/

 

 

الفَكه في الإسلام

عزيزة السبيني

الكتاب: الفَكه في الإسلام

تأليف: ليلى العبيدي

الناشر: دار الساقي/ بيروت/ 2010

عدد الصفحات: 223 صفحة

اعتمدت المؤلفة ليلى العبيدي في كتابها (الفَكه في الإسلام) الحديث النبوي الشريف متناً لتثبت من خلاله أن للفَكه في الإسلام مكانة عالية، وأن الