/
مسألة التعليم في الفكر الإصلاحي لمحمد الحجوي
محمد الناصري
تمهيد : إن الأسئلة الكبرى التي عمل مثقفو المشرق على صياغتها حول الذات والغرب، والانحطاط والتقدم، والاجتهاد والتجديد... وجدت لها أصداء مختلفة في الكتابات المغربية بل إن عامل الجوار الجغرافي مع أوربا جعل من الإسهامات الفكرية المغربية أكثر عمقا في كثير من الأحيان. ومع ذلك نلاحظ إلى اليوم تغييبا خطيرا لهذه الإسهامات الفكرية المغربية، فغالبا ما تول النخب المغربية المعاصرة وجهها شطر الفكر الإسلامي المشرقي أ والفكر الغربي للاستفادة منه والأخذ عنه دون الالتفات إلى التراث الفكري الخصوصي في المغرب من نصوص واجتهادات وأفكار... إنها قاعدة تنطبق على النسبة الغالبة من الباحثين والمثقفين المعاصرين، فاغلبهم يهملون الإسهامات المغربية على صعيد التعبير عن الفكرة الإصلاحية. " ويوم يزاح الستار عن المكتبة المغربية وما تمكنه من مختلف ألوان التراث... ويوم يعاد إلى هذه المكتبة ما عبثت بمصادرها القيمة يد... المستبدين للحيلولة دون وصولها إلى جمهور القراء والباحثين... ويوم يلتفت إلى هذا التراث بجد وصدق، ويتاح البحث فيه بموضوعية علمية وفكر متحرر من جميع ألوان القيود، يومئذ سيعاد النظر كليا في تاريخنا الثقافي والحضاري، وسيكتب هذا التاريخ من جديد في إطار يبرز الخصائص الحقيقية للذات المغربية، متخطيا مختلف الفجوات والحواجز التي تحول دون تكميل ملامح هذه الذات في جوانبها الوطنية والقومية والإنسانية : إذ ذاك تزول النتوءات والتمزقات التي تمنع الرؤيا الواضحة للتاريخ السياسي والفكري والديني للمغرب، والتي تجعل المتسلطين على رواية التاريخ وكتابته يطمسون بقصد أو بدون قصد معالم من هذا التاريخ إذا كانت مرتبطة بشخصية أو بفترات لا يروقهم ابرازها"1. ومن الأعمال الفكرية التي لم تنل حظها من العناية والاهتمام، ومن تم تعرضها للطمس والقبر والتهميش والإقصاء، الجهود الإصلاحية لمحمد بن الحسن الحجوي الفاسي الثعالبي2. والذي عانى أكثر من غيره من الأحكام المتسرعة التي علمت بعض الحساب الإيديولوجية، والظرفيات السياسية الخاصة على ترسيخها. "لقد أدت الصعوبات التي تكتنف موازين البحث التاريخي في المغرب إلى إعاقة انتشال الفقيه الحجوي، هذا المفكر المنسي من دركته الساحقة بعلة ما قد يحدثه في بعض الأذهان هذا "النبش "في المكتبة المغربية من تصادمات حول رواية موضوعية لتاريخنا ولكتابته. انطلاقا من فكر متحرر لا دخل فيه للسياسة ولحزازات الشخصية، لذا يحق لكل ذي ضمير ثقافي أن ينبري لمواجهة هذا الاستلاب المؤدي إلى الإجحاف والتنكر لحقيقة التاريخ الفكري والحضاري لبلادنا3. في هذا السياق، ومن منطلق إعادة الاعتبار إلى فكر أصابه الإجحاف لاعتبارات سياسية ضيقة أو حسابات إيديولوجية مميتة، تأتي مداخلتي –هاته- لنفض الغبار عن تجربة إصلاحية رائدة صاحبها : محمد الحجوي، واني اخترت أن يكون عنوانها :" مسالة التعليم في الفكر الإصلاحي لمحمد الحجوي ". ولا ادعي إني أحطت بالموضوع خبرا. فلم يتسنى لي كثير من الزمان