/
الألسُنيّات لإحياء الكَفاءة في فهمٍ الإسلام والحَياة كيف يَرتقي المسلمون من طَور الجُمود إلى طَور الحَركة
محمد الحمّار
مِن "الجُمود" إلى "الحركة" و من أجل إعلان" باب الاجتهاد غير مغلق" وابتغاء "نظام عالمي عادل". ذلك ما أكّد عليه علماء الإسلام المجتمعين في صائفة 2009 بجامعة كشمير الهنديّة مُنوّهين بمَوقف كل من الإمام الغزالي و "شاعر الشرق" محمّد إقبال من "عقيدة الحركة"، مؤكدين أنّ "الحياة لا تتحمّل أن تكون جامدة وأنّ الحركة إنما هي طبيعية." (1) الكلمة كلمةُ حقّ ولكن هل هي كافية لتروي عطش مليارٍ ونصف من صائمي الحضارة وَ لِتُغنيهم من جوع؟ ما من شك أنّ "عقيدة الحركة" وسيلة فعّالة لاستنهاض هِمم الأمّة وحَثها على النهوض بنفسها، إلاّ أنّ هنالك إشكالية منهجية يُحدِثها مثل ذلك القول الذي حظي بإجماع مؤتمِرِي جامعة كشمير. إنّ مثل ذلك القول يبقى ناجما عن عقلية "علم الكلام" والتفسير التقليدي للقرآن الكريم. ولئن وضع العلماء المُجتمعون بجامعة كشمير، مَشكورين، الإصبع على واحد من أبرز الروافد اللازمة لارتقاء المسلمين، فالخشية من تواصل "الجمود" الذي أعربوا عن استنفراهم إزاءهُ لا تزال واردة وذلك لسبب بسيط : "ليس الإيمان بالتمنّي بل ما وقّر في القلب وصدّقه العمل" كما يقول الأثر(2). فمَن الذي سيعمل بمبدأ "الحركة" إن كان العلم لم يتمّ بعدُ إدراجُه في صدارة ترتيب أدوات الاجتهاد؟ وهل يتمتّع بعدُ المُجتهد الذي سيضع مفهوم "الحركة" نُصب عينيه بمناخ فكري يولِي عناية مركزية للكفاءة في فهم القرآن خصوصا، وفي فهم الإسلام عموما، ناهيك أنّ مقولة "فهم مُعاصر للإسلام" أضحت واحدة من الشمّاعات التي يبرّر بها العقل العربي والإسلامي فشلَه ويتمادى بواسطتها في الاستبداد الفكري، وذلك بمُحاولاته اليائسة لِلإسقاطِ،على عَقلِ الأُمّة قاطبة، "فَهما" ورُبّما "أفْهاما" لا تزيدُ وُجودَ الأمّة سوى التعقيد تِلْوَ التعقيد؟ إنّ "الحركة" عِلمٌ ولن يَسمح بالخوض فيها وفي أسبابها وظواهرها وفوائدها وطُرق تناوُلها إلاّ العلم.فهل سنبقى قابعين في سدّة "علم الكلام" أم سنعمل بـ"كلام العلم" (3)؟ ولأننا نعتقد أنّ القرآن قد انتهى تفسيرُه بتلك الطرق القديمة، فإننا نقترح استخراج معانٍ خَفيّة من بين معانيه، التي لا تنفذ، بطريقة العلم وبالاستئناس بالتفاسير المُتداوَلة. وفي هذا السياق نَميل إلى الاعتماد على اثنين من العلوم لِما بينهما من شراكة في تبيين أهمية "الحركة" في الحياة المعاصرة وكذلك لِما يشتمل عليه كلاهُما من أدوات ذات صلاحية لاستيعابِ معاني القرآن الكريم في هذا الزمان وفي كل مكان. والعِلمان الاثنان هما أوّلا نظرية "الفوضى" (البنّاءة) لإيليا بريغوجين وأسلافِه وأتباعِه، وثانيا ومن باب أولى وأحرى نظرية "النّحو التوليدي والتحويلي" في علم الألسنيات. لكن توازيا مع النظَريَّتين العِلميتين، لابُدّ لنا أن نتدبّر القرآن وكذلك الواقع المعيش لكي نقدرَ على إماطة اللثام على ما قد يُفيدنا من ظواهر وخصوصيات "الحركة". ونحن نفترض أن لن تكون الإفادة حقّا مُفيدة في المرحلة الراهنة من النضال الفِكري للمسلمين إذا لم تكُن نتائجُ أيّة دراسة من النوع الذي نَحن بصدد إنجازه مُوظَّفة خير توظيف في أُنموذجٍ ما أو مثالٍ ما يتّسمُ بإدماج المعرفة من صنف "ما قبل العلم": القرآن الكريم، مع المعرفة من صنف العلم: نظرية "الفوضى البنّاءة" ونظرية "التوليد والتحويل".فإلى أيّ واقع سنتحوّل؟ من النظام تتولّد الفوضَى ومن الفوضَى يتولّد النظام؛ ذلك ما أكدَته نظريات إيليا بريغوجين استنادا إلى ثورة الديناميكا الحرارية في الفيزياء. وبناء عليه، أعتقد أنّه بالإمكان أن نُضفِي على هذا الكلام معنى ينفعُ المؤمنين، قارئي القرآن الكريم ومُريدي تأصيل إيمانهم في واقع حياتهم. أعتقد إجمالا أنّه بالإمكان أن نستخرج من القرآن الكريم (النظام) عناصر متفرقة لم يتمّ تسليط الضوء عليها بعدُ (فوضى بنّاءة) ثمّ نُدمجها في كيان أو بناء أو هيكل أو بنيان أو تركيبة (نظام) يسمح بها العلمُ المستخدَم كوسيلة لهذا الغرض. وإذا اعتبرنا أنّ"التوليد والتحويل" حركة في حدّ ذاته، نقْدرُ إلحاق هذا المبدأ التشُمسكيّ(4) المستند إلى نظريات كبار الفطريين السابقين في الفلسفة والعلوم الدماغية وخاصة منهم روني ديكارت وبرتران روسل .فالألسنيات هي العلم الذي نقترحه وسيلة للغرض المذكور(5).فماذا يقول تشُمسكي عن "الحركة" سارِدًا برتران رُوسل؟ إنّه يقول إنّ "مِن الدماغ الإنساني تتولّد قواعد النحو والممارسة اللغوية من دون تعلّم سابق"؛ ذلك ما يُصرّ عليه العلاّمة وأنصاره من مدرسة الفطريين والولاديين(6).ويشتمل منظور تشمسكي الفلسفي واللغوي على صفات عديدة تدْخُل في الحِسبان لمّا يكون الإنسان بصدد ممارسة التكلّم. ومن هذه الصفات نذكر اثنَتين فحسب بناءا على مركزِيتِهما في دراستنا هذه، وهما: أوّلا، أنّ الممارسة الكلامية "عملية" ونسق وسيرورة ومسار، وليست تقليدا أو عادة أو اكتسابا. و ثانيا، أنّ الوسيلة الطبيعية والفطرية التي يستخدمها الدماغ أثناء إجرائه لـ"عملية" التكلّم هي الـ"استقراء" (بالانكليزية "إِندَكْشِنْ" على عكس "دِدَكْشِنْ" وهو الـ"استخراج"). فحين يغُوص الباحث في الواقع المَعيش بالتوازي مع الواقع اللغوي من جهة، وفي القرآن الكريم بالتوازي مع نظام اللغة من الجهة الثانية، ابتغاءَ إبراز التشابه بين تركيبة (من تركيبات) الإسلام الخفية بين سطور كلام الله العظيم وبين تركيبة اللغة، وهو تشابه بيّنّا بعض أوجُهه في مقالات سابقة (7)، سوف يميلُ إلى افتراض أنّ الشريعة السمحاء هي "نحوُ الإسلام" ثمّ يلتزم بإثبات أنّها قد تكون هي الأخرى، مثل "النحو" في نظرية تشمسكي، حاملة لِصِفة "التوليد والتحويل"، ما يحفِزُه على محاولة بيانِ أنّ، زيادة على أنّ الخير والشر مُتأصّل في نفس البشر( وهذا معروف لدى المُسلم)، فإنّ الجزاء والعقاب قد يكونا هما الآخران مُسجّلان في جينات الإنسان وأصلُهما ثابت في عقل الإنسان وفي نفسِه، تماما مثلما ثبت تجذّرُ أصول قواعد اللغة فيه. وفي هاته الحالة، وباعتبار أنّ الشريعة الإسلامية هي الوَجه الظاهر للجزاء والعقاب،فالباحث مُطالَب بِبَيانِ ما إذا كان الأجدرُ بالمُسلم أن "يستقرأ" قوانيها من داخل عقله و نفسه،مثلما "يستقرأ" طالبُ اللغة قواعد النحو منهما، عوضا عن الاكتفاء بـ "استخراجها" من كتاب الله العزيز مُوصِدا السُّبل الطبيعية والخَلْقية المُؤدّية إلى أغوار العقل (بما فيه العقل المُتدَين) والنفس (بما فيها النفس المُتديّنة)، أعني أغوار ما ألِفنا تسميَتَه بالمُمارسة الدينية. من خلال المشهد الأوّل للمُقارنة (بخصوص صفة "الحركة" في اللغة) وعلى سبيل الحَوصلة لِما تقدّمنا به، نستنتج أنّ اللغة مُمارسة، ونُضيف أنّ هذه الممارسة هي التي تَصنع النحو وليس العكس، حسب التقويم التشمسكيّ.وطالما أنّ ذلك كذلك فإنّ التوجّه الذي يُميّز عملية التكلّم سوف يكون كالآتي: أصول قواعد اللغة ثابتة في الدماغ، ومنها تنطلق مُمارسة التكلّم، ومنها يتمّ تكوّن قواعد النحو بعملية الـ"استقراء" . مع العِلم أنّ المُمارس، في المُعادلة التشمسكيّة، لا يجب أن يَغُرّه وجود كُتب النحو في المكتبات.فذلك لا يجبُ أن يعني أنّ النحو المُبُوّب بصفة أكاديمية مقدّمة لمُمارسة اللغات. أمّا المشهد التّالي للمُقارنة (وهو يخصّ التديّن) فسيقدّم لنا الإيمان بمثابة الممارسة ("ليس الإيمان بالتمنّي بل ما وقر في القلب وصدّقه العمل")، وكَون أصول المَيل إلى الإيمان ثابتة في التكوين البيولوجي للإنسان(8)، وكَون الشريعة الإسلامية تفوق وتتجاوز وتتعالى عن المُمارسة. والذي يتبقّى عندئذ من المُعادلة هو: ماهي علاقة الممارسة الدينية بالشريعة؟ ألا يمكن أن تكون مُماثلة لعلاقة الممارسة اللغوية بالشريعة؟ وإن كان الأمر كذلك، ماذا يجب أن يتغيّر(يتولّد ويتحَوّل) في منظومة التدَيّن؟ بادئ ذي بَدْء، ماذا يقول القرآن عن التوليد والتحويل في خَلق الحياة؟ التوليد والتحويل من سُنن الله في الخلق. فهو تعالى "الذي يُحيي ويُميت" و"يخرج الحيّ من المَيّت"(الروم 30 : 19) و"مُخرج المَيّت من الحيّ (الأنعام 6 : 95) والذي "أحياكم ثم يُميتكُم ثم يُحييكُم"(البقرة 2 : 22).وهو سبحانه الذي ولّد الحياة من الماء: "جَعَل من الماء كلَّ شيءٍ حيّ"(الأنبياء 21 : 30)، والذي يحوّل نهارنا إلى ليلنا من دون أن يفاجئ سبحانه فطرتَنا بهذا التحويل: "يولجُ الليلَ في النهارِ ويولج النهار في الليلِ"(لقمان 31 : 29)، والذي سخّر لنا تحويل المادّة إلى طاقة: "الذي جَعل لكُم من الشجَرِ الأخضرِ نارًا فإذا أنتُم منه تُوقِدُون"(ياسين 36 : 80)... وماذا يقول القرآن عن التوليد والتحويل بإزاء الإيمان ؟ فلا عَجب إذَن إن اعتبرنا التوليد والتحويل من سُنن الله أيضا في تعويد المسلم على التعامل السليم مع قوانين الشريعة السمحاء وذلك من خلال الممارسة اليومية لمناسك الدين الحنيف والعملِ من أجلِ تثبيت الإيمان. والله عزّ وعلا وعَدَ خَلْقَه بأن يساعدهم على اكتشاف السنن والسبُل الدالة على انّه حقّ :"سنُريهم آياتِنا في الآفاق وفي أنفُسهم – الآية" (فُصّلت 41 : 53). وهو الذي يحثُّ الإنسان عُموما على إعمال العقل ويدُلّه على مَكمَنِ "التفكّر"، ألا وَهوَ داخل النفس : "أوَلَمْ يَتفَكَّرُوا في أَنفُسِهِم ما خَلَقَ اللهُ السّماواتِ والأرضَ إلاَّ بالحَقِّ- الآية." (الروم 30 : 8).كما أنّ سبحانه هو الذي يبدّل السماء من لَون إلى لَون، والتوقيتَ من الليل إلى النهار لِيجعَله مُلائما للإنسان المسلم في حياته ونُسُكه مثل فريضة الصيام وما تَبِعها من سحور وغيره:" وكُلوا واشربوا حتى يَتبَينَ لكُم الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسودِ مِن الفَجر"(البقرة 2 : 187). كما أنّه سبحانه يُطَمئِننا بتأكيده على تداول الفرح والترح وتداول الخلاص والعراقيل بحُكمِه جلّ جلالُه: "فإنّ مع العُسر يُسرا"(الشرح 94 : 5) و كذلك بوَعده أن "سيَجعلُ اللهُ بعدَ عُسرٍ يُسرا"(الطلاق 65 : 7). وحتّى الصلاة، فبالإضافة إلى كَوْنِ الخالق يُقدّمها دَوما في صدارة المناسك (عِماد الدّين)، فهوَ يُوَفّر لنا فُرصة رُؤيتها، هي وما يُرافقها من واجبِ فِعل الخَير، في صدارة تمشٍّ مُنقذ من الضلال، له صفات "التحرّك" المُمَيِّزة لكلّ سيرورة أو مَسارٍ. وهذا التمشّي الإلهي نَلمسُه من كلام لُقمان إلى ابنه، إذْ جاء في مُحكَم التنزيل:"يا بُنيّ أقِمِ الصلاة وأمُر بالمعروف وانْهَ عن المُنكر واصْبِر على ما أَصابَك إنّ ذلك من عَزمِ الأُمور"(لقمان 31 : 17)... وما قولُ الحياة في التوليد والتحويل من منظور التجربة الوجودية لِخَلق الله؟ ماذا عن الممارسة اليومية لمبدأ التوليد والتحويل حتى في صورة افتراض عدم توفّر كتابٍ عظيم اسمُه القرآن لدى الإنسان؟ ألَمْ يتعامل المرء، بدون اعتبار "الشرعة و المنهاج" (وَردت الكلِمتان في سورة المائدة 5 : 48) التي سينزلها له الله، بمبدأ التوليد والتحويل بصفة فطرية وولادية؟ فلمّا يتوجه رجلٌ مهَدَّد، مثلا، في مُمتلكاته إلى رجل يُهدّده بسرقتها منه، قائلا له :"إن تأخذ كذا مني فسوف أقطع يدك"، لا يقولها فقط مَن تَربَّى على حدّ قطع يد السارق في الإسلام وما جاء معه من حُدود أخرى في الشريعة الإسلامية السمحاء، بل يقولها أيضا كلّ من ينفعل بالفطرة ضدّ عمل الشرّ فيسنّها كأقصى عقوبة لفائدته ولِرَدع أو عقابِ من هَدّده أو من اعتدى عليه. يقولها زوجٌ غاضب تشنّجت أعصابُه على إثرِ سلوكِ امرئ يُعاكسُ زوجتَه ويُراودها عن نفسها أو رُبّما زنى معها، فيقرّرُ قائلا:"بسبب فظاعة صنيعك سأُرسلُ إليكَ من سيُؤدّبك فينهالُ عليك ضرْبا حتّى الموت إن لزم الأمر"، لا يتفوّه بمثل ذلك الكلام فقط من تربّى على معرفة أنّ عقاب الزاني في القرآن هو الجَلد، بل يتفوّه به القاصي والدّاني من خلق الله ممّن غلَبَهم الغيظ فانساقوا إلى أساليب، عنيفة لا محالة، ولكنّها طبيعية وفطرية. أعتقد أنّ من الطبيعي أن تسمع كلاما مثل كلام الرجُلَين على لسان الهنديّ والصينيّ والهندوسيّ والكنفوشيوسي والزردُشتي وغيرهم. من المُتأَكّد أنّ وصايا الثأر والانتقام وغيرها مثل تلك الصادرة عن الرجُلَين، على غرار وصايا فِعل الخير والصدقة ومساعدة ضِعاف الحال، والحِفاظ على علاقات صلة الرحم و القرابة وعلاقات حُسن الجِوار وغيرها، كان مَعمولا بها في الشرائع البشرية القديمة، قبل مجيء التوراة ثم الإنجيل ثم آخر الكتُب، القرآن العظيم، ما يُبَرهنُ على أنّ الإنسان مجبولٌ على سِماتِ التنكيل بنظيره الإنسان لَو مسّ عرضَه أو شرفَه بسُوء مثلما هو مجبُولُ، في المُقابل، على سِمات نُكران الذات والتواضع والاعتراف بالجميل. وماذا يقول القرآن في التوليد والتحويل من خلال التجربة الوجودية للإنسان، مخلوق الله؟ أعتقد أنّ الإنسان لَو جرّد نفسه تماما، من باب التجربة المخبَريّة، من ثقافة الدين ومن "الشرعة والمنهاج" الذي سيخصّه به الله (لِيُنجيه لا محالة من الاعتباط وإهدار وقته في التخمين والتدبّر في ما ليس فيه تدبّر)، ثم لَو جرّب الإنسان رَصْد ومُساءلَة نَواميس وسُنن الفطرة التي هو مجبولٌ عليها، في المستوى الأزلي، من طرف خالقٍ دارٍٍ: "إنّا خلَقنا الإنسانَ من نُطفة أمشاجٍ نَبتليه فجَعَلناهُ سميعاً بَصيراً- إنّا هَدَيناهُ السَّبيلَ إمّا شاكِراً وَ إمّا كَفوراً"(الإنسان 75 : 2 و 3)، سَوف يتوصّل إلى نتيجة باهرة؛ سوف يكتشف أنّ علاقته بمثيله الإنسان وبالطبيعة وبالبيئة وما في هذه العلاقة من تواصل أصليّ مع الخالق، فاطرِ السماوات والأرض وما بينهما، إنما هي علاقة محكومة، بدرجات متفاوتة لا محالة بمبدأ التوليد والتحويل. وقد تكون استحالة تقريب الدرجات هي التي تُمثّل سنَدا قويّا لفائدة تنزيل الشرائع السماوية عموما والشريعة الإسلامية على وَجه الخُصوص، ولكنّ هذا الأمر لا هُو من مشمولاتنا ولا هُو من أغراض هذه الدراسة... فالإنسان، بصَرْف النظر عن كونِه مُسلِما، في داخله الخيرُ وكذلك الشرُّ: "ونفسٍ وما سَوّاها، فَألهَمَها فُجورَها وتَقواها"(الشمس 91 : 7 و8 ).