/

 

 

الإدارة في الفكر الإسلامي : إضاءة على تجربة المراكز الإسلامية في أمريكا الشمالية

أسامة قاضي

يحيل البعض مشكلة وجود المسلمين النوعي سواء السياسي منه، أو الاقصادي، أو أي نوع من أنواع الثقل الذي يجعل للعالم الإسلامي وزناً، إلى وجود أمراض كثيرة من كل شكل ونوع تتغلغل في الجسد الإسلامي المترامي من أقصى كازاخستان إلى أندونيسيا ومن الباكستان إلى المغرب إلى تجذر مشكلات شاملة تحتاج إلى كثير من الدراسة والتمحيص.

ينحو الكثير من المراقبين - الذين ينساق معهم معظم الشارع الإسلامي - إلى أن المشكلة خارجية بالمقام الأول، وأن هناك في الخفاء من يحيك لنا الدسائس ولايريد شفائنا من أمراضنا المستعصية، على طريقة الجمع بين "نظرية المؤامرة"  والبارانويا، بمعنى أن الأمم ديدنها التخطيط للقضاء علينا، ونحن لاحراك لنا ولاأمل لنا إلا الاستجابة للأوامر العالمية أو كما يسميها البعض "قوى الاستكبار العالمي"، وكذلك البارانويا أو مايسمى "عقدة الخوف والاضطهاد"، ولعلي أحترم الكتابات التي تقوم بتوعية الشارع إلى مخاطر مخططات القوى الخارجية، وأعترف أن المخاوف مقبولة بدرحة معقولة وبحاجة إلى مختصين لإظهارها شريطة إظهار "حجمها الحقيقي"، لكنني أختلف معهم بتوصيف المشكلة وطرح حلولها، وأحث في كل مناسبة المهتمين للنظر في أمراض الأمة الحقيقية التي تبدأ من داخل الجسد الإسلامي أولاً، وأرى أن لها أولوية مرحلية هائلة، لأن الجسد المريض يكون عرضةً لكل الأمراض المتواجدة في البيئة والمناخ المحيط، فهل تتصور أن رجلاً مصاب بأمراض كثيرة وجسده منهك أن يستطيع أن يقاوم حتى أبسط أنواع الرشح أو السعال، هذا فضلاً عن الأمراض العضال "لاقدر الله"، والمنطقي أن يكون أول خطوة على طريق الشفاء أن تعلم بأنك مريض، فاعترافك بالمرض ُيسهّل عليك أمر البحث عن الطبيب المختص بدل المكابرة بالتنكر لوجود العلل التي تعترض الجسد بحجة المعافاة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإذا كان المناخ المحيط بالجسد موبوءاً ، أو أن هناك فيروسات تتحين الفرصة للانقضاض على الجسد فإنك لاتملك أن تغير المناخ – اللهم إلا أن تذهب إلى كوكب آخر –  فإن الحل الوحيد المتبقي هو التحصين الداخلي للجسد من خلال التغذية الصحيحة والفيتامينات والمضادات الحيوية وغيره من الأساليب المدروسة طبياً والتي ثبت بالتجربة التاريخية نجاعتها، وهذا ماأشار إليه الخطاب القرآني بقوله "وأعدوا لهم مااستطعتم من قوة" فالاستعداد الثقافي والفكري والإداري أساس لامفر منه لمواجهة الحراك التاريخي، وإن أي تجاوز لسنن الله في الأرض ستكون عاقبته الحرمان من الثمرات الدنيوية للخالق، للجادّين العاملين، وهو عين ماقصده الشارع منبهاً العقل المسلم الذي قد يحسب أن ايمانه بالله دون العمل الحقيقي بالسنن الكونية سيوصله "مأمنه" فقال تعالى: "كلاً نمّد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وماكان عطاء ربك محظوراً" فايمان مسلمي بنغلادش –على سبيل المثال- لاينفعهم بالتفوق على مسلمي ماليزيا ولو كانوا أكثرمنهم طاعة، لأنهم لم يُتبعوا إيمانهم بالعمل في سبيل إعمار بلدهم، والتجربة تكون أقسى لو قلنا إنهم لن يتفوقوا في الحياة الدنيا على اليابانيين مالم يأخذوا بسنن الله في الأرض من حيث إدارة مواردهم بشكل سليم، وبالطرق العلمية وبالاستفادة من تجارب الآخرين بعقل منفتح  شعاره حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم "الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها"، والجدير

بالذكر أن التجربة الماليزية والتي قادها بذكاء واقتدار محاضير محمد كان شعارها "النظر شرقاً" بمعنى الاستفادة من التجربة اليابانية والآسيوية وأضيف إليها نظرة دقيقة لموقع ماليزيا ضمن

المنطقة الآسيوية كشريك آسيوي مع بقية النمور بما عرف  ب "سرب الإوز" حيث يطير السرب بشكل رقم ثمانية فالأخت الصغرى ماليزيا تمشي في ركاب الأخت الكبرى اليابان ضمن سرب واحد مستفيدة من عظمة التجربة الإدارية اليابانية، دون أن تفقد ماليزيا خصوصيتها الثقافية، والإسلامية على وجه الخصوص.

