ثم يعوقنا هذا الشعور عن النقد الذاتي لأنفسنا ومعرفة عللنا وأدوائنا ، والاجتهاد في تقصي أسبابها ، ومن ثم تشخيص ووصف الدواء الناجع لها . وإذا استطعنا أن تصوغ فصول هذا التاريخ على نحو متوازن ، وبمنهجية سببية واستقصائية ذكية متقنة ، فإننا تؤسس لمعرفة تاريخية قادرة على تقديم الفهم الراقي ، وقديرة على التأصيل لهويتنا ووعينا ...وكرامتنا أيضا !!.
12-10-2009 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=780 |