/
الدولة والمجتمع في التصور الاسلامي صراع الوظائف أم تكامل الأدوار؟
محمد همام
تقديم: يطمح هذا البحث إلى تعميق النظر في فلسفة الاجتماع الإسلامي، وإبراز بعض عناصر هذا الاجتماع، هي أقرب إلى أن تكون مدخلا، يصلح، بنظرنا، أن يكون منطلقا للتفكير في تفاصيل المشروع الاجتماعي الإسلامي. وسيكون التركيز على الطابع المؤسساتي والاجتماعي لنظرية الإسلام في الدولة والعمران. ونقصد، في هذا البحث، بالاجتماع الإسلامي، الشكل الذي يبني به المجتمع ذاته، وعلاقات الناس، داخل شبكتهم الاجتماعية، ومستويات الاستقلال أو الارتباط بالدولة، إداريا أو ماليا أو سياسيا أو إيديولوجيا.. أي علاقة المجتمع بالدولة. ويمشي البحث وفق مستويين متوازيين؛ واحد يهدم وينقد وآخر يبني وينشئ؛ الأول يتعلق بنقد فلسفة المؤسسات "الحداثية" المنقولة، التي تهيمن في العالم الإسلامي، والثاني، يبرز فلسفة البناء المؤسساتي الاجتماعي الأصيل، عرضا وتطويرا واستشرافا، من خلال نموذج الوقف الإسلامي ودوره في تأسيس المجتمع الأهلي الإسلامي، الفاعل والمشارك في التنمية والنهوض. الفصل الأول: مؤسسة "الحداثة المعطوبة" من تدمير بنيات المجتمع إلى رهن الشعب للدولة واستعباده للحكومة المبحث الأول: في الحداثة المعطوبة 1) الحداثة والتقليد: أثبت النقد المعرفي والمنهجي أن الخطاب الحداثي العربي، لم يكن ينتج، أو قل، يبدع فكرا خاصا به، بل كان مقلدا للفكر الغربي، ومحاكيا لأطروحاته وفلسفاته، إما عبر: الاستنساخ أو التلفيق أو الاختزال، مما كرس التبعية الفكرية للغرب، وعطل انطلاقة الإنتاجية الفكرية للعرب: فالمستنسخ يسعى لينقل مباشرة كلية النسق الفكري للتيار الذي يميل إليه، كما نجده في مشروع العروي، برغم ادعائه بأنه ينقل الأفكار ولا يتحدث عن تجسيدها([1])، وأما الملفق فهو يقتبس إما من مستويات مختلفة لتيار واحد أو من أصناف متباينة من التيارات جملة من المقولات والتعاريف والمناهج المتفاوتة فيما بينها، فيركم بعضها على بعض، في بناء يفتقر إلى الانسجام والتماسك، وهذا نلحظه بسهولة في مشروع الجابري، بدعوى المعاصرة، ومواكبة التقدم الحاصل على الصعيد العالمي([2]). وأما الاختزالي فهو الذي يقتصر على نقل بعض المفاهيم البارزة المنتمية إلى تيار معين أو إلى مستوى معين من مستوياته، وأصحاب هذا المنحى كثر، نمثل لهم بتوفيق سَلّوم، الذي يسعى، كما يدعي، إلى تطوير ما ينطوي عليه التراث أو الواقع العربي، من عناصر وجوانب قريبة من إيديولوجية الطبقة العاملة، وخاصة منها النزعات المادية، والديمقراطية، والاشتراكية([3]). هذه الأشكال المتنوعة من التقليد والمحاكاة، هي التي أوقعت "الحداثيين" العرب في حرج كبير؛ إذ أخذت الأدوات المنقولة والأنساق المنسوخة تتهاوى بين أيديهم؛ من جراء تقلب أحوال الغرب المذهبية واختياراته الفكرية([4]). ومازالت مجموعة من هؤلاء الحداثيين المقلدين مصرين على الاستمرار في تقليدهم، مرسخين حداثة فلسفية جامدة، توجب عليهم الاندماج الكلي في العصر الفلسفي على مقتضى ما قرره الغير في التفلسف، فيكون هذا الضرب من الحداثة إلى الوهم والأسطورة أقرب منه إلى الواقع والحقيقة([5]). إن التقليد يعتبر من الأساطير المؤسسة للحداثة العربية؛ إذ لم ينضبط الحداثي العربي بادعائه