للاطلاع على مؤلفات الحجوي كلها، والوقوف عن كتب على جهوده الإصلاحية في ميدان التربية والتعليم. وحسبي كتابة القيم "الفكر السامي في تاريخ الفقه الاسلامي الذي يعد أهم مؤلفاته، وبعض محاضراته اذكر منها على سبيل المثال، محاضرته المعنونة "تعليم الفتيات لا سفور المرأة"، "إصلاح التعليم العربي"، تم رحلته الاوربية، مستأنسين ببعض الكتابات التي كتب حول فكر الحجوي منها : كتاب "الاجتهاد والتحديث" لسعيد بنسعيد العلوي. وكتاب "الفكر الإصلاحي في عهد الحماية" محمد بن الحسن نموذجا لآسية بنعدادة . 1- مركزية مسألة التعليم في الفكر الإصلاحي للحجوي: إن نهوض الأمم وسقوطها وتقدمها وتراجعها منوط بالتربية والتعليم، فان الأمة إذا نجحت في برامجها التربوية حققت أهدافها وان هي أخفقت تراجعت عن أهدافها. فالتربية والتعليم هي السبيل الأوحد للإصلاح، والبناء والنهوض والتطوير والتغيير وإقامة مجتمعات المستقبل. لقد كان الحجوي على وعي تام برسالة التعليم في صياغة شروط التقدم، فغالبا ما يرجع أساس تقدم أوربا ونهضتها إلى العلم ولاشيء غير "العلم الذي هو أهم ما يهم"4. يقول الحجوي واصفا باريز " وأنها لأول المدائن العظمى معارف وفنونا جميلة، بل يحق لها ان تعد مدرسة للفنون الجميلة في العالم، وأنها لأعظم المدائن مدارس ومستشفيات ومتاحف ونواد علوم ومطابع، وقاعات صناعات... فهي بؤرة اللطف والرشاقة ومطمع الذوق السليم العالي والاختراع المثمر للمعالي... وأساس ذلك كله هو العلم، فالتعليم عندهم إجباري على الرجال والنساء، فكل صبي بلغ التعلم لابد أن يدخل المدرسة ويتعلم التعلم الابتدائي: القراءة والكتابة، ومبادئ الحساب والتاريخ والجغرافيا والأدب... لذلك ترى قدرا من العلم اشترك فيه الذكر والأنثى والغني والفقير، بذلك ارتقى مجموع الأمة من الحضيض الذي وقع فيه مجموع الأمم الغير متمدنة التي لا يعرف غالب أفرادها كتابة ولا أدبا ولا حسابا ولا ولا...5 بقراءة هذا النص تظهر الأولوية التي يوليها الحجوي للتعليم. فالعلم عنده طريق التقدم وأساس الازدهار. إذ يقر بأن ما وصلت اليه باريز، ومعها عموم أوربا من تقدم مرجعه إلى تشييد المدارس، وطبع الكتب... فبقدر تقدم العلوم، والمعارف في الأمم بقدر تقدمها. يقول الحجوي :" تم هذا الذي قررنا ليس خاصا بأهل باريز... بل عموم أوربا تقريبا، فكل مدينة أو قرية أوربية ترى فيها المدارس مشيدة، ونوادي العلم عامرة، وقد نظمت لذلك جمعيات في كل مدينة أو قرية زيادة عن الحكومات التي جعلت للمعارف وزارت فهم لا يتكلون على الحكومة في كل شيء مثلنا، ولا سيما في العلم الذي هو أهم ما يهم"6. فاروبا في نظرالحجوي، تقدمت بالعلم، فالعلم عنده سر التقدم والقوة، والجهل سبب التأخر والضعف، فالحجوي يحكم بان جل المصائب والبلايا التي حلت بالمسلمين تعود بالأساس إلى جهلهم، وغلبة الأمية على رجالهم ونسائهم. يقول :"غلبت الأمية على رجالنا ونسائنا، وحصل التأخر في سائر علومنا حتى النحو، وغيره من العلوم العربية."7 يعترف الحجوي بتخلف علومنا العربية-ولسان حاله- يقول