/
الأنا والآخر في الممارسة الحواريَّة الإسلاميَّة
محمد زاهد جول
تمهيد: تعتبر الممارسة الحواريَّة أحد أهمِّ الأُسُس التي قامت عليها الحضارة الإسلاميّة؛ فقد طبع المنهج الحواريّّ سائر الممارسات في التَّجربة الإسلاميَّة ضمن المنظور الحضاريّ الإسلاميّ الذي يحدِّد علاقة الأنا بالآخر، فضلًا عن علاقة الأنا بالذَّات الإسلاميَّة نفسها؛ فمن المعروف أن التَّجربة الإسلاميَّة قامت على مُسَلَّمة الحوار والاختلاف. ويعتبر القرآن الكريم نصًّا مؤسِّسًا للحوار والاختلاف؛ فقد أسَّس منهجًا حواريًّا فريدًا، وذلك من خلال الاستناد إلى المسلَّمة القرآنيَّة - باعتبار القرآن كلام الله الذي أنزل على محمد r بلغةِ العرب، وهي بطبيعتها "أي اللُّغة" اختلافيّة، فقد جاءت مفردة الحوار في القرآن بصيغٍ مختلفة، فضلًا عن المفردات المرادفة لمعنى الحوار، ومن المعلوم أن القرآن أسَّس للحوار من خلال الاستناد إلى مفهوم الاختلاف بشِقَّيه: اختلاف الآيات الكونيّة،واختلاف الآيات الإنسانيَّة. وشهدت الممارسة التَّاريخيَّة الإسلاميَّة حوارًا داخليًّا بين الذَّات ونفسها، حيث تجلَّى الحوار والاختلاف مع الذَّات من خلال المذاهب الفقهيَّة؛ كالحنفيَّة والمالكيَّة والشافعيَّة والحنابلة والظاهريَّة .. الخ، وتجلَّى منهج الحوار مع الآخر من خلال المدارس العقديَّة الكلاميّة؛ كالمعتزلة والأشاعرة وأصحاب الحديث والماتريديَّة والشِّيعة .. الخ. إن الحاجة إلى تجديد النَّظر في مفهوم الحوار اليوم، يعدُّ أحد أهمِّ الواجبات التي تقع على عاتق الأمة الإسلاميّة، في الوقت الذي تتصاعد فيه حدِّة الحديث عن الصِّراع والصِّدام عالميًا، ولا يخفى أن للحوار جملةً من الفضائل تؤشِّر على وعي الأمم وتقدُّمها وازدهارها، ولعل أكثر ما يثير الدَّهشة والعجب في زماننا هو غفلةُ المسلمين عن هذا الأصل العظيم الذي يعتبر من أهمِّ مميزات الحضارة الإسلاميّة؛ فالممارسة الحواريّة صفةٌ ملازمةٌ للذَّات الإسلاميّة ازدهرت واشتهرت باسم "المناظرة"، والأصل فيها ما جاء في القرآن الكريم من أساليب ونماذج في المحاورة متعددة ومتنوعة، فقد وردت مادة "القول" في القرآن الكريم بصيغٍ مختلفةٍ في مواضع متعددة([1])، فعلم المناظرة الإسلاميّ على الرَّغم من استفادته من بعض مقررات الجدل اليوناني، اعتمد في الأصل على الجدل والحجاج القرآنيّ وتأسَّس عليه([2]). إن استلهام المنهج القرآني في الحوار يُفضي إلى درء آفات العنف والجُمُود والانغلاق التي طبعت بعض سلوكياتنا المعاصرة، ويعمل الحوار على ترسيخ ثقافة السَّلام بدل الحرب، والتَّسامح بدل التَّعصب, ويساهم المنهج الحواري في بناء مجتمعٍ إسلاميٍّ منفتحٍ على الآخر المتمثِّل في الثَّقافة العالميَّة، ويساعد على الإبداع والاجتهاد بدل الاستهلاك والتَّقليد والتَّبعيّة، ولا سبيل للخُرُوج من الأزمات الرَّاهنة، والانعتاق من أَسْر ورقِّ الحصار الدَّاخلي والخارجيّ سوى الأخذ بمقتضيات وأخلاقيّات الحوار القرآني([3]). يقوم المنهج الحواري على مسلمتين خفيا على كثير من المشتغلين في قضايا الحوار بين الأنا والآخر رغم أنهما من الحقائق الجلية الظاهرة، وهما: أن الأصل في الكلام الإنساني