/
عادل حسين: الاستقلال شرط النهضة
رغداء زيدان
تمهيد: عندما توفي المفكر عادل حسين رحمه الله في 15 آذار 2001م, كتب الدكتور جلال أمين عنه مقالاً بعنوان "هذا النبيل في ماركسيته وإسلامه" قال فيه: "إن القضية التي ملكت عليه نفسه, واستولت على كل اهتمامه, واستمرت محوراً لجهاده من البداية إلى النهاية, كانت هي قضية الاستقلال"([1]) والحقيقة إن من يقرأ كتابات عادل حسين يلمس هذا بنفسه. ومفهوم الاستقلال الذي استحوذ على اهتمام عادل حسين لا يقتصر فقط على الاستقلال السياسي بل إنه عدّ الاستقلال الاقتصادي شرطاً أساسياً لتنمية اقتصادية حقيقة, وبرأيه فإن الاستقلال الحضاري ضابط وموجه لتطور مجتمعنا, وهو شرط مهم لإحداث تنمية اقتصادية اجتماعية مستقلة. ومن خلال تتبع آراء عادل حسين نجد أنه من الكتّاب التأصيليين, وهم أولئك المفكرون الذين كان همهم الأساس البحث في طرق النهضة وشروطها بعيداً عن التقليد والتبعية, وهو ينتمي لذلك التيار الذي أطلق عليه محمد شاويش اسم "التيار التأصيلي", الذي يبحث في نهضة الأمة من داخلها, من مقوماتها, وثرائها الحضاري والثقافي, ويؤمن بأن حضارتنا وثقافتنا حضارة تستحق البقاء. وقد صنّف بعضهم عادل حسين ضمن تيار أطلقوا عليه اسم "التراثيون الجدد" وهو اسم يدل على أن من أطلقه لم يفهم تماماً جوهر الأفكار التي كان ومازال يدعو إليها هؤلاء, وهو وصف يحمل في طياته نقداً واتهاماً لهم بالتعلق بالماضي وكأنهم غير مدركين للتغيرات الكبيرة التي حدثت في مجتمعاتنا, أو كأنهم يدعون لتوقف عجلة التاريخ, وهذا كلام غير صحيح بتاتاً, والمتابع لأفكار عادل حسين وزملائه كالدكتور عبد الوهاب المسيري, والمستشار طارق البشري, والدكتور جلال أمين وغيرهم يعرف أنهم مفكرون تحرروا من عقدة الاستلاب للنموذج الفكري السائد والمسيطر, وانطلقوا يبحثون بحياد وعلمية حقيقية في أفكار ومسلمات سيطرت على التفكير العربي فترة طويلة, وكان من نتائجها المدمرة سيطرة أفكار خاطئة هددت قيمنا وحضارتنا ووجودنا الإنساني نفسه, مما أدى إلى توقف الإبداع العربي, وغرق الفكر العربي في دوامة التقليد والتبعية والاستلاب للغرب. لذلك فإن تسمية "التراثيون الجدد" لا تعبر بشكل حقيقي وواضح وصحيح عن توجه هؤلاء المفكرين, على عكس تسمية "التيار التأصيلي" والتي تعبر بصورة مقبولة عن هذا التيار الذي يبحث في المقولات السائدة في الثقافة والأيديولوجية العربية بنظرة نقدية تهدف إلى تحريك الفكر العربي المستقل لبناء نهضة حقيقية تنبع من ذاتنا وتكون معبّرة عن خصائصنا وهويتنا. الاستقلال في فكر عادل حسين: بدأت حياة عادل حسين سنة 1933م وهو نفس العام الذي ولدت فيه حركة "مصر الفتاة" التي أسسها أخوه الأكبر أحمد حسين, وهي حركة نادت بالاستقلال الوطني وكان لها جهاد كبير في سبيل تحقيق هذا الهدف. وقد تربى عادل حسين في "مصر الفتاة", وكبر فيها, وتأثّر بأفكارها. ومع انشغاله بهم النهضة تبنّى الاستقلال كشرط أساسي لأي تنمية صحيحة مرتقبة تكون أساساً لهذه النهضة. غير أن مفهوم الاستقلال الذي تبناه عادل حسين شهد تطوراً, أو بالأحرى "نمواً فكرياً وتبلوراً منطقياً" مترافقاً مع تطور وتشكل أفكار عادل حسين نفسها خلال مسيرة حياته, فمن المعروف أن عادل حسين عاش تحولات فكرية كبيرة, وهكذا لم يعد مفهوم الاستقلال عنده يقتصر على إخراج الجيوش الأجنبية وطردها