/
فلسفة العلم بحوث متقدمة في فلسفة الفيزياء، والعقلانية، والتزامن، والعقل والدماغ
بتول الجابري
الكتاب: فلسفة العلم بحوث متقدمة في فلسفة الفيزياء، والعقلانية، والتزامن، والعقل والدماغ تأليف: الدكتور صلاح الجابري الناشر: دار الانتشار العربي ـ بيروت، 2006. الكتاب الذي بين أيدينا ليس كتابا سهلا، إذ تتطلب قراءته معرفة واسعة بالنظريات العلمية الحديثة في علوم الفيزياء والفلسفة والفسيولوجي وعلم النفس والتزامن والاحتمال، لان الباحث دخل في نقاش مستفيض مع تلك العلوم مستنتجا جملة أطروحات فلسفية بمنهج عقلي محض، وكان الهدف من تلك المناقشة الواسعة إعادة بناء الفلسفة العقلانية انطلاقا من أطروحات العلوم الدقيقة. أشار الكاتب في المقدمة إلى أن الاطروحات العلمية الجديدة بحاجة إلى نقاش فلسفي دائم، محذرا في الوقت نفسه من أن التعميم الفلسفي نزوع خطير لدى الباحث، تشوبه سلبيات التسرّع، وتجاوز التفصيلات الدقيقة التي قد تنطوي على معاني ودلالات مهمة للفهم الفلسفي المعّمق. فالصور المتتابعة للكون التي تعرضها الفيزياء المعاصرة، تطيح التالية منها بالسابقة، فضلا عن حدوث خرق لبعض المبادئ العلمية الراسخة، لكننا نرى تسرّعات في الأحكام منشؤها الخلط بين المبادئ العلمية، والمبادئ الفلسفية. فظنّ عدد كبير من العلماء أن التطورات الجديدة في علم الفيزياء، سواء في النسبية الخاصة والعامة لاينشتين، أو النظرية الكمية (الكوانتم)، أطاحت بالمبادئ الفلسفية ذات الطابع العقلي المحض، مثل السببية، والاتجاه الطبيعي لحركتها، وبمبدأ عدم التناقض أحياناً، بل شملت إنكار الواقع الخارجي أحيانا كثيرة، كما أشار إلى ذلك أينشتين وانتقده بشدة. وحاول الكاتب أن يعرض تلك التطورات العلمية، كاشفا بذكاء عن أبعادها الفلسفية من دون إطناب، وتوسيع، معلقا على تلك التطورات، وأحكام العلماء العلمية والفلسفية حولها، مظهرا أن معظم أحكامهم الفلسفية كانت ضعيفة، يشوبها الغموض، والخلط بين الطريقة، والواقع الموضوعي، بل انطوى بعضها على مغالطات، حاول الكاتب الكشف عنها وحل إبهامها. ثم يوضح الكاتب دور الفيلسوف تجاه التطورات العلمية وطبيعة إسهامه في رفد المسيرة العلمية من خلال عقلنة الكشوفات وتوضيح طرقها المنطقية قائلا: ((صحيح أن العلماء لا يعنون كثيراً بالأبعاد الفلسفية لموضوعاتهم، لذلك لا يبحثون أمر تناقضها العقلي، أو تصادمها مع الأسس الفلسفية العقلية المحض، لذلك نراهم يُقرِّون أيَّ وضع مقترح للعالم، لمجرد أنه لم يشكل عائقاً أمام الاختبارات المعملية، والتطبيقات العملية، وإنْ لم يشكِّل جزءاً من الفهم الفلسفي المعقول تجاه العالم، لكن هذا لا يعني أن الفهم الفلسفي أمر أقلَّ أهمية من البحث العلمي الرياضي والتطبيقي. والحقيقة أن من مهام الفيلسوف التصدي إلى أي نوع من الكلام الخالي من المعنى، والمتصادم مع قوانين الفهم والعقلانية. وليس التصدي بالرفض، كما يفعل المتدينون أحيانا، بل بالتحليل، والنقد، لبناء رؤية عقلية تساهم في فهم الإنسان للعالم بشكل واقعي