كذلك يُرينا سبحانه الشاكلة التي خلقَ عليها الإنسان.حينئذ ما على الإنسان إلاّ أن يختار: "إمّا شاكِراً و إمّا كَفُوراً". وهو اختيار من الداخل، من داخل الهَدي الذي في دماغه وعقله ونفسه: "وهدَيناه النجدَينِ" (البلد 90 : 10). والاختيار من الداخل هو التوليدُ والتحويلُ. وما سيختارُ الإنسانُ هكذا توليدَهُ هو من هُدى الله؛ إمّا قوانينُ الفطرة الطيّبة: " شاكرا"، وهو ما يَرتضيه له الله؛ وإمّا قوانين الفطرة الرديئة: "كَفُورا"، وهو ما يَحُثه الله على اجتِنابِهِ. كما أنّ صفة التوليد والتحويل وردت في تفسير ابن كثير للآية الكريمة "سنُريهم آياتِنا في الآفاقِ وفي أنْفُسِهِم- الآية" (فُصّلت 41 : 53) حيث يقول:" أيْ سنُظهرُ لهم دلالاتنا وحُجَجِنا على كَون القرآن حقّا منَزّل من عند الله، على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدلائل خارجيّة من الفُتوحات... ويُحتملُ أن يكون المُراد ( من "وفي أنفُسِهِم") ما الإنسان مُرَكّبٌ منه، من المواد والأخلاط والهَيئات العجيبة…"(9) (10) ولكَي نُنَزّل حديثنا إلى واقع العالم اليوم وعمل الإنسان فيه، دَعْنا نرى كيف أنّ طريقة التوليد والتحويل لتلك القرارات بوَصفِها قائمة على قوانينَ مجبولٌ عليها الإنسانُ إنّما هي نُسخة طبق الأصل لِما أنجزته العلمانية، على أرض الواقع وعلى الميدان، في التاريخ المُعاصر للمسيحيين (واليهود تباعا).فالإنسان الذي افترضناه جدَلا مُجرّدًا من الشرائع وُجدَ فعلا. بل قَلْ هو مازال موجودا. وهو المُواطن المسيحي (واليهودي، ورُبّما أيضا الياباني والكوري والصيني...)، الذي عُرف،و ما زال يُعرَف، بحُسن توظيفه للائيكية/العلمانية. يُمكن أن نُعرّفه الآن، في ضوء تعريفنا للتوليد والتحويل، بأنّه مواطنٌ نَزَع عن طواعِية كِساء الدين والتديّن (كلّ دين) في ممارسته للحياة وللشأن الاجتماعي العام،أو بذَلَ قُصارى جُهده ليفعل ذلك، ما جعله يفترض نفسه إمّا غيرَ مُسَيّرٍ بالمَرّة من لدُن قوّة خارقة (الماأدريّون والمُلحِدون النُّفاتيّون) وإمّا مُسَيَّرًا بصفة جُزئية ، أي مُحافظا على عذارة خلدِه من الركون إلى التسيير الإلهي في شؤون السياسة وتسييرالحياة العمومية و دواليب الدّولة. فالذي حَصل بخُصوص نمَط "التَّعَلْمِن" المسيحي اليهودي، كنتيجة لذلك، أنّ العلماني نجَح إلى حدّ بعيد في صيانة قوانين الفطرة الطيبة بالرغم من إذعانِه، بالتحديد الإلهي، لمشيئة خالقٍ دارٍ بأسرار هذا الكون. والذي حصَل أيضاً أنّه لقِي نفسه مجبُولا على توليد وتحويل قرارات اللَّوم أو الاشمئزاز أو الزجر أو العقاب أو الثأر من داخل تركيبته العقلية والنفسية، وكذلك على توليد وتحويل قرارات المكافأة مثل الشكر أو الاعتراف بالجميل، انطلاقا من وضعية مُعيّنة، سيّئة مثل التعرّض إلى الخيانة أو السرقة أو الإهانة أو الاضطهاد، أو طَيبة مثل إسعاف المريض أو نجدة الغريق أو إطعام المسكين.ومن ثمّة قام هذا الإنسانُ، الذي اختار التجرُّد من الشرائع السماوية (في الإيمان وفي السياسة فقط، أو في السياسة فحَسب) أن يُترجِم ما أسفر عنه استخدامُه للأداة التوليد والتحويل من مشاعرَ وعواطفَ وأفكارٍ وآراءٍ ومواقف و قراراتٍ، على قانون سُمّي بـ"الـقانون الوضعي" وعل مواثيق جدّ هامة وجدّ متطوّرة تخصّ الحريات الأساسية وحقوق الإنسان والحقوق المدنية وحقوق المرأة وغيرها. هكذا نُدرك أنّ أولئك العلمانيين الأصليّين فرّقوا بين دينهم (المسيحية وتباعا اليهودية وغيرها ما عدى الإسلام) وبين الدولة والحياة قبلَ أن يَنكبّوا على التفاعل الفطري والولادي مع الحياة ومع إدارة الشأن العام بالسياسة. وقد يَفهم مُعظم المسلمين أنّ ذلك شيء جميل وأنّ هؤلاء قد أنجزوا ذلك بالاحتكام إلى وسائل العلم؛ وأنّ هذا إنجازُ أجمل. وقد يستنتج كثير من المسلمين، ممّن يبغون الإقتداء بهم، أنّ من أعظم إنجازات هؤلاء أنّهم قد قرؤوا الواقع بالعِلم عوضا عن الدين وأنّه ثبت لديهم أنّ العلم وحده يوصل أتباعه إلى أعلى مراتب الرّقيّ والحضارة. ولكن، باعتقادنا، يجب على المُسلمين أن يُدركوا أنّ هذا الأمر الأخير من أخطر التهديدات على المسيرة الفكرية والوجودية لديهم، إذ أنّه جدُّ مَشكوكٍ فيه تاريخيّا وسيكولوجيّا بالخصوص، كما سنرى إجمالا. "هيهات"، نَسوقها لكل واحد منّا انبهر بما وصل إليه الغرب بلائيكيته (علمانيته) من تقدّم ورُقيّ. فَهُمْ ليسوا نحنُ، ونحنُ لا يمكن أن نكون مثلهم. لا يُمكنُنا استنساخ هذا التمَشي اللائيكي/ العلماني من عند المسيحيين ومن تبِع تمَشّيهم. لماذا؟ لأنّ أنموذجهم غير قابل للاستنساخ من ناحية.فالاستنساخ له قواعد، ومن قواعده التوليد والتحويل انطلاقا من الخلايا الأُم. فهل تَربتُهم الثقافية والعُقدية والتربوية هي تُربتُنا حتى نتفاءل بنجاح استنساخ أنموذج للحياة من لدُنهم؟ ولأنّ، من ناحية ثانية، الفرق بينهم وبيننا في التعامل مع نواميس الفطرة والولادة مثل نواميس التوليد والتحويل هو الآتي: هُم تَحَتمَ عليهم التعامل معها بالعِلم مع التجرّد من الدين، بينما نحن محكومين بالتعامل معها بالعِلم، مثلهم، لكن، وهنا تتنزّل المُفارقة المنهجية الكبرى،مع استحالة التجرّد من الدين.فقد سبق أن رأينا في هذا المقام وفي غيره أنّ دين الإسلام، دون سواه من الأديان السماوية أو غير السماوية هو دين الفطرة بامتياز. ولسائل أن يسأل: ما الذي أحدث هذا التباين الرهيب، أي كيف يكُون دينُنا دين فطرة ونحن لم نقدر على استجلاء واستبيان واستنباط، و( لكي نستعمل "الدّال" الألسني) لماذا لم نقدر على "استقراء" قوانين الفطرة بواسطته،أي لماذا لم نُطبّق الإسلام؟ أذلك مَرَدُّه الإيمان بالعلمانية كحَل ليس مثله حلّ لأنّها خيارٌ طبيعيّ ومتناسق مع النموّ الثقافي للبشر كافّة؛ مثلما هو سائد في أوساط علمانية عديدة من بين المسلمين؟ أمْ أنّ مرَدّه زوالُ الرغبة في الإسلام كدينٍ صالحٍ للتطوّر؛ مثلما هو سائد لدى البعض الآخر من العلمانيين من بني هذه الأمّة؟ أم أنّ الرغبة في تحيين الإسلام موجودة ولكن تصحبُها قُدرة عجيبة على الحِفاظ على الأوضاع الفكرية والتربوية والعُقدية السائدة، مع العِلم أنّ التُّربة التي يترعرع فيها هذا النوع العجيب من القدرة السالبة ما هي إلاّ تكريرٌ لفقدن الكفاءة في فهم الإسلام والحياة معًا؛ مثلما لا يعتقد أحد ولا يُريدُ أحدٌ أن يعتقد؟ قبل الإجابة المباشرة نقول إنّ ترْك الإسلام في ثقافتنا لا يُعَدّ حلاّ جميلا مثلما هو في ثقافة الآخرين. بل بالعكس، ترْكُ الإسلام لفائدة العلمانية هو إعلان بالفشل للمنظومة الفكرية والعلمية والثقافية عندنا بتمامها وكمالها.و كلامُنا هذا ليس دَحْضا للعلمانية بأيّة صورة من الصور. بل بالعكس، إنّه اعترافٌ بأنّ العلمانية إنّما هي مهارة تُكتَسَب، مثل سائر المَهارات المُبَوّبة تعليميّا وتَربَويّا في خانة "الاكتساب". إنّه نِداء (مَوصولٌ بالعَضُد العِلمي) من أجل العمل على تحصيل المَهارة العِلمانية بواسطة الدخول من بوّابة دون سواها؛ الدخول من بوّابة التأصيل الفكري فالثقافي ثمّ يأتي دَور السياسي، عِوضا عن التمادي في المُخاطرة بولوج بوّابة مُحكمة الغَلق، إن لَم نَقُل تَفتحُ على متاهات لن تسمحَ لِمَن جرّب وُلوجَها الخُروج منها ثمّ العودة إلى قواعده سالِمٍا و مُعافًا: بوّابة الاغتراب والاستِلاب بواسطة الاقتداء الحَرْفي بالغرب العِلماني. إنّ ما نرمي إليه هو بَيانٌ بأنّ الإسلام يَسمح، في مساحات لا تزال عَذراء في ما بين سطور القرآن والحديث، رغم إعلانٍ ضِمني بإتمام تفسيرها من طرف عُلماء الدين والمُفسّرين، بقراءة لِمسائل التقدّم، تكونُ أكثرَ تطوّرا وأكثرَ تلاءُمٍ مع واقع المسلمين وعقلياتِهم من ذلك الشكل من العلمانية الذي نشأ في بيئة غربية (11). نقصُد أنّه قد آنَ الأَوان لأن ينكَبَّ المفكّر العربي والإسلامي على تحويل وِجهة اهتمامه وانشغاله، بل قُل وهَوسه، من وِجهة إلى وِجهة أخرى أكثر تفتّحا وأكثر واقعية. فعِوضا عن التّهافت على ضمّ العلمانية في شكلها الخارجي ضَمًّا (مثلما يفعل اللائيكيون/ العلمانيون) أو ما يُقابِلها من تهافتٍ معكوس (على إعادة إنتاج أنموذج شبيه بالأنموذج الإسلامي التاريخي، وذلك من طرف الإسلام السياسي)، وجبَ على المثقفين العرب والمسلمين أن يُصوّبوا مهاراتهم في الفهم والإدراك والتمعّن وإعمال العقل نحو الإشكالية الأُم : إنّ الحِرص على توخّي العلمانية من طرف كثير من مثقّفينا صار حِرْصا على اعتناقِها وكأنّها تعويض للدّين. وهذا مرَدُّه حالة مَرَضية من النوع الفُصامي (12) كأنّي بها تجذبُ الشخصية العربية الإسلامية جذبا نحو حُلول الاستلاب وتدفعها دفْعا بعيدا عن أيّة مُحاولة للتطبيق العقلانيّ لِلإسلام، وذلك من دون توفّر سبب منطقي مؤكّدٍ ولا سبب حُقوقي مبيَّنٍ و لا سبب عِلمي مُجَرَّبٍ؛ من دون توفّر أسباب قوية المتن تخدم لفائدة التخلّي عن الإسلام.