أعتقد أن لدى الأمة الإسلامية مشكلتين أساسيتين الأولى مشكلة مفاهيمية والثانية مشكلة إدارية، وإن العمل على حل هاتين المشكلتين المركبتين تحتاج إلى كثير من الوعي والعمل الدؤوب، وأرى أن على كل المخلصين العمل على الإشارة إلى المشاكل "البدنية" في الجسد الإسلامي مرحلياً على الأقل حتى تتعافى الأمة، عندها فقط فإن كل قوى الشر التي لم تنقطع منذ بدء الخليقة - والذي يمثله الصراع الأزلي بين الخير والشر- سوف تحسب ألف حساب قبل ارتكاب حماقات بحق مليار وثلاثمائة مليون مسلم في العالم (هذا طبعاً في حال كان لهم وزناً نوعياً).

هذه المقدمة كانت تمهيداً لطرح الإشكالية الإدارية في مؤسساتنا الإسلامية حتى نبتعد قليلاً عن التعميم ونحاول أن نتاكد من أننا نسيرعلى خطى صحيحة نحو تواجد حقيقي في المغترب.

 

المبادئ الإدارية في الإسلام: 1- الأمانة 2- الشورى 3- العدالة 4- تقديم مصلحة الجماعة

5- التخطيط والتنظيم 6- الحوافز

 

1- الأمانة: إن عمدة مسألة الأمانة هي ماورد في وصف المؤمنين في القرآن الكريم "والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون"  وقوله تعالى "ياأيها الذين آمنوا لاتخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون" وآيات كثيرة تحضّ على أن يكون حاضراً في ذهن الإدارة "الإسلامية" للمؤسسات مسألة الثواب والعقاب الإلهي، وتقدير حجم الأمانة التي أوكلها لفرد أو لمجموعة أفراد أوكلت لهم مقاليد الجالية الإسلامية –  كنموذج مصغر عن إدارة لدولة إسلامية – ورغم اعتقادي من خلال خبرتي المتواضعة على مدى أكثر من عقد في مؤسسات الجاليات الإسلامية في أمريكا الشمالية أن المشكلة الرئيسية لاتكمن في ضعف الوازع الديني والأخلاقي للقائمين على إدارة المؤسسات لكنها تكمن في عدم وجود معايير كمية تقيس هذه الأمانة!

يبدو هذا الكلام غير واضحاً للوهلة الأولى، فكيف يمكننا أن نضع معايير كمّية لحضور هذه الأمانة عملياً ورقمياً، فهل نحصي على الإداريين القائمين على المؤسسة الإسلامية عدد ركعات النوافل؟ أو عدد التسبيحات؟ بالطبع الجواب بالنفي لكن لو أننا أوجدنا في كل مؤسسة إسلامية لجنة خاصة بالدراسات والأبحاث تقوم بمهام دراسة التغذية الراجعةبشكل دوري من حيث رضى رواد المؤسسة سواء كانوا مصلين في حال مسجد، أو أهالي الطلاب في حالة مدرسة عن مدى رضاهم عن أداء هذه المؤسسة من حيث الأداء الإداري، ومن حيث سوية الخدمات التي تقدمها، أو من إعداد دراسات عن واقع الطلاب في هذه المدرسة الإسلامية أو تلك من خلال أخذ عينة عشوائية وتفحص السوية العلمية والدينية للطلبة قبل بدء العام الدراسي ومنتصفه ونهايته حتى يتسنى لأعضاء هذه المؤسسة الإسلامية الاضطلاع بالوضع الحقيقي لهذه المؤسسة بشكل متجرد وموضوعي، حتى يتسنى لنا ايجاد الحلول قبل تفاقم الأخطاء، فلايكفي أن تسمى المؤسسة "إسلامية" حتى تحصل على حصانة من الأخطاء بل لابد من التأكد بشكل علمي وكمي على الوصول للأهداف المخطط لها سلفاً، ولكن قبل ذلك على هذه المؤسسة أن تضع أهدافاً مرحلية وسنوية قابلة للقياس، من مثل أن يقرأ طلابنا بالعربية أو الانكليزية بنسبة خطأ لاتتجاوز 15% ، ونأتي بلجنة محايدة من خارج المدرسة تفحص عينة مؤلفة من عشرة بالمائة من الطلاب من كل المستويات لنرى ماهي نسبة الخطأ في القراءة والإملاء والعلوم والرياضيات والفيزياء ومواد أخرى، وبناء على نتائج هذه الدراسة نقرر أن يكون هدفنا بعد ستة أشهر تقليل حجم الأخطاء للوصول لأعلى نسب الانتاجية، وهنا نكون قد حققنا المبتغى من مفهوم الأمانة الإلهي.

إن غياب الأداء الإداري السليم قد يوقعنا في أخطاء وضع الرجل غير المناسب في المكان المناسب، وهي خيانة للأمانة مهما تلبس القائم على الأمر بلبوس ديني، ومهما أكثر من النوافل، فإن هذا لن يغير من السنن الكونية التي وضعها الخالق، فالمؤسسة سيكتب لها الفشل مالم تضع أفضل المؤهلين في مواقعهم الصحيحة. عندما قدم أبا ذر إلى رسول صلى الله عليه وسلم وطلب أن يوليه قال عليه الصلاة والسلام: "ياأبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها  وأدى الذي عليه منها"(رواه مسلم) ولم يوليه لكن هذا لم يحط من منزلة أبي ذر رضي الله عنه، وفي حديث آخر- كمايروي الإمام أحمد في مسنده- "من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح منه للمسلمين فقد خان الله ورسوله" لذا وجب الانتباه إلى هذه المسئولية في مؤسساتنا، فإنني أرى أحياناً في بعض مدارسنا الإسلامية من ضرورة التأكد من تأهيل معلمينا ليس فقط من النواحي المهنية – بمعنى الحصول على شهادة تأهيل التدريس – وهي مهمة جداً ولكن من حيث التأهيل النفسي والاستعداد للتعامل مع الطلاب وذلك من خلال معايير كمية تسند إلى هيئة تعنى بتقييم الأساتذة من حيث الأهلية للقيام بأمانة التعليم، فليس كل من يحصل على شهادة قادر على التعليم، فقد يكون البعض باحثاً أكثر منه معلماً، وإن مثل هذه الدراسات لايقصد بها التشهير بل تكون في غاية السرية مابين الإدارة والمعلم وهذا يرتب على الإدارة مهمة إخضاع المعلمين لدورات تأهيلية مستمرة وحضور الندوات والمؤتمرات الخاصة بطرق التدريس للوصول إلى مدارس إسلامية نموذجية، أو بشكل أعم إلى مؤسسات إسلامية نموذجية.

إن ماسبق من إضاءة سريعة ومقتضبة للدراسات الحيوية عن المؤسسات الإسلامية يأخذنا للمبدأ الثاني في الفكر الإداري الإسلامي ألا وهو :

 

2- الشورى: حيث حضّ الشارع في أكثر من مناسبة على مبدأ الشورى في قوله عز وجل "وأمرُهم شورى بينهم" وكذلك قوله تعالى "وشاورهم في الأمر"، ولو كان الله سيعفي أحداً من خلقه من المشورة لأعفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي "لاينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى"، ولكن رغم الحفظ الإلهي والوحي الرباني الجاهز لتصويب الأخطاء كان الأمر الإلهي واضحاً في ضرورة الشورى، وأعتقد دون أدنى شك أن غياب هذا المبدأ العظيم عن المؤسسات الإدارية في عالمنا الإسلامي على المستوى السياسي – فضلاً عن بقية المستويات- سبب رئيسي لتخلف الأمة التي تحيّد علمائها ومثقفيها عن تصويب مسار الأمة من خلال تعطيل قناة حاكم- محكوم أو تجميد مسار الشعب-السلطة.

إذا اردنا أن نعود للمحلية في المغترب، فمؤسساتنا تمتلك رصيداً من التجارب الناجحة في مسألة الشورى من خلال الانتخابات داخل المؤسسات الإسلامية –مع بعض التجاوزات- ولكن لابد من الإشارة هنا إلى ضرورة إلزام المرشحين لتحضير أجندة قابلة للقياس حتى يتم قبول ترشيحهم، فلايكفي أن يقوم زيد بترشيح نفسه ضد عمرو، لأن الأخير يجد في نفسه الكفاءة مثلاً، أو لأي اعتبارات اقليمية أو مادية أو حتى لتمظهرات دينية تشكل نوعاً من "المظهر الضاغط" على الناخبين (على قلتهم أحياناً)، ولكن لابد من وجود أهداف واضحة تُعّد مسبقاً من قبل المرشحين ويتم التصويت على أساسها، لأن التصويت أيضاً أمانة في ذمة الناخبين فمن غير المقبول أن يصوت اللبناني فقط للمرشح اللبناني، والسوري للمرشح السوري والمصري للمرشح المصري، في المؤسسة الإسلامية بحجة أنه "ابن البلد"، ولكن حفظ الأمانة الإلهية تكون أن يتم التصويت للكفؤ، ولصاحب الأهداف الحيوية حتى يستقيم أمر المؤسسة ونخرج من عقلية "العصبيات" وإلا نكون قد انتقلنا من نيران القومية إلى أتون الإقليمية، وأهداف المرشحين تكون من مثل: زيادة عدد أعضاء المؤسسة من 300 إلى 500 عضو مثلاً، أو تجهيز المؤسسة الإسلامية بأجهزة سمعية للترجمة الفورية من العربية للأنكليزية في حال إحضار متحدثين لايتقنون العربية، أو العكس بالعكس فلو جاءنا متحدث باللغة الانكليزية وبعض أخوتنا لايتقنون الانكليزية فبإمكانهم استخدام هذه التقنيات غير المكلفة، والمتوفرة بسهولة، أو أن يكون من الأهداف حتى تغيير سجاد المسجد مثلاً، أو توسيع مباني المؤسسة، أو تجهيز برنامج لتأهيل المعلمين في حال كانت الانتخابات تخص المدرسة، أو أي أهداف أخرى تصلح للمعايرة بحيث أن الناخبين آخر العام بإمكانهم تقييم الأداء الإداري للأخوة والأخوات - الذين لايشكك أحد في تفانيهم وإخلاصهم – عن طريق قياس مدى نجاحهم في تحقيق هذه الأهداف.

إن العمل "الديموقراطي" أو "الشوري" له بعدين الأول الناخب والآخر المنتخب، وقد أشرنا للأخير لكن علينا ألا ننسى مسؤولية الناخب بحيث عليه أن يكون فاعلاً في المؤسسة التي يتردد عليها، ويستفيد من وجودها كداعم لوجوده في المغترب، فالمؤسسة الدينية التي تتمثل في المسجد مثلاً ُتمثل الوجود الإسلامي لمسلمي "لندن" مثلاً، وتواجد ألوف المصلين في صلاة العيد دليل على هذا التمثيل، فلا يجوز من هذه الآلاف أن تنأى بنفسها عن المؤسسة عند حاجتها لخبراتهم الإدارية والمالية وحتى السياسية (خاصة أن بعض السياسيين لاتراهم الجالية إلا أيام الانتخابات)، لأن تواجد المؤسسة وتوسعها ووزنها النوعي رهنٌ بمدى تلاحم المؤسسة مع أعضائها وروادها، لذا ربما من المهم أن يتأكد القائمون على إدارة المؤسسة من العوائق الرئيسية التي تحول دون هذا التلاحم.

قد يقف في وجه هذا الالتحام مسائل إدارية بسيطة من مثل: مبلغ العضوية الذي قد يجده البعض كبيراً فربما يقوم المرشحين الجدد بوضع هدف تخفيض مبلغ العضوية لاستقدام الأخوة والأخوات الذين هم خارج المؤسسة حالياً للمساهمة في إحياء المؤسسة، وهذه المسائل كلها بحاجة إلى دراسة وتواصل مع من هم داخل و"خارج المؤسسة" حتى يتسنى للوجود الإسلامي أن يكون ذي وزن نوعي.

 

إن تناول الفكر الإداري من وجهة النظر الإسلامية لاتنفي الإستفادة من الخبرات الإدارية لعلماء الإدارة في الغرب والشرق، بل تؤكّد عليها، دون أن تنسى الإطار الأخلاقي الإسلامي الذي يسبغ خصوصية إدارية لمؤسساتنا بحيث تكون الحوافز دنيوية وسماوية، فهذه الخصوصية تساهم في "أنسنة" علم الإدارة ضمن مفهوم "العبودية" والتسليم للخالق، فهي لاتغفل أهمية الوازع الديني ولكنها بنفس الوقت لاتنسى أهمية المحفزات المادية على أرض الله.

 

3- العدالة:

إن عمدة الأمر بالعدالة في الأرض هو ماذكره الخالق جل وعلا في قوله: "اعدلو هو أقرب للتقوى" والعدل المطلوب ليس حكراً على التعامل مع المسلمين بل الأمر عام وشامل، لأن الخطاب القرآني حريص على إرساء العدالة في الأرض فبدونها لاتتم عمارة الأرض، ولذا كان منطوق الآية الكريمة "لاتبخسوا الناس أشيائهم ولاتفسدوا في الأرض بعد إصلاحها" لايخص فئة من الخلق دون سواهم، والحقيقة إن تطبيقات هذه العدالة في مؤسساتنا الإسلامية من مدارس ومراكز بحاجة إلى نظر، فالعدالة مطلوبة في التعامل مع الطلبة على اختلاف أجناسهم وأعراقهم بغض النظر عن أي نوازع بشرية أخرى كالتقرب إلى أعضاء "البورد" أو مجلس الإدارة، أو إلى تمييز طالب عن طالب بدافع إقليمي أو مادي، بحيث يكون معيار التمييز بين الطلبة هو اهتمامهم العلمي وأخلاقهم ومدى جديتهم في التعامل مع طلب العلم.

الأجر العادل للموظفين أو المعلمين مطلوبٌ أيضاً، فلايمكن للمعلم الذي لايمكّنه دخله أن يقوم بأود عائلته أن يعمل بالحد الأعلى، ولقد تناهى إلى سمعي أن هناك بعض المدارس "الإسلامية" التي تطلب من المعلمين أن يعملوا سنة كاملة كمتطوعين قبل أن تقوم الإدارة بالتكرم عليهم بالتعاقد معهم!! هذا إذا كان هناك تعاقد أصلاَ، وبأجور محزنة وغير عادلة لاتعادل الجهد الذي يقدمه المعلم، وهذا ظلمٌ يتوجب على المسلمين إنكاره بأمر من الله "كانوا لايتناهون عن منكر فعلوه"، وعلى الجالية بمؤسساتها القيام بتأسيس وقف خاص لأجور المعلمين تعنى بتحسين رواتبهم وتخصص لرفع كفاءاتهم، وإلا فإنا لاننصف المعلم إن نحن أكلنا أجره لشهور، بحجج واهية لاتنفع معها أسلمة المؤسسة لأنها تبقى محض شعارات سرعان مايشعر المعلم معها بالغبن ويسعى ليدرسّ في كل المدارس غير "الإسلامية" التي تنصفه ، هرباً من جور إدارات بعض المدارس الإسلامية.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم السخرة كماجاء في البخاري : "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي وغدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره".

يبقى السؤال إذاً: ماهو الأجر العادل بالنسبة للمعلم في مدرسة إسلامية؟ سؤال مشروع خاصة أن الموظف الوحيد –ماعدا بعض الإستثناءات- الذي يتقاضى أجر في المؤسسات الإسلامية هو المعلم والمعلمة. علينا أن نعطي المعلم أجر نظرائه من الأساتذة في المدارس الأخرى التي تعطي أجراً عادلاً لاأن نقيس الظلم على الظلم، فلايجوز أن نقول إن مدرستنا الإسلامية رواتبها أعلى من المدارس الإسلامية التي تحرم المعلم ظلماً أجره لمدة عام - وكأنه عامل سخرة في سيبيريا في زمن الاتحاد السوفييتي- لذا فإن أجورنا عادلة!! وقد كان هذا المنطق سائداً قبل تشكل وزارات العمل في العالم، وظهور نقابات العمال، وتحديد حد أدنى للأجور، لذا أرى أن النظر إلى معدل الأجور للمدرسين في مكان المؤسسة بناء على سنين الخبرة، والشهادات والكفاءات يجب أن يستأنس به حتى ندرك معنى العدالة التي عناها الشارع في الإسلام، وأقترح أن يشكل المعلّمون نقابة لمعلمي المدارس الإسلامية حتى يطالبوا بحقوقهم ولايسمحوا لبعض الإدارات بالإنقاص من حقوقهم، ويتبادلو الخبرات، ويستفيدوا من خبرات نقابة المعلمين الكنديين في هذا الأمر.

إن حجة المؤسسة الإسلامية في خفض الأجور هي معاناتها من قلة الموارد المالية فلذا هي مضطرة للجوء للضغط على الحلقة الأضعف في المعادلة وهي المدُرّس أو المُدّرسة، ولعل هذا جواب غير مشروع لسؤال مشروع!! فالإدارة الناجحة هي التي تتمكن من تجييش كل الطاقات لدعم مؤسستها مالياً، فلو أن إدارة المؤسسة ركّزت جهودها على التسويق لمؤسستها بمافيها من نشاطات ومدارس وملاعب لتصل إلى الشركات العملاقة كي تتبنى نشاطاتها ولتعلن عن منتجاتها من كتب ومواد غذائية، وأفلام أطفال، ووسائل تعليمية، لأمكن للمؤسسة أن تحصل على دعم مادي من هذه الشركات، فلو أن المؤسسة أعطت أعضائها بطاقات عضوية، واتفقت مع المحلات الكبرى وأماكن التسوق سواء الغذائية، أوالألبسة مثلاً على أنها مستعدة لتشجيع أعضائها للشراء من هذه المحلات لقاء نسبة 5 أو 10 بالمائة من المبيعات يعود ريعها للمؤسسة لعاد على المؤسسة الخير الكثير، ولو أن ممثلين عن مجلس الإدارة حرصواعلى تمتين علاقاتهم مع الشركات والمؤسسات الكبرى حتى يحضروا حفلة المدرسة السنوية ويعلنوا في تقرير آخر العام ويطرحوا على المؤسسات إمكانية قبول منَح باسم الشركات الكبرى لتوفر لمؤسسات الإسلامية الدخل الكبير، كذلك لو أن المدرسة قدمت عملاَ فنياً متقناً وباعت بطاقته بمبلغ معقول لعاد على المؤسسة بالخير العميم، سواء من خلال حضورالحفل نفسه أو من خلال بيع أشرطة الحفل على الانترنت.

لقد آن الأوان لفتح محافظ استثمارية للمؤسسات الإسلامية كوقف، فقد كان في السابق يتبرع أحد الأثرياء بمنزل أو متجر كوقف للمسلمين، ولكن في العصر الحالي أي شخص بإمكانه أن يتبرع بوقف عن طريق شراء أسهم تسجل باسم المؤسسة.

إن هناك أساليب تقليدية في التبرع وهو التبرع بالأموال عيناً، ولكن ماذا لو اقترحنا فتح حساب للمؤسسة مع شركات مالية بحيث تقبل المؤسسة التبرع بأسهم لشركات قليلة المخاطر المالية!! مثلاَ لو أن هناك شخص أراد التبرع بألف دولار فإنه بإمكانه التبرع ب50 سهم من شركة مايكرسوفت بدلاَ من المال العيني، فالمؤسسة بهذا الشكل تضمن الأسهم الخمسين، وربما تربح بها على المدى الطويل بسبب ارتفاع سعر السهم، فلو أننا فتحنا هذا الباب على المؤسسات لأمكن عن طريق خبراء ماليين تحقيق دخل مقبول للمؤسسة، وتبقى محفظة المؤسسة المالية تنمو سنة بعد سنة، ولو ارتأت المؤسسة أن تبيع بعضاً من أسهمها في الشركات فهي بالخيار حسب ماترتأيه من حاجة المؤسسة المالية.

الخيارات السابقة لرفع سوية الموارد المالية للمؤسسات يجعلها في بحبوحة أكبر بحيث يمكنها أن ترتفع بسوية أجور المدرسين وتسعى لتأهيلهم وتكون عندها أقرب لعدالة الأجور، ويكون مجلس إدارتها "أقرب للتقوى". 

 

4- تقديم مصلحة الجماعة

إن الخطاب الإسلامي حرص على تكريس مفهوم الجماعة وجعله مقصداً يسعى إليه القائمون على الأمر، دون إغفال الشارع لمصلحة الفرد ولكنّه أطّرها بخيرية الجماعة، والصيغ القرآنية كثيرة من مثل "ياأيها الذين آمنوا" و "اسجدوا مع الساجدين" و"كونوا عباد الله إخوانا" ولقد تجاوز الخطاب القرآني هذا لأن يحاكي البشر على أنهم نفس واحدة "خلقكم من نفس واحدة" ، فالهدف الأسمى هو الوصول لأعلى مراتب الخيرية للمجتمع المؤمن، ولامانع من تحقيق مغانم فردية طالما أن الوجود الجمعي لخلق الله بخير، والمطلوب التضحية بالمصالح الفردية أحياناً التزاماً برسالية المجتمع، والحفاظ على وحدته وترابط صفوفه والخلاص من الظلم فيه للحفاظ على نقاء الجماعة.

إن المجتمعات الرسالية التي تؤمن أنها صاحبة همّ دعوي لاتألوا جهداً في الإعلاء من القيم الجماعية، لأنها في النهاية تشكل نموذجاً مجتمعياً يتمتع فيه الأفراد بخيرات العدالة، حيث بها يعيش فيه أفراده في غالبيتهم في رحاب الإيمان بسلام واطمئنان .

إن تطبيق مبدأ "تقديم مصلحة الجماعة" في المؤسسات الإسلامية في المغترب يعاني بعض الشيء من خلل منهجي منشأه أمران: 1- عدم التفريق بين رغبة الجماعة ومصلحة الجماعة من جهة 2- وعدم احترام القانون الذي تسنه الجماعة من جهة أخرى، فأعضاء مجلس الإدارة عليهم أن يجتمعوا بمن رشحهم بشكل مستمر حتى يظلوا على تواصل مع الجماعة التي رشحتهم لأن يكونوا لهم ممثلين في المجلس، فقد تكون الجماعة قد وضعت ثقتها في شخص ما وحسبت أنه يمثل رغبتها في التطوير، ولكن مشاغل عضو مجلس الإدارة المنتخب منعه من الاستماع لرأي الجماعة سواء لإبداء رأيهم  في أدائه، أو حتى في أخذ رأيهم في بعض المستجدات، ويندر أن ترى أن هناك استبيانا قد وزع على مرتادي المؤسسة من أجل إبداء رأيهم في مسألة حيوية أو مستجّدة، ومن هذه الفجوة بين الناخب والمنتخب تتسلل إلى المؤسسة مشاكل لاحصر لها ينتج عنها ابتعاد الناس عن المؤسسة لأنها باتت لاتعبر عن آرائهم وآمالهم، وبعدها ينقص عدد الأعضاء وتمّر المؤسسة بسنوات عجاف، ومحن لايكون آخرها المحنة المالية.

ماهي آخر مرة طرح استبيان على أعضاء المؤسسات الإسلامية في كندا مثلاً هل يفضلون الانخراط في العمل السياسي ؟ وإذا كانوا يفضلون هذا الأمر فأي الأحزاب يفضلون؟ وإذا كانوا يقدمون حزباً معيناً فماهو رأي الأغلبية بدعوة ممثلين عن الحزب للمؤسسة؟ وهل يمانعون من دعوة ممثلين كل الأحزاب للاستماع لآرائهم؟

إذا علمنا أن مؤسساتنا في الغالب لاتقوم بهذاالعمل فلماذا هي تفاجئ في حال اعتزال الجالية العمل السياسي وعدم القيام بالتصويت؟ ماذا قدمّنا لأعضاء المؤسسة من توعية سياسية حتى نطلب منهم فجأة ودون سابق إنذار التصويت للحزب الفلاني دون سواه؟ ماهي المطبوعات التي ترجمت للعربية أو للأردو مثلاً على نفقة الأحزاب نفسها لتوعية الناخبين المسلمين؟

الوجه الآخر لحال المؤسسات أن عضو مجلس الإدارة المنتخب يقوم فعلاَ باستطلاع الآراء والعمل بكل ماأوتي من إخلاص وعزيمة على طرحها على المجلس لكنه يفاجئ أن هناك بعض الأعضاء غير مستعدين للالتزام بالقانون، وأحياناً تكون الغالبية للأسف تتعامل مع قانون المؤسسة على أنه قانون غير ملزم بل هو للاستهلاك الإعلامي، وتطبيقه تفضلُّ من العضو على المؤسسة، وليس التزاماً قانونياً وأخلاقياً بل وشرعياً، ولعلنا نلمس تطبيقات هذا الابتعاد عن الالتزام بالقانون بدءاً من توسل أعضاء مجلس الإدارة بعدم ركن السيارات في الأماكن المخالفة أثناء قدومهم للمسجد، مروراً بوضع الأحذية في أماكنها، إلى عدم ترك الأطفال يعبثون في أساس المؤسسة أثناء الصلاة، إلى آخر هذه اللائحة الطويلة التي يسعد أي عضو في مجلس الإدارة أن يخبرك عنها مع التفاصيل والأمثلة والأسماء.

إن التطبيق العملي لتقديم مصلحة الجماعة لايكفيه خطبة عصماء من على منبر، إنما تحتاج لقوانين ملزمة تبدأ من توجيه إنذار مكتوب لصاحب المخالفة إلى حرمان العضو من دخول منشآت المؤسسة في حال ارتأى المجلس أن تكرار هذا العمل سيعود على الجماعة بالضرر، والأصوليون يصرون على أن "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح" لأن هذا الأصل الفقهي يساعد المؤسسة ببساطة على "التخلية" من أضرار عدم الالتزام بقانون الجماعة، قبل "التحلية" والقيام بتطوير الأداء المؤسساتي.

تصور لو أننا وكلّنا شخصاً واحداً بأخذ أرقام السيارات التي تركن في أماكن مخالفة وتعرفنا على أصحابها وقام مجلس الإدارة بتوجيه رسالة خطية تعبر فيها عن رجائها الشديد لعدم تكرار هذا الخطأ "غير المقصود"، ومن ثم إعادة توجيه رسالة أخرى في المرة الثانية بلهجة أكثر صرامة لنفس "الأخ الكريم"، ومن ثم توجيه تنبيه نهائي لنفس الأخ في المرة الثالثة بأن المسجد مضطر لحرمان هذه السيارة من الركن داخل باحة المؤسسة لمدة شهر وقد أعلمت المؤسسة الشرطة بهذه المخالفة بموافقة المجلس، فكم يبقى من الأشخاص المخالفين من أعضاء المؤسسة خلال أشهر قيلية؟

إن العمل على تقديم مصلحة الجماعة يحتاج إلى علاقة نشطة وديناميكية مع أعضاء المؤسسة لتمثيل رأيهم بشكل أمين من جهة، وبحاجة لممارسة عملية على احترام القانون الذي سنته الجماعة في شؤونها الدنيوية من جهة أخرى، وأما ترك مصلحة الجماعة نهباً لتسيب البعض أو تقديم المجاملات الفردية والإقليمية على حساب مصلحة الجماعة فهذا هو عين الفشل الإداري في الدنيا، ولعله لايكون لاقد الله معبراً لفشل أخروي من باب عدم أداء الأمانة حقها.

 

5- التخطيط والتنظيم

إن ثمرات أفعال المؤمنين الدنيوية – طالما نتحدث عن أمور الدنيا الآن- ستُشاهد من أعلى قوة في الكون ومن قبل ممثلها في الأرض، ألم يقل تعالى في سورة التوبة "وقل اعملوا فسيرى اللهُ عملكم ورسولُه والمؤمنون، وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبؤكم بما كنتم تعملون"؟ إذاً فإن العبد المؤمن الذي تتجافى جنوبه عن المضاجع ويحمل الهمّ العمري الذي يخشى على شاة تتعثر لإهماله عدم تمهيد الطريق، لابد أن يلجأ لأعلى ماتوصل له علم الإدارة من التخطيط والتنظيم، وليس مصادفة أن يقوم عمر رضي الله عنه باستخدام الدواوين وتنظيم الأراضين واعمال تنظيمية وبلدية ومدنية كانت أعلى ماتوصل له إبداع الخلق آنذاك لأن أفعاله ستعرض على خالق الكون – هذا أخروياً- وأرضياً فإن المراقبين من "المؤمنين" من أصحاب العقول المستنيرة سيسائلونه عن تقصيره في عدم استقدام أحدث أدوات التخطيط والتنظيم.

إن المؤسسات الإسلامية في أمريكا الشمالية محسودة من قبل العالم الإسلامي أنها تحيى في دولة رائدة في الإدارة والتنظيم، ولكن حال الكثير منها لايعكس حال المناخ المحيط بها، فالمسؤوليات الإدارية في الغالب غير معروفة، وتوصيف الوظائف في الغالب ضبابي، فتختلط المهام وفي الغالب تناط أعباء النشاطات بثلة قليلة من أعضاء مجلس الإدارة، وبعض المتطوعين، الذين تستهلكهم طلبات الجالية وينتهي بهم الحال لاعتزال العمل التطوعي لكثرة المهام، وذلك بسبب عدم توزيعها على أعضاء مجلس الإدارة بشكل ُمنصف، فبينما يقوم البعض مشكوراً بأعمال تنوء عن حملها العصبة أولي القوة، يبقى بعض الأعضاء كأعضاء شرف يتفضلون على الجالية بطلعتهم البهية مرة في الشهر، ويتغيبون عن نشاطاتها، ولقد حضرت في إحدى المراكز الإسلامية مرة محاضرة هامة جداً غاب عنها العضو الذي دعى للمحاضرة!! وحضرها عضو واحد من مجلس الإدارة؟

توصيف عمل السكرتير، أوالإمام،أو المدير،أو المعلم، أمٌرعلى غاية من الأهمية، بعد توصيف مهام كل عضو من أعضاء مجلس الإدارة، والمسؤوليات على قدر الإمكانيات المعطاة للفرد و"الغُنم بالغُرم" فلايجوز تكليف شخص ما بعينه مالايطيق، ولايجوز محاسبته على مسؤوليات غيره، وكذلك على أعضاء المؤسسة احترام هذه الاختصاصات، والالتزام بقوانين المؤسسة حتى تنتظم الحياة المؤسساتية، وفي نفس الوقت فإنه من غير المقبول أن يكون العمل الخيري عشوائياً من المتطوعين متجاوزين المسؤولين المناطة بهم هذه المهام.

فهل يجوز لمعلمة العلوم تدريس اللغة العربية؟ أو لأي عضو من مجلس الإدارة الدخول على المدرسة للتفتيش دون إجراءات وتنسيق مع مجلس الإدارة؟ أو أن ينهض متطوع للأذان بصوته "غير الشجي" وبين يدي المصلين مؤذن صوته "ندي"؟ أو يقوم أحد المصلين بإطفاء الأنوار على المصلين لأنه يرى فيها مصلحة للمؤسسة؟ 

إن نشر النظام الداخلي للمؤسسة ومهام مجلس الإدارة وحث الأعضاء على الالتزام بها يرتقي أعضائها نحو مستويات مدنية راقية تطرح نموذجاً رائعاً للتخطيط والتنظيم.

 

6- الحوافز

سعى التشريع الإسلامي على وضع الحوافز والزواجر منذ اللحظات الأولى لتنزل الوحي القرآني، فالجنة والنار، والوعد والوعيد، وسقر والفردوس، فالحوافز الأخروية كثيرة "أولئك لهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجرالعاملين"، وكذلك الحوافز الدنيوية "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" وكذلك الآية التي تقول "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض"، كل هذه الحوافز هي بمثابة الحوافز التي تغري البشر للعمل الصالح لأن فاعلها يكون له جزاء عظيم، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يبخل لابالغنائم، ولابالصدقات كمكافآت مادية، ولم يفته كذلك الحوافز المعنوية فقد وزع الأوسمة على صحابته فهذا "الصديق" وذلك "الفاروق" و"أسد الله" و "حبر الأمة" و "أمين سر رسول الله" و "وسيف الله المسلول" والأوسمة التي نالها معظم الصحابة رفعت من معنوياتهم وأكدت على أهمية الحوافز الدنيوية والأخروية.