ومعقول. وليس أدلّ على هذا الانفصال بين العمل المختبري في مجال الفيزياء النظرية، والفهم العقلاني، من أن علماء الفيزياء الكمية أنفسهم لا يتعاملون مع مفاهيمهم الفيزيائية، الخاصة بهذا المجال، عندما يخرجون من مختبراتهم إلى العالم الخارجي، ويمارسون حياتهم الطبيعية مع الناس، لأنها مفاهيم يقتصر التعامل بها، والتصرف على ضوئها، في مختبرات الفيزياء فقط. ونحن نرى أن في ذلك دلالة على أن تلك المفاهيم والتصورات مجرد إجراءات عمل، لا أسس فهم، وفلسفة عامة)). في الفصل الأول، يناقش الكاتب فلسفة الفيزياء المعاصرة، متابعا تحول الفهم العلمي من الحتمية الكلاسيكية إلى النظرية الاحتمالية في الكوانتم. موضحا بأن كل مرحلة من تطور علم الفيزياء تفرض ثقافة معينة ونظرة معينة للواقع أقرت مفاهيم معينة واستبعدت مفاهيم أخرى، على سبيل المثال، أقرت الفيزياء الكلاسيكية، ذات القوانين الحتمية المقرّرة وفقا لشروط حسية، الاتصالية والحتمية والسببية الموضعية، واستبعدت مفاهيم مثل الوعي، واللاوعي، والانفصال، كما استبعدت مفاهيم ميتافيزيقية مثل الله والبعد الروحي، وغيرها، وقد شكل ذلك، في رأي الكاتب، دعماً للأيديولوجيا العلموية التي ظهرت كأيديولوجية طليعية وعرفت انطلاقة خارقة في القرن التاسع عشر. ثم ينقد الكاتب محاولات تعميم هذه النظرية الآلية وتحويلها إلى رؤية فلسفية منمذجة. في حين بدا أن الفيزياء الكمية أو الدقيقة خرقت شروط الإحساس واستبعدت بعض مفاهيم الفيزياء الكلاسيكية مثل الحتمية والاتصال، وأقرَّت مفاهيم أخرى مثل الانفصال والاحتمال واللاتعيين، وأعادت الاعتبار العلمي لمفاهيم أخرى الوعي واللاوعي والله والبعد الروحي. وحاول الكاتب بعد ذلك حل التضارب بين المجالين الحتمي واللاحتمي وخلق حالة من الانسجام العقلاني بين الطبيعة الإحصائية للظواهر الميكروفيزيائية (فيزياء الأحجام الكبيرة) والحتمية العلمية التي تخضع لها الظواهر الماكروية (الظواهر الكبيرة). فالحسابات التقريبية (الإحصائية)، ليست جديدة، وإنما هي موجودة حتى على مستوى الظواهر المرئية بالحواس. فوجود قوانين احتمالية (إحصائية) على مستوى معين من مستويات الواقع، لا يلغي القوانين الحتمية التي تحكم الواقع على مستوى آخر، فمن الواجب أن تبقى القوانين الحتمية، في ذلك المستوى، مرشداً لنا، ومنبّهاً على اختلاف الطرائق، مرجعه اختلاف نوعية الظواهر المدروسة، فقوانين العلوم الإنسانية مثلاً، قوانين إحصائية ـ تقريبية، وليست حتمية بقوة قوانين فيزياء الأحجام الكبيرة نفسها. ويشدد الكاتب على أن من الخطأ القول إن القوانين الإحصائية تشير إلى واقع غير حتمي، أو غير محدَّد، فالواقع في نفسه، يخضع لنظام حتمي، حتى إذا كانت تعبيراتنا عنه غير دقيقة، أو إحصائية، فإذا صدق وصفنا الإحصائي للواقع، في زمان ومكان محدَّدين، فوصفنا ينطوي على تعيين لواقع حتمي. ولذلك فإن القوانين الإحصائية هي تركيب تقريبي ينطوي على نسبة من جهلنا بالواقع، وهو جهل بسيط، مدرَك للإنسان، ولذلك يستطيع أن يتلافى عواقبه. وفي الفصل الثاني يناقش الكاتب منطق العلم الفيزيائي انطلاقا من الحقائق المنهجية الآتية: 1. لا تصلح التجربة معياراً عاماً للفكر بالرغم من أنها يمكن أن تكون منطلقاً له. 2. إن اتخاذ التجربة معياراً للفكر يفضي إلى تجريبية سلبية تستنكر كل فهم فلسفي شامل للكون، ولا تؤمن إلا بالعلم التجريبي، كمصدر وحيد للمعرفة. 