من أرض الوطن, لكنه يتعدى ذلك إلى آفاق أوسع وأكثر تركيباً: فـ "إذا كان فرض السيطرة الغربية والصهيونية على مقدراتنا عملية مركبة, أسهم في إنتاجها ما هو أيديولوجي وما هو سياسي واقتصادي وعسكري, فكذلك حال النهضة ومدخلها استعادة الاستقلال, فالاستقلال عملية مركبة في الاتجاه المضاد, وكذلك الطريق إلى الاستقلال عملية مركبة تضم ما هو أيديولوجي وما هو سياسي وعسكري واقتصادي"([2]) وحتى نصل إلى فهم أفضل لمعنى الاستقلال الذي دعا إليه عادل حسين لابد أن نتوقف عند النقاط التالية: 1 ـ على مستوى النظرية: يعتبر عادل حسين أن "الممارسة النظرية المستقلة تعبر عن عملية التقدم الحضاري الأصيل في أية منطقة وفي أي عصر(أي إنه يعبر عن هذا المفهوم العام وعند مستوى عال من التجريد)، أما عند مستوى أدنى من التجريد، وفي منطقتنا الإسلامية تحديدًا فإن المصطلح الدال عندنا على هذه العملية هو "الاجتهاد"."([3]) وقد اجتهد عادل حسين من أجل إعطاء أساس لصياغة نظرية تنموية مستقلة, تراعي خصوصيتنا, وتنبع من تراثنا وحضارتنا. وفي كتابه المهم "الاقتصاد المصري من الاستقلال إلى التبعية" بحث عادل حسين مفهوم التبعية/ الاستقلال, بعد أن بيّن وجود "أزمة حادة في "النظريات العامة" الصادرة عن أهل "الشمال"؛ سواء في إطار النظرية الاجتماعية الاقتصادية كما صاغها ماركس، أم في إطار النظرة الاقتصادية كما سادت في جامعات الغرب الرأسمالي، وتتمثل الأزمة في عجز النظريات العامة المطروحة عن تقديم إجابات (وِفْق منطقها وبنائها) على الأسئلة المعاصرة، أو حتى عن تفسير ما تحقق خلال القرون والعقود السابقة، وترتب على ذلك أن سبقت السياسات الاقتصادية (الممارسات العملية) هذه النظريات وخرجت عن إطارها، ولم يستطع البحث النظري (حتى الآن) أن يستوعب هذه الممارسات العملية؛ ولذا فقدت النظرية دورها المفترض كموجه للسياسات"([4]). وبعد أن بيّن جوانب هذه الأزمة من خلال وقفة سريعة مع النظرية الماركسية والنظرية الغربية في الاقتصاد, عرض تصوره النظري لقضية التنمية, ووجد أن " التوصل إلى نموذج نظري للتنمية في الدول المسماة بالنامية لن يعتمد على مساعدة فعالة من إطار نظري أوسع، بل إن الاقتراب من صياغة نموذج للتنمية يتحقق حاليًّا بقدر الجرأة على تحدي إطار النظريات الأوسع"([5]). ووجد أن تراكم خبرة التجارب التنموية الفاشلة والناجحة في أرجاء الأرض يعطينا وضوحاً نظرياً أكبر نستطيع من خلاله صياغة نظريتنا الخاصة عن التنمية المستقلة. وكان عادل حسين يدرك أن الممارسة النظرية المستقلة التي كان يدعو إليها هي ممارسة بالغة الصعوبة, بسبب الوضع الذي أوصلتنا إليه التبعية على مدى سنوات طويلة, لكنه كان يدعو إلى اقتحام هذا الميدان, لأهميته البالغة في تحقيق التنمية المستقلة المبتغاة, وكان يرى أن هذه الممارسة النظرية يجب أن ترتكز إلى مرتكزات أساسية, لخصها بما يلي([6]): أ ـ الإقرار بحقيقة المفهوم المحوري في العقيدة السائدة، وهي عقيدة الحضارة الإسلامية، هذا المفهومُ المحوري يقوم على الإيمان بالله الواحد الخالق. وقد تبلور هذا المحور في منطقتنا في الدين الإسلامي تحديدًا، حيث تفاعل الإسلامُ مع المسيحية عبْر وسائل كثيرة، على رأسها اللغة؛ فساد تصور عقَدي متقارب، وانعكس ذلك في أنماط متشابهة من السلوك الفردي والجمعي. ب ـ إن هذا المحدّد العقَديّ لفكرنا