/
الفعل التاريخي المؤسس في الإسلام
محمد عمر سعيد
1- تكاملية السنة والقرآن: هل يكفي ثتليث الرسالة الخاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في القول والفعل والتقرير لبلوغ جوهر رسالته؟ وهل يجزئ حصر مفهوم السنة النبوية في تكرار مجرد لبعض من الشعائر التي دأب الرسول على تأديتها؟ ثم إذا كانت السنة لغةً هو ما تكرر و يتكرر ماضيا وحاضرا فكيف نفهم هذا التكرار في مجال السنة البنوية الشريفة؟ هذه أسئلة ضرورية لتمحيص المعنى المراد بوجوب اتباع المؤمنين لنبيهم الكريم ومحبتهم له. بداية يكون فهم التكرار بمعنيين مختلفين، الأول هو المتعارف عليه من تقليد إيقاعي لسلوكات الرسول التي تبين للناس كيف يؤدون الشعائر المفروضة عليهم، وذلك تحديدا لمعايير وكيفيات آداء المشاعر (خذوا عني مناسككم)، على أن تلك المعايير يكفي فيها الحد الأدني ليأتيها المتعبد، وفي ذلك الحد الأدنى الذي يمكن أن نصطلح عليه بـ (المدى) بما هو فاصل بين شكل السنة النبوية ومضمونها الروحي أو المعنى الثاني للتكرار. فالمضمون الروحي مبدأ أو جوهر التعبد النبوي الذي يعكس المعنى السابق الذي لا معيار له، ولم يعمل النبي على على تحديد معياره، ـ وذلك هو سر إهمال الحياة الباطنة في غالب حياة المسلمين اليوم ـ إلا ما كان إشارات منه صلى الله عليه وسلم للناس كما وجه صحابته الذين عزموا على العزوف عما اعتبروه ملذات دنيوية "لامعنى لها" حين قال: (لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)؛ إذ نستشف من هذا الحديث معان عميقة لتعامل النبي الكريم في تبليغ الشأن الروحي، فهو قد تلفظ بكلمة السنة هنا على غير المتعارف عليه من المنظور الفقهي التقليدي، أي التكرار العيني لأفعال بعينها، بل جاءت في معناها ومدلولها تداولا بين الشعائر العبادية وتلك المتع الدنيوية مخرجا مفهوم العبادة من مجرد أداء لشعائر إلى بيان منهج حياة النبوة بما هو تداول بين المتع الطبيعية (نوم أكل نكاح) والالتزامات الشرعية (الصلاة والصوم اختصاء). ثم إن النبي (ص) بإحجامه عن إيضاح "معنى" سنته تلك ومغزاها قد تحاشا أن يكون "معلما روحيا" يلقن معايير سنته الباطنة، وذلك لأمرين مترابطين هما: 1. تفادي أن تكون التجربة الروحية الباطنة ذات معايير محددة تقتل الوجدان الإنساني الحر في تتبع سبل تحري الحق واتباعه (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) 2. تفادي تداخل مهمته النبوية البشرية كونه إنسانا (يأكل الطعام ويمشي في الأسواق) مع مهمته النبوية الإلهية كونه ناقلا للوحي الإلهي. ففي الوحي الإلهي (المتجسد في القرآن) تكمن المهمة الثانية التي تحاشاها النبي (ص) وهي مهمة التعليم الروحي، هكذا إذن يختص القرآن بتوجيه الباطن الإنساني توجيها صادرا عن إطلاق وهيمنة متعالية هي المخولة الوحيدة لتلقين البشر طريقهم الروحي في الحياة، وهنا المعنى العيني لخلود القرآن كونه صادرا عمن يعلم الوحدة الناظمة لجميع خلقه فأنزل كتابا يوجههم في حياتهم. وهنا كذلك يظهر مغزى تكامل الهديين النبوي والقرآني تكاملا بنفي أي فهم اعتباطي يرجع أحدهما للآخر أو يغلب أحدهما على الآخر. فقد جمعت النبوة المحمدية بين بشريتها المعيارية المتعينة وبين إلهيتها المطلقة المتعالية دونما بتر أو انفصال إلا بـ (المدى) الفاصل بين الخالقية والمخلوقية، كما جمع القرآن بين تعينه الرمزي لغة واسطة بين الخالق والمخلوق، وبين إطلاقه المضموني المتعذر عن الإحاطة والنفاذ دونما بتر أو انفصال إلا بـ (المدى) الفاصل بين التعين والإطلاق. ولما كانت معيارية الشعائر قد ختمت بانقضاء عهد النبوة وكان محمد أسمى الناس وأرقاهم بجمعه بين بشريته وإلهيته، صارت المرحلة المحمدية محورا للزمن الكوني كله ما قبله وما بعده، منه نستمد شعائريته وروحانيته، لكن أي استمداد؟ إنه استمداد لا يلغي خصوصيات الناس، إذ يصير القرآن خادما لنبوة محمد متحدثا عنه وباسمه. كما ولما كانت روحانية الباطن قد حفظت وكان القرآن مصدقا للتجارب السابقة ومهيمنا عليها، صارت مرحلة نزوله محورا للمعاني الروحية ما قبلها وما بعدها، منها نستلهم روحانيته ونستمد شعائريته، لكن أي استمداد؟ إنه استمداد لايلغي تعينات البشر إذ من أجل القرآن يصير محمد ناقلا له ومتحدثا به ومنه. فكيف نفهم هذه الوحدة بين القرآن والسنة، الوحدة التي قدمنا أنها تكاملية غير اعتباطية نمثل لها كالدائرة التي لن تكتمل دون النصف الثاني؟ إن السؤال الألح الذي يطرح نفسه: إذا كان لكلا الأصلين وجهان بشري وإلهي، أوليس بالإمكان أو الأفضل الاستغناء عن أحدهما لصالح الآخر، والأرجح أن يكون القرآن مادام القرآن أكثر موثوقية من حيث الصحة؟! إن الرابطة الفعلية بين محمد (ص) والقرآن قد تعينت ذات مرة في التاريخ الإنساني عبر الروح القدس الملك جبريل عليه السلام، فقد كان الواسطة المعلنة بين الله وأفضل خلقه (ص)، تسمت تلك الوساطة بـ (الوحي)؛ والوحي بعد انقضائه صار القرآن الذي درس ويدرس منذ ما بعد الوحي، أي أننا نفرق بين الوحي لغة الذي هو فعل الإيحاء الحادث في الزمان والمكان والوحي بما هو صفة لأثر الوحي الفعلي وهو نص القرآن ذاته. فلئن كنا نطلق على القرآن اليوم لفظ الوحي فإن المؤكد أنه لن يكون كامل الدلالة إلا باقترانه بالوحي الذي كان يتلقاه النبي حين يتلقاه من جبريل، فالوحي بما هو قرآن إنما هو شاهد رامز على الوحي الفعلي الذي كان يلقيه الروح الأمين على محمد يوما ما. لذلك كان جوهر القرآن شهادة حية على الوحي الفعلي، فهو الأثر الدال على الوحي الفعلي. ومنه فلا تكون للمعاني القرآنية ما يخرجها عن أن تكون فطرة ناطقة، لذلك كان القرآن "ذكرا"، وليس فيه ما يخرج عنها وإن كانت النفس المفطورة ذاتها لا تقدر على محايثة معانيه امتناعا صادرا عن الفرق بين الخالق والمخلوق، ومنه كان القرآن والفطرة صنوان لايفترقان إلا بالنفس التي تحجب فطرتها عن المعاني القرآنية التي ليست هي إلا معاني الحق والفطرة نفسها، لذلك لا تكون الفطرة حين تفاعلها بالقرآن في الحقيقة إلا محايثة لذاتها بذاتها، محايثة نظر (مقابلا للعمل) تمثيلا للقرآن بوجهيه (النسبي والمطلق) نظير محايثة عمل تمثيلا للنبوة بوجهيها (البشري والإلهي). إن الدلالة العميقة لتكاملية السنة والقرآن تتجلى في اجتماع مفهومين يتوحدان في كلمة الإسلام، "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا، كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض"، فالضلال بالفهم النبوي هو الحياد الناتج عن الإخلال بأحد عنصري التجربة. والتكاملية بين السنة والقرآن ليست كمالا ذاتيا لا فيهما ولا في الإنسان نفسه فالكمال لله سبحانه، إنما هو طريق وسعي إلى الكمال الذي لايمكن بلوغه، وذلك تسليما بوجود من هو أعلى عند كلا المكونين، فالتسليم بعدم إمكان بلوغ مرتبة صاحب السنة (ولفظ السنة هنا هو بالمفهوم الواسع المجاوز لمجرد أقوال وأفعال وتقريرات النبي الكريم) عائد للفارق الذي ميزه عن بقية البشر وهو الشهادة التي تركها عن الوحي الذي كان يتلقاه والمتمثل في القرآن، أي أن الشهادة (القرآن) هي الأمر الفارق بين ختم النبوة وما بعدها، فيكون الوحي من ثم في مدلوله نبوة مشهودا عليها برسالة القرآن؛ كما والتسليم أيضا بعدم إمكان محايثة معاني النص القرآني (والقرآن هو نص كما تعين عندما تم وحيه، وإن كان هو ذاته الوحي أثناء تنزله)، فيستحيل أي نص ديني تال على النص المحمدي شهودا على نبوة غيره، فهو الفارق بين الخالق والمخلوق (بين الله والبشر). بهذا يستحيل كل من النبوة كونها تلقيا و الوحي بوصفه نصا متلقى إلى شاهدين على الخلود التاريخي والخلود الأبدي، خلود تجربة النبي محمد (ص) وخلود نص القرآن على التوالي، فلا يصير أي منهما ممكنا إلا رمزا، وأما المفارقة التي تنشأ عنهما هي أن محاولة تكرار التجربة النبوية تحقيق فعلي لدلالة لفظة السنة لا تلغي ذات المجرب وهو ما يكفله له النص القرآني نفسه والذي يعلو على أي إحاطة بشرية في فهمه كما قد علا عن إحاطة النبي نفسه فرقا بين الخالقية والمخلوقية؛ مقابل أن تكون محايثة المعاني القرآنية لايمكنها بلوغ مقام التجربة النبوية التي تعلو عن أي محاكاة بشرية فرقا بين الرمز والمرموز في مباشرة الواقع بالوحي ـ أسباب النزول ـ، فتتوحد المفارقتان عند معنى واحد بانتفاء التقابل بين (الرمز والمرموز) و(الخالق والمخلوق) من الناحية اللغوية. إلا أن المفارقة الحقيقية تنشأ في عالم الحقائق الفعلية، إذ لما كانت محايثة النص القرآني متعذرة كان بذلك التكافؤ بين القرآن والبشر حاصلا فعليا إذ تمكن مزاولة البشر للتجربة النبوية مباشرة في معاشهم رمزا لتطبيق النبي للوحي، وبالتالي طرح السؤال عن الإمكانية والمدى المتاح للتجاوز والمفاضلة بين النبوة والبشرية؟ كما ولما كانت مماثلة التجربة النبوية متعذرة لتعذر مزاولة الواقع بالوحي المنقطع، كان بذلك التكافؤ بين القرآن والبشر حاصلا فعليا، إذ من الممكن مزاولة البشر للقرآن مباشرة بقراءته رمزا لتلقي النبي للوحي، والسؤال كذلك هو عن الإمكانية والمدى المتاح للتجاوز والمفاضلة بين القرآن والبشرية؟ وبين مزاولة الوحي للواقع عن طريق النبي ـ وذلك ما يدرسه علم أسباب النزول ـ وتعذره على باقي البشر، ومزاولة القرآن لحقيقة النبوة، إشارة إلى أن محور القرآن كله كان حياة محمد ويتلوه المجتمع القرشي (وما يأتي بعد ذلك من دوائر أوسع)، وذلك ما لا يتعارض مع عالمية القرآن بل بما يثبت إطلاقية القرآن من خلال كونه تاريخيا في نفس الوقت الذي يصف فيه نفسه بالخالد الذي يهيمن على كل مراحل التاريخ الماضية والمقبلة. 2- نسقية العلاقة بين التاريخي والمقدس لقد زاول الوحي الوقائع مباشرة عن طريق الحديث في الأحداث وفي ذلك كان ترتيله [ورتلناه ترتيلا] الفرقان 32، أي حسب حاجة الناس للوحي من أجل تصريفه قيما وسلوكات على الواقع فرديا أو جماعيا، وهنا السؤال هل كان تنزيل القرآن في الواقع سواء تنزيل محمد نفسه أو مجتمعه معه يتم عينيا فحسب، أي فهم الآية عند حدود الحدث النازلة فيه، أي أنه يتعدى إلى فهم الناس فتتحول الآية لى مجرد تنزيل حكمي على الواقع أو أن تعبر عن قيمة كامنة بغض النظر عن التعين النازلة فيه؟ إن مثل هذا السؤال وبغض النظر عن الإجابة يبين كيف يمكن أن يؤول الفهم لدى الناس إلى اختزال ينفي عنه أي كمون رمزي يحول الآية من بساطتها الحدثية إلى كمونها الرمزي مقابل التضخيم الذي يمكن أن يحاط بالآية فيخرجها عن تاريخيتها وبالتالي الحجر على تطبيقها؛ فأولا لا يمكن تاريخيا ولا عقليا تصور أن الآيات القرآنية هي بعدد الأحداث والوقائع الحادثة فترة نزول الوحي، فلا يمكن أن يكون عدم تفريط القرآن في شيء هو في عدم التفريط في الكلام في الحوادث، بالمقابل فإن كل الآيات القرآنية ليست إلا إحالة إلى حادثة فردية أو جماعية سواء ظاهرة أم خفية، هكذا فإن روح القرآن بأكمله "روح أرضية" أي إن موضوعاته وآياته ذات إحالة طبيعية. فتكون بذلك إحاطة القرآن إحاطة إطلاقية باشتمالها لجميع الذوات البشرية، فهي ليست إحاطة شكلية لحياة الرسول (ص) كما تكون عصمة النبي عصمة ضمن الإطار الذاتي للممارسة الدينية الخاصة بمحمد نفسه، ليكون الفرق بين الإحاطة القرآنية المحايثة لجميع الذوات البشرية تحققا دون إحاطتها بجميع التعيينات تحققا، مقابل الإحاطة النبوية لكلية التوجيه القيمي للقرآن إمكانا؛ فمن ذلك كله نتبين أن الآي القرآني ليس هو اللفظ لذاته بقدر ما هو المعنى الذي يكمن في الآيات بما هي دافع لتحقيق العبودية المطلقة لله في إطار الاستخلاف. * خصوصية مرحلة الوحي: إن السؤال الآن هو حول ماهية النتائج التي تنعكس على المرحلة التاريخية التي تمت فيها مباشرة الوحي الإلهي للواقع والذي انقطع بعد ذلك ولم يعد ممكنا بانتهائه، وما هو "العِوَض" انطلاقا من الآية [وإن من أمة إلا خلا فيها نذير]؟ إن الملاحظة المنهجية التي سنصطحبها في تحليل للمسألة بين أيدينا تقرر وضع الأصلين (القرآن والسنة) ضمن إطارهما التاريخي الابتدائي وهي لحظة نزول الوحي، فبعد أن فرغنا من . علاج علاقة القرآن بالسنة مثبتين تكاملهما التكامل الذي يجعل من الإسلام ليس هو بأحدهما دون الآخر، نفرغ الآن إلى بحث خصوصية وعمومية المرحلة التاريخية التي احتضنت الإسلام، إذ المفروض أن تكون مكمن التفاعل بين الأصلين الذي لا إضافة فيه إلا الإطار الزماني والمكاني الذي هو عقدة الوصل بين الوحي والنبي. فهي تحيز جغرافي (مكة في شبه الجزيرة العربية) وتاريخ (القرن الثامن للميلاد)، كما وسنحتاط منهجيا لهذه المرحلة بما قبل الرسالة وأثناءها وما بعدها. فقد ابتدأت الرسالة أول ما ابتدأت في غار حراء بحادثة نزول جبريل على محمد لأول مرة إيذانا بابتداء الرسالة، في ذلك المكان الذي كان مخلى النبي في تعبده وتحنثه الفطري، فكار الغار إذن موضع اتصال السماء بالأرض بوساطة جبريل وبتوسط (إقرأ)، فكان أن تحددت الرسالة الإسلامية بذلك في عناصرها الأربع (الرسالة الأصل، الملَك، الرسالة، الرسول) ومتجسدة في الحدث العيني بغار حراء مكانا وليلة القدر زمانا. ولم يكن غار حراء مهبط الوحي في العلاقة العمودية لوحده بل يحوي أيضا على مبدأ العلاقة الأفقية التي كونه مركز تعبد النبي قبل هبوط الوحي وبعده رمزا إلى مكانة الجهد الإنساني الفطري خارج النص الديني عن الحقيقة، وذلك هو المعنى التاريخي للديني مفصولا الفصل النظري عن المعنى المقدس للديني، وتلك الأهمية التاريخية لغار حراء. وأما الدلالة القدسية لليلة القدر مرموزا لها بـ(إقرأ باسم ربك =أو التعبد بما هو جهد إنساني ذاتي حر) المشار إليها في سورة "القدر" ضغطا للزمان في ألف شهر (ليلة القدر خير من ألف شهر) فـ (فيها تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم). وبين الدلالة التاريخية لغار حراء ومقابلتها بقدسية ليلة القدر فهي مقابلة للمكان "التاريخي التاريخي" بقعة النزول مع الزمان "التاريخي المقدّس" لحظة النزول، فيكون مبدآ النزول متعاكسان تعاكسا مضاعفا فالغار في طبيعته مكان متعين ومن طبيعة المكان الثبات لكنه كان هو العنصر التاريخي في حادثة النزول باعتبار صرف الرسالة النظر عنه، وأما الليلة فهي زمان متعين ينقضي ومن طبيعة الزمن الفناء والانقضاء لكنه هو العنصر المقدّس في حادثة النزول باعتبار الأهمية التي أولاها لها القرآن، فيصبح غار حراء إذن معلما تاريخيا لعلتين هما: 1- شهادة النص الديني الذي لم يأت على ذكره، لذلك فهو غير مركزي في نطاق الحياة الدينية. 2- أنه كان محل تعبد النبي وتحنثه قبل بعثته. وفي جدل التاريخي والمقدس نجدنا أمام الإشكالية المنهجية المتمثلة في المسكوت عنه في النص الديني (كما غار حراء)، فهل يكون "المكان التاريخي" خارج السياق الديني لكونه لم يذكر في النص؟ وما معنى أن يسكت النص الديني عما هو ديني؟ يجب الفصل بداية بين التناول المنهجي للإشكال وبين "مركزية" الموضوع المعالج، وفي هذا الفصل نفسه إشكال منهجي مضاعف، فعلاج التاريخي منهجيا منهج وعلاج علاقة التاريخي بالمنهجي يقتضي منهجا آخر، وإلا لتأرخن القدسي فانخرم الوجه الروحي في الإنساني، لذلك كان علينا بيان تهافت علمية العملية التحليلية للقدسي وأيديولوجيته. نسأل أساسا عن المفهوم الجوهري للفكر العلمي حتى نتأكد من المسلمة الضمنية التي تقضي بإخضاع كل شيء لـ"التحليل" في سبيل بلوغ " الكشف" العلمي، أي أن التحليل صار الوسيلة الوحيدة في سبيل تحقيق الغاية العلمية، لكن الحقائق العلمية نفسها تكشف عن أن التحليل (الذي يقابله التركيب بوصفه العملية العكسية الضرورية، فالتركيب إذن ما هو إلا تحليل معاكس استنادا إلى الأصل اللغوي لكمة التحليل الذي هو من الناحية اللغوية سليل لكمة الحل، والحل يعني في وجه من الأوجه تفسير المبهم وتوضيحه) ليس الوسيلة الوحيدة في الممارسة العلمية لكن الثابت في العلم هو إخضاع كل شيء لـ "البحث" بما ينفي المقابلة الوهمية بين العلم والتسليم الإيماني بالقضايا القدسية. وغاية الكشف تصبح بذلك مفتوحة منهجيا على الكثير من المناهج ومن ثم تنفي عن أن يستلب التحليل كلية مفهوم العلم بما يحيل إلى أفق الاحتضان بدلا من قصور الهضم، أعني أن يصير العلم محتضنا لجميع المعارف القدسية منها والتاريخية ويمازج بينها ويعاكس. مما يقلب التصور السائد عن المعرفة العلمية ومقابلتها بالمعارف الأخرى كما ويخرم أساس التصور الكونتي للتصور العقلي للإنسان الذي يقابل بين المعرفتين الأسطورية والفلسفية والعلمية. فلا يصبح العلم عندئذ إطارا مغلقا يحتكره منهج واحد هو التحليل الموافق للمنظومة المنطقية الصادرة عن إطلاق مفهوم العلم ومعادلة المعرفة بالوجود، فينفتح على جملة المعارف ليس لمجرد تحليلها (وهو جوهر سعي المعرفة العلمية الدارجة) بل لاتخاذها مرجعية في تحديد "مناهج" لبحث الحقيقة ذاتها .
04-05-2010 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=838 |