إذا حصل التأخر في سائر علومنا حتى النحو، فما بالك بغيرها من العلوم الطبيعية ليقرر انه" لا سبيل لان نصير امة معدودة من الأمم الحية إلا بتعميم القراءة والكتابة بين الحواضر والبوادي، وتعميم التعليم الابتدائي حتى يصير جل أفرادها رجالا ونساء يقرؤون ويكتبون.... بحيث مطالعة الكتب البسيطة السهلة، يستفيدون منه دينهم ودنياهم، ومطالعة الجرائد وإخبار ما يقع في العالم، ليستوي الناس في إدراك مالهم وما عليهم، ويتساوى السوقي والعالم، والوزير والصانع في معرفة ما هو الضار للهيأة الاجتماعية... فينهضوا باجمعهم لنفعهم، ودفع ضرهم، ويفهموا ما يلقى إليهم من الخطاب، وما هي عليه حياة غيرهم من الأمم ليجاروها في معترك الحياة"8. يرى الحجوي أن النظام التعليمي مفتاح لمجاراة الأمم المتقدمة، وتحقيق كل رقي محتمل. لهذا تبنى مواقف ملتزمة وتحرك بطرق شتى بقصد التأثير على أصحاب القرار السياسي. وعليه لم يكتف الحجوي بإلقاء الخطب للحث على طلب العلم والتنافس فيه، بل وجه نصائح للسلطان في هذا المجال، فخاطبه قائلا" يجب علي أن أقدم لسيادتكم الكريمة العالية بالله، نصائح مهمة في الدين والسياسة وعلم الاجتماع... يجب أن يغرس في قلوب شعب مولانا نهضة علمية يخرج بها الشعب من ظلمات الخمول إلى مصاف الأمم الحية... وأول ما يتصدى له هو محاربة الأمية. فيجب وجوبا شرعيا واجتماعيا نشر التعليم الابتدائي العربي بين جميع الحواضر والبوادي... ويجعل تعليم الصغار إجباريا ذكورا وإناثا"9 واقترح على السلطان أن يصرف ربع الميزانية العامة في التعليم وفي معاهد الصحة كما تفعل الأمم الراقية... كما ألح عليه أن يتفقد التعليم كل يوم ولو خمس دقائق في اليوم"10 يظهر من هذا العناية الفائقة والأهمية البالغة التي كان يوليها الحجوي للمسالة التعليمية: وهي أهمية تترجم مدى الوعي العميق لدى الحجوي برسالة التعليم ودوره في تحديد مسار الأمم في الحاضر والمستقبل. وهذا ما يفسر سعي الحجوي المتواصل لإصلاح منظومة التعليم، وخاصة القرويين. 2- هاجس إصلاح القرويين: إن الهاجس الأكبر عند الحجوي ، الإصلاح التربوي، وخصوصا في القرويين الذي أولى له مكانة خاصة، وخصص له في كتاباته حيزا هاما، إذ أفرض له عنوانا خاصا في كتابة "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي".فكان يصرح في كل المناسبات بأنه بارتقاء القرويين وانتظامها يتقدم الإسلام والثقافة والأدب، وبتأخرها يتأخر المغرب أدبا وثقافة ودينا. "لأنه المعهد الأعظم في إفريقيا الشمالية للعلوم العربية والدينية والأداب الإسلامية، لاسيما بعد سقوط الأندلس، فهو الينبوع المنير لهاته العلوم، والقبس النير للدين الحنيف"11. وهذا ما يفسر اهتمام الحجوي الكبير بالقرويين بالإضافة إلى أنها كانت تجسد الشخصية الثقافية المغربية في بعدها العربي الإسلامي، وعنها كان يقول فهي :" أمي وظئري،ومن ثديها العذب ارتضعت وبها أميطت عني التمائم"12 وقد انتبه الحجوي إلى جمود مفهوم التعليم في القرويين بفضل رحالاته إلى أوربا، والتي مكنته من الاطلاع فيها على