إذن، إذا توفّرت الإحاطة، هكذا، بلُبّ الإشكالية، فلم يبْقَ إلاّ أن يُحاول مُثقّفو العلمانية من المسلمين وكذلك نُظرائهم من الإسلاميين، طرحَ تلك الإشكالية الأُم من المنظور الآتي: ما الذي يمنعُنا من إنجاز قراءة مُتطوّرة للإسلام تكون، بتلاؤُمها مع عقلياتنا، كفيلةً بتوليد العشرات بل الآلاف من المعاني التي تُضاهي أو تفوت معنى العلمانية بالذات؟ بكلام آخر، كيف نُفسّر عدم جاهزيّتنا لتطبيق الإسلام؟ أليس تطبيق الإسلام مطلبا مركزيّا من مطالب الأمّة؟ وهل سوف لن يكفّ بعضنا على تخويف البعض الآخر بمثل هذا المطلب: بعضُهم بالترهيب بواسطة التنكيل بفَرَضية تطبيقه (العلمانيون) وبعضهم الآخر بتوخّي أساليب في الدعوة والتبليغ لم تعُد صالحة لِمَن يعيش بين المُسلمين، ناهيك لِمَن هو مؤمنٌ مُمارسٌ بَعْدُ، وما ينجرُّ عن هذا الأسلوب اللاّ بيداغوجي من تحوّلٍ لدَعوة الدّاعية وتبليغِ المُبلِّغ، في عُيون المسلمين أوّلا ثم في عُيون غير المسلمين ثانيا، إلى إعلانٍ تَهديد بتطبيق الإسلام (الإسلاميون)؟ لقد توفّر لدَينا بعدُ الشطر الأول من الإجابة لمّا أكدنا أنفا أنّ عملية الاجتهاد لم تتبنَّ بعدُ العِلم كأداة كاشِفة عن أغوار القرآن الحكيم، ما "ولّد" لدينا مرَضًا مُستحدَثا زيادة عن تلك العِلّة الأصلية، وهو التدافع من أجل الاقتداء بالغربيين في الابتعاد عن الدين، وما يقابله من تدافع على التطبيق الفوري لأحكام الشريعة من طرف من يرُدّون عن الاغتراب الخارجي بالاغتراب الداخليّ. هؤلاء يُخْلِطون بين دين لا يقول بأهمية العلم و الفطرة (المسيحية)، ما جعلَ دُعاتَه وأَتباعَه أوّل مَن تجَنّبوه في شأن السياسة وإدارة الحياة العامّة، وبين دين العلم والفطرة (الإسلام)، الذي هُو بطَبعِه مَدعاة للإتباع والصّيانة والتّكرير. وأولئك يُخلطون بين الدين والدولة بما لم يَسمح بِخَلْطهِ الدينُ نفسُه (13). أمّا الشطر الثاني للإجابة عن سؤال لماذا لم نُفلح في تطبيق الإسلام فهو الآتي: إذا كان المسلمون لا يتعاملون مع الشريعة السمحاء مثلما يتعامل طالب اللغات، أو المولود، مع اللغة، فكيف هُم يتعاملون معها في الوقت الراهن؟ إنّهم يتناولونها إلى يوم الناس هذا، وبسبب انغلاق المجتهدين على أنفسهم في باب علم الكلام (في الدين) وعلوم التفسير والاجتهاد التقليدية، مثلما لا يتناول متكَلّمٌ لغة يتكلّمُها ؛ أو لِنَقُل إنّهم يتناولون الإسلام ككُلّ مثلما كان متعلّمو اللغات في النصف الأول من القرن المنقضي يتناولون اللغة، أي قبل الثورة الألسنية التي أتى بها نعوم تشمسكي بفضل نظرية النحو التوليدي والتحويلي: جملة من القوانين/ الحُدود، المبوّبة داخل نظام النّحو/الشريعة وجب على المستعمِل أن يحفظها عن ظهر قَلب، بعْد "استخراجها" من كتاب النحو/كتاب الله العزيز، ويطبّقها في كلامه/في تديّنه.والحال أنّ مبدأ التوليد والتحويل يقتضي اعتبار اللغة ،وبالتالي الدين أيضا، في مقاربتنا التشبيهية، نظاما، بالتأكيد، ولكنه نظام يمتاز بصفات "الفطرية" كما أسلفنا، ما يجعل المُتدَيّن مطالبٌ بـ"استقراء" ما يحملُه دماغه وعقلُه وما نفسُه حُبلى به، من أصول القوانين المُسجّلة في جيناته، شريطة أن يكون بصدد ممارسته للدّين أي من خلال تجربة التديّن بالذات وليس من خلال العبادة الدّغمائية ؛ وتلك هي مواصفات "العملية" أو "السيرورة" أو "المسار"("بْرُوسَاسْ " بالانكليزية) التي يعتبرُها تشمسكي ومدرستُه عمودا فقريّا لجسم اللغة بعد أن اعتمدوا مبدأ التوليد والتحويل كمُحَرّك، أو بالأحرى كمجموعة كبيرة وكثيفة من المُحرّكات، لذلك الجسم. فالمقصود بـ"عملية" هو في الأصل "عمليّات"، وهو بالضبط عكس التقليد والإتباع والتلقين. فبخصوص "العملية" اللغوية يقول رتشرد وال إنّ " ما يقصده تشمسكي هو أنّ السبب الرئيس في أن تكون مُهتمّا بالدراسة العلمية للّغة، ومن باب أولى وأحرى بالنّحو التوليدي، هو أنّ لَديها مساهمة ستُضيفها إلى فَهمِنا للعمليات العقلية." (14) سواء في اللغة أو، كما يفرضه علينا غرَضُ المُقارنة، في الدّين؛ سواء في ما يخصّ "التكلّم" أو ما شابهه من "تديّن"، نعتبرُ أنّ تصنيف تشمسكي لـ"فهم العمليات العقلية" كغاية للممارسة اللغوية، فيه من الشمولية العلمية ما يُؤهّله لأن يكون مُدرَجا كغاية للممارسة دين الإسلام. فالعقل البشريّ واحد. سواء أمارَسَ اللغة أم مارَسَ الدّين. إنّه اندماجيّ في كثير من وظائفه، ناهيكَ أنّه قادرٌ على توحيد النحو بالذات(15). وألَيس العقلُ القادرُ على توحيد النحو بقادرٍ على تَوحيدِ كلّ فحوى العقل، بِما فيها على الأقلّ المَيل إلى التديّن، أو الفطرة أو، لِمَ لا، الدّين؟ ونكون حينئذ شاهدين على لحظةٍ رائعة، لحظة تلاقي حُكم العِلم (التوليد والتحويل هي من خصوصيات الدّين،على غرار اللغة) مع حُكم القرآن العظيم:"إنّ الدِّينَ عندَ اللهِ الإسلامُ وَما اخْتَلَفَ الذينَ أُوتُوا الكِتابَ إلاّ مِن بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْمُ- الآية.")( آل عمران 3 : 19)، و"لِيُظهِرَهُ على الدِّينِ كُلِّهِ- الآية." (التوبة 9 : 33). وإذا كان ذلك كذلك فسَنزْدادُ يقينٍا بأنّ ما يُفيدُ المسلمين في فهم عمليّات التكلّم سيُفيدهم أيضا في فهم عمليّات التديّن. وسيكون ذلك مَيسورًا طبعا شريطة أن يتّبعوا الرابط الرئيس، أعني استبيان قُدرات العقل البشري على التّأقلم مع قوانين سنَّها شارعٌ عظيم ذو الجلال والإكرام، ما لم نَفعَلْه إلى يوم الناس هذا. أمّا الذي سيترتّب عن التحوّل المنهجيّ في التديّن هو أن يكون المسلم قادرا على تطبيق الدين بواسطة منهجيات التعلّم العصرية الرامية إلى استفزاز مهارات التفاعل لدى المُسلم "البَاث" لـ"المَدلول" الدّيني والمَعرفي، بالمدّ والجزر، مع قوانين الشريعة. وهذه السيرورة لا تحُثّ لا على التطبيق الآلي للشريعة السمحاء ولا، في المُقابل، على تركِها جانِبا والخَوض في التجديد الهدّام. فقط هو مسارٌ يهدف إلى توفير الإمدادات الدماغية والشعورية لدى المسلم لكي يكون قادرا، بنفسه، على إصابة مَرماه حين يُطلب منه اختيار سلوكياته ومواقفه وتحرّكاته: "بَل الإنسانُ على نَفسِهِ بصيرَةٌ- الآية." (القيامة 75 : 14).بكلام آخر،هو مسار يهدف إلى إرساء الركائز العلمية ، انطلاقا من علوم التربية والعلوم الدماغية والعلوم السلوكية وغيرها لِفهمٍ أو لأفهامٍ، لتأويل أو لِتأويلاتٍ مُعاصرة للإسلام. فإلى حدّ اليوم لم يَكفِنا عِلمُنا (الاجتهاد التقليدي) سوى لإعادة "اكتساب" ما نَعلَمُه بعدُ بفضل تواصُلنا مع أجداد أجدادنا منذ تمّ تعلّمهم الفعلي للدين الحنيف مباشرة من سيّد المُعلّمين محمد صلّى الله عليه وسلّم ، وهو الذي كان"خُلُقُه القرآن" أي استوعَب القرآن حتّى تماهت معه خُلُقه. وهل يتمّ استيعابٌ وتماهٍ من دون "عملية"؟ وهل يجوز اليوم، تربويّا وبيداغوجيا، أن يُرسي المسلم علاقة مع دينه غير علاقة الاستطلاع و الاستكشاف والتمحيص والنظر والـ"استقراء" ؟ ألسنا نعرِفُ ديننا كما لا يَعرِفُ دينَه أحدُ،إلاّ أنّنا نجْهل المسالك التي تقودنا إلى إعادة ربط الأواصر معه؟ رحِم الله مالك بن نبي وهو الذي صدق قولُه :"فكلّ مُسلم مُقتنع بدِينه من يوم أن أُُنزلت الآية الأولى في غار حراء، ومَن يحاول أن يأتي للمسلمين بوسائل لاقتِناعِهم بدنهم فإنما يُضيع وقتَه وربما يضيعُ وقت المُسلمين أنفسهم" (16). هكذا نُدرك أن لا بُدّ للمسلمين أن يكُفّوا عن تناول مسألة تطبيق الإسلام من الخَلف وأن يعكفوا على مُجابهتها من الصّدر لأنّ الخيار الأوّل لم يُولّد لديهم سوى الالتصاق إلى حدّ الهَوس بالنظام (الشريعة السمحاء) فاقدين السيطرة، في الأثناء على الآليات التي من شأنها أن تشحذَ مهاراتهم في حُسن التعامل مع هذا النظام عبر عملية اسمها ممارسة الدين. وهنا يأتي الفرق بين الدين والتديّن. فمَعشرُ المُسلمين يعرفون دينهم أكثرَ وأفضلَ من عِرفهم لأنفُسهم، أي أنّهم يجهلون آليات التديّن طِبقا لِشروط العصر الراهن. لا يمتلكون جهازا معاصرا للتديّن يُبلور لهم معنى وأبعاد مقولة "الإسلام صالح لكل زمان ومكان".والتديّن هو فنّ العيش بإبداعٍ وابتكارٍ وَلَو تحتّم أن يقع إنجاز ذلك في ظلّ نظام تسنّه قوانين. وهنا تأتي الأهمية القُصوى للمُفكّر. فهو الذي من المفروض أن يجهّز لعموم المسلمين، مُمارسين للدين و غيرِ مُمارسين، تصميما لمنهج أو مناهج تدرّبهم على استبطان آليات الفهم المتحرّر من قيود التقليد والحَرْفية.