3. إن المذهب العقلي هو المذهب الوحيد الذي يصلح لبناء نظام فلسفي عقـلاني منطلقا من نتائج التجربة العلمية، وهذه الأخيرة هي مجال واحد من مجـالات المعرفة، ولذلك يفسح المذهب العقلي مجالا للاعتراف بألوان المعارف الأخرى ذات الطابع الميتافيزيقي. 4. وبسبب اتخاذ التجربة معياراً للفكر عموماً انتهت التجريبية المعاصرة إلى إنكار المفاهيم الأساسية للفهم والعقلانية، منساقة وراء تحولات تركيبـات التفسـير العلمي التي خضعت لصياغات جديدة؛ بسبب الاكتشافات الجديدة التي أعطت صورة جديدة للكون. وعلى ذلك الأساس ينقد المذهب التجريبي والوضعي، متسائلا: كيف يتم الانتقال من النتائج العلمية إلى التعميم الفلسفي؟ يجيب الكاتب: بأننا نجد في تاريخ الفكر الفلسفي طريقتين في هذا التعميم، الطريقة العقلية التي تناقش النتائج في ضوء القوانين القبلية للعقل لضمها إلى الرؤية الفلسفية العقلية للعالم. والطريقة التجريبية التي لا تؤسس النتائج عقلياً؛ لأنها ترفض أي مبادئ عقلية قبلية يمكن أن تتأسس عليها النتائج التجريبية، ولذلك فالاستناد يرتكز على التجربة والواقع التجريبي نفسه. ولا تصلح الطريقة التي يتبناها المذهب التجريبي للتعميم الفلسفي، فهذا التعميم يستمد مقوماته الأساسية من القواعد القبلية للعقل، في حين ترجع هذه القواعد أو المبادئ نفسها عند التجريبين إلى التجربة، وهذا يعني لديهم أن التجربة والتعميم لا يستندان إلى قاعدة عقلية صرفة، وهذا في رأي المذهب العقلي ما يجعل البناء الفلسفي مستحيلاً. ونصل من ذلك إلى نتيجتين الأولى أن التجريبية إذ تلغي الأسس القبلية للمعرفة تجعل المعرفة الفلسفية متحولة ومتغيرة مع تغير الصورة العلمية، في حين يبقى البناء الفلسفي في نظر المذهب العقلي قائما وإن تغيرت الصورة العلمية بالرغم من ضرورة القيام بعمليات تصحيح لبعض جوانبه وتوسيع مداه المعرفي انسياقا مع التطور العلمي. فالمذهب العقلي ينظر إلى الرؤية الفلسفية الكونية بأنها رؤية واقعية تصف وتفسر واقعا قائما بالفعل، والمسألة الواقعية ( الحقيقة ) لا تتغير ماهيتها وهويتها، إنها مكتملة وجوديا وتسعى الجهود العلمية إلى اكتشافها، لا خلقها أو تحويرها. والنتيجة الأولى السابقة تنتهي، في المطاف الأخير، إلى إلغاء الميدان الفلسفي برمته، وهذا ما انتهت إليه المدارس الوضعية المعاصرة. ويتناول الكاتب في الفصل الثالث موضوعا مهما يتعلق بتوسيع دائرة التفسير العلمي استنادا إلى مفهوم التزامن وليس السببية الموضعية التقليدية، ويرى الكاتب بان التزامن يفترض عالما موحداً، وقد نعثر على هذه الصورة المترابطة للعالم في الفيزياء المعاصرة وعلم نفس الأعماق عند كارل يونك. ويستشهد