/
الوسطية متلونة بألوان الطيف الإسلامي
عبد الرحمن حللي
ـــــــــــ حوار - وحيد تاجا أكد الباحث السوري الدكتور عبد الرحمن حللي وكيل كلية الشريعة بجامعة حلب للشئون العلمية في حواره لموقع (مدارك) أنه "لا يوجد أي صلة بين استعمال (الوسطية) كمفهوم في العصر الحديث وبين وصف الأمة في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)"، كما اعتبر "الوسطية كمفهوم قرآني هي وصف لحال وليست موقفاً يتبنى أو مشروعاً يتأسس"، وبالتالي فوسطية الأمة نتيجة فعل لا مشروع عمل. ورأى حللي أن الوسطية تحمل معنى الاعتدال من منظور من ينتسب إليها، لكن هذا التوظيف المعاصر والتباري في الانتماء للوسطية وتنازع تمثيلها يجعل المفهوم إشكاليًّا، مشيرا إلى أن سوء السمعة للوسطية يرجع إلى طبيعة الاستعمال غير المنضبط وكثرة ادعاء الوصل به والانتماء إليه.. كما شبه حللي الوسطية وسط التنازع المصطلحي عليها أنها كالثوب الفضفاض يخيطه كلٌّ على مقاسه. وإلى نص الحوار: * الوسطية.. مفهوم ومصطلح يتعرض لعمليات اختطاف واستحواذ واتهامات كثيرة في وقتنا الحاضر.. في البداية ما هو مفهوم ودلالة الوسطية عندكم في ظل المحاولات السابقة؟ ** الوسطية كمفردة تحمل معنى إيجابيًّا بغض النظر عن الحامل الفكري لها، وهي ترجع إلى مفردة نصية في القرآن الكريم وردت في قوله تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا" [البقرة: 143]، وفي سياق الاستعمال الإسلامي المعاصر جاءت تحمل معنى الاعتدال من منظور من ينتسب إليها. لكن هذا التوظيف المعاصر والتباري في الانتماء للوسطية، يجعل المفهوم إشكاليًّا، ولا يمكن بسطه بكلمات أو جواب مبسط، وفي الوقت نفسه لا يمكن بسهولة استغلال معنى أو مفهوم خاص بالوسطية؛ إذ سيكون في هذه الحالة خلاصة محترزات من الاستعمال الشائع له، وبالتالي سيكون تعريفاً للمفهوم بالسلب لا بالإيجاب. ويمكن القول إن المعنى الذي يمكن أن تشترك به جميع السياقات التداولية لمصطلح الوسطية هو المعنى اللغوي الذي يدل على التوسط بين نقيضين أو تطرفين، وهو بهذا المستوى لا يمكن أن نضيف إليه أي معنى منهجي أو نسق فكري وإلا تحول إلى استعمال خاص بالمنتمي إليه. لذا فأنا أحترز من استعمال هذا المفهوم إلا بمعناه اللغوي، وأرى في تداوله رائحة الإدانة من جهة والبراءة من جهة أخرى، فدعوى الوسطية إدانة لطرفي الإفراط والتفريط، كذلك ادعاء البراءة منهما، وعليه فالانتماء إلى الوسطية تهمة وفضيلة في آن واحد، وفي هذا التنازع المصطلحي تصبح الوسطية ثوبا فضفاضا يخيطه كل على مقاسه، فلا معنى لأن يكون معيارَ قياس أو تعريف. * إذن محاولات الاختطاف والتوظيف والاستحواذ التي تتعرض لها الوسطية تحتاج إلى تفسير سيسيولوجي؟ ** يمكن أن نلحظ محاولات الاختطاف للوسطية والتنازع عليها بعد شيوع الإدانة للتطرف وعالمية الموقف منه، بل ملاحقة اتهامه لكل شعار إسلامي، لاسيما مع مطلع هذا القرن وفي عقد الحرب على الإرهاب؛ إذ أصبحت كل مؤسسة إسلامية (فكرية أو اجتماعية أو سياسية) معنية بنفي التهمة وإبراز البراءة والصورة الكاشفة عن الاعتدال والبعد عن الإرهاب. فكان من الطبيعي في هذا الجو المشحون بالمحاصرة والمضايقة والملاحقة، أن يبرز من المصطلحات ما يصلح وعاء للاحتراز من هذه التهم، ويترشح من المفردات لهذا الغرض ما له حمل إيجابي وبعد ثقافي لدى الجماعة، فضلا عن الكفاءة اللغوية للكلمة، فكانت مفردة "الوسطية" هي الأنسب للقيام بهذا الدور. ولا يعني ذلك أن