الرغبة في تحديث الذهنية، وتحديث المعايير العقلية والوجدانية([6])، أو أن الحداثة هي حداثة المنهج والرؤية والهدف، ثم الانتظام النقدي في الثقافة العربية نفسها([7])، بل إن الحداثة التي بشر بها هذا الحداثي العربي، هي حداثة تقليد؛ تقليد الغرب، وفرض نمطه في التفكير، من خلال السيطرة متعددة الأوجه([8]). فالحداثة في تصور "الحداثيين" العرب مرتبطة بأحداث "كونية" كبرى غيرت صورة العالم، والتي تعتبر مفاصلها الكبرى هي القرون: الخامس عشر، والثامن عشر، والتاسع عشر([9]). فالحداثة الأوروبية أصبحث حداثة كونية، وينبغي السير على منوالها من حيث القطيعة الجذرية مع الماضي ومع ما كان موجودا([10]). والحقيقة أن الإبداع لا يتحقق إلا بالتحرر من مجموعة من الأساطير التي حماها الحداثيون العرب ورسوخها في الفهوم والعقول، وكانت كلها موانع وعوائق أمام الابتكار والاختراع والإنشاء([11]). وهذا ما عطل مشروع حداثة التقليد، وأصابه بالشلل، يعكس هذا، الاضطرابُ الفكري والمنهجي الذي يعيشه الحداثيون العرب اليوم، وحالات التيه والاغتراب التي لا يخجلون من التعبير عنها، في منتديات عدة! 2) الحداثة المعطوبة: لم تعد "اللغة المراوغة" بما هي لازمة من لوازم نقد الحداثة وما بعد الحداثة، قادرة على إخفاء أزمة الحداثيين العرب، عبر عنها شكري عياد بقوله: «فالكاتب منتم بفكره أو الأنا العليا إلى العالم الغربي الحديث، بينما هو منتم بعلاقاته الاجتماعية أي بالأنا إلى المجتمع العربي. وبناء على ذلك فلن يكون أمامه خيار حين يكتب، إلا أن يكتب لقارئ على شاكلته، قارئ عربي ينتمي بفكره إلى العالم الغربي الحديث»([12]). فقد فشل الحداثيون العرب في إنشاء حداثة عربية حقيقية، وأصبحت كتاباتهم أقرب إلى أن تكون دروسا في الفوضى الثقافية. كما عجزوا عن تأصيل مقولاتهم الحداثية داخل الواقع الثقافي العربي. وفشلت محاولات "أنسنة الدين"، وتطبيق المبادئ النقدية على النصوص المقدسة. وأحسن ما يمكن أن توصف به الحداثة العربية، أنها حداثة معطوبة؛ انعكست فيها أزمة الإنسان الأوروبي المعاصر بعد أن فقد التحكم في عالمه، وبعد أن أصبح مهموما يوما بعد يوم بمشكلة تحديد موقعه في العالم الجديد. فالحداثيون العرب، وهم يبشرون بالمناهج الحديثة، والمفاهيم الحداثية، سواء في النقد الأدبي، أو الدراسات اللغوية، أو المفاهيم الاجتماعية… كانوا مترجمين، فقط، وبأشكال رديئة لأطروحات الفلسفة الغربية، كما هي عند هيوم، وكانط، وهيغل، ونيتشه، وهوسرل، وهايدجر وجادامر… قاصرين نظرهم على المضامين الفكرية التي انبنت عليها، وليس الوسائل المنهجية التي استعملت في تبليغها. فينقلون هذه المفاهيم والأحكام تقليدا لغيرهم، وهم لا يدرون كيف يضعون مفاهيم حديثة مثلها، ولا يهتدون إلى ضبط أحكامها بما يقوي إنتاجيتها، ولا بالأولى إلى وضع هذه المفاهيم والأحكام في نسق واحد يجمعها ويولد بعضها من بعض([13]). لقد خرج الخطاب الحداثي العربي من سجاله الفلسفي والإبستيمولوجي الطابع، حول الدين ووجود الله والوحي والمادة والغيب، خرج منهكا، ولم يستطع الصمود أمام كبرى اليقينيات التي كان يتحصن بها الخطاب الإسلامي، بل استطاع هذا الأخير نقض أوهام الخطاب الحداثي، وكشف تناقضاته، وتعويق امتداده بشكل منظم ومدروس، وهذا ما جعل الخطاب الحداثي يفر إلى مناقشة قضايا أخرى غير مرتبطة بالدين بشكل مباشر، كالديمقراطية، والتعددية السياسية، وحقوق الإنسان، في انقلاب درامي للدفاع عن قيم ليبرالية نقيضة لقيم الأمس([14]). 3) الحداثة الأصيلة: ارتبط مفهوم الحداثة عند كثير من المهتمين بما هو حديث، وجديد ومعاصر. وأصبح لا ينظر إلى الحداثة إلا من خلال نقائضها: القديم، الرجعية، التراث، التقليد... والحقيقة أن المعنى الدقيق للحداثة يبقى غامضا وملتبسا، ولا يمكن الاطمئنان إلى تعاريف جاهزة ومنمطة. كما لا يمكن وصف شخص أو أي مشروع، بأنه "حداثي" ما لم نقف على آلياته في إنتاج المعرفة وسلوكه في الإنجاز على أرض الواقع. والحداثة، إذن، ليست شيئا واحدا في المضمون الفكري أو السياسي أو الاجتماعي، بل هناك "حداثات" تتعدد بحسب الأفكار الفلسفية والاجتماعية المختلفة. فالحداثة الغربية مثلا عبارة عن تمازج عناصر دينية وثقافية وفلسفية لها أصول إغريقية ورومانية ومسيحية كاثوليكية، ثم بروتستانتية أنكلو سكسونية، ثم توراتية ـ صهيونية. وقد تجمعت هذه العناصر عبر عملية تشكل تاريخي وحضاري معقد ومتداخل([15]). وعدم تبين هذه الاعتبارات هو الذي جعل الكثيرين يكفرون الحداثة بإطلاق، لأنهم يفهمونها إلحادا، وجعل الكثيرين من الاتجاه المعاكس يبعدون الإسلام عن كل حركة الإنسان للواقع لأنهم يفهمونه تراجعا أو رجعية! إن الحداثة ليست بالضرورة قطيعة مع الماضي، أو حربا على الدين، أو في أحسن الأحوال، إحياء وتطويرا لما ينطوي عليه من إيديولوجية الباحث ونزعاته، لأن هذا الفهم هو أقرب إلى مذبحة الماضي، وكذا الدين منه إلى إحيائهما وتطوير مفاهيمهما. وعليه، يصبح ضروريا الحديث عن حداثة أصيلة ومأصولة من داخل المجال التداولي الأصيل، عقيدة ومعرفة ولغة؛ فالحداثة التي لم يتوفر فيها شرط الإبداع هي محض تقليد وعجز. وهذا ما يلحظه المتتبع للمشاريع النقدية العربية المطروحة في الساحة الفكرية؛ إذ بقي تأثيرها محدودا، ولم تستطع تحقيق الحد الأدنى من تغيير العقلية والواقع العربيين. فبقيت مشاريع غريبة، تناقش في "الصالونات"، وأروقة الفنادق والمنتديات الطوباوية، ومازال أصحابها من حُمَّال ألقاب "الحداثة" و"العقلانية" و"التقدمية" لم يعترفوا بعقم هذه المشاريع، أو على الأقل بنسبيتها، فيلتفتوا إلى تقويمها وتزويدها بما ينقصها من عناصر منهجية ومعرفية دافعة. إنها مشاريع تجزيئية ومقلِّدة أخلت بشرط الاستنباط، واعتمدت منهجية مستوردة غير مستنبطة مما تضمنه الحقل المعرفي الأصيل، من أصول وقواعد مقررة، وما تفرع عنها من أحكام منهجية. كما أخلت بشرط المناسبة؛ فأنزلت على المعرفة التراثية آليات غربية من دون تبين صلاحيتها الإجرائية، ولا تصحيح معاييرها، فافتقدت خاصية النقد والتقويم. كما أخلت بشرط التقدم؛ إذ استغرقت هذه المشاريع في النظر في مضامين المعرفة التراثية، من غير اكتشاف آلياتها التي تولدت بها، وتفرعت عنها، وقد أوضح الدكتور طه عبد الرحمن هذه الآفات في كتب ودراسات كثيرة. إن الحداثة الأصيلة القادرة على الدفع هي الحداثة المبدعة والمحترمة لشروط الإبداع، والرافضة، من منطلق تداولي، للمقولات الوافدة إلينا من الغرب والتي تقول إن الدين شيء والعلم شيء آخر، كما أن العقل شيء والدين شيء آخر. ومن غير الدخول في جدل مفاهيمي عقيم! فالحداثة المبدعة والأصيلة، بنظرنا، هي التي يقودها علماء متدينون، لا يشعرون بأن دينهم يقيد علمهم، أو أن علمهم يصادر دينهم. إنهم يرون الدين هو الذي يمر بطريق العلم؛ لأنهم كلما عقلوا العلم أكثر فهموا الكون أكثر، وكلما فهموا الكون أكثر عرفوا الله أكثر. وهم يعتقدون أيضا بأن الدين لا يمر بطريق الجهل، بل الجاهلون هم الذين يضيقون الدين ويجمدونه، بل ويسقطونه )إنما يخشى الله من عباده العلماء( [فاطر: 28]، وهذا أمر كتب فيه كثيرا السيد محمد حسين فضل الله([16]). والحداثة الأصيلة ليست بالضرورة استخدام العقل وحده أو استيراد العلم والتكنولوجيا، أو نماذج التنمية الموهومة، وإنما هي استخدام للعقل في تكامل مع الوحي، وربط لعالم الشهادة بعالم الغيب، في إطار رؤية توحيدية توكلية، تأخذ بالسنن والأسباب، وتتأسس على قيم مطلقة؛ فالقيمة هي من خارج العملية العلمية، بل هي سابقة على العلم والمادة. والإنسان من منظور الحداثة الأصيلة، مكرم ومستخلف ومسخِّر للكون )ولقد كرمنا بني آدم(؛ إذ بهذا التصور التكريمي ننأى عن الإفرازات المرضية للحداثة الغربية، التي أعلنت منذ بدايتها أن العالم مكتف بذاته، ففصلت بين العقل والقيم الأخلاقية، وانتهت إلى تفكيك الإنسان ورده إلى حركة المادة؛ إذ أصبح عند طوماس هوبز كالذئب أو الحجر المندفع، وعند سبينوزا كالساعة المتحركة بشكل آلي، وعند داروين سليلَ القرود، وعند ماركس نتاج قوى الإنتاج، وعند فرويد أسير الغرائز، وعند بافلوف في تجارب الفعل الانعكاسي الشرطي كالكلب في ردود أفعاله... وأما الخطاب الحداثي الأصيل فلا يستسلم أمام هذه الأطروحات الفلسفية الحداثية، بل يرفضها، من موقع نقدي متفائل، عكس نقد ما بعد الحداثة ذي الطابع التشاؤمي العدمي. فالخطاب الحداثي الأصيل خطاب جذري وتوليدي واستكشافي لا يهمه التوفيق أو التلفيق بين المنظومة الغربية الحديثة، والمنظومة الإسلامية الأصيلة، بل هو يبدأ، بتعبير د. عبد الوهاب المسيري([17])، من نقد جذري للحضارة الغربية الحديثة، ويحاول اكتشاف معالم هذه المنظومة الغربية باعتبارها رؤية كاملة للكون، والإمساك بمفاتيحها مع الاحتفاظ بمسافة بينه وبينها. فهو يعود للمنظومة الإسلامية بكل قيمها وخصوصياتها الدينية والأخلاقية والحضارية، ويستكشفها ويحاول تجريد نموذج معرفي متكامل منها، يمكنه من خلاله توليد إجابات على الإشكاليات التي تثيرها الحضارة الغربية، وعلى أية إشكالية جديدة. إن الخطاب الحداثي الأصيل، لا يقف عند شعار "الإسلام هو الحل"، وهو بالمناسبة شعار إيديولوجي ينتج سلوكات احتجاجية وغوغائية أساءت لرسالة الإسلام العظيم، بل يتجاوزه إلى طرح الإطار الفلسفي العميق: الإسلام هو رؤية للكون، أي يصدر عن رؤية معرفية شاملة يولد منها منظومات فرعية متنوعة. إنه يؤسس لوعي نقدي منفتح ومتفائل ومكتشف للإمكانات التوليدية الخلاقة داخل المنظومة الإسلامية التي غفل عنها خطاب التقليد، وطمسها خطاب التغريب. هذا الأخير الذي احترف في الآونة الأخيرة الهجوم على أي ثبات وأية معيارية داخل المنظومة الإسلامية، وأنكر أية ركيزة نهائية، بل ليس القرآن الكريم عنده سوى نص تاريخي مغلق، ينتمي إلى لحظة تاريخية بائدة! أما الخطاب الحداثي الأصيل، فإنه ينطلق من أن ثمة مطلقا واحدا هو الله سبحانه وتعالى؛ وبسبب وجوده خارج الزمان والمكان والبشر، فهو مركز الكون الذي يمنحه الهدف والغاية والمعنى؛ وأنزل الكتب وأرسل الرسل لهداية الناس وتوجيههم إلى الصراط المستقيم، معتمدين على ملكاتهم وقدراتهم في تناغم مثمر وحاسم بين الوحي والعقل. وهذا ما لم يستطع فهمه الخطاب الحداثي المتغرب، وبقي مسترخيا ومقلدا ومنتظرا للإجابات الغربية من خارج منظومته ومجاله التداولي، فطال انتظاره فبدأ يتآكل حتى انفرط عقده أو كاد! المبحث الثاني: الحداثة المعطوبة ووظيفة تدمير بنيات المجتمع 1) الحداثة المعطوبة ضد المجتمع: يعتبر المشروع الحداثي المستورد ذاته، عادة، نقيضا للتقليد؛ والمقصود بالتقليد في إحدى دلالاته، المجتمع ومؤسساته. من هنا سعى الحداثيون إلى تفكيك بنيات المجتمع وتحطيم مؤسساته "التقليدية". واستبدلوها بالمؤسسات "الحديثة"، من الدولة إلى أدنى مؤسسة في المجتمع. هذه المؤسسات لما كانت تخضع في مرجعياتها إلى فلسفة حداثية، غريبة عن ثقافة المجتمع، بقيت غريبة وبعيدة عن هموم الناس ومصالحهم. وهذا ما يمكن أن يلحظه المرء بيسر في الإدارة الحديثة، حيث يغلب "الروتين والبيروقراطية" وتعطيل مصالح الناس. ولم تنفع دعاوى الإصلاح الإداري، بل تضخمت هذه المؤسسات، وزادت التعقيدات والقوانين الإدارية في ما يتعلق بأي إجراء أو معاملة حتى أصبحت الدولة عالما قائما بذاته، أو مجتمعا آخر، مقابل المجتمع الأصلي، الذي عملت المؤسسة أو الإدارة الحداثية، على إخضاعه والتحكم فيه([18]). وعلى المواطن أن يبحث عن انسجام مأساوي مع جهازه الإداري الذي ينقص من قيمته وكرامته كل يوم، في تسجيل زواج أو ولادة، أو استخراج جواز سفر، أو الحصول على إذن بناء، أو الدخول والخروج من المطار، أو تسجيل تلميذ في مدرسة أو نقله، وأما إجراءات المحاكم واللجوء إلى القضاء فحدث ولا حرج! ولما يفقد المجتمع أبسط أشكال المقاومة، يلتجئ إلى معاقبة دولته بمقاطعتها، والتعامل مع مؤسساته بلامبالاة، مفضلا الهروب إلى عالم الخمر والانحرافات المختلفة التي تطفو على السطح، والتي كانت مخبأة إلى وقت قريب تحت ستار كثيف من الأكاذيب الإعلامية. لم تستطع الحداثة إذن أن تطور مؤسسات المجتمع، وصقل مواهبه، ودفعه في اتجاه التنمية والنهوض، بل أصبحت عنصر تمويه عن حقيقة السلطة واستبدادها، وتحولت الحداثة إلى سياسة براغماتية، تعيد إنتاج الاستبداد وتبرره، وتحكم بشريعة الغاب وشريعة الحظ، وحولت الوطن إلى حفنة من التراب، وإلى حفنة من الناس، تنضح العلاقة بينهم بالشك الخفي، ويمشي الاتهام المغلَّف بين جانب منه وجانب، وتظل فئات من الناس في يقظة ترقب ومكايدة، بلا ثقة ولا اطمئنان. لقد أفلحت الحداثة في تأسيس دولة "حرة"تعتقل شعبها وتنتج شوارع الصمت باسم الديمقراطية، والحداثة، والعقلانية. وهي تعمل اليوم لاستكمال تدمير بنيات المجتمع ومرجعياته الفكرية والتربوية والقانونية، من خلال الترويج لمؤسسات المجتمع المدني. 2) فلسفة المجتمع المدني: لم يخف الحداثيون أن النموذج الذي يصدرون عنه عند الحديث عن المجتمع المدني هو النموذج الليبرالي الأوروبي، الذي يشكل النظام الرأسمالي هيكله ونسج علاقاته([19]). فلم يكن الغرض من استنبات المجتمع المدني في الأرض العربية، هو فقط للحد من تسلط دولة الحزب الوحيد، ودولة الضباط الأحرار، وتجاوز مجتمع "العسكر" ومجتمع القبيلة، ودولة الزعيم الرائد... كما زعم الجابري([20])، ولكن فكرة المجتمع المدني، جاءت تقليدا للغرب، ورغبة يائسة في اللحاق به، مع حرق المراحل، وتجاوز المعطيات الثقافية والحضارية وشروط التنمية والتقدم التي تحكم البلاد العربية. وإلا فالدولة الحداثية، لم توفر التعبير الديمقراطي الحر، ولم تكرس مجتمع المؤسسات، بل زادت في إذلال المجتمع والسيطرة عليه، وفق نظام السخرة والاستعباد، حتى أصبحت هذه الدولة الحداثية ضد المجتمع والأمة. ولم تزد الدعوة الحداثية إلى المجتمع المدني، إلا ارتباط الشعوب العربية واعتصامها بمؤسساتها الأصيلة كالمسجد، والمدرسة العتيقة، والأسرة. هذه المؤسسات التي تعيش في وجدان الشعب وضميره. وأصبح ينظر إلى المؤسسة الحداثية على أنها غريبة عنه ومفروضة من أعلى، وهي أداة قهر ليس إلاَّ، ووسيلة لنقض كيان هذه المؤسسات الأصيلة. وبرغم هذه الحصانة الذاتية، فقد لعبت المؤسسة الحداثية المستوردة دورا أساسيا في تفكيك مفهوم المجتمع (أي الجماعة الملتحمة) أي عناصر ترابط الشعب، والأواصر التي تربط الأفراد، كما أزالت هذه المؤسسات الحداثية شعور الجماعات الأصلية بذاتها، وحطمت شعور الفرد بارتباطه بها وانتمائه لها، مما قضى على حرية المجتمع وقدرته على التكتل في تنظيمات وهيئات نابعة منه وتحميه من الدولة وقهرها. فافتقد المجتمع حكمه الذاتي، وأحكمت عليه سيطرة الدولة، وتجذرت هيمنة الجهاز الحكومي ووصايته على كل مناشط الحياة، وربط به المواطن رغبا أو رهبا، في جميع أموره الحياتية. ولم تعد تنطلي على الشعوب الدعاوى الحداثية والعلمانية المزيفة، التي تبشر بالدولة العلمانية المنفتحة التي تتيح وتكفل حرية الضمير، وتصون التعددية الإيديولوجية للمجتمع، وتؤمن حرية الاعتقاد([21]). وحتى المجتمع المدني الذي بشر به الحداثيون، لم يستطيعوا دمجه في البنية الاجتماعية والثقافية للبلاد العربية، وظل جسما غريبا عن المجتمع الأصلي، بل أصبح المجتمع المدني، مجرد مصطلح تلوكه النخبة في الصالونات، ومنتديات الترف الفكري. فإذا كان الاجتماع الإسلامي مؤسسا على فلـسفة التعاون والتعارف والتآزر،)إنما المؤمنون إخوة( [الحجرات: 10]، فإن فلسفة المجتمع المدني كما يتم الترويج لها، تتأسس على الصراع، الذي هو بحسب التصور الغربي، عملية دائمة في المجتمع. فوجود المؤسسات والهيئات إنما هو لتنظيم هذا الصراع من حيث أشكاله ودوره([22]). فالصراع هو المحرك الأساسي لعملية التنمية، مما يفترض وجود صراع منظم داخل بنية المجتمع وبين مكوناته. وبهذا يمكن تفسير ارتفاع نسب التوتر والاحتقان السياسي والاجتماعي داخل الدولة الحداثية، فبقدر إمعان الدولة ونخبها في النزوع الحداثي المستورد، بقدر ما يتعمق الصراع والتناقض بين الأفراد والمؤسسات، وتشتد القطيعة مع القيم الثقافية والاجتماعية الأصيلة المبنية على التآزر والولاء والنصرة بين جماعة المؤمنين في المجتمع الإسلامي. هذه القطيعة بين الفكر الحداثي ونماذجه المؤسساتية، مع محيطه الحضاري ومجاله التداولي، هي التي ستعرض المشروع الحداثي برمته للانهيار، وأفقه للانسداد، فيتحول إلى وكيل للاستكبار العالمي، ومقاول لأطروحات الغرب وفلسفاته، ذات النزوع الاستغلالي المعيق لأي تنمية حضارية محلية. 3) مؤشرات انهيار المشروع الحداثي المعطوب: من تفعيل المجتمع المدني إلى تعزيز الدولة التسلطية: برغم أن عناصر الحداثة على مستوى بناء الدولة وتنظيم علاقاتها بالمجتمع، قد ظلت قشرة سطحية، لم تستطع تدمير المؤسسات الاجتماعية والثقافية الأصلية، إلاَّ أن هذه الحداثة، عملت، عكس ادعائها، على تعزيز بناء الدولة التسلطية، وخدمت الحداثة سلطة الدولة أكثر مما خدمت المجتمع، بل استخدمت الدولةُ الحداثةَ لإحكام قبضتها على المجتمع، فكانت الحداثة العربية إذن ضد المجتمع، ومعيقة لتقدمه، على عكس دورها في تاريخ المجتمعات الأوروبية. فإذا كانت الحداثة الغربية، بحسب أطروحة ماكس فيبر، قد قرنت بين العنصر الإيديولوجي البروتستانتي (الكالفيني على الخصوص) والشروط الاجتماعية والاقتصادية([23])، لتحقيق التنمية والنهوض، فإن المشروع الحداثي العربي يعتبر نفسه نقيضا للدين، فكرة ومؤسسات، أي مأسسة الدين في مؤسسات دنيوية([24])، وهذا ما أفقد هذا المشروع صلته بواقعه، وقطع جذوره المرجعية والحضارية، إضافة إلى مجموعة من المؤشرات تدل على النهاية المأساوية لمشروع الحداثة المعطوبة، التي يمكن إجمالها في العناصر الآتية: أ. غياب مرجعية فكرية وإيديولوجية ضابطة للمشروع الحداثي، حتى إن صفة "حداثي" قد تطلق على من يقول الرأي ونقيضه؛ فمرة الحداثي ليبرالي متوحش، وأخرى اشتراكي اجتماعي، ومرة أخرى تكنوقراطي حيادي.. ب. افتضاح الانتهازية السياسية للحداثيين العرب، من خلال تنكرهم لقيم ما فتئوا يطالبون بها، كالديمقراطية، والتعددية، والمجتمع المدني، وتواطئهم مع أجهزة الدولة التسلطية، والإمعان في إذلال المجتمع، وتسخيره لهذه الدولة، واندماجهم في أشكال من دول القهر؛ كالدولة البوليسية، ودولة العسكر، والدولة التبعية، وغيرها. ج. انسحاب الحداثيين العرب من ساحة المجتمع، وابتعادهم عن هموم الناس وقضاياهم، وتحولهم إلى "أرستقراطية" همها أن تقتات على موائد الغرب أو الدولة التسلطية، قد تكلف في بعض الأحيان بإنجاز أنواع من الدراسات "المخابراتية" لفائدة مراكز البحث الأجنبية بتمويلات سخية. د. صعود تيار وطني إسلامي منغرس الجذور في تربة الوطن وفي وجدان الشعب، وأكثر التحاما مع هموم المستضعفين. وأقدر خبرة وإنجازا على تفعيل مؤسسات المجتمع الأصلية، والحد من هيمنة الدولة وجبروتها، من دون إغفال ما يعرفه هذا التيار من اختلالات فكرية وتصورية وارتباطات مضطربة بالتاريخ والعلم والمستقبل. وخلاصة القول: إن مؤسسة الحداثة المعطوبة، برغم تفانيها في ترسيخ نمط التحديث الغربي في المجتمعات الإسلامية، مازالت تصطدم بمناعة فطرية حادة، ولم تستطع تطويع وجدان الشعب وطاقاته لأشكالها المؤسساتية الدخيلة، وبقيت دولة الحداثة المعطوبة غريبة عن المجتمع، والمواطن العادي ينظر إليها توجسا وخيفة، وفي المقابل بدأ المجتمع الأهلي يبني ذاته، ويؤسس مؤسساته، ويستثمر طاقاته ومواهبه، من خلال أشكال وأنماط متعددة تضرب بجذورها في أعماق تاريخ الأمة، وخبرتها الحضارية، وتألقها العمراني. وذلك ما سنحاول دراسته في الفصل الثاني من هذا البحث. الفصل الثاني: فلسفة الاجتماع الإسلامي: نظام الوقف نموذجا المبحث الأول: مدخل إلى فلسفة الاجتماع الإسلامي 1) عناصر المؤسسية في الاجتماع الإسلامي: ركزبنيامين فرانكلين في كتابيه "ملاحظات ضرورية لمن يرغب في أن يكون ثريا" و"نصيحة إلى شاب تاجر" على علاقة الأخلاق بالتجارة؛ إذ نصح المعنيين، من تجار أوروبا، بالإتقان في العمل والعقلانية، والاستقامة، والاحتراف والتفاني. وعلى هذين الكتابين اعتمد الباحث الاقتصادي الألماني ماكس فيبر، في صياغة أطروحته المعروفة في كتابه الشهير "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" المتعلقة بالدين والأخلاق والاقتصاد. فالمؤسسة الأوروبية كانت تنبع من أعماق وجدان الإنسان الغربي ومعتقداته وأخلاقه، ولم تكن مجرد هياكل وأشكال بلا هوية ولا عقيدة، وهذا ما يسعى إلى ترسيخه الحداثيون المقلدون عند نسخهم ونقلهم لتلك المؤسسات بدعوى حياديتها وعالميتها، وإمكانية دمجها في أية تربة ثقافية واجتماعية مخالفة لها. ووعيا بعمق التداخل بين المؤسسة والثقافة، فإن الاجتماع الإسلامي يقوم على المؤسسات المتسقة مع نمط المجتمع وإطاره الحضاري وثقافته، مما يعمق الفعالية اللازمة لتطوير هذا المجتمع وتحسينه وتحفيز فعاليات المواطنين([25]). فالمؤسسة الأصيلة هي جزء لا يتجزأ من المعادلة الاجتماعية السائدة بما أنها نابعة من صميم المجتمع ومتفاعلة معه، عكس المؤسسات المستوردة التي لم تستطع، كما رأينا، أن تضرب بجذورها في المجتمع أو أن تحقق الصلاحية فيه لغربتها. ثم إن المؤسسة الأصيلة توفر لها عناصر التمايز البنائي والتخصص الوظيفي، والمشاركة الفاعلة في عملية التنمية، هذه العناصر التي حددها صامويل هنتنجتون في معيار التكيف، ومعيار التعقيد، ومعيار الاستقلال والذاتية، ومعيار التماسك([26]). من هنا نخلص إلى أن المؤسسة ليست بناءً وحسب، بل جوهرها يتحدد بالفلسفة التي تؤطرها، وقيمة الأخلاق التي تتأسس عليها. وعليه يمكن رصد عناصر المؤسسية في الاجتماع الإسلامي في المبادئ الآتية: Œ التقوى: فقد اقترن تأسيس أول مؤسسة في الإسلام بالتقوى، وهي المسجد، وهو الأجدر بالبقاء، والأقدر على إحداث عمليات التحويل والتغيير في بنيات المجتمع الذهنية والواقعية )لمسجد أسِّس على التقوى من أول يوم أحَقُّ أن تقوم فيه، فيه رجال يحبـون أن يتطهَّروا والله يحب المطهرين. أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسِّس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين([التوبة: 108-109] فقيمة المؤسسة إذن في غايتها ومقاصدها، وهي تقوى الله، وذلك مقصد عظيم، يسمو على الأشكال والمظاهر التي غرقت فيها المؤسسات الحداثية الدخيلة التي تحكمها فلسفة الصراع والربح المادي. فالعمل الإداري والمؤسساتي انطلاقا من فلسفة الاجتماع الإسلامي هو عمل عبادي، فيه انسجام تام بين حياة الناس وأحكام الشريعة. المسؤولية: فالمسؤول عن المؤسسة يكون مسؤولا أمام الله عز وجل «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»، )وكلهم آتيه يوم القيامة فردا(، )فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره(، والمسؤولية الثانية تكون أمام الأجهزة الإدارية بحسب القوانين والمساطر المنظمة للمؤسسة.
14-04-2010 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=836 |