وتصميم المنهج ليس تأليفا لفهم معيّن أو لتأويل معيّن للإسلام عن طريق تطوير الفقه مباشرة أو بأية طريقة ظاهرية أخرى أدّت، في ما أدّت إليه، إلى التخبّط في اصطناع فتاوى أقرب للـ "الصندويتش" منه للإفتاء العلمي والمُنظَّم، وفي التقَوقُع داخل أشباه منظومات لإنتاجِ فِقهٍ أقرب لِمَنتوجات المَداجن الكهربائية، أو للزراعات بالأسمِدة الكيميائية، أولِمنتوجات البَاكُورات في البيوت المُكيَّفة منه للقانون المُوَلّد من أرضية فكرية اكتَمَلت نمُوّها الطبيعيّ بواسطة أدوات طبيعية. فعملية تَصميمِ المنهج من طرف مُفكرين جُدد إنّما هي شبيهَة بِعمل الفلاّح الذي يجب أن يُهَيّئ التُّربة المزروعة فيَقلبها حتىّ تُعطي أُكلَها بِأن تُنبت زرْعا، مِن نوع الـ"ـبيو" إن لزِم الأمر، مَرغوبٍا فيه. وما أحوَجَ المُسلمين إليه : فِقهًا و أحكاما شرعيةٍ مُجدَّدة؛ فَهمًا أو أفهامًا مُعاصِرة ؛ تأويلاً أو تأويلاتٍ جديدة؛ تكون كلُّها نتيجةً لعملية تحويلية وتَوليدية تعرِفُ انطلاقتها من داخل العقل العربي والإسلامي المتحرِّك، مَنتوجا طبيعيٍّا لفِكرٍ مُتجَذّرٍ في بيئته وفي عَصره وفي عالَمِه وفي عالميّته (17). ولن يحظى مثل ذلك التدريب بالقابلية والقَبول من طرف "مُتعلّم" الدين، وهوَ "باث" وليس بـ"مُتقَبّل"، إلاّ في حال يَتوفّر في المنهج المُصمَّم أسلوبٌ يُرغّبه في إعادة رَبط الأواصر مع الدين بتصويره له بطريقة مستَوحاة من الطريقة التي صوّره لنا بواسطتها الخالق البارئ : العبادة "عملية" فيها تداول بين "الكدح" و"السَّكينة". فالكدح ورَد في قوله تعالى "يا أيها الإنسانُ إنكَ كادحٌ إلى ربِّك كَدْحا فمُلاقيهِ" (الانشقاق 84 : 6). وقد جاء في تفسير للآية الكريمة أنّ "أنت يا ابن آدم جاهد ومُجدّ بأعمالك التي عاقِبَتها الموت، والزمان يطير وأنت في كَلّ لحظة تقطع شوطا من عمرك القصير، فكأنّك سائر مُسرِعٌ إلى المَوت..." (18). و"الكدْح" في رأينا من أهمّ الدلالات القرآنية على "الحركة" الخلاّقة، فهو مسيرة المؤمن وسِباقه نحو الله فاطر السماوات والأرض. والمسيرة هي الزمانُ، و"الزمانُ إمّا أن يكون اختراعا وإمّا أن يكون لاشيءَ" كما يقول هنري برجسن(19). أمّا "السكينة" وهي التي وردت في الآية الكريمة "هُو الذي أنزَل السَّكينةَ في قُلوب المؤمنينَ ليَزدادُوا إيمانا معَ إيمانِهم - الآية" (الفتح 48 : 4) ،فهي الجزاء الدُّنيوي الذي يحصل عليه كل مُؤمن "كادح" قبل نَيله الجزاء الأخروي؛ هذا المؤمن الذي، بالرغم من توفّر الإيمان لديه، إلاّ انّه بفضل"السكينة" تتولّدُ لديه "زيادة" في الإيمان. يتعلّق الأمر إجمالا بالإبحار، لا فقط في ما ظَهر من الإسلام (الشعائر والأحكام الشرعية) وإنّما أيضا في أعماق "المُعاملات" و"الأخلاق". يتعلّق الأمر بانتهاج المُسلم الممارس و المسلم غير الممارس على حدّ سواء لمُقاربة مماثلة تقريبا لمُقاربة الطالب/المُتكلِّم مع اللّغة، مُولِيان الأهمية القُصوى للخَلق والابتكار والإبداع، باستقراء قواعد التطبيق الصحيح للغة/الدين من داخل النظام الأشمَل: نظام ممارسة التكلّم/ممارسة الدين. فهذا التمشّي من شأنه أن يفتح أمام المسلم فُرصَ الإبحار في مساحات النّص، قرآنا وحديثا، وهي مساحات بالرغم من سَعة قابليتها للإبداع والتدبّر، تخضع عن طواعية إلى أضواء كاشفة تُسَلّطها عليها، بمنتهى الدقّة والرقابة، مَنارة الشريعة السمحاء. كما يتعلّق إجمالا بإتباع منهجية في التعامل مع النص القرآني والسنة الشريفة يشتَمل على مواصفات "الفوضى البنّاءة" مثلما قَدّمناها أنفا، وبأن تتمَخّضَ عملية التعامل تلك على نظامٍ مُتَحرّر وتحرُّريّ. وذلك لن يُنجَز إلاّ باستخراج ما يلزِمُ من عناصرَ، من القرآن الكريم ومن الحديث الشريف، ثم ضمّها في قالبٍ أو نسق أو نظام أو كيان أو بنيانٍ أو هيكل يقوم مقام وعاءٍ لفكرة أو لثقافة أو لإستراتيجية أو لِدرْسٍ أو لبرنامج. ومن مزايا القالب والفكرة التي يحتوي عليها أن تساعد المسلم "المُتعلّم" على تفعيل كفاءاته الكامنة بِهَدَف فَهْم الإسلام من خلال التجربة الوجودية مع "نظيره في الخلق" ومع "أخيه في الدين" (كما قال عليّ كرّم الله وجهَه في تعريفه للإنسان)، وكذلك من خلال التجربة الميدانية في الطبيعة وفي البيئة. حينئذ يُمكن القول إنّ الغاية النهائية من توظيف الوعاء بواسطة ملئِه بالخيرات، وتباعًا الغاية النهائية من توظيف تلك الخيرات، أن يتَمَكَّن "المتعلّم" من التحرّر المُنَظَّم. ونعني بذلك التفاعلَ الآني مع الواقع، من منظور القرآن والسّنّة، بالتّأكيد، ولكن بآليات الجدَل والشك المُوصلة إلى اليقين والاستقراء والاستشراف وبغيرها من مهارات التدبّر المتعددة التي من شأنها أن تُساعد المسلمين على الارتقاء بأحوالهم من ظُلمة الإتّباع والتبعيّة إلى نُور الإبداع و الاكتفاء؛ كلّ ذلك بواسطة منهجية مُستخرَجة من أعظم نظام عرفته الإنسانية: نظام الإسلام؛ ومُطبَّقة على أضخم مسرحٍ عرَفتْه الإنسانية: مسرح الحياة.
10-11-2009 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=791 |