الكاتب بأمثلة عن الظواهر التزامنية مستقاة بشكل دقيق من الفيزياء الكمية (متباينات هايزنبرك) وعلم النفس والباراسيكولوجي أحيانا. وقد عقد مناقشة مستفيضة بين هايزنبرك واينشتين. ويرى الكاتب إن تزامن يونك تواجهه معضلة فلسفية. ذلك إنه يفترض لا انفصالية الكون أو التناسق الأزلي الذي يفرض التناظر على أجزاء الكون كافة من دون حاجة إلى وجود علاقات سببية أو تفاعلات سببية كما طرحته أمثلة ريفز عن الانحلال التلقائي لذرات بعض المواد الكيميائية، وبندول فوكون، وتناقض اينشتين ـ بودولسكي ـ روزين، وكما طرحته نظرية التوازي اللا سببي بين المجال النفسي والمجال الفيزيائي لدى يونك. وهذا التصور مشابه لتصور لايبنتز للكون بأنه مؤلف من وحدات روحية ((مونادات)) غير متفاعلة ولا سببية لكنها متناظرة، انعكاسية، ومتصلة تزامنيا. لكن هذا الاتصال السلبي ألا يفرض السكون على الكون ويلغي الحركة والتغير، الأمر الذي يتناقض مع الصورة الواضحة للكون المرصود علميا؟! ويرى الكاتب بأنه ما لم يقدم المؤمنون بالتزامن طريقة للتمييز بين الأحداث التي تحدث بالصدفة النسبية والأحداث التزامنية ذات المعنى، فإن المسألة تبقى غامضة وعرضة للشكوك. ويعود الكاتب بالتزامن إلى سببية أعمق إذ يقول: ((على الرغم من أن يونك يجعل هذا التزامن، بين المجال النفسي والمجال المادي، علامة على اتصال كوني، ووحدة كونية عميقة، تقع خلف ثنائية الذات والموضوع، أو الوعي والمادة، إلا أنّ المفارقات واضحة، فالتفاعل بين المجالين النفسي والمادي يتم تصوره عند يونك طبقاً إلى نظرية التوازي التي تفترض توازي العمليات الذهنية مع العمليات المادية من دون فرض سببية بينهما. والتوازي اللا ـ سببي هو عدم تفاعل، وبالتالي انفصال بين المجالين النفسي والمادي، وإذن بأي معنى يكون الاتصال أو ((اللا ـ انفصال))؟ فإذا أرجعنا الاتصال إلى بعد أعمق من البعد الذي يتجسد فيه التوازي ((التزامن)) هو ذلك البعد النفسي ـ المادي العميق الذي تنبثق منه الأنماط البدئية، بمفهوم يونك، فإنّنا، بمعنى ما، نعود إلى نوع من الاتصال السببي، وهنا يكون الأمر أشبه بإحالة الظاهر الغامض إلى العمق الذي تتصل به الأحداث مع بعضها عبر سببية وتفاعلية معينة. وهنا تبدو الأحداث التزامنية، النفسية، والفيزيائية ـ الكمية، كالنباتات الطافية على سطح البحر، التي تبدو منفصلة ظاهرياً، لكن تشتبك مع بعضها في أعماق البحر)). وفي الفصل الرابع يناقش الكاتب مفهوم العقل لدى المدارس الواحدية المادية والثنائية، مستندا إلى معرفته الواسعة بالمذاهب الفلسفية والنظريات الفسيولوجية وعلوم الدماغ، فيتجاوز النظرية المادية الواحدية، والنظرية الثنائية التقليدية، ليعود بالمسألة إلى نوع من التواصل الوجودي بين العقل والمادة، لكن هذا التواصل الوجودي تدرجي ارتقائي على النمط الذي حدده صدر الدين الشيرازي في ما يسمى بالحركة الجوهرية والوجود التدرجي، أو المفهوم التشكيكي للوجود.
28-10-2009 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=785 |