الاجتماعي، ولممارستنا النظرية في هذا المجال، تفاعَل مع بيئته تاريخيًّا؛ فنشأت تقاليد وأوضاع مؤسسية نتيجة هذا التفاعُل. وأي تركيب نظري تستهدفه (المدارس الاجتماعية المستقلة) يستمد صياغته النهائيَّة، ويستمد مشروعية الإرشاد للمستقبل من استيعابه لمنطق هذا التفاعل، وما أدَّى إليه؛ كي يكون التجدد الذاتي وفْق المنطق الأصيل للاستمرارية التاريخيَّة. ج ـ يجب فرز محتويات الترسانة الفكرية الغربية، وعزل ما هو خاص (غربي) عمَّا يصلح لأن يكون عامًا (عالميًا). كذلك يتطلب الأمر فحصًا للمفاهيم، وكشف علاقاتها الصريحة والضمنية مع عقيدتهم السائدة، وبالتالي مدَى اتساق ذلك مع مفاهيم عقيدتنا السائدة. د ـ هناك تجارب إنسانية لممارسة نظرية مستقلة استخدمت بعض المكونات الواردة في الفكر الغربي بتطويعها وتطويع شروط عملها وفقًا لظروف البلد، وقد أُضيف إليها، ثم أُنشئ من ذلك كله نسقًا نظريًّا مُحكماً. وكان هذا ما فعله ماوتسي تونغ في الصين, وقد عدّ عادل حسين كتابات ماوتسي تونغ في هذا المجال "أعمق دراسة اجتماعية حديثة من منظور غير غربي", وهي درس عظيم يجب أن نستفيد منه في عملنا الهادف إلى صياغة نظرية مستقلة تعبر عنا وعن حاجاتنا, دون أن نخدع أنفسنا فنستخدم المصطلحات الغربية نفسها، مع تغيير في المصطلحات الدالة عليها، أو نحاول إثبات أن هذه المفاهيم لها أصل في تراثنا لأن هذا المنهج سيؤدِّي إلى العودة لاستخدام ذات الأنساق الغربية الكلية، حتى وإن غيرنا أسماءها, مما يعرضنا لخطر إضافة مفاهيم خاصة بنا إلى المفاهيم والأنساق الغربية, ناسين أن هذه المفاهيم "تتولد عنها في الأنساق الفكرية الغربية مفاهيمُ فرعية في كل مناحي المعرفة الاجتماعية، تتعارض تماما مع المفاهيم الفرعية المتولدة عن المتغيرات التي أدخلناها، و(خاصة الإيمان بالله تعالى)، وحصاد مثل هذه المحاولة التلفيقية يفتقد أي قدر من الاتساق الواقعي والمنطقي، ويفتقد بالتالي مشروعية الادَّعاء بإقامة بناء نظري فعّال"([7]). وقد عرض عادل حسين لستة مبادئ أساسية هي في الحقيقة سياسات تتطلبها التنمية طويلة الأجل, وهي "تحظى بانتشار كبير وتقبل واسع.....: أ ـ في العلاقات الدولية هناك مبدأ المواجهة بشكل ما لحقيقة أن العلاقات غير مواتية مع الدول الصناعية، ويسبب التناقض الفعلي في المصالح بين الشمال والجنوب. ب ـ وفي العلاقات الداخلية هناك مبادئ الاعتماد على النفس بشكل أساسي. ج ـ التنمية عملية مركبة. د ـ لا بد من قفزة كبيرة وجريئة. هـ ـ الدور المحوري للدولة والتخطيط. و ـ قضية عدالة توزيع الناتج"([8]). وفي ختام عرضه السريع لهذه المبادئ بيّن عادل حسين أنها مبادئ لا تُعد مبادئ نهائية أو تحظى بالإجماع, لكنه يعتقد "أن اللقاء حول المبادئ السابقة كان إنجازًا علميًّا يساعد في ضبط الحوار، بحيث تبحث الخلافات والبدائل داخل إطار ما، حتى ولو بدا فضفاضًا"([9]). كان عادل حسين يرى أن التذكير ببعض هذه الضوابط النظرية كان أمراً هاماً, وخصوصاً بعد أن وصلنا لمرحلة صار فيها "التحذير من الضغوط الخارجية المحتملة، ومن مخاطر التعامل بغير حرص سياسي واقتصادي مع الشركات العابرة للجنسية، أصبح محلاً للاستنكار وللاتهامات التي تنتهي عادة بالإلحاد. ولا يلمس في كتابات الاقتصاديين الرسميين، أو في منطق سياستنا الاقتصادية؛ أي وعي بحقيقة التحديات التي نواجهها من موقعنا