هو الحوار، والأصل في الحوار هو الاختلاف، فلا يمكن الكلام إلا بوجود طرفين، قد يكونا فردين أو فريقين أو قومين أو أمتين أو مجتمعَيْن، والكلام لا يكون إلا بين اثنين متواجدين أحدهما المتكلِم والآخر المتكَلم معه، وبناء على هاتين المسلمتين برز مفهوم "الخطاب" في اللسان العربي لما يحمله من معنى الازدواج، فلا خطاب من غير مخاطب. وإذا تقرر أنه لا حوار بغير كلام، فلا بد من تقرير أن الأصل في الحوار هو الاختلاف، فلا يمكن الدخول في حوار إلا في حالة الاختلاف والتضاد بحيث يقوم أحد الأطراف بدور المدعّي معتقدًا صحة دعواه، ويقوم الآخر بدور المعترض منتقدًا دعوى الاعتقاد، كما هو مقرر في علم المناظرة الإسلامي ([4]). وقد تنبه لأهمية منهج المناظرة في البحث والاستدلال أساطين الفلسفة التداولية المعاصرة، حيث قرروا أن الحجاج الفلسفي التداولي هو فعالية استدلالية خطابية مبناها على عرض رأي أو الاعتراض عليه، وغرضه إقناع الغير بصواب الرأي المعروض، أو بيان بطلان الرأي المعترِض عليه استنادًا إلى مواضعات "البحث عن الحقيقة الفلسفية"، الأمر الذي يجعل الحجاج الفلسفي التداولي بناءً مثنويًا تقابليًا يتواجه فيه عارض ومعترض، إذ يتوجه فيه كل منهما بآليات إقناعية خاصة، وحقوق وواجبات محددة؛ هذه المقابلة المثتوية من شأنها تغيير تصديقات أو اعتقادات المتقابلين، علمًا بأن تغيير شيء بهدف مقصود هو ما يصطلح عليه باسم "الفعل"؛ وما دام التغيير التصديقي أو الاعتقادي متبادلًا بين المتقابلين في الحجاج الفلسفي، فإن هذا الحجاج يتحدد بوصفه عملية "مفاعلة"، وكل خطاب استدلالي يقوم على "المقابلة" و"المفاعلة" الموجهة يطلق عليه اسم "مناظرة"([5]). ولذلك أمكن القول بأن منهج الفلسفة التداولية المعاصرة، ما هو إلا علم المناظرة الإسلامي، وتعتبر الفلسفة التداولية من أكثر الفلسفات تمسكًا بمقتضيات العقلانية الصحيحة لما تحققه من شروط وضوابط ومعايير، لاعتمادها على آليات معلولة للمجال التداولي، وخاضعة لمحك النظر الاجتماعي، فالمناظرة الحوارية تساعد على فهم وتصور الواقع الاجتماعي الذي يقر بالمبادرة الفردية وبالنزعة الجماعية، وتطالب بإشراك جميع أفراد المجتمع في البحث عن حلول للمشاكل والأوضاع المختلفة، وتقبل وتشجيع عمليات التنقيح والتغيير. وإذا أريد للحوار أن يكون حضاريًا، فلا بد أن يستند إلى قيم أخلاقية راسخة، وذلك للارتقاء بالإنسان من أفق البهيمية إلى فضاء الإنسانية، فالحوار شأن إنساني رفيع، والصراع سلوك حيواني وضيع؛ والحوار بين الأنا والذات الذي يتم بين الفئات المجتمعية المتعددة بقصد التفاهم، ينطلق من مبادئ وأوليات ومسلمات، بخصوص قضايا ومسائل محددة ، وذلك باعتماد ما هو مشترك من أجل الوصول إلى توافق منتج تتمخض عنه أشكال وضروب من التعايش والتعاون والتعارف، وبناء على ذلك يتقرر بأن الأصل في الحوار هو اختلاف الآراء، وأن قبول هذا الاختلاف يظهر التفاهم الذي يمليه احترام الآخر المختلف واستقلاليته، عملًا بحرية الفكر كمعطى وجودي وأخلاقي يميز التحضر والتمدن الإنساني، على عكس التعصب والتعنيف الوحشي الهمجي الذي يتسم به سلوك الحيوانات([6]). يقوم حق الاختلاف في الإسلام على جملة من الخصائص المقررة في القرآن الكريم والممارسة الإسلامية، ويستند إلى مبدأين اثنين؛ أحدهما: اختلاف الآيات، وقد كثر ورود هذا الاختلاف في القرآن فهناك عدد كبير من الآيات التي تبتدئ بقوله تعالى: ]ومن آياته...[ وعلى وجه الخصوص "اختلاف الآيات الكونية"، كقوله تعالى: ] سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ[ (فصلت:53) ؛ والثاني مبدأ اختلاف الناس، كقوله تعالى: ] وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْعَالِمِينَ[(الروم:22) ، وقوله عز وجل: ] وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ[(هود:118) ، وينشأ عن هذا الاختلاف ويمثله "اختلاف الأمم" كما جاء في قوله تعالى: ] لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ[(المائدة: من الآية48)، وقوله تعالى: ] وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ[(هود:118) ، ونظائر هذا في القرآن كثيرة بحيث أصبح راسخًا في التراث الإسلامي استعمال مفهوم الآيات والاختلاف، والتفريق بين الكونيات والشرعيات([7]). ويستند اختلاف الناس إلى التمييز بين المجتمع باعتباره مجموعة من الأفراد يسلكون سبيل الاشتراك في سد الحاجات وأداء الخدمات، وقد أطلق القرآن الكريم على هذا الانتظام في الأعمال الجماعية خيرًا أو شرًا اسم "التعاون"، كما جاء في قوله تعالى:] وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [(المائدة: من الآية2) ، وبين الأمة باعتبارها تقوم بوجود المجتمع متى تحققت بها جملة من القيم تقوم على مبدأ عمل الخير، وبهذا فإن القرآن يطلق على جملة الأعمال الخيرة: اسم "المعروف"، كما جاء في قوله تعالى: ] يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[(الحجرات:13). وقد تميزت وتفردت الحضارة الإسلامية بخاصية الحوار والاختلاف، على مدى قرون، ولعل اللافت للنظر أن يكون هذا الحوار الاختلافي قد بلغ ذروته في أطوار القوة والانتشار، بينما شهد تراجعًا نسبيًا في أطوار الضعف والانكماش، الأمر الذي يتطلب مزيدًا من التأمل والنظر والتدبر في أطوار الحضارة الإسلامية، من أجل إعادة بناء الأمة الإسلامية على أسس حوارية اختلافية، حتى تعود لسالف عهدها من التقدم والرقي والازدهار، فقد شهد التاريخ الإسلامي نوعين من الاختلاف والحوار؛ أحدهما: ثقافي كان يدور داخل الحضارة الإسلامية بين الأنا والذات، تولاه أصحاب العقائد المشتركة، وكان يتمحور حول مفهوم التأويل الذي نشأ نتيجة تعدد المعاني وسعتها في القرآن الكريم، مع الإقرار بالاتفاق والإجماع على وجوب الإيمان بالمرجعية القرآنية، وهو ما يشير إليه الماوردي بقوله: "كلام كل كتاب وأخبار كل نبي لا يخلو من احتمال تأويلات مختلفة، لأن ذلك موجود في الكلام بنفس طباعه، ولا كلام أولى بهذه الصفات من كلام الله جلّ ذكره، إذ كان أفصح الكلام وأوجزه، وأكثره رموزًا، وأجمعه للمعاني الكثيرة.. ولا بد في الدين من وقوع الحوادث التي يحتاج إلى النظر فيها، والنوازل التي لا يستغني العلماء عن استخراجها، ولذلك صار لكل رأي تبع ومشرعون، وأئمة ومؤتمون، وكان سببًا لاختلاف الأمم وانشقاق عصاها"([8]). إن هذا الاختلاف بين الأنا والذات داخل المعتقد الإسلامي الواحد، هو الأساس الذي قامت عليه المذاهب الفقهية والكلامية والفلسفية داخل الكيان الإسلامي، فمن المعلوم بأن نشأة المذاهب الفقهية هو نتيجة الاختلاف الذي بدأ مع نشوء الاجتهاد، بسبب احتمالية النصوص الشرعية من كتاب وسنة لأكثر من معنى واحد، بحسب طبيعة اللسان العربي، كالاختلاف حول المعنى في لفظ "لامستم" هل تدل على الجماع؟ أم مجرد اللمس؟ ومنها لفظ "قروء" الواردة في قوله تعالى: ] وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ[(البقرة: من الآية228) ، وكذلك بسبب اختلاف المدارك والأفهام([9]). وتوجز لنا كتب "الخلافيات" التي ازدهرت في الحضارة الإسلامية أسباب الاختلاف بين الفقهاء، في أربعة أسباب: أولًا: الاختلاف في ثبوت النص وعدم ثبوته، أو معرفته وعدمها؛ فقد تفاوت وصول النصوص إلى الأئمة، وثبت عند أحد الأئمة ولم يثبت عند غيره، بسبب الاختلاف في توثيق الرجال وتضعيفهم، أو لعلل قادحة في السند والمتن. ثانيًا: الاختلاف في فهم النص؛ فعلى فرض الاتفاق على ثبوت النص، فالاختلاف يدور على فهم النص، سواء أكان هذا الاختلاف يعود إلى نوعية النص مثل كونه مشتركًا لفظيًا بين عدة معان أو مجملًا لم يوضح معناه، أو جاء على سبيل الحقيقة أو المجاز، بحسب طبيعة اللغة والبيان. ثالثًا: الاختلاف في طرق الجمع والترجيح بين النصوص المتعارضة؛ فلو تم التسليم والاتفاق على الأمرين السابقين، فإنه يعترض أمر آخر وهو سلامة النص عن المعارضة، وهنا يحصل الاختلاف في طرق الجمع بين النصوص أو ترجيح بعضها. رابعًا: الاختلاف في القواعد الأصولية؛ فقد اجتهد الأئمة في وضع قواعد خاصة في الاستنباط، وقبول الأخبار، وحجية المصادر التي تؤخذ منها الأحكام([10]). وإذا كانت العلاقة بين الأنا والذات قد تأسست على الحوار والاختلاف في إطار من التسامح والتفاهم، فقد تميز الإنتاج الفكري الإسلامي بالاعتماد على المنهجية الحوارية المأصولة،إذ أقيمت مجالس للمحاورة عرفت في التراث الإسلامي باسم "المناظرات"، ووضعت تصانيف ورسائل يصعب حصرها على طريقة المناظرة في مختلف الميادين المعرفية، وظهرت صنوف من الخطابات تقر بالمناظرة منهجًا معرفيا مثل "خطاب التهافت"، و"خطاب الرد"، و"خطاب النقض"، وحيثما وجدت مذاهب ومدارس واتجاهات في مجال من مجالات المعرفة الإسلامية، كانت المناظرة طريقة التعامل بينها، وهذا شأن الفقه في باب "الخلاف"، والنحو باب "القياس"، والأدب في باب "النقائض"، ولم تكن المناظرة موجهة لتفاعل التيارات التي تنتسب إلى حقل علمي واحد فحسب، وإنما طبعت المناظرة كذلك التعامل بين أهل العلم من حقول معرفية مختلفة كالمناظرة بين أبي سعيد السيرافي النحوي ومتّى بن يونس الفيلسوف. وإذا أخذنا بالاعتبار الدعوى التي تنص على القول بأن اللغة تحمل سمات فكر من يتكلموا بها، فإن معجم المناظرة في اللغة العربية يدل دلالة صريحة على تداول أغلب المسلمين لهذا المنهج الجدلي والتزامهم به أكثر من غيره في تحصيل المعرفة وتبليغها، ونذكر من هذا المعجم، على سبيل المثال لا الحصر ، مجموعة المفردات التالية، بالإضافة إلى لفظي "المناظرة" و"المحاورة" وهي: "المخاطبة"، و"المجادلة"، و"المحاججة"، و"المناقشة"، و"المنازعة"، و"المذاكرة"، و"المباحثة"، و"المجالسة"، و"المفاوضة"، و"المراجعة"، و"المطارحة"، و"المساجلة"، و"المعارضة"، و"المناقضة"، و"المداولة"، و"المداخلة"، وغيرها من المفردات ([11]). ويعتبر علم الكلام من أكثر العلوم الإسلامية التصاقًا بالمنهج الحواري الذي يؤسس للعلاقة بين الأنا والذات من جهة، والأنا ولآخر من جهة ثانية ، فلا أحد ينكر دور المتكلمين في مواجهة التيارات العقدية غير الإسلامية ، والاتجاهات الفكرية المزدهرة في حظيرة الإسلام عن طريق الأخذ بالمنهج الحواري ، ويعود ذلك إلى استيعاب المتكلمين منهجيًا لأسباب العلم والتقدم في عصرهم عن طريق الأخذ بطرق استدلالية امتازت بالدقة والتجريد والطرافة والعمق، ولعل الموقف المتعنت من هذا العلم الحواري الأصيل في واقع الأمة الإسلامية المعاصرة، يعبر عن سياسة الجمود والانغلاق في ثقافتنا الإسلامية المعاصرة، وإذا كانت المطالبة بإلغاء هذا التراث وترك الاشتغال بعلم الكلام بذريعة إمكان تسخيره للمفسدة بدل المنفعة، فإن هذا القول ينطبق على سائر العلوم الإسلامية، الأمر الذي يتطلب موقفًا معاكسًا يقوم على طلب القيم الصحيحة والنافعة في هذا العلم والاستفادة منه، وهو ما قام به قديمًا الفقيه الحنبلي الكبير ابن تيمية من خلال تجديده لعلم الكلام وتوسطه في فك الاشتباك بين الخصوم، حيث عمل على التوفيق بين الآراء المستحسنة والمستشنعة فهو يقول: "والسلف لم يذموا جنس الكلام، فإن كل آدمي يتكلم، ولا ذموا الاستدلال والنظر والجدل الذي أمر الله به ورسوله، والاستدلال بما بينه الله ورسوله، بل ولا ذموا كلامًا هو حق، بل ذموا الكلام الباطل، وهو المخالف للكتاب والسنة، وهو المخالف للعقل"([12]). إن الإنتاج العلمي الكلامي الكبير في التاريخ الإسلامي، الذي تضمن منهاجًا دقيقًا في البحث والاستدلال، شمل تيارات مختلفة ومتنوعة داخل الحضارة الإسلامية، سواء من أهل القبلة كالخوارج والشيعة والمعتزلة والأشاعرة، وغيرها من الفرق، أو من أهل الملة كأهل الكتاب من اليهود والنصارى والمجوس وغيرها من الملل، وقد قل الاهتمام بهذا العلم الإسلامي الأصيل في العصور المتأخرة وهو ما تنبه له ابن خلدون حيث أشار إلى هجران المسلمين لمبحث المناظرة في عصره([13])، أما اليوم فإن حال علم الكلام ومنهجه في المناظرة يكاد يكون معدومًا([14]). لقد اجتهد علماؤنا في وضع جملة من الآداب التي تؤسس للعلاقة بين الأنا والذات، والأنا والآخر، بالاستناد إلى منهج المناظرة الإسلامي، إذ ينبغي على المناظر أن يتحلى بهذه الآداب، وأسست لقيام أخلاقيات للمناظرة، تقوم على جملة من المبادئ منها: التقارب في المعرفة والمكانة، منعًا للتعاظم على الخصم وتحقيره، وأن يمهل المناظر خصمه حتى يستوفي مسألته، وأن يتجنب الإساءة بالقول والفعل والسخرية والتطاول، وأن يقصد المناظر الاشتراك مع الخصم في إظهار الحق والاعتراف به، وبهذا الخصوص يقول ابن رشد: "لا بد أن يسمع الإنسان أقاويل المختلفين في كل شيء يفحص عنه، إذا كان يحب أن يكون من أهل الحق... ومن العدل أن يقام بحججهم من ذلك ويناب عنهم، إذ لهم أن يحتجوا بها، ومن العدل أن يأتي الرجل من الحجج لخصومه بمثل ما يأتي لنفسه".([15]) وهكذا فإن من ثوابت الفكر الإسلامي، إيلاء الرأي الآخر المختلف، مكانة مركزية، مع الالتزام بجملة من المقتضيات الحوارية الأخلاقية، فإذا تم الإخلال بهذا الأصل ينقطع الحوار، وقد يؤدي ذلك إلى السقوط في دوامة من العنف لا تنقطع، الأمر الذي يهدد وجود المجتمع والجماعة، ويؤدي إلى تطور النزاع إلى الصراع والصدام، ولذلك امتازت الممارسة الحوارية الإسلامية، بالتوفيق بين الجماعة والمنازعة عن طريق الأخذ بالحوار الاختلافي النقدي، الذي يعمل على دفع آفات العنف المادي والمعنوي، فالاختلاف في الرأي ضمن منظومة الحوار النقدي لا يندفع بالقمع، بل إن ممارسة القمع تزيد في حدة الاختلاف، ولا يندفع هذا العنف إلا بطريق الإقناع عن طريق إيراد الحجج والاجتهاد في طلب الدليل، ومن المعلوم أن الممارسة الإسلامية الحوارية ذمت الخلاف وامتدحت الاختلاف، لأن الخلاف إنما هو الرأي الذي لم ينبن على دليل أو حجة، وهو ينشأ من التقليد من جهة، والهوى من جهة أخرى، أما الاختلاف فمبناه على الاجتهاد، وهو بذل الوسع والطاقة في استخراج الدليل والحجة من مصادرها الصحيحة([16]). لقد حرص علماء الإسلام على بذل الوسع والطاقة في ذكر الاختلاف بين الأمم، وعابوا على من لم يلتزم الموضوعية في نقله ونقده، سواء عن طريق التحريف أو الحذف أو الانتقاء، إذ يؤكد ابن حزم على أنه يجب عدم فرض الرأي والمعتقد، وذلك حين يكون الباحث قد "حذف وقصَّر، وقلَّل واختصر، وأضرب عن كثير من قويّ معارضات أصحاب المقالات، فكان في ذلك غير منصف"([17])، وعبّر الشهرستاني عن التزامه الموضوعية في الاختلاف بقوله: "وشرطي على نفسي أن أورد مذهب كل فرقة على ما وجدته في كتبهم، من غير تعصب لهم، ولا كسر عليهم، دون أن أبيّن صحيحه من فاسده وأعيّن حقه من باطله، وإن كان لا يخفى على الأفهام الذكية في مدارج الدلائل العقلية لمحات الحق ونفحات الباطل"([18]). وكان الأشعري قد سبقهم في اشتراط النزاهة والتزام الموضوعية إذ يقول في مقالاته: "رأيت الناس في حكاية ما يحكون من ذكر المقالات، ويصنفون في النحل والديانات، من بين مقصِّر فيما يحكيه، وغالط فيما يذكره من قول مخالفيه، ومن بين متعمد للكذب في الحكاية إرادة التشنيع على من يخالفه"([19]). إن المنهج الحواري النقدي للاختلاف في الإسلام، ينطلق من مسلمة جوهرية لدى معظم العلماء والكتاب في الحضارة الإسلامية مفادها؛ أن الاختلاف حقيقة واقعة قد عرفها الإسلام منذ عهده الأول، بسبب الاختلاف في طبيعة اللغة والنص من جهة والفهم والإدراك من جهة أخرى، ولعل هذا ما دفع إلى تأسيس علم "أسباب نزول القرآن" وعلم "أسباب ورود الحديث". والمطالع المدقق للتراث الإسلامي؛ من فقه وحديث وكلام وتصوف وفلسفة، وغيرها من العلوم، لا يجد صعوبة في التوصل إلى حقيقة الإسلام الوسطية في التعامل مع الآخر المختلف، ويتيقن بأن الفكر الإسلامي هو أبعد ما يكون عن الغلو والتطرف والعنف، أو التحيز أو التعصب، بل إن هذا الفكر يستشنع ويستنكر هذه السلوكيات ويستقبحها، كما عبّر عن ذلك الجاحظ بقوله: "العصبية التي هلك بها عالم بعد عالم، والحمية التي لا تبقي دينًا إلا أفسدته، ولا دنيا إلا أهلكتها"([20])، ولعل هذه العصبية هي أهم الطبائع التي تتميز بها حضارة الغرب كنتاج طبيعي لمفهوم المركزية الحضارية التي أسست للعلاقة بين الأنا والآخر، والتي أفرزت مفاهيم الاستعمار والهيمنة والسيطرة بحجج مختلفة، وتزايدت الذرائع والمبررات عقب الأحداث الرهيبة في الحادي عشر من سبتمبر 2001، وقد تناول إشكالية الأنا والآخر جمع من فلاسفة الغرب، وتوصلوا إلى أن الهوية الغربية لا تنفصل عن "ثقافة التفوق"، ولا تتحدد إلا بشعار الهيمنة، ولو كانت ترفع شعار الانفتاح والحوار بين الثقافات والحضارات. فالثقافة الغربية تأسست حضارتها الحديثة على نفي الآخر بدءًا من سنة 1492م، وهي لحظة ميلاد الغرب الحديث، إذ واكب فيها اكتشاف أمريكا طرد المسلمين واليهود من إسبانيا، ومن ثم انطلقت آلية إقصاء المصادر الشرقية أو غير المسيحية للحضارة الأوروبية([21]). إن إعادة النظر وتجديده في مسألة الحوار والاختلاف في التراث الإسلامي، يجنب الأمة الإسلامية حالة العنف والتطرف والاستبداد والفساد، ولا يمكن أن يهدر هذا الحق الإنساني بحجج الوحدة والأمن، ذلك أن آفة العنف والتسلط لا يمكن مواجهتها إلا بمزيد من الحوار وقبول حق الاختلاف، وقد شدّدنا على أن سمة الحضارة الإسلامية وكتابها الكريم إنما هو ممارسة حوارية، واختلافيه نقدية، كل ذلك من أجل إعادة بناء المجتمع والأمة على أسس علمية وأخلاقية راسخة تمهد للدخول في صناعة الحضارة الأخلاقية الكونية، وفتح الأبواب التي أغلقت منذ زمن، والدخول في أفق الحرية والتعددية وحقوق الإنسان. إن الخطاب الإسلامي التجديدي يجب أن يتوافر على جملة من الخصائص المؤسِسة لحق الاختلاف، والذي يسمح بقبول التعددية على اختلاف مكوناتها، وينبذ الأحدية بمختلف ألوانها، وهذه الخصائص الاختلافية الإسلامية تستند بالأساس إلى المنهجية القرآنية التي أفاضت في ترسيخ الاختلاف والتعددية، من خلال التأصيل لمبدأ اختلاف الآيات، وأكثر ما يمثله اختلاف الآيات الكونية، كما جاء في القرآن الكريم: ]سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ *أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ[(فصلت: من الآية53)، ولعل هذا الاختلاف الكوني مما لا ينازع فيه أحد من البشر، إلا أن ما يشغلنا هو التأصيل القرآني لمبدأ اختلاف الناس، فما جاء في الآية الكريمة: ]وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْعَالِمِينَ[(الروم:22) ، والآية الكريمة: ] وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ*إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ[(هود:119)، ولعل أوضح ما يمثل اختلاف الناس في القرآن الكريم، هو اختلاف الأمم، كما جاء في الآية الكريمة: ] لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ[(المائدة: من الآية48). ولعل أكثر ما يستحق النظر والتدبر بخصوص الاختلاف الإنساني، هو الاختلاف والتنوع والتعدد داخل المجتمع والأمة، ولما كان المجتمع يتكون من مجموعة أفراد يشتركون في سد الحاجات وأداء الخدمات، فإن القرآن أطلق على هذا الانتظام على الخير أو الشر اسم "التعاون" كما جاء في الآية الكريمة: ] وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [ (سورة المائدة :2) ، ولما كان التعاون بين المجتمعات من جنس التعاون بين الأفراد، سمي هذا السلوك بالعمل التعاوني، أما الأمة في الاصطلاح القرآني، فإنه يطلق على المجتمع متى تحققت به جملة من القيم التي تعمل على رقي الإنسان من خلال العمل بالخير، وهو ما يرد في القرآن باسم المعروف، كما جاء في الآية الكريمة: ]وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[ (آل عمران:104)، من هنا فإن التعامل بين مختلف اِلأشخاص وبين الأمم المختلفة على مقتضى الخير سمي بالتعارف، كما جاء في الآية الكريمة: ، إن هذا الربط المحكم بين التعارف والكرامة والتقوى، يدل على أن التعارف المقصود لا يتم إلا بالمعروف([22]). إن الاعتقاد الإسلامي الراسخ بوحدة الإنسانية وتنوعها واختلافها، يؤسس لمبادئ التعددية الإثنية والثقافية والدينية والسياسية، وينفي عن الإسلام والممارسة الإسلامية وصف الأحدية، ذلك أنه يقوم على الاجتهاد، أما الفكر الأحدي فهو عبارة عن مفاهيم مكررة وأحكام مقلدة، واستدلالات جاهزة في مختلف المجالات التي تعني المواطنين في أحوال معاشهم، والأحدية لا تقبل معها شريكًا، باعتبارها تقف على الحق الذي لا يأتيه الباطل، وكل من خرج عن سياقاتها لا يعامل كمعارض أو متحيز إلى فكر آخر، كما هو شأن التعددية، الفكرية والسياسية، من هنا كان الفكر الأحدي يمارس الإرهاب الفكري والإقصاء والتهميش المعنوي، فهو فكر يقوم على التقليد بين أتباعه طالبًا الإذعان من غير دليل، كما أنه يعمل على التهويل والتمجيد، ولعل أكثر ما يمثل هذا الفكر الواحدي اليوم هو فكر العولمة، الذي يرفض له شريكًا في الفكر، ويطلب التقليد ويحارب الإبداع من الغير، ويسعى إلى التمجيد ولا يمارس النقد. التعددية في جوهرها فكر يقوم على الإقرار بالاختلاف، ويستند إلى دعامة الحوار المؤسس للتعارف بين الأمم، وهي حقيقة فطرية وسنة كونية، والعالم الإسلامي اليوم بحاجة إلى إقرار تعددية سياسية تقوم على أساس مبدأي الشورى والعدل، وقد مارس المسلمون من صدر الإسلام صورًا من التعددية السياسية([23])، وقد عرف تاريخ الإسلام صورًا إجمالية لمفهوم الأحزاب السياسية، بحسب التطور الفكري والسياسي، كما هو شأن الفرق والمدارس الفكرية والمذاهب الفقهية التي امتلكت جملة من البرامج العملية لتحقيق أهدافها([24])، ويرى ابن تيمية أن الأحزاب التي تدعو إلى الخير تقع في دائرة القبول والمدح، فهو يقول: "إن الأحزاب التي تدعو إلى خير وحق، ويؤدي وجودها إلى تحقيق مصالح الناس، تدخل في نطاق قوله تعالى عن المؤمنين: ] أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[(المجادلة: من الآية22)وإن الأحزاب التي تقوم على محادة الله ورسوله تدخل في وصف الله سبحانه وتعالى للضالين بأنهم (حزب الشيطان)"([25]). إن التعددية ليست شعارًا يطرح في مجتمعاتنا قديمًا وحديثًا بل هو أمر واقع متحقق، وليست التعددية هدفًا في ذاتها تتحقق بوجود الأحزاب والنقابات والجمعيات والمنظمات، وإنما هي إقرار لحق الحوار والاختلاف الذي يتأسس على
04-05-2010 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=839 |