الوسطية لم تكن موجودة من قبل كمفهوم له نفس الحمل الثقافي، والاستخدام كعنوان لتيار في السياق الإسلامي وغيره، لكن الرواج كان بفعل ما أشرنا إليه، وهذا الرواج كشف عن مشكلات الوسطية كعنوان لتيار فكري قائم؛ إذ خلط أوراق الانتماء إليه، وأصبح أرخبيلاً يجمع المتناقضات. وجدير بالذكر أن هذا لا يخص الوسطية فقط، فقد تعرضت مفهومات أخرى لعمليات تجاذب واستلاب، مع تباين النظر إليها كليًّا أحيانًا، كالإصلاح والنهضة والتجديد والحداثة، لكن مفهوم الوسطية ربما كان الوحيد من بين هذه المفهومات الذي لم يحمل محتوى سلبيًّا من منظور البعض إليه، ربما لكونه ظل شعاراً لم يتجسد برؤية منهجية تقتضي تغييراً جذريًّا في التصورات بخلاف المفهومات الأخرى. مصطلح سيئ السمعة! * من ناحية أخرى لماذا ينظر البعض إلى الوسطية وكأنها مصطلح سيئ السمعة تبعا لمواقفهم السياسية وربما الثقافية؟ ** سوء السمعة هذا يرجع إلى طبيعة الاستعمال غير المنضبط لمفهوم "الوسطية"، وكثرة الادعاءات بالانتماء إليه والصلة به بطريقة تشتم منها رائحة الهروب من تهمة أو ادعاء التميز، فأصبح ككثير من المفهومات التي تهرأت من كثرة التجاذب والاستعمال الإعلامي المبتذل، وأرى أن أي استعمال غير لغوي للوسطية يمثل خواء معرفيًّا. ولم يعد ممكناً أن نفهم مقصد من يدعي الوسطية إلا بالإضافة وتفسير مفهومه هو عن الوسطية، فهناك وسطية في السياق السلفي، وأخرى في السياق السياسي، وثالثة في السياق الفكري، بل أضيف لها أحياناً بعض القيود، فتم الحديث عن وسطية مستنيرة، ففي هذا التنازع لا معنى للوسطية بمفردها، كمعبر عن هوية مدعيها، أو منهجه. * هل ترون في تقاطع الوسطية مع بعض مفردات المشروعات الغربية في المنطقة وخاصة المشروع الأمريكي مدعاة للتخلي عن بعض مقولاتها ومواقفها؟ **إن وجود قواسم مشتركة بين المنظور الغربي للوسطية ومنظور بعض المسلمين لها، ربما كان هو المحفز الأساسي لانتشار ادعاء الانتماء إليها، فقد تم الالتقاء في منتصف الطريق بين البحث الغربي عن الاعتدال، وهروب بعض المسلمين من تهمة التطرف، فكان ثمة مساحة مشتركة هي موضع اللقاء الذي هرول له البعض واستثمره، والتقى به البعض الآخر تلقائيًّا كمساحة مشتركة طبيعية وهي نتيجة لتصورات مبدئية عندهم. وبناء على ما أسلفته من كون الوسطية تعبر عن شعار أكثر من كونها تعبر عن منهج، وهي متلونة بألوان الطيف الإسلامي، فليس ثمة ما يمكن إضافته أو التخلي عنه من مشروعات الوسطية، فما يضاف هو وسطية عند البعض، وما يحذف هو وسطية عند آخرين، لكن ما يمكن الدعوة إليه هو التأكيد على قضية المنهج والرسالة والمضمون والخروج من أتون الشعارات وخصوماتها. * في الرؤية القرآنية ربط بين الوسطية والشهادة على الناس؛ وهو ما يجعل الوسطية مسئولية ملقاة على كاهل الأمة وليس صفة بلا استحقاقات.. فكيف ترون العلاقة بين الوسطية والشهادة على الناس؟ ** ثمة مشكلة عميقة في ضبط المصطلحات المعاصرة، هي عملية الإسقاط على النص بأثر رجعي، فكثير من المصطلحات المتداولة المعاصرة تكون وليدة سياق حديث، وليست مستولدة من النص، فيتم الربط الخارجي بينها بطريقة غير علمية، ويتحول تجاذب المصطلح إلى تجاذب النص، وهذا ما ينبغي الحذر منه. وفي هذا السياق يمكن القول إنه لا صلة بين استعمال "الوسطية" كمفهوم في العصر الحديث وبين وصف الأمة في قوله تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا"[البقرة: 143]، فالوسط في هذه الآية فسر بالخيار لقوله