كدولة "نامية"، تختلف ظروفها (وتتعارض كثيرًا) مع ظروف ومصالح أهل الشمال، وأصبح استهداف الاعتماد بشكل أساسي على تمويل خططنا من الخارج تقليدًا يدافع عنه بسذاجة مدهشة، ومفهوم التنمية والتخطيط لا زال بعيدًا تمامًا عن بحث التغيرات الاجتماعية والمؤسسية المطلوبة، وبدا أن مفهومنا للتنمية لا زال هو مفهوم النمو الاقتصادي المعتمد على حجم الاستثمارات، وعبر الأموال الوافدة من الخارج بالذات، وبدا أننا لم نسمع بعد عن مبدأ عدالة التوزيع"([10]) إن اهتمام عادل حسين بالعمل على تشكيل نظرية مستقلة للتنمية نابع من إدراكه العميق للآثار الكارثية للعولمة, والتي تقوم على مبدأ الاستغلال والأنانية والسيطرة وتدمير البيئة واستنزافها, وهو ينبع من إدراكه للاختلافات الثقافية والفروق والمنطلقات الفكرية بين الحضارات والثقافات, هذه الفروق التي مازال لا يدركها كثير من المثقفين الذين وقعوا في فخ "الإنسانوية الزائفة"([11]) التي لا تعترف بالفروق بين الثقافات وتصادر أن هناك ثقافة واحدة هي الثقافة المتقدمة والصحيحة (وهي اليوم الثقافة الغربية المسيطرة), فإيمان عادل حسين بأن حضارتنا هي "الأرقى والأفضل إذا قورنت بالحضارة الغربية المعاصرة التي تقوم على الفلسفة المادية وعلى الاستعلاء العنصري بكل ما تفرع عن ذلك من نظم اقتصادية واجتماعية وثقافية فاسدة"([12]) جعله يسعى جاهداً لتطوير نموذج حضاري إسلامي إنساني أرقى وأفضل ليحل محل مجتمع الانحلال والضياع. 2 ـ مفهوم الاستقلال الاقتصادي: يميز عادل حسين بين نموذجين للتنمية: أ ـ التنمية بالانتشار: هذا النموذج الذي يتعامل مع حالة الدولة "النامية" على أنها "حالة دولة تخلفت عن الركب"، وبالتالي فهي قابلة للتحديث بالصورة التي حدثت في الدول الغربية, حيث سيتم تجاور قطاع رأسمالي مع قطاع تقليدي, والمتوقع أن ينتشر القطاع الحديث حتى يسود كما حدث في الغرب. ب ـ التنمية المستقلة: ويتعامل هذا النموذج مع حالة الدولة "النامية"، لا كمجرد حالة تخلف زمني، ولكن كحالة مركبة أورثها للدولة "النامية"[13] الاستعمار الأجنبي, وعلى هذا وحسب تعبير عادل حسين فالدول "النامية ليست طفلاً, لكنها قزم مشوه"([14]) فاستنزاف موارد الدول النامية مازال مستمراً, وأنماط التنمية مرتبطة ومشروطة بمخططات وقرارات ومصالح الدول المسيطرة, مما يرسخ التبعية ويعوّق التنمية المستقلة. وعلى هذا فإن عادل حسين يؤمن بأن "التنمية الجادة المستقلة لا بد أن تبدأ بكسر حلقة التبعية، وتتواصل بقرارات مستقلة تحقق تنمية متمحورة حول ذاتها، وتتجه إلى سوقها الداخلي في الأساس"([15]). وقد بيّن عادل حسين أن التجارة الدولية وحركة رؤوس الأموال كالاستثمارات الأجنبية والديون الخارجية والمساعدات الأخرى لم تكن في مصلحة الدول النامية, بل كانت تساهم في ترسيخ التبعية وإعاقة التنمية المستقلة. وعلى الرغم من ذلك فإن الدول النامية تتكالب للحصول على هذه المساعدات والمعونات, فالوسائل التي تستخدمها الدول الصناعية في فرض سيطرتها كثيرة ومتعددة حتى يبدو أن استنزاف موارد الدول النامية وسيطرة الدول الصناعية عليها والمشكلات الكبيرة الناتجة عن تلك السياسات الاقتصادية كأنها قدر مكتوب, فيأتي تدخل هذه الدول من خلال المساعدات كأنه هو الحل, مع أنه هو المشكلة والمسبب في حدوثها, وفوق ذلك فإن الدول الصناعية تستخدم كل أدوات القوة