المفاهيم الحديثة للتعليم ومنهجه وأساليبه، وقارن ذلك بما هو قائم في القرويين. فانتقد الجمود والتقليد وسجل بمرارة، أن نظام التعليم في الإسلام قد عرض له ما عرض لمختلف مناحي الحياة الأخرى السياسية والاقتصادية من ضعف، وأصابه ما أصابها من فوضى بعدما كانت على حال عظيم من النظام فبعدما كان نظامهم الذي ساروا عليه في أخد العلم هو بناؤه على المشاهدة والتجربة المجموع ذلك في قولهم،جرب وشاهد ولاحظ تكن عارفا، انتهى بهم الأمر إلى القول " اقرأ ما في الكتب وقرر ما يقول الاساتيد تكن عالما "13 وبعدما كانت معاهد العلم ومجالسه لا تخلو من مختلف أصناف المعارف نجد ان علوما كثيرة قد تم هجرها: فهذا التفسير قد انصرف الناس عنه متطيرين على درسه، وهذه السلطة ترغمهم على هذا الهجران اعتقادا جاهلا منها انه يكون عن درسه"موت السلطان" وهذا التاريخ : العلم العظيم الذي لا تخفي فوائده، قد ناله الصد والهجران بدوره فلقد حضرت في مجالس بعض عقلائهم ينتقد على الناصري في تاريخه حيث عاب نظام المغرب في حرب تطوان ونوه بنظام الإسبان وعد ذلك منه مروقا من الدين"14 كما ينتقد الحجوي أساليب التدريس المتبعة في تلقين العلوم الدينية من فقه وحديث ولغة، وخاصة الفقه الذي بلغ درجة من التقليد، افقد كل أمل في الاجتهاد والتجديد يقول الحجوي متحسرا فلقد قضى هؤلاء المتأخرون على الفقه، أو على من أشتغل بتواليفه، وترك كتب الأقدمين من الفقهاء بشغل أفكارهم بحل الرموز التي عقدوها... بسبب الاختصار، فضاعت أيام الفقهاء في الشرح، ثم في التحشيات والمباحث اللفظية، وتحمل الفقهاء آصارا وأثقالا بسبب إعراضهم عن كتب المتقدمين... وإقبالهم على التواليف المختصرة والمعتمدة التي لا تفهم إلا بواسطة الشروح، واختصروا في الشروح فأصبحت هي أيضا محتاجة لشروح وهي الحواشي... أحاطوا بستان الفقه بحيطان شاهقة، ثم بأسلاك شائكة، والقوا العثرات في طريق ارتقائه، حتى يظن الظان أن قصدهم الوحيد جعل الفقه حكرة بيد المحتكرين، ليكون وقفا على قوم من المعممين...ليكون حرفة عزيزة، وعينا من عيون الرزق غزيرة"15 " ولما اغرقوا في الاختصار... فات المقصود الذي لأجله وقع الاختصار، وهو جمع الأسفار في سفر واحد، لتقريب المسافة وتخفيف المشاق وتقليل الزمان فانعكس الأمر إذ كثرت المشاق في فتح إغلاق المتن، وضاع الزمن من غير ثمن... بحيث صار مختصر خليل لا يفهم ما فيه الا بستة اسفار. للخرشي، وثمانية للزرقاني، وثمانية للرهوني، والجمع اثنان و عشرون سفرا، مع طول الزمن المتضاعف في الدرس والمطالعة في تفهم العبارات المغلقة..."16 لهذه الأسباب تحمس الحجوي لإصلاح القرويين، برامج ونصوصا ومؤلفات ووضعية إدارية للأساتذة ونظاما للامتحانات ، وتحصيلا للشهادات... وعن برنامجه الإصلاحي للقرويين يقول الحجوي : " ولما حللت فاسا، جمعت علماء ها الأعلام، وشرحت لهم الحال، ورغبتهم في تشكيل لجنة لتحسين حال القرويين من بينهم بالانتخاب على نسق انتخاب المجلس البلدي بفاس، اذ كان مرادنا الوقوف على أنظارهم وحاجاتهم، وان نبدي لهم ما ظهر لي