تعالى: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" [آل عمران:110]، وهي خيرية مشروطة بأداء الواجب الملقى على هذه الأمة، وعليه فما يؤهل الأمة لأن تكون خير أمة أخرجت للناس، وأن تكون وسطاً بين الأمم. وهذا يؤهلها لأن تكون شاهدة على الأمم الأخرى، فوسطية الأمة هي علة الشهادة، والشهادة لا يتأهل لها إلا العدول، فالأمة العدل هي الشاهدة، ومن سيكون عدلاً سيكون خيراً من غيره، بإقامة العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعليه فثمة جدلية بين الخيرية والعدالة والشهادة، لا يمكن فصل إحداها عن الأخرى، ولا تتأتى الخيرية والعدالة إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما جاء في وصف القرآن. موقف أم مشروع؟ * هل ترون أن الوسطية هي موقف مبدئي في الرؤية الإسلامية أم مشروع لابد أن تحققه الأمة لتطل به على ذاتها وعلى الإنسانية جمعا؟ ** إن كنت تقصد ما هو متداول من استعمالات مفهوم الوسطية؛ فالجواب يرتبط بكل استعمال ويرجع إلى من يدعي الانتماء إلى الوسطية، أما الوسطية كمفهوم قرآني، فأرى أنها وصف لحال وليست موقفاً يتبنى أو مشروعاً يتأسس، وبالتالي فوسطية الأمة نتيجة فعل لا مشروع عمل. كما أن الوسطية لا تؤسس منهجاً أو فكراً، إنما يوصف بها من انتهج النهج القرآني فيما يخص الأمة والناس، وهي كذلك ليست بالمعنى اللغوي الدال على التوسط بين شيئين، إنما بمعنى الأفضل بين الأشياء، وهذا المعنى هو الشيء الطبيعي الذي تأسس عليه الوصف بالوسطية، إذ المطلوب من المؤمن فعل ما كلف به على الوجه الأمثل قدر الوسع، فعندما تقوم الأمة الإسلامية بهذا الواجب تستحق هذا الوصف، فالسعي إلى تحقق الوسطية بمفهومها القرآني إنما هو السعي لأداء الواجب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأمثل ما تقدر عليه الأمة. * هل ترى أن التخلي عن شعار الوسطية يمكن أن يكون مفيداً في ضوء ما قدمته؟ ** ليس بالضرورة أن يعالج الخلل في استعمال شعار الوسطية باستئصاله واستبعاده، فهو تعبير جميل لغويًّا ومعنويًّا، لكن ينبغي التمييز بينه كشعار يعبر عن الاعتدال، وبين من يجعله عنواناً لمدرسة في الدعوة والعمل الإسلامي، وبينه كتعبير قرآني، وهو في الحقول الثلاثة يعبر عن بعد إيجابي، وإن كان يستعمل استعمالاً غير منضبط، لكن الجانب المشترك بين مختلف الاستعمالات من شأنه أن يمهد الطريق للحوار بينها، ويعبر عن الحرص على الابتعاد عن التصور المتطرف للدين إفراطاً أو تفريطاً، ويصنع جسراً للتواصل. * إذن فما هي الأولويات التي يمكن الاعتناء بها من قبل دعاة الوسطية وتقريب اتجاهاتها المختلفة؟ ** الأولوية في هذا المجال لا تتوقف عند الشعار بقدر ما تتجه إلى المحتوى والعمق، وتجسيد روح الاعتدال التي يتبناها الجميع من خلال البحث عن البعد المعرفي للخطاب والحامل الجوهري له، فدعوى الوسطية في ظل بنية مغلقة تنفي المختلف دينيًّا أو سياسيًّا أو فكريًّا هي عملية نفاق وتزلف، كما أن التحول باسم الوسطية إلى وعاء لكل ما يبتغي الآخرون قوله هو نمط آخر من الابتذال والضياع. فأولى الأولويات أن يتحول خطاب الوسطية إلى مراجعة فكرية تعيد النظر في الرؤية إلى العالم، وتدقق في مدى تماسك الخطاب وعمقه، دون أن تنفصل عملية المراجعة هذه عن الحوار والتقارب مع كل التيارات ذات الصلة، وتقبل نقدها على أنه إضافة أقل ما فيها تعميق الرؤية أو تصويبها.
27-01-2010 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=811 |