السياسية والاقتصادية التي تمتلكها، ولا تتردد في التدخل بالقوة المسلحة كحل أخير إذا لم تفد الأدوات الأخرى([16]). لقد أدت سياسات الدول المسيطرة إلى أصبحت أنماط الإنتاج في الدول النامية خاضعة لما تقرره هذه الدول, وصار ما تنتجه الدول النامية لا يخضع لاختياراتها ولا لاحتياجاتها الحقيقية, حيث هناك منتجات تتضخم بدون حاجة وأخرى تتراجع, مما جعل بناءها الاقتصادي مشوهاً وعاجزاً وتابعاً, يلهث لتحقيق متطلبات الأسواق الخارجية رغم شروطها المجحفة([17]). لذلك فقد دعا عادل حسين إلى عمل مراجعة حقيقية لأنماط الإنتاج في الدول النامية, لتقوم بتوجيه "التنمية الاقتصادية بحيث تؤدى إلى تنويع هيكل الموارد فيصبح اقتصادنا قادراً على إمدادنا بالقسم الأهم من حاجاتنا المعيشة, والحاجات المعيشة تتحدد في المقام الأول بحاجات الغالبية العظمى من أبناء أمتنا أي بالضرورات قبل الكماليات ويعرف هذا التوجيه بإستراتيجية إشباع الحاجات الأساسية التي تضمن عدالة التوزيع بدءاً من تحديدها لنوع الإنتاج المستهدف. وإذا كانت هذه الاستراتيجية تضمن الاستقلال من حيث إنها تحقق الاعتماد على النفس في إنتاج ما نحتاجه فإنها تضمن الاستقلال أيضا من حيث أنها ستتجه بإنتاجها للسوق المحلى قبل أن تتوجه للخارج وهى ستكون أقل حاجة إلى التكنولوجيا المعقدة التي لا نفهمها ونضطر في أحيان كثيرة أن نستوردها كما هي (بتسليم المفتاح كما يقولون) وكل هذا مما يدعم اتجاهنا لتحقيق الاستقلال الاقتصادي"([18]). إن إشباع الحاجات الأساسية يتطلب اعتماد "نمط استهلاك ملائم". حيث يتم التوجه نحو إشباع هذه الحاجات كما يشكلها النمط الحضاري المميز للدولة, وبكل ما يترتب على ذلك من استغلال تكنولوجي واستغلال في هيكل الإنتاج.([19]) وهذا النمط الاستهلاكي الملائم يجب أن يتطور وفق معاييره الذاتية لا وفق نمط استهلاكي سائد نشرته في العالم الشركات الأجنبية العملاقة, وهو نمط لا يعتمد على إعادة توزيع الدخل بل يعتمد بشكل أساسي على تلبية الحاجات الأساسية التي تحقق إنسانية الإنسان حتى وإن أدى هذا النمط إلى أسلوب مختلف عن أسلوب الحياة في المجتمعات الغربية, لأن التقدم الاقتصادي ليس هو اللحاق بالغرب, وإنما هو القدرة على تحديد نمط استهلاك ملائم بمعاييرنا المستقلة, وبالتالي القدرة على تحديد مضمون النمو الاقتصادي([20]), فإذا كان متوسط دخل الفرد في الدول الغربية هو المعيار الرئيس لقوة الاقتصاد ونموه, فإن هذا المعيار لا يعدّ معياراً رئيساً للتقدم والتخلف عندنا فالمعيار الحقيقي هو الاستقلال أو التبعية, فبقدر ما نكون قادرين على استقلال نمط الاستهلاك وما يحققه من تلبية للحاجات الأساسية للناس نكون متقدمين اقتصادياً والعكس صحيح. كما لا يعدّ تقليد نمط الحياة الغربية معياراً للتقدم, فأسلوب الحياة الغربية حسب تعبير عادل حسين ليس "مثلاً أعلى أو وحيدًا يُقاس التقدم بقدر الاقتراب منه"([21]). وعلى الرغم من تغول العولمة وسيطرة الدول الصناعية الكبرى وعلى رأسها أمريكة وفرض سياساتها على الدول النامية لتحقيق مصالحها وحدها فإن عادل حسين كان متفائلاً بأن الدول النامية ستستطيع التخلص من هذه السيطرة وبناء تنمية مستقلة, وقد بدت بوادر تراجع السيطرة الغربية على العالم, صحيح أن هذا لن يتحقق بين ليلة وضحاها, لكنه قابل للتحقق و"الظروف العامة تساعدنا في انتزاع استقلالنا, ونحن نجاهد فعلاً في هذا الاتجاه, فهل ننجح في مواصلة السعي بحيث تكون منطقتنا العربية قطباً من أقطاب التحدي, قادراً بالفعل على دحر الطغيان الأمريكي وعلى تحقيق الاستقلال؟ [يقول عادل حسين] لقد أشرت إلى أن هذا ممكن وبادئ في الحدوث"([22]). 3ـ الاستقلال الحضاري: إن مفهوم "الاستقلال الحضاري" لم يكن مطروحاً عند المفكرين خلال الخمسينات والستينات من القرن العشرين, فقد سيطرت على الأجواء فكرة "التحديث" والتي لم تكن تعني أكثر من فكرة اللحاق بالغرب, على اعتباره النموذج المثال للحضارة المطلوبة. غير أن مفهوم "الاستقلال الحضاري" بدأ يُطرح على الساحة الفكرية بصورة متزايدة, رغم أنه لم يتبلور بشكل كامل وواضح بسبب وجود بعض الاختلاطات التي مازالت تشوش مفهومه والغاية منه, فقد نرى من يعتقد أن التحضر يعني "تعريب" النموذج الغربي, بحيث يصير نسخة عربية لنموذج غربي. وهناك من يرى أن الاستقلال الحضاري قد يعني الانغلاق وعدم التفاعل مع الأمم والحضارات الأخرى. وهذا بالطبع خطأ, لأن مفهوم الاستقلال الحضاري كما يقول عادل حسين هو تعبير عن مفهوم الأمة المنتجة للحضارة الخاصة بها, "وهو لا يتنافى مع حقيقة التفاعل الدائم بين الحضارات، ولا مع حقيقة التشابُه بين الملامح الحضارية لعدد من الأمم المتقاربة نتيجة كثافة خاصة في الروابط والتفاعلات"([23]). وتبرز أهمية الحديث عن "الاستقلال الحضاري" من خلال ملاحظة مدى تغلغل التبعية الحضارية في مجتمعاتنا, وتبنينا للنموذج الغربي في كل صغيرة وكبيرة من حياتنا, فنحن كما قال عادل حسين لم نعد نستطيع أن نلبس أو نأكل أو نحتفل على طريقتنا لأننا نشعر بالدونية ونخشى من اتهامنا بالتخلف والهمجية, وقد وصلنا لمرحلة لم "نعُد نجسُر على أن نلبس أو نسكن أو نأكل بالطريقة التي تناسب بيئتنا، فرعبُنا من الاتهام بالتخلف يدفعنا لأن نلبس ونسكن بالطريقة التي يعيش بها "أسيادنا" في بيئة مختلفة. هذه المسألة نتصور أنها بسيطة، أو لأننا اعتدناها لم تعُد تثير انتباهنا، ولكن دلالتها الحقيقية في منتهى الخطورة. إنها تعني أننا حتى في الأمور الحسية لا نملك أن نقرر لأنفسنا. لم يعد الفرد منا يجسُر على التساؤل ـ ولو بينه وبين نفسه ـ حول ما إذا كان الجلباب أنسب لجونا الحار أو البدلة على النمط الأوروبي......كذلك لم يعد هناك من لا زال يملك الجرأة على التساؤل حول لماذا الكرسي بدلا من الجلوس على الأرض، ...... فارقُ كبير جدًا بين أن نتخذ القرار بعد بحث مستقل حول الأنسب، وبين أن نتخذ القرار في ضوء التسليم بعجزنا الدفين عن تحديد ما يلائم وما لا يلائم، وبسبب الرهبة من نظرة الأجانب المستنكرة لتمردنا على ما قرره، حتى إذا كان القرار في أمور المعاش اليومية التي لا تحتاج لخبير يدلنا على ما يريح فيها وما يُشقي"([24]). هذه التبعية التي وصلنا إليها كانت بسبب شعورنا بالدونية وافتقادنا للثقة بالنفس التي تجعلنا نؤمن بقدرتنا على تقدير ما نحتاجه وما يناسبنا, وعلى هذا فإن الدعوة إلى"الاستقلال الحضاري" مطلوبة لأن هذا الاستقلال "ضابط وموجه لتطور مجتمعنا، وهو في الوقت نفسه شرط مهم لصياغة النمط الاستهلاكي على نحو ملائم، وهو بالتالي شرط مهم لمجرد إحداث تنمية اقتصادية اجتماعية مستقلة (دون أن يعني هذا طبعًا أنه الشرط الوحيد)"([25]). كان عادل حسين يدرك أن هناك اختلافاً جوهرياً بيننا وبين