من إدخال نظام مفيد، وإصلاحات مادية مع إصلاحات أدبية في أسلوب التعليم أيضا، وإحياء علوم اندثرت منها كليا ونتبادل الآراء على عين المكان، ونجعل قانونا أساسيا للقرويين يكفل حياتها ورقيها، ولا نبرم أمرا إلا بعد حصول موافقتهم، بل استحسانهم، فقبلوا ذلك بغاية الارتياح، وشكلوا لجنة من أمثالهم بأغلبية الأصوات تحت اسم " مجلس العلماء التحسيني للقرويين تركبت من رئيس وستة أعضاء وثلاثة خلفاء يوم 21 جمادى الثانية عام 1332(1914)... فكنا نجتمع يوميا أطرح عليهم مسالة مما كنت أريد إدراجه من التنظيم والتحسين في القانون الأساسي للقرويين. تم التمس آراءهم واسمع ملاحظاتهم فيحرر كل واحد ما ظهر له ويؤخر البث في المسالة إلى جلسة ثانية حتى يطلع المجلس على تلك التحريرات تم يقترع على الرأي المقبول، فيثبت في سجل التقريرات أصل المسالة وما ابداه كل واحد منها، ثم ما وقع عليه رأي الجميع أو الأغلب عليه. وفي الجلسة التي بعدها يسرد عليهم محضرا الجلسة قبلها حتى يسلموه فيثبت في سجل القرارات، وعند ذلك نشرع في إملاء مسالة أخرى، وعلى هذه الخطة كان سيرنا إلى أن تجمع في تلك القرارات مائة مادة ومادتان مقسمة على عشرة أقسام"17. إن أول ما يسترعي نظر القارئ للتنصيصات التي وردت بشان أحدات هذا المجلس وطريقة عمله الهادفة إلى تحسين حال القرويين. هو ما كان يمليه الفقيه الحجوي وهو يمارس مهامه كرئيس للمجلس التحسيني من مبادئ التواصل والتشارك. ويحث عليه من تطبيق قواعد التعددية والحرية الفكرية في وقت لم تكن هذه القيم الديمقراطية قد وجدت سبيلها إلى التطبيق في المجالات الاجتماعية والإدارية بالمغرب، وهو ما جعل الكثير ينفرون من هذا " التبديع" المروع والتحديث المزعج لمقومات الهياكل الاجتماعية والسياسية للبلاد18. ينضاف إلى الترسانات القانونية التي عمل الحجوي على وضعها لتحسين الأوضاع التعليمية في القرويين. مجهوده في تفقد المدارس وبث روح النهضة فيها وعن ذلك يقول :" ومن أحسن ما أمكنني القيام به تفقد المدارس من حيث العلوم العربية والدينية من حين لأخر، وتتبع سيرها، وبث روح النهضة فيها، والميل إلى أحياء علومنا، والتشبع من العلوم العصرية، وحث المعلمين والمتعلمين على حفظ النظام، وتوجيه كلية النظر نحو العلم والأخلاق ومكارم الدين"19 الدعوة إلى التعليم العصري بحيث لم يكن الحجوي بغافل عن التفكير في أحوال التعليم العصري بالمدارس الابتدائية والثانوية والمعاهد العليا.بل لم تكن هذه الرغبة عنده-كما قد نظن- صدى باهتا للمشروع الاستعماري الذي قضى بإدخال هذا النظام الحديث لاستيلاد نخبة جديدة تحتاجها إدارة الحماية... وإنما للدعوة إلى الإصلاح والتنظيم بحسبانها جزءا من رهان داخلي على إعادة بعث الحياة في العلم والاجتماع الإسلاميين... فالحجوي دافع عن هذا النظام ودعا إليه، وكتب عنه، بل قدم تصورا كاملا قبل أن يسقط المغرب في قبضة الحماية الاستعمارية20. تجديد الكتاب المدرسي : في محاضرة ألقاها سنة 1350 هـ بالمؤتمر الرسمي التونسي الأدبي، حول "كتب الدراسة للعلوم العربية بإفريقيا الشمالية، قال : "من المتعين علينا ان نؤلف كتبا وطنية دراسية في كل علم نحن في حاجة إليه موافقة لحاجتنا ومطابقة لتفكيرنا"21 ويؤكد الحجوي في دعوة الىتجديد الكتاب المدرسي على ضرورة الاجتهاد والتجديد بتأليف كتب مغايرة عن سابقتها وفي ذلك يقول لا أريد كتبا تختصر من الكتب السالفة الذكر اختصارا بل أريد ممن يؤلف في النحو كتب الدراسة، أن يثور ثورة مهولة جريئة على النحويين فيكسر السجن الذي سجنوا فيه انفسهم"22. ولقد سعى الحجوي على وضع جوائز تشجيعية على تأليف الكتب الدراسية وكيفية امتحان التواليف التي يطلب أصحابها الجوائز. ذلك ما نقف عليه من خلال القسم السابع من النظام الذي ألف بمعاضدة مجلس القرويين التحسيني : والذي جاء فيه :" يعطي المجلس مجازاة على تأليف الكتب شريطة ان يثبت نفعها وسلامة عباراتها وان تكون علمية حقا وخالية من التعقيد وإلا تخالف العقائد الدينية... فان حظي برضى الأغلبية، طبع على ذمة صندوق المجازاة أو أعطى صاحبها مكافأة"23. الملاحظ مما سبق أن الحجوي جعل من إصلاح التعليم هما وشرطا ضروريا للنهوض بالبلاد، وهذا ما يفسر العناية التي حضي بها قطاع التعليم في مشروعه الإصلاحي. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هل حقق الحجوي نتائج تذكر في هذا الباب؟ صعوبة المهمة: لم يحقق الحجوي نتائج تذكر فليست انجازاته هي سبب شهرته،ولكن أفكاره الإصلاحية التي كانت تصطدم بجدران كثيرة : ومن بينهم جماعة المقلدين في المعاندين لكل تحديث أو تغيير في الأنسجة الإدارية والتعليمية للبلاد، وقد عبر الحجوي عن حسرته على فشل مشروعه الإصلاحي. قائلا" وأقول من غير تمدح او تبجح: إن ذلك القانون لو خرج من حيز الخيال إلى حيز الأعمال، لكان محييا للقرويين، مجددا لهيأتها التدريسية تجديدا صحيحا متينا... ولكن مع الأسف المكدر تداخل في القضية ذوو الأغراض الشخصية...، وأبقى المجلس صوريا لا حياة له ولا ظهور إلا في الحفلات الرسمية، والمقامات التشريفية، وهكذا يفعل التحاسب وحب الأثرة بين نبلاء المغاربة الذين اشربوا في قلوبهم في قلوبهم حب إيثار الأغراض الشخصية على المصالح العمومية بل والدينية"24 تعليم البنات، وتحرير المرأة: لم تقتصر الفلسفة التربوية للفقيه الحجوي في الدعوة إلى العلم والتعلم على الرجال وحسب، وإنما اتصلت فلسفته بفلسفة اجتماعية اتبعها في إصلاح المجتمع. وقد وجد ان من اخطر أسباب الضعف التي أصابت المسلمين أن النساء قد ضرب بينهن وبين العلم، ومن تم وفي نظر الحجوي، فالأمة الإسلامية لا سيل لها " لان تصير امة معدودة من الأمم الحية، إلا بتعميم القراءة والكتابة بين الحواضر والبوادي وتعميم التعليم الابتدائي حتى يصير جل أفرادها رجالا ونساء يقرؤون ويكتبون"25 الرجال والنساء على قدر كبير من المساواة في الحق من التعليم. لذلك فالحجوي يرى وجوب تعليم النساء" وتهذيبهن تعليما يليق بديننا ويزين مستقبل أولادنا ويصيرهن عضوا نافعا في هيئتنا الاجتماعية فلا غنى لنا عن إعانتهن في تربية رجال المستقبل الذي عليهم مدار حياة البلاد، وتعليمهن في التربية ونظام البيت، وقواعد الصحة. والدين وحفظ القران او بعضه، والحساب والجغرافيا والعربية والأدب الحقيقي لا الخيالي ونحو ذلك مما يعنيهن على مهمتهن ويضيء لهن الطريق"26 ودعوة الحجوي لتعليم البنات ليست كمالية أو صورية، وإنما هي دعوة ملحة لوعيه التام بدور المراة في رقي الأمم وتقدمها فهو يرى ان"تعليمها ضروري، من حيث الدين والاجتماع معا، وليس بكمالي كما يظن بعض من لم يمعن النظر في المسالة تأملا ونقدا. وقد اجمع الرأي العام داخل المغرب وخارجه على ان تربية الأم هي أس صلاح الأمة أو فسادها ولا سبيل للأمة أن تحل المحل اللائق من الرقي إلا بتعليم البنت وتهذيبها، وبقدر تعميم رقي البنت الفكري والأخلاقي، ترقى الأمة، وبقدر نقصان ذلك التعميم تتخبط الأمة. لهذا يروى أن بعض مهرة القواد سئل عن أي حصون بلاده أمنع، فقال المرأة الصالحة، وهذا لعمري حد جامع مانع للمرأة كاف في التنبيه على خطر أمرها ووجوب تعليمها"27 وفي دعوة الحجوي لتعليم البنات يؤكد : أولا : أن المقصود من تلك الدعوة تعليمهن بما يؤهلهن للقيام بدورهن في الحياة بمنأى عن كل سفور يأباه الدين والقرآن ومكارم الأخلاق وحفظ النسل لأنه مثير للشهوة مضاد للحياء والحشمة" 28 وهو يؤكد : ثانيا أن ما يريده للمرأة من تعليم هو ما كان أوليا وفي المراحل الأولية من حياتها قبل لزوم الحجاب عليها، من جهة الشرع :"يمكن الفتاة أن تحصل على التعليم الابتدائي من قبل أوان الحجاب، إذا أدخلت المدرسة وهي بنت خمس أو ست سنين، فلا تكتمل السنة التاسعة من عمرها أو العاشرة إلا وهي محصلة لذلك، فعند ذلك يسدل الحجاب وتكمل تعلمها إن شاءت داخل البيت، إذ لكل نفس حق طبيعي في طلب الكمال وتنمية الملكة الفاضلة إلى أقصى حد ممكن"29 وهو ثالثا: يبين انه لا يريد للمرأة أن تزاحم الرجل في الوظائف والأعمال فتعمل هي ويبقى هو عاطلا:" من أعظم الأسباب بروز النسوة من البيوت التي هي حصون العائلات واغتصابهن وظائف الرجال، فبقي الرجل من غير وظيف"30 وبالجملة فهو يريد "تعليم الفتيات لا سفور المرأة"31. بيد أن الدعوة إلى تعليم البنات، قد أثارت حفيظة كثير من فقهاء التقليد وحتى من رجال المخزن بشن حملة ضده ونعته بالخائن والعميل الخادم لسلطات الحماية، الهادف إلى تفسيق المرأة المغربية، وهو ما يفسر عنوان محاضرته المصححة لهذه الأحكام تعليم البنات لا سفور المرأة" وأمام المعارضة الشديدة التي أبداها رجال التقليد لم يتوان الحجوي في الدفاع عن دعوته، والتعبير عنها بجرأة كبيرة، وهذا ما يفسر دفاعه المستميت عن تعليم المرأة واعتبار ذلك ضروريا من حيث الدين والاجتماع. وكان بحكم وظيفته –مندوبا للمعارف، ممن سعوا إلى جعل تعليمها رسميا. خاتمــــــة: ختاما نقول أن الحجوي قد جعل التعليم هما وشرطا ضروريا لتقدم المغرب وبلاد الإسلام، وهذا ما يفسر الأهمية التي حظي بها في مشروعه الإصلاحي ككل. إذ طالب بنشر التعليم وتعميمه في المدن والبوادي بين الرجال والنساء وبين الأغنياء والفقراء باعتباره حقا لكل إنسان. ودافع عن تعليم مساير للعصر دون التخلي عن أسس الشخصية المغربية الإسلامية، وركز في مشروعه التعليمي على المناهج العصرية، ودعا إلى الاهتمام بالعلوم الطبيعية والرياضيات والى الأخذ بكل جديد نافع والاستفادة من تجارب الأمم الراقية ولذلك أولى أهمية كبرى لتعلم اللغات الأجنبية لأنها أداة الانفتاح وهذا لا يعني التخلي عن العلوم الدينية وإهمال اللغة العربية، بل يجب جعلها لغة حية قادرة على استيعاب التجديد والتحديث. إجمالا: كان الإصلاح يعني حسب الحجوي الجمع بين الاجتهاد في فهم الإسلام، وكنه الحضارة الأوربية. ولعل السؤال الآن، كما كان قبل مائة سنة كيف السبيل إلى ذلك؟ الهوامش 1- عباس الجراري : تاريخ الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه نقلا عن : حسن أحمد الحجوي : العقل والنقل في الفكر لإصلاحي المغربي: المركز الثقافي العربي: ط I .2003 ص : 157. 2- هو محمد بن الحسن الحجوي العلامة الفيلسوف الرجل المقتدر مندوب التعليم. ولد بمدينة فاس يوم الجمعة 21 رمضان 1291هـ.تعلم ودرس وكان من رجال الجامعة القروية التي تلقى فيها دروسه وتكون فيها تكوينه العلمي الممتاز وتعين في عدة مناصب سامية منها مندوبية التعليم والف المؤلفات التي شرقت وغربت، وعرفت دروسه بالسمو القكري واتصف بحسن الأخلاق والمروءة وخدمه المصالح العليا. حتى وافه الاجل بالرباط عام 1376هـ ونقل للدفن بفاس"عن مجلة الجواهر بفاس 28. حسن احمد الحجوي.م.س.ص141 3- حسن احمد الحجوي : م.س.ص 158 4- محمد بن الحسن الحجوي :الرحلة الاوربية. نقلا عن : سعيد بنسعيد العلوي :أوربا في مرآة الرحلة.صورة الآخر في أدب الرحلة المغربية المعاصرة.منشورات.كلية الاداب.الرباط.ط.1.سنة 1995.ص:117 5- نفسه: ص:117 6- نفسه ص 117 7- الحجوي: الفكر السامي في تاريخ الفقه الاسلامي.غعتنى به.أيمن صالح شعبان.دار الكتب العلمية بيروت.ط.1. 1416 ه.ج. II ص : 702 8- نفسه جII ص 702 9- الحجوي: أساس التهديب الاسلامي : مخطوط خزانة عامة نقلا عن اسية بنعدادة:الفكر الاصلاحي في عهد الحماية الحجوي نموذجا.المركز الثقافي العربي.ط.1سنة 2003. ص 244 10- عن اسية بنعدادة : م. س.ص 244 11- الحجوي: الفكر السامي م. س. جII ص : 531 12- نفسه. ج II.ص 531 13- الحجوي: النظام في السلام. م. و. الرباط 1928 نقلا عن سعيد بنسعيد :الاجتهاد والتحديث.دراسة في أصول الفكر السلفي في المغرب.م. النجاح الجديدة.ط.2.سنة 2001. ص 82 14- محمد الحجوي : الرحلة الوجدية أو انتحار المغرب الاقصى بيد ثوراة.نقلا خن. سعيد بنسعيد :الاجتهاد والتحديث م.س. ص 82 15- الحجوي: الفكر السامي. م.س ج II. ص 705 16- نفسه. ج II. ص 705 17- الحجوي : الفكر السامي : م. س. ج.2ص. 531 18- حسن احمد الحجوي : العقل والنقل في الفكر الاصلاحي المغربي. م. س. ص. 198-199 19- محمد بن الحسن الحجوي : الفكر السامي. م. س. جI. ص.14 20- عبد الاله بلقزيز - الخطاب الاصلاحي في المغرب.المركز الثقافي العربي.ط.1. ص 126.
10-11-2009 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=795 |