/
مقدمة الكتاب: سيد قطب فوق الاتهام .. ولكن!
معتز الخطيب
مقدمة الكتاب سيد قطب فوق الاتهام .. ولكن! قد يبدو غريبًا أن يكون شخص فوق الاتهام!. لكن هذا جاءلِيُمايز معالجتنا هذه لموضوع (سيد قطب وفكره) عن تلك "القراءة المريضة" - وربما سماها البعض "القراءة الظاهرية"، وفي هذا ظلم لمذهب إمامٍ كبير بوزن ابن حزم رحمه الله، مهما يكن موقفنا منه - فآفة تلك القراءة المريضة في عقول أصحابها وقلوبهم التي سوّلت لهم القول بكفر قطب نفسه أو أنه يقول بوحدة الوجود أو ما شابه ذلك!. كما أن نفي الاتهام وُضع ليميز بين الطعن في الأشخاص ومناقشة الأفكار، فلسنا هنا معنيين بشخص قطب -رحمه الله- جرحًا أو تعديلاً على طريقة المتسلفين الجدد الذين شوهوا علمًا جليلاً اسمه "الجرح والتعديل" فجعلوه مطية لادعاءاتهم وتصفية حساباتهم مع خصومهم!. إنه يجب الفصل - بحدة - بين الأفكار والأشخاص، وبين صحة الأفكار وتضحية أصحابها ومصيرهم، فموت الأشخاص في سبيل فكرة لا يعني صحتها، ولكن لا شك أننا نقدّر هذا الصدق والإخلاص للأفكار - مهما تكن - وقد عزّ في زماننا!. فهذان موقفان متمايزان: موقف أخلاقي نلتزمه، وموقف فكري نناقشه ونأخذ منه وندع. سيد قطب فوق الاتهام بوَصْفه شخصًا دفع حياته ثمنًا لأفكاره، وشَهِد أنّ شرع الله –وفق اجتهاده وإن اختلفنا معه- أغلى من حياته، ورفض أن يشتري الحياة الزائلة بكذبة لن تزول! وقال: إنه يرفض أن يكتب بسبّابةٍ توحّد الله ما يضارّها!. وهو القائل: "إن كلماتنا ستبقى عرائس من الشموع حتى إذا مِتنا من أجلها انتفضت حية وعاشت بين الأحياء"، وهذا ما يجعل من الفصل بين صحة الفكرة وتضحية أصحابها في سبيلها صعبًا على المستوى المنهجي، فالناس تتعاطف دائمًا مع الضحية، وأفكار الموتى تتقدس، فكيف بِمَن وُصفوا بالشهادة؟ إنها بهذا تتغذى من مَعين الثورية والقدسية معًا!. وهذا من شأنه أن يزيد الأمور تعقيدًا، ويصعّب الأمر على الباحثين في فكر سيد رحمه الله. لم يَدُر في خلدي يومًا أن أخصص كتابًا موضوعه سيد قطب، إلا أن وقفة العلامة الشيخ يوسف القرضاوي "مع الشهيد سيد قطب" في مذكّراته التي نشرها، وقوله: إن سيدًا رَكَن إلى التكفير وتَوَسع فيه، أثار انتقاداتٍ استدعت فكر الرجل، فنهض الشيخ للدفاع عن رأيه وكتب ما نُشر تحت عنوان "هل يُكَفر قطب مسلمي اليوم؟"، فزادت الانتقادات، ووجدنا أنفسنا متورطين في الموضوع، فخصصتُ ملفًّا عن الموضوع نُشر على موقع إسلام أونلاين سنة 2004م، قرأه الشيخ القرضاوي كاملاً، ثم كتب ما أسماه "كلمة أخيرة حول سيد قطب"، علّق فيها على ما جاء في الملف من مقالات وشهادات وانتقادات، ثم هدأت القضية وخِلتُ أن المعالجة بهذا كَفَت وَوَفت، حتى عادت المسألة إلى ساحة المناقشة والجدل من جديد في سنة 2009 حينما تحدث الشيخ القرضاوي - مرة أخرى - عن موقفه من سيد قطب في برنامج "منابر ومدافع" على إحدى الفضائيات المصرية: "فراعين"، فعاد السجال سيرتَه الأولى واحتدم، وانقسم الناس فِرَقًا!. وهذا ما استدعاني مرة أخرى إلى تخصيص هذا الكتاب عن الشهيد سيد قطب - رحمه الله – وفكره. ومن المهم هنا أن نبيّن تاريخ الاهتمام بفكرة التكفير؛ فقد بدأت في السجن أولَ الأمر، حين انتشرت بين مَن سُمّوا "إخوان 1965م" داخل المعتقلات، وأثارت فتنةً عارمة في صفوف الإخوان استدعت - في حينها - أن تُصدر الجماعة سنة 1969م كتاب "دعاة لا قضاة" بتوقيع المرشد العام حسن الهضيبي رحمه الله، الذي تمّ تداوله بين صفوف الجماعة حتى إنه كان يُسمى "البحث"، وذلك لمحاولة ضبط الوضع خوفًا من انتشار فكرة التكفير والحكم على معتقدات الناس. ويبدو أن تلك الفكرة انتشرت بعد كتاب "المعالم" الذي تم تصنيفه في السجن قبل الإفراج عنه للمرة الأولى سنة 1964م [1]، وقد تكون تلك المحنة –أعني فكرة التكفير- من آثار ذلك الكتاب، وقد رأى جمال باروت في مقاله الآتي أن حسن الهضيبي في كتابه يردّ على "معالم في الطريق" خاصة، مع أنه لم يذكر اسم سيد قطب ولا مرةً واحدةً في الكتاب !، لكن الشيخ القرضاوي – كما سيأتي – يعتقد اعتقادًا جازمًا أن الهضيبي وإخوانَه لم يقرؤوا ما كتبه سيد في ذلك الوقت، وإلا لَردّوا عليه بالاسم، في حين أن اسم المودودي والنقد الصريح له ورد في الكتاب المشار إليه. والسبب في ذلك –كما يرى الشيخ القرضاوي- أن كتابات قطب الجديدة لم تكن انتشرت في ذلك الوقت، ولذلك كانت كل المحاورات والمجادلات تدور حول ما سمعه بعض الأشخاص من سيد مشافهة. الموجة الثانية من فكرة التكفير –إن صح التعبير- كانت في سنة 1972م في الذكرى السادسة على استشهاد سيد قطب –رحمه الله- فقد أفردت مجلة "الشهاب" التي كانت تصدرها الجماعة الإسلامية في لبنان، صفحاتٍ للحديث عن سيد وفكره في ذكراه، بدأت بمقالة لمحمد البدري بعنوان "سيد قطب في يوم ذكراه" نقل فيها عمن "مكث مع سيد قطب عشر سنوات لا يفرقهما إلا نداء السجان عند الغروب ليدخل كلٌّ إلى زنزانته، ويجمعهما الصباح من جديد ليقضيا يومًا كله علم وفكر ودراسة في ظلال القرآن، فكان تلميذَ السيد وحواريَّه وحاملَ فكره والداعي إليه. هكذا قال عنه السيد نفسه رحمه الله، وهكذا عرفه إخوانه". في تلك المقالة يتحدث هذا الحواريّ عن ظروف نشأة تلك الأفكار، والضغوط والملابسات التي عاشوا فيها فولّدت تلك الأفكار، وينقل عن سيد قوله: إنه غيّر في الأصول لا في الفروع، ونقل فيها البدري عن حواريّ قطب هذا الذي لم يُسمِّه قوله: "وما أحسب سيد قطب والله –بما عرفته فيه وخبرته منه- لو امتدّ به الأجل، واستقبل من أمره ما استدبر، ورجع إلى دنيا الناس وواقع الحياة إلا غيّر وجدّد ورأى غير ما كان يرى، وقال غير ما كان يقول". لكن مقالة البدري أثارت ردودًا من المتحزبين لقطب، فكتب حامد أبو ناصر: "ليس في فكر سيد ما تدعو الحاجة لتعديله"، وفيه رأى أن سيدًا "بنى آراءه وأفكاره على أصول راسخة رسوخ الجبال"، ويقدم النصح للبدري وأمثاله بالقول: "نحن ننصح لهؤلاء أن يحتفظوا بأفكارهم ويتركوا شباب الدعوة وجيلها الجديد يتسلح بهذه الأفكار ويشق طريقه من خلال ظلام الجاهلية ليعيد الصرح الإسلامي الجديد"، ويتساءل عن الشيء الذي سيغيره قطب لو امتد به الأجل، "وهل العقائد عرضة للتغيير والتبديل حسب ظروف الفسحة والشدة؟". "صحيح أن الذي يستقصي حال المجتمع من الخمسينيات وحتى السبعينيات يجد أن المجتمع قد انتقل نقلة بعيدة، ولكن في مجال البعد عن الله عز وجل، ويجد أن التجدد فيما يقدمه اليهود وأتباعهم لهذه الأمة من موضات فكرية وتقليعات في العادات واللباس". إن صاحب هذا المقال يلح على استمرار الجاهلية، وأن المسألة مسألة عقيدة لا تتغير، ولا بد من إقامة صرح الإسلام الجديد. في أعداد لاحقة، كتب ع. أبو عزة مقالين بعنوان: "الحركة الإسلامية في الدوامة"، رأى في جزئه الأول أن الحركة الإسلامية حققت أعمالاً مجيدة، لكنها تواجه اليوم –أي أوائل السبعينيات- فراغًا فكريًّا مريعًا، أما في جزئه الثاني (عدد 17 السنة السادسة 1972) فقد استدعى وجهة نظر مخالفيه المفترضين فقال: "هؤلاء قد يحتجون - عادة - بأن هناك منهجًا حركيًّا مصوغًا مدوَّنًا متكاملاً ومطبوعًا في كتب تزخر بها المكتبة الإسلامية، وأن الحل الأمثل يكمن في تبني هذا المنهج ... وهم يعنون بذلك ما تضمنه كتاب (معالم في الطريق) للشهيد سيد قطب رحمه الله". ثم بدأ في نقد فكر قطب وكتاب المعالم فقال: "رغم قناعتي بإخلاص صاحب المعالم – رحمه الله – إلا أنني مقتنع كذلك بأنه جانَبَ الصواب في كثير من أجزاء الصورة التي تخيلها، والتي سماها الكثيرون من المتحمسين منهجًا، ورأَوا فيها الخلاص". وكرر فكرة أن سيد قطب "صاغ منهجه وهو يعيش ظروفًا بالغة القسوة ويتعرض لاضطهاد بشع، ولقد استثارت فيه هذه الاضطهادات أعنف أنواع التحدي وأشد حالات الرفض، وقد عبّر عن هذه الأوضاع النفسية بعواطف مشبوبة وبأسلوب أدبي أخّاذ. وإذا كان له عذره فيما قال وكتب، فمن المؤسف أن لا يدرك بعض الشباب المخلص أن ما يقوله إنسان أو يكتبه في مثل هذه الظروف لا يمكن أن يكون معبِّرًا عن حقيقة رأيه فيما لو عاش ظروفًا طبيعية هادئة. إنها ليست منهجًا إسلاميًّا، إنها صرخات احتجاج عنيفة صادرة من قلب يتمزق ألمًا ويذوب حرقة من لهب الاضطهاد المتلاحق". ويرسم أبو عزة ملامح التفكير الجديد المرجو من الحركة الإسلامية بإعادة تحديد موقف الفرد الإسلامي –بوضوح- من حركته، فرديًّا وجماعيًّا، وموقفه من أفراد مجتمعه من مسلمين وغير مسلمين، ومن الشعوب الأخرى، ومن العالم أجمع. ثم إعادة تحديد موقف الحركة الإسلامية من مجتمعاتها وحكام بلادها على اختلاف مسالكهم، ومن عامة المسلمين وغير المسلمين، إلى جانب ملامح أخرى. فأبو عزّة كتب في الذكرى السادسة لقطب، نقدًا جذريًّا لفكر قطب، ومعالمه، واقترح إعادة التفكير من جديد في مجمل المسائل التي طرحها قطب بتحديد الموقف من المجتمع والحكام والأفراد وغير المسلمين والرؤية إلى العالم وغير ذلك. وهو المنهج الذي رأى أنه يغيب عن الحركة الإسلامية في وقتها، التي تعاني فراغًا كبيرًا. أثارت كتابة أبي عزة انتقاداتٍ، فكتب محمد سلامة جبر في عدد لاحق ما عَنْونَه بـ"حاول أن يلغي بعشرة أسطر ما كتبه سيد قطب في عشر سنوات"، قال فيه: إن سيد قطب لقي "أحسن المعاملة بعد انتهاء البداية القاسية للمحنة، ووضع في المستشفى مدة سجنه، وسُمح له بالكتابة والنشر وزيارة الأهل له بانتظام ..."، وإن سيدًا "اعتصم بالدليل في كل ما كتب، وفي كل ما خطّ من منهاج وغاية"، وإن وجوب الرد على أبي عزة ليس مبعثه الحرص على مقام سيد في النفوس فقط، بل الحرص على عدم التشكيك في الغاية التي حددها سيد والمنهاج الذي رسمه أيضًا. ثم كتب محمد توفيق بركات مقالاً بعنوان "النقد بين الموضوعية والتشكيك"، ردّ فيه على أبي عزة، وأعاد القول: إن الأستاذ سيدًا "كان في جو يسمح له بالكتابة مدة سبع سنوات حيث انقطع التعذيب تقريبًا في أعوام 1958م إلى 1965م، حين اعتُقل ثانية"، وقال: إن الموضوعات التي اقترحها للتفكير قد "أجاب عليها سيد قطب بصورة مفصلة، وأجاب على موضوعات أخرى لم يخطر لأبي عزة أن يومئ إليها!". ثم كتب حامد الرفاعي "فكر سيد قطب يواجه التحديات"، ورأى أن هناك "هجمة عنيفة ومركزة تستهدف فكر المجاهد الشهيد سيد قطب طيّب الله ثراه"، ورأى أن تلك الهجمة مشبوهة، وتساءل في آخر المقال: "ما هي الفائدة المرجوة وفي مثل هذه الظروف القاسية المريرة التي تعانيها الحركة الإسلامية في كل مكان، من الخوض في مثل هذه الموضوعات على افتراض وجودها ..."؟. ثم كتب صالح عرفان مقالاً رأى أن سيدًا "رسم صورة حقيقية لمجتمع خبره وعرفه عشرات السنين"، وأنه قد "شهد لكتاب المعالم كبار رجال الفكر الإسلامي، بل إن الأستاذ علي الطنطاوي وصفه بأنه أفضل كتاب أُلّف في العشرين سنة الأخيرة"، وأن سيدًا "كتب المعالم في الفترة الأولى من سجنه وليس في الفترة الثانية التي تعرّض فيها لاضطهاد أبشع وأقسى، أي في نفس الفترة التي كتب فيها الظلال" [2]، وإلا علينا أن نسلم بأن الظلال أيضًا صرخات !. ثم "إن كبار المفكرين وأصحاب المذاهب الفكرية والمذهبية كتبوا أحسن ما كتبوا وهم في السجون"، والمرحوم سيد هو الوحيد صاحب المدرسة الفكرية الجديدة من بين أبناء الدعوة بعد المرحوم حسن البنا، هو الوحيد الذي زوّد الدعوة بآراء واجتهادات جديدة وجريئة وواثقة". وقد دفعت هذه الردود ع. أبو عزة إلى إثبات أن سيد قطب يكفّر عامة المسلمين، فكتب مقالاً مطوَّلاً عن "التكفير والجاهلية" نُشر على ثلاثة أجزاء [3]، أورد فيه نقولاً من كتاب المعالم تحتوي على التكفير، ثم بيَّن موقف العلماء من التكفير. الموجة الثالثة من التكفير –إن صحّ التعبير كذلك- كانت في سنة 2004م حينما تَعرَّض الشيخ القرضاوي –أثناء كتابة مذكراته- إلى موقفه من سيد قطب، وأنه رَكَن إلى التكفير ومال إليه، فأثار كلامه انتقادات عديدة كان بعضها حادًّا، فاضطُرّ لجمع النصوص المؤيدة لكلامه من كتب قطب: الظلال، والمعالم، والعدالة الاجتماعية، وهذه الموجة التي ساهمتُ فيها بالإعداد والتحرير والنشر على شبكة إسلام أونلاين. ثم أُعيد فتح الموضوع سنة 2009م حينما تحدث في البرنامج المشار إليه سابقًا، وأثار انتقادات غلب عليها الانفعال والإنشاء، نُشرت على شبكة إسلام أونلاين ولم نتعرض لها في هذا الكتاب؛ لأنها تفتقر إلى العمق والجدية، مكتفين بانتقادات سنة 2004م. وقد بدأ نَقْد القرضاوي لأفكار سيد قطب مبكرًا في بداية الثمانينيات من خلال نقده لموقف قطب من الاجتهاد الفقهي، ودوّن ذلك في كتابه "الاجتهاد في الشريعة الإسلامية" [4]، وكذلك بدأ نَقده في مسألة التوسع في التكفير أثناء مشاركته في أحد مؤتمرات البحرين مطلع الثمانينيات فيما أحسب. والمتأمل لتاريخ الحركة الإسلامية الإخوانية تحديدًا، يدرك أن فيها علامتين بارزتين بعد مؤسسها حسن البنا، وهما قطب والقرضاوي، فأحسب أن القرضاوي شغل فراغًا كبيرًا عانى منه الإخوان، من حيث "غلبة الجانب العملي والجهادي على الجانب العلمي والفكري" [5]، وهذا الفراغ كان الدافع لمحاولة تلقيح فكر الإخوان المسلمين بفكر "الجماعة الإسلامية" في شبه القارة الهندية [6]. بل إن جهد القرضاوي يتضح بجلاء في تنظيره للحركة الإسلامية، وتأصيله لقضاياها تأصيلاً "شرعيًّا" يصل التراث بالمعاصرة، وفق مسلكيته الوسطية، وهذا ما يميزه عن كاتب بحجم الغزالي - رحمه الله - على عمق أفكار الغزالي ووضوح اتجاهه الإصلاحي. ويتضح هذا الفراغ الذي شغله القرضاوي، في مجيئه بعد سيد قطب الكاتب الكبير الذي كسبه الإخوان في صفوفهم، لكنهم غصّوا به وبفكره، فالفراغ الذي عانوا منه، والتلاقح الذي حصل من فكر المودودي، توّجَه انضمام سيد قطب إليهم، وتطويره لأفكار المودودي: الحاكمية والجاهلية، وهو ما أحدث انتقادًا واسعًا داخل الجماعة نفسها، وبقي محلّ جدل حتى الآن، إذ لا تزال تعزى ظواهر العنف والتكفير إلى سيد قطب بوصفه الأب الروحي لها [7]. وفي الواقع ساهمت جهود القرضاوي في رأب الصدع الذي أحدثته أفكار سيد قطب، التي خالف فيها دعاة الحركة الإسلامية قبله، وأبرزها أربعة أفكار بالغة الخطورة: الأولى: "الحاكمية السياسية" التي استعارها من المودودي، وعنها برزت فكرة تكفير الأنظمة القائمة، والثانية: أنه بنى على فكرة الحاكمية تكفير المجتمعات المسلمة وأنها لا بد أن تدخل الإسلام من جديد عبر شهادة أن لا إله إلا الله على معنى الحاكمية المطلقة، والثالثة: أنه قدم مفهومًا جديدًا للجهاد اعتبره فيه حربًا على العالم بأسره، والرابعة: أنه لا معنى – برأيه – لما يحاوله علماء العصر من تطوير الفقه الإسلامي أو تجديده أو إحياء الاجتهاد فيه، ما دام المجتمع المسلم غائبًا من أصله. فإيجاد المجتمع المسلم يسبق الاجتهاد له لحل مشكلاته. لم يكن القرضاوي في تلك المرحلة قد برز كاتبًا مشهورًا، فهو حين خرج من مصر 12/9/1961م لم يكن له إلا كتابان [8] هما: الحلال والحرام، والعبادة في الإسلام، وهما كتابان لا يبدو فيهما البعد الشمولي للإسلام ذي الغائية السياسية. وأحسب أن هذا البعد – على مستوى الكتابة - ظهر متأخرًا بعد إعدام سيد قطب، والنكبة، وقد قام مشروعه - في أصوله الكلية – على عكس مشروع سيد قطب تمامًا، فهو بكتابته كتاب (الحلال والحرام) لمسلمي الغرب، يجتهد لمسلمين في مجتمع غير مسلم أصلا، في حين أن قطبًا يمنع الاجتهاد للمجتمع المسلم نفسه بحجة أن إسلامه غير صحيح!. وعلاقة القرضاوي بالغرب ليست علاقة مفاصلة، والجهاد لديه دفاعي وليس هجوميًّا على عكس قطب، والمجتمعات الإسلامية إسلامها صحيح لكنه يحتاج إلى "ترشيد"، ولذلك كتب كتبه العديدة في "ترشيد الصحوة"، بل إن القرضاوي قد آثر مناقشة أفكار قطب والرد عليه في مسائل عديدة بدأت بفكرة الاجتهاد، وانتهت بفكرة تكفير المجتمعات المسلمة. بل إن القرضاوي أدرك ذلك الفراغ الفكري في الحركة الإسلامية وراح يملؤه، أولا من حيث إنتاجه الوفير في مجالات العلم الشرعي والفكر والحركة، ثم في إدراك نقطة الضعف الأساسية في مشروع قطب وهي "أنه كان شديد الإعجاب بعلامة الهند الكبير الأستاذ أبي الأعلى المودودي وأنه اقتبس –تقريبًا- جميع الأفكار التي كانت موضع الانتقاد في مشروع المودودي" [9]. والقرضاوي مع هذا، أفاد من قطب ومن المرحلة التاريخية التي عاش فيها، فقد قطف ثمار الصراع مع القومية والتقط اللحظة المناسبة للكتابة في النظام السياسي الإسلامي بوصفه حلاً حتميًّا، وذلك بعد إعدام قطب وفي ظل نكبة القومية العربية. جاء ذلك في سياق توسع شعبي ملموس لدائرة النشاط الديني وبروز بوادر "الصحوة الإسلامية"، ولهذا فقد " نجحت المرجعية الإسلامية في جذب جمهور واسع لأنها قادرة كعقيدة دينية على تجاوز التقسيمات التقليدية التي كانت تفرزها العقائديات الحديثة الطبقية والفكرية، وفتح المجال أمام تكوين تآلفات سياسية جديدة ... لا تقبل ولا تقصي إلا على أساس معيار واحد: إعلان الانتماء للإسلام والأخذ به شعارًا سياسيًّا إضافة إلى ما يمثله بشكل طبيعي كدين" [10]. بهذا المعنى، يمكن فهم وسطية القرضاوي، وإضافته التي قدمها للحركة الإسلامية، لجهة ترشيد الحاكمية والصحوة الإسلامية، ولجهة ممارسة الاجتهاد الفقهي، وبهذا المعنى شكّل رافدًا كبيرًا لإزالة الغلو والتطرف الذي طرأ على الحالة الإسلامية بفضل تنظيرات المودودي وسيد قطب "الانفصالية"، وما لحقهما من جماعات تَغَذت على أفكارهما [11]، وهذا المعنى الذي أشرحه لم يتنبه إليه بعض دعاة العلمانية من خصومه الذين يخوضون معارك شخصية وأيديولوجية معه ومع فكره، دون إدراك للحالة الفكرية والاجتماعية العامة التي سادت منذ السبعينيات وحتى الآن، وكيف أنه شكّل صِمَام أمان حال دون توسع مزاج التشدد وأفكاره فبقي مقصورًا على جماعات وفئات معزولة هنا وهناك. باختصار، جاء مشروع القرضاوي ضد مشروع قطب الذي تعاطى مع الإسلام كتلةً واحدة لا تقبل التجزيء ورأى أن الأمة المسلمة انقطعت، وفَرْقُ ما بينهما فرقُ ما بين الداعية المناضل، والداعية الفقيه. إنه بالرغم من رأينا السابق، فإن فكر قطب يبقى فكرًا جدليًّا يثير الكثير من التساؤلات عن سياقاته وكيفيات تَشَكُّله وتحولاته، وعن علاقته بالتكفير، وبجماعات العنف، وبتنظيم 65، وبفكر الإخوان، وغير ذلك من مفاهيم كالجاهلية والحاكمية وغيرهما. إن هذا الكتاب حول "سيد قطب"، يتناول علاقة فكر قطب بقضيتين رئيسيتين هما: التكفير، والعنف، وهو إذ يفعل ذلك يُظهر اختلاف أنظار الناس في فهم مقولاته، وقراءة فكره في سياقه العام، ولكلٍّ وجهةٌ هو مُوَلّيها. والجدل حول "سيد" ليس جديدًا، ولا ضيقًا، ومع ذلك فهو يلقى تعاطفا كبيراً في أوساط الإسلاميين، مقابل خصومة شديدة من غيرهم، والبعض يرى فيه ابتعاثًا لفرقة الخوارج التي ظهرت في القرن الهجري الأول ورفعت شعار "لا حكم إلا لله". وبعضٌ آخر يرى أنه أسس للتشدد الديني ومهّد لحركات التكفير والهجرة التي عرفتها الساحة العربية والإسلامية في الثمانينيات وما بعدها. لأجل ما سبق كله فتحنا الباب لمختلف وجهات النظر، فهو بالاعتبار الأول ربما يقرؤه البعض على أنه جدل "حزبي"، وعلى الاعتبار الثاني نرى أنه موضوع راهن له صلة بالحديث عن العنف والدولة ورؤية حركات الإسلام السياسي والتغيير والإصلاح. تناول هذا الكتاب على المستوى المنهجي ثلاثة محاور: · مقالات تحليلية عن فكر قطب انشغلت بأسئلة رئيسة هي: السياق التاريخي لنشأة فكر قطب والموازنة بينه وبين البنا (طارق البِشْري)، وعلاقة فكر قطب بفكر جماعات العنف والصلة الفكرية بينهما (معتز الخطيب)، ثم قضية التكفير عند قطب وهل يكفر المجتمع؟ (القرضاوي وجمال سلطان ويحيى هاشم)، وموقف حركة الإخوان من فكر قطب والقطبية (جمال باروت). · نصوص لقطب من كتبه الثلاثة: في ظلال القرآن، ومعالم في الطريق، والعدالة الاجتماعية في الإسلام، تحمل –بحسب البعض- تكفيرا منه للمجتمع، وهي –بحسب آخرين- مشتبهة يجب تأويلها. · شهادات تاريخية: وهي لها أهميتها المنهجية في الحديث عن فكر قطب، سواء لجهة فكر الرجل بشكل عام، أم لقضية التكفير على وجه الخصوص، وكذلك من جهة مكانة فكره، وتعاطي مَنْ حولَه مع انشغالاته وقراءتهم له، وهو ما يعتبر تأريخًا لمرحلة مهمة من تاريخ الحركة الإسلامية. وقد حَرَصتُ أن تكون الشهادات على قسمين: شهادات لأموات دوّنوها في مذكراتهم أو نحوها، وشهادات لأحياء كانوا مع سيد قطب، وخصوصًا من تنظيم 1965م الذي ظهرت بينه قضية التكفير قديمًا سنة 1968م لأول مرة. وقد ختمتُ الكتاب بفصل مستقل خصصتُه للحديث عن الصراع بين السلطة والمعرفة، قدّم فيه رضوان زيادة قراءةً لذلك الجدل القديم