/

 

 

العقيدة والسياسة وفقه المواطنة

محمد عمر سعيد

لا ريب في أن إحدى الإشكاليات الجوهرية لدى المسلمين اليوم هي تصورهم كل من الديني والمدني مسألتان منفصلتان، ما قد أدى بهم إلى أن جعلوا من الدين دعوة سياسية به يسعون إلى السلطة والحكم، كما صارت المدنية أيضا دعوة عقيدية تنفي الدين عن السياسة عنوة؛ بينما الأمر كله ليس إلا نتاج خطأ خطير أدى إلى تسطيح كل من الديني والمدني عنوانا للأزمة الحضارية الإسلامية الراهنة (كما كنا قد انهينا مقالنا: الإنسان بين الدين والسياسة في عدد أفريل 2008 من العمران)، وقد أدى ذلك إلى معايشة تجربةٍ غُفل لا تقدم له ما يمكن أن يكون وقودا يحقق به القفزات والطفرات المطلوبة منه في هكذا لحظة حضارية حساسة وحرجة.

وأود أن أكرس هذا المقال لتحليل الوضع الإسلامي الراهن وعلاقته بالاستراتيجيات المحيطة به (التي تتحدد بكل من الأقطاب الأربعة 1.أوروبا المتحدة 2. روسيا 3. الصين 4. والهند باعتبارها أقطاب تنافس القطب الحالي المسيطر 5. الولايات المتحدة والقطب القادم المفترض 6.عالم الإسلام الذي لا يملك أي تخطيط، إذ على هذا التصور للاستراتيجيات الكونية وجب يتم التخطيط، وذلك يفيد بأن عدو اليوم قد يصبح صديق الغد)، وهو لا يمتلك الأسباب الفنية للتخطيط فضلا عن أن "يخضع" لاستراتيجية وطنية أو إقليمية تضعه في مضمار التنافس بين كبريات الأمم، وهذا ما يعني أن أولوية اللحظة الحضارية الراهنة إنما تكمن أساسا في عملية إعادة تأهيل جذرية حتى يمتلك ما يسمى بـ "الإمكان الحضاري"، وذلك في ظل تعقيدات كبرى ومضاعفة تحول دون تحقيق ذلك، أولاها التعقيد الداخلي: فما زال الإنسان المسلم يعيش ضمن حدود الدولةـالقبيلة ولم يتحرر بعد من البنية النفسية التقليدية التي تحرمه من المعايشة الحيوية للمعاني الدينية وكذا من فقه أواليات وأسس بناء الدولة الحديثة، وأما التعقيد الخارجي فيختصر ضمن مفهوم ظاهرات العولمة بما تحمله في طياتها من توحيد مسار التاريخ الإنساني في ظل تلك البنية النفسية الإسلامية التي تجذبه إلى المراوحة عند أضيق حدود الذات.

والمفارقة الكبرى الناتجة عن التعقيدين الداخلي والخارجي تأتي من السمة النكوصية للأول والسمة الإحتوائية للثاني، أعني أن المراوحة الإسلامية أدت إلى إعادة إحياء وتجديد وتنشيط لكل الكمون التاريخي الممتد في التاريخ الإسلامي (بأخضره ويابسه) بما يعدم فعالية كل تطور حصل حتى ما كان منه أخضرا، فيستحيل الأمر كله يبسا لا يرتجى منه شيء، وذلك لكون السعي إلى إحياء الماضي ضمن حدود التجربة الإسلامية الحالية التي أسلفنا أنها غُفل لا تقدّم له شيئا يذكر بالنظر إلى تسطيح الأمر عند صراع وحرب أهلية تكاد تكون دائمة بين ما أسميناهما تجاوزا بالدينية والمدنية، إذ الأمر لا يرتقي عند نخبنا الرسمية التي تتنابز بالألقاب عن أن يكون نظام حكم إسلامي أو علماني هي لما بعد أبانت ضمنه عن إمكانيات فكرية تجعلنا نحكم بأهليته، ويمكن أن يحقق مشروعا حضاريا ضمنه يعالج الأدواء المزمنة ويمكن من تقديم مخططات تجعلنا نأمل يوما ما في التوصل إلى صيغة مشتركة عليها يجد الفرد المسلم مبوتقا ضمنها منذ ولادته! 