يشكو بعض القائمين على إدارة المؤسسات الإسلامية من خلط بين مفهوم الحافز المعنوي والمادي ومفهوم التواضع لله، فذكرُ الخيّرين وتكريمهم هو تأصيل لمفهوم الخيرية على سبيل "النمذجة" وليس الكبر، ولا التبختر في غير مايرضي الله، فيندر أن تجد على حائط المؤسسة الإسلامية أسماء مؤسسيها الأوائل والذين تعاقبوا على إدارتها، بمافيهم الإدارة الحالية، ويندر أن تجد في التقرير السنوي للمؤسسات الإسلامية صور هؤلاء الخيرين الذين بذلوا مشكورين ماوسعهم لبناء وتسيير أمور المؤسسة، فبين رافض لذكر اسمه لأنه يخشى أن يصيبه الغرور وأن يذهب أجره الذي أراده خاصاً لوجهه الكريم وبين إدارة حالية لاتريد أن تذكر السابقين لأسباب كثيرة لامجال لذكرها الآن.

لوكان أمر التواضع حقيقياَ لما سُجّل نصف تاريخنا ولما كان لدينا "تراجم الرجال"، وماأكثر ماتدخل مباني مؤسسات غير إسلامية وشركات كبيرة وجامعات وعليها صور وسير مقتضبة للمؤسسين وكبارالرجالات الذين ساهموا في تأسيسها، بل إن وضع أسماء وسير المؤسسي والإدارات يعطي النشئ الجديد حافزاً لهم لتكون أسماؤهم على جدران المؤسسة وبنفس الوقت تعطي نموذجاً معاصراً للعظماء والعاملين المخلصين، فيصبح الجيل الجديد من أبناء المغتربين والمهاجرين خير خلف لخير سلف.

أقترح أن يكون على جدران المؤسسات الإسلامية ومدارسها أسماء وسير المؤسسين، وكذلك سير مقتضبة للعاملين المتميزين وللإدارات المتعاقبة في التقرير السنوي والذي يمكن تبنّي طباعته إما من قبل أبناء الجالية (كأن يذكرمثلاٌ  طبع هذا التقرير على نفقة فلان) أو من خلال تبنّي بعض الشركات الثقافية على طباعته لأنها تحرص على أن تصل لكل الجاليات من مختلف الإثنيات العرقية.

الحوافز الدنيوية تتجاوز مسألة الدعم المعنوي إلى حوافز أخرى،كالمعاشات التقاعدية، والتأمين الصحي، وزيادة الرواتب، فليس من المقبول أن يكون لدينا مُدّرس لم يحظ بأي حافزلامادي ولامعنوي، ولاأ ي زيادة في راتبه على مدى سنوات، وليس لديه تأمين صحي، فلو استطعنا أن نتعاقد مثلاً مع أطباء أسنان مسلمين وحتى غير مسلمين على أننا في المقابل نسوّق لعياداتهم في التقرير السنوي، وأن نشجع أعضاء المؤسسة وروادها ومعلميها للذهاب لعياداتهم لقاء حسم خاص لخفُّف هذا عن موظفي المؤسسة، وكان حافزاً إضافياً فوق راتبهم.

إن إغفال أهمية الحوافز في إدارة مؤسساتنا الإسلامية خطأ لابد من استدراكه، لأنه تجاهلٌ للنوازع والدوافع الإنسانية، ولقد كتب عن موضوع الدوافع والحوافز في علم الإدارة فضلاً عن علم النفس المجلدات الكثيرة، والاستفادة من الخبرات الإنسانية أمر واجبٌ، بعيداً عن الفهم الخاطئ لمفهوم التواضع، فالرسول الكريم يدرك أهميتها ولم نسمع عن صحابياً أنه أصابه الغرور والكبر بعد تلقيه الوسام بل زاده تواضعاً، واستمرت المسألة على هذه الحال حتى بعد عهد الصحابة وهاهم الأئمة الأربعة تسمى مذاهب عمرها اأكثر من 13 قرناً بأسمائهم، وقد سمي القاضي أبو يوسف وهو حي ب "قاضي القضاة"، والليث بن سعد "إمام أهل مصر" والفراهيدي ب"إمام علم العروض"...الخ.

إن المؤسسات الإسلامية التي تريد أن تنهض بالأمة عليها أن لاتُغفل عظمائها، ولعل المقام لايتسع للدخول في تفاصيل مدرج الحاجات لماسلو والذي يُعّد الأكثر شيوعاً منذ أن قدمه ابراهام ماسلو من القرن الماضي، والذي خلاصته أن البشر عموماً تحفّزهم رغبات في إشباع حاجات تظهر هذه الحاجات بترتيب هرمي تحتل قاعدته الحاجات الفسيولوجية، ثم تعلوها حاجة الأمن ثم الحاجات الاجتماعية ثم الحاجة إلى التقدير والاحترام، ثم تأتي حاجة تحقيق الذات في رأس الهرم، ولايتم بزوغ حاجة إلى بعد إشباع التي قبلها، فيكون إشباع الحاجة التي تليها حافزاً، وإن الخطاب الإسلامي لم يغفل عن ضرورة تلبية هذه الحاجات فهي مبثوثة في النصوص القرآنية والنبوية - لايتسع المقام لذكرها- ولكن المشكلة المفاهيمية لدى بعض المسلمين والقائمين على مؤسساتها تنعكس سلباً على عدم إشباعها لدى أعضاء المؤسسة، ولعل تلافيها ضرورة من أجل ألا نفوّتُ علينا خيراً كثيراً نحن بأمس الحاجة إليه، حيث يصبح سؤال أحد العلماء المسلمين مشروعاً: "لماذا نكرم المسلمين بعد وفاتهم؟ وهو بأمس الحاجة إليه وهم أحياء".

 

د. أسامة قاضي: مستشار اقتصادي مقيم في كندا

 

 

 

05-01-2010 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=802