المتجدد، من خلال الكتاب الشهير لقطب: "معالم في الطريق". أما المشاركون في هذا الكتاب: فقد حرصتُ على تنوعهم بين إسلاميين وغيرهم، وبين إسلاميين مستقلين غير منتمين، وبين منتمين، وبين بعض الإخوان في توجههم العام وبين توجه تنظيم 1965م، وأرجو بهذا أن أكون أتحت مختلف الآراء وَوَفيت الموضوع حقه. وقد حرَّرت النصوص، وراجعتها، ووضعتُ لها –في الأغلب الأعم - عناوين فرعية تسهيلاً على القارئ. [1] ينبغي التنبيه إلى أن أصل كتاب المعالم مستلٌّ من كتاب "في ظلال القرآن"، مع زيادات عليه. ويظن البعض أن الكتاب كان السبب في إعدام سيد قطب، ولكن ذلك غير دقيق؛ فالكتاب نُشر في عهد عبد الناصر، ويبدو أن السلطات لم تدرك خطورة الكتاب وقتها. [2] تأمل إصرار ثلاثة من الكتّاب على التخفيف من وطأة السجن أو تصويره على أنه مريح؛ للرد على فكرة أبي عزة!. مع أن محمد البدري حين نقل عن حواريّ سيد وصفه للظروف والضغوط والأجواء التي وُلدت فيها الأفكار لم يتطرق إلى فكرة التعذيب أصلاً!. فلو أخذنا برأي الناقدين أنفسهم بشخصية قطب، وأنه كان مرهف الإحساس أديبًا، فإن الأثر المعنوي للسجن أبلغ من مسألة التعذيب، ولنا في محمد الماغوط خيرُ مثال على أثر السجن في بنائه النفسي وتفكيره، مع أنه سُجن لمدة قصيرة جدًّا، ولا أعرف أنه لقي تعذيبًا ولم يتحدث عن تعذيب، ووصف إحساسه بالسجن فقال: "أحسست أن بداخلي شيئًا تَحطّم، فكل كتابتي - بعد السجن - من مسرح وشعر وسينما وصحافة كانت حتى أرمم هذا الكسر، وما قدرت على ترميمه حتى الآن"!. [3] نشرنا هنا في هذا الكتاب جزأيه الأول والثاني. [4] صدرت طبعته الأولى سنة 1985م، وأصله بحث لملتقى الفكر الإسلامي في الجزائر سنة 1983م، ثم طوره. [5] القرضاوي، ابن القرية، القاهرة: دار الشروق، ط1، 2002م، 1/319.، وانظر اجتماعه مع عدد من إخوانه بدافع شعورهم بأن الجانب الفكري في الجماعة يجب أن يُنمّى وأن يؤصّل في 3/155. [6] انظر: القرضاوي، ابن القرية، 1/319، وخليل علي حيدر، الحركات الإسلامية في الدول العربية، الإمارات: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، ط1، 1998، ص23-24. [7] سيأتي الحديث عن سيد قطب وجماعات العنف في هذا الكتاب. [8] كتب بعض الرسائل الصغيرة مثل "قطوف دانية" و"رسالتك أيها المسلم" وغيرها. انظر: ابن القرية، 2/291. [9] القرضاوي، ابن القرية والكتاب، 3/65-66. [10] برهان غليون، نقد السياسة: الدولة والدين، بيروت: المركز الثقافي العربي، ط3، 2004م، ص281-282. [11] يرى فهمي جدعان أن نزعة الانفصال والتقابل لم تنجم إلا مع المودودي وسيد قطب والجماعات المنعوتة بالأصولية، بفضل فكرة الحاكمية التي جعلت "الحكم الإسلامي" مبدأ لكل فعل في المجتمع والدولة. انظر: فهمي جدعان، في الخلاص النهائي، عمّان: دار الشروق، ط1، 2007م ص322.
05-01-2010 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=803 |