بذا، يتبين أن ما نحن بحاجة إليه بأكثر استعجالية ضمن اللحظة الحضارية ـ التي هي الأكثر أهمية من اللحظة السياسية أو الاجتماعية فضلا عن أنها لحظة أعمق وهي على المستوى الكرنولوجي للزمن أطول أيضا ـ البحث في كيفيات القيام بإعادة التأهيل التي تقدّم الكلام عنها. والبحث في الكيفيات هو عين المطلوب الآن، وذلك لما يحققه من اختصار مفيد يصلح الخطأ الخطير المتمثل في تسطيح الأزمة الإسلامية ضمن السياسي؛ حيث تسيس كل الديني والمدني فصار الفكر مسيّسا هو الآخر.

وحتى يتضح مفهوم "البحث في الكيفيات" الذي هو في أصله إحياء لروح السؤال المسؤول، نجمع ما حصل لدينا من معطيات متشابكة حتى نعيد تأسيسها من جديد لإعطاء الصورة الأصلية لسؤال الأزمة ومن ثم الاجتماع على علاجها الكيفي.

فلا شك أن اللحظة، أيّة لحظة، هي مصب لمجرى التاريخ المتقدم عليه بمستوياته الثلاث دونما انفصال بينها القريب منها والمتوسط والبعيد، علما أن اللحظة ذاتها ستكون هي كذلك ضمن المستويات الثلاث بمرور الزمن وتقادمه، مما يعني أن اللحظة التي يعيشها الإنسان ليست إلا نقطة في نهر التاريخ المنساب منذ الأزل، واستيعابها هذه الحقيقة يكشف لنا عن حقيقة أن أي فعل في اللحظة إنما يتسجل ضمن الشريط الأطول للتاريخ ومن ثم فإن الفعل التاريخي لا تسجل فاعليته إلا ضمن تلك الصورة السرمية للصيرورة التاريخية.

وذلك معنى القول بأن التجربة الراهنة للمجتمع المسلم تبقى غُفلا كونها لم ترتق بعد إلى توسيع أفق الرؤية والارتفاع إلى مستوى الأحداث بلغة مالك بن نبي، أي التوسع الذي يحدث على المستويين الأفقي (وعي الجغرافيا) والعمودي (وعي التاريخ)، أعني الملامسة الحية والمباشرة من قبل الفرد المسلم للأحداث التي تجري من حوله بدءا بذلك الذي يخدشه في جوارحه وشعوره مباشرة إلى أقصى الدوائر بعدا عنه سواء أكانت في التاريخ أم في الجغرافيا، وقبل ذلك وبعده الربط الصحيح بالتفهم والتفسير غير المغالط ولا المغلَّط بين كل ذلك، بما يرفعه إلى أن يحمل لقب "المواطن العالمي" بوصفها شهادة عن استيعابه لمنطقي التاريخ والدين؛ لكن، وبما أن المسألة لا تحتمل سباقا معلنا إلى بلوغ هدف العالمية في المواطنة (إذ المقصود بالمواطن العالمي يكمن تحديدا في البنية النفسية المتحررة من ترسبات الماضي طائفية منها أو قومية فلا يكون فعلها التاريخي منبسطا ضمن الحدود الجغرافية التي تتجاهل أن حولها ما لا ينفصل عنها من البشر وأفعالهم التي لا تنفك تؤثر فيه تأثيرا مباشرا أو غير مباشر وآنيا أو غير آني، وذلك ما ينفي طبعا تصورا غُفلا عن المواطن العالمي من حيث كونه يقفز بجواز سفره في الإطار الجغرافي العالمي وهو لم ينفذ بفكره بعد من التعصب للقبيلة والعشيرة والمذهب)، فالأمر مخول إلى تحديد المعيار أو المعايير التي تثبت أو تنفي الفهم الصحيح للمسألة.