الغربيين من حيث منطلق التنمية, فإذا كانت التنمية المركبة عندهم ذات منطلق اقتصادي بحيث غلبت الجوانب الاقتصادية على الجوانب الاجتماعية, فإن التنمية عندنا عملية مركبة اجتماعية ـ اقتصادية, يتغلب فيها الجانب الاجتماعي الإنساني على الجانب الاقتصادي المادي. ونقطة الاختلاف الجوهرية بيننا وبين الغرب حسب وجهة نظره هي اختلاف مفهوم "الفطرة الإنسانية" عندنا وعندهم, " فالفطرة الإنسانية عندهم مجبولة على تقديم المنفعة الذاتية أيًّا كان المستوى المادي الذي حققته في معيشتها، ولذا فإن ردهم على الملاحظات المشهرة حول تدني أخلاق البشر، حول انخفاض توادهم وتراحمهم، يكون في التحليل الأخير مطالبة بمزيد من رفع معدلات النمو......."([26]) أما عندنا "فوفق عقيدة إسلام الوجه لله: يكون المال مال الله، والحياة الدنيا معبرًا للآخرة، وإذا كنا مأمورين بألا ننسى نصيبنا من الدنيا، فإن من واجبنا أن نفعل ذلك في إطار الضوابط الموضوعة والتي سنحاسب على أساسها يوم لا ينفع مال ولا بنون. هذا المفهوم الإسلامي لا يسلم أبدًا بغلبة النوازع الحسية أو الأرضية أو الدنيوية في الفطرة الإنسانية. إلا أن الإسلام حين يطالب بتغليب الجوانب الروحية والمعنوية لا يعني سحب اعترافه بأهمية الجوانب المادية، ولكن الغلبة تعني حق التوجيه وفرض الضوابط"([27]). لذلك فإن عادل حسين كان يؤمن بأن تراثنا هو منطلقنا نحو استقلالنا الحضاري. والتراث كما يعرّفه عادل حسين هو: "مجمل التاريخ الحضاري الذي يتسع عندنا للإنجازات المادية والمعنوية. ويشمل ما هو مكتوب ومنشور وما هو كامن أو متضمن في السلوك باعتباره قيمًا وتقاليد موجهة، والتركيز الخاص على الإسلام لا ينفي أثر التاريخ الحضاري السابق على الإسلام في مصر أو في غيرها من الأقاليم، ولكنه يعني أن التأثير الجوهري والإطار المرجعي المعتمد يرتبطان أساسًا بالإسلام..... ونرى أن الارتباط بتراث الحضارة الإسلامية لا ينحصر في المؤمنين بالدين الإسلامي. فهو تراث أبدعه وعاشه أبناء الأمة جميعًا على اختلاف انتماءاتهم"([28]). إن الاستقلال الحضاري هو ثورة في كل جوانب حياتنا, ثورة على التقليد والتبعية, ثورة مستندة لعقيدتنا ومستمدة من تراثنا, وتفعيل للإبداع والابتكار, وتحقيق للذات, وهو مرتبط بحاجتنا إلى اقتصاد متين, وتنمية مستقلة تحقق ذاتنا ووجودنا ومشاركتنا في البناء الحضاري العالمي, وهو بحاجة إلى توحيد الجهود بين أجزاء الأمة, فالوحدة هي الوجه الآخر للاستقلال, وهذا لن يتحقق ببساطة, فإذا كانت السيطرة الغربية علينا هي عملية مركبة, فإن التخلص من التبعية والحصول على الاستقلال هي عملية مركبة أيضاً, وعلى كل المستويات: السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية والعقدية والتكنولوجية. 4 ـ خاتمة: رغم أن عادل حسين أسهب في بيان شدة تبعيتنا وسوء الوضع الذي وصلنا إليه بسبب ذلك, وشراسة السيطرة الغربية, وصعوبة التخلص منها, إلا أنه بدا متفائلاً, ومؤمناً بأن تحقيق الاستقلال يتطلب تضحيات كبيرة وجهاداً مستمراً وصبوراً, فالأمر ليس فقط مجابهة بيننا وبين الغرب, بل هو مجابهة مع أنفسنا التي تعودت العيش وفق نموذج استهلاكي معين, وبالتالي فإن الجهاد الأكبر كما يقول عادل حسين هو جهاد النفس, "فهناك عادات تشكلت وأصبحت حقيقة مادية تصعب زحزحتها (ولا نقول إزالتها)، وقد حرصنا على الإشارة أكثر من مرة إلى أنه لا يكفي أن يبدو نموذج ما متسقًا منطقيًا لكي نقبله؛ فإن لم يكن النموذج قابلاً للتشغيل في الحياة الواقعية؛ يصبح الجهد في بنائه مجرد رياضة ذهنية عقيمة، فهل يمكن تغيير البشر من الأعماق؟ إن القول باستحالة ذلك يعني أن النموذج بالفعل غير قابل للتشغيل، ولكننا نعتقد حقيقة بإمكان هذا التغيير، إذا لم نُقِم تقديراتِنا على أساس الحسابات العادية لعالِم الاقتصاد أو الاجتماع. إننا نعتقد بإمكان التغيير، وفي ذهننا عجز العقول الإلِكترونية عن حساب طاقة الشعوب في لحظة مواجهة تاريخية، ولا شك أن تحقيق نهضة حضارية هو من اللحظات، التي لا تخضع للحسابات التقليدية، ومع فرض توفر هذه اللحظة؛ فإن مهمة الباحث أن يحاول تحديد تصور للعوامل الأساسية التي تضمن نجاح هذه اللحظة، وتضمن استمرار تشغيل النموذج حتى يحقق هدفه الرئيس البعيد"([29]). (1) انظر: هذا النبيل في ماركسيته وإسلامه, عادل حسين في عيون من عرفوه, العربي, 8 , إبريل, 2001م, www.kotobarabia.com (2) عادل حسين: الاستقلال الوطني والقومي, موقع كتب عربية,www.kotobarabia.com, ص 5. (3) عادل حسين: التنمية الاجتماعية بالغرب أم بالإسلام؟, موقع حزب العمل, http://el-3amal.com/news/news.php?i=926 (4) عادل حسين: الاقتصاد المصري من الاستقلال إلى التبعية, القاهرة, دار الشروق, 1982م, ج1, ص 680 ـ 681. (6) فصّل عادل حسين الحديث عن منهج الممارسة النظرية المبتغاة والتي يجب أن نسعى إليها في كتابه الاقتصاد المصري من الاستقلال إلى التبعية, ج1, الفصل الخامس والذي جعل عنوانه "مفهوم التبعية / الاستقلال", وأعاد نشر هذا الفصل كاملاً في كتابه نحو فكر عربي جديد, والذي نُشر في القاهرة, دار المستقبل العربي, ط1, 1984م. (11) محمد شاويش: الإنسانوية الزائفة, القدس العربي, السنة الحادية والعشرون, العدد 6398 (4 كانون الثاني 2010م / 18 محرم 1431هـ ). تعرضت أفكار عادل حسين لانتقادات متعددة كان أساسها هو وقوع أصحابها في فخ "الإنسانوية الزائفة" الذي شرحه محمد شاويش في مقاله "الإنسانوية الزائفة" فقال: " تصادر "الإنسانوية الزائفة" على أن البشر يرتكزون بالطريقة نفسها على الأشياء والأحداث وإدراكهم للعالم واحد وقيمهم أيضاً واحدة, فما يراه الفرنسي جميلاً لا بد لنا نحن غيرالفرنسيين أن نراه كذلك وإلا كنا غير طبيعيين (مثلاً" أهـ . وقد انتقد بعضهم عادل حسين متأثرين بـ "الإنسانوية الزائفة" حيث لم يستطع هؤلاء إدراك التنوع والاختلاف الحضاري, واعتبروا أن ما يصلح للغرب يصلح لنا, وبالتالي فإن مطالبة عادل حسين باعتماد الجانب المحوري في العقيدة السائدة في مجتمعاتنا وهي عقيدة الإيمان بالله التي يشترك بها الناس حتى مع اختلاف أديانهم ومذاهبهم كأساس لأي نظرية تنموية مستقلة, لم تجد قبولاً عند المعترضين كونهم فهموا ذلك على أنه دعوة أيديولوجية غير "علمية", من ذلك مثلاً من انتقد رفض عادل حسين لتبني النظريات الغربية حيث يقول عادل العمري وشريف يونس ناقدين منطق "الفكر العربي الجديد" الذي يمثله عادل حسين في كتابه "نحو فكر عربي جديد" حسب رأيهم: "وبالضرورة كانت محصلة "الفكر العربي الجديد" إنكار إمكان وجود نظرية علمية قادرة على تفسير الظواهر البشرية على امتداد التاريخ في الزما
18-07-2010 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=847 |