المسألة إذن هي عن المعيار الذي يفصل الخطاب فيما يمكن أن يتخذ من حلول هي ليست في الحقيقة إلا تعبيرا عكسيا أو مقلوبا بما هو صدى للأزمة الحاصلة التي عبرنا عنها بأنها نشأت عن المفارقة بين نكوصية إسلامية مَرَضية وإحتوائية عولمية قاهرة، فنكون داخل مجتمعاتنا المسلمة كمن يدافع عن نفسه الخطر بإغماض عينيه والغوص في تخيلات وأحلام، بينما الخطر مداهمه لا محالة، وتلك الصورة الكاريكاتورية الأكثر تعبيرا عن حال المسلمين الراهنة دون استثناء.

نحاول إذن أن نفتح أعيننا أولا لنراقب الأحداث على الأقل فنرى الوقائع على ما هي عليه لمجرد استعمال نعمة البصر التي هي في النهاية بصيرة، استجابة لفرض الشهادة والتفاعل مع الأحداث بأضعف الإيمان.

فأن تكون المسألة دينية أم مدنية هي أن ننطلق من أحدهما اتجاه الأخرى وليست مسألة أولوية، إذ التحدي أيضا هو أن يكون المسلم "مواطنا عقيديا"، لكن بأي معنى؟

عقيدة المواطن (والمقصود بالمواطن العقيدي هو الذي يفقه تمام الفقه أن عقيدته التي يحملها بين أضلعه هي نفسها التي تأمره بالعدل (وهو جوهر مفهوم المواطنة) بين الجميع حتى من لم يكن على دينه) تعمل في اتجاه التسامح وحسن معاملة الآخرين مهما كان جنسهم ودينهم، لكن دون مزايدة على النص الديني الذي لا يعتبر الكلمة السواء ميزته الرئيسة، بل إنما طرحها بوصفها مجرد مفتاح بين الذات الإسلامية والذوات الأخرى، لأننا إن جئنا إلى ميزة الإسلام الرئيسة التي تكتنف كل النص الديني وتشمله إنما هي صفة النص نفسه، أعني أنه الوحي الذي يختم الوحي وليس مجرد وحي، وهذه هي الميزة التي تفرق الإسلام عن باقي الديانات، وأما آيات القتال فلها مجالها المحدد بوضوح وهي حال الظلومية المادية المباشرة، أي حال حدوث التماس غير العادل بين المسلم وغيره. لذلك كانت الكلمة السواء الحل الوحيد للتخاطب مع الآخر وإيصال الرسالة إليه، وهي المعادلة الأصعب التي وضعها النص سواء للمسلمين أو لغيرهم، إذ على المسلم الارتفاع إلى مستوى الإسلام حتى يمكنه فهم لماذا أمر الإسلام بالعدل في مجال التواصل والاتصال.

يحدّث القرآن المسلمين قائلا: "ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى" قرآن كريم، وذلك بيان منهج حياة المسلم، فالصورة التي يرسمها القرآن عن المسلم هي: إنك مهما ارتقيت في إيمانك أيها الإنسان وأحكمت علاقتك بالله فإن ذلك لن يخولك حق اغتصاب الآخرين حقوقهم، سواء كان اغتصابا اعتباريا أو ممارسا، كما يمكننا أن نعرض الصورة معكوسة فتأتي كالتالي: كلما حرصت أيها الإنسان على العدل وحسن معاملة للآخرين وإن وصل اختلافك معهم حدّ العقيدة كلما كان إيمانك وعلاقتك بالله أوطد وأشد.

وفيما تقدم يكمن العلاج الشافي لداء كل من يقدم عقيدته سرا أو علنا على مواطنته وتعايشه الاعتباري والممارس مع الآخرين، أي حين تكون علامة رضا الله عن عبده وقربه منه تتحدد بمدى القدرة على العدل مع الآخرين، بما يمكن أن يظهر في التحليل الأخير تحييدا للعقيدة، إلا أن ذلك في عرف الإسلام المستنبط من النص المحفوظ هو عين العقيدة، لذلك فعقيدة المسلم تكون في أخفى أحوالها عندما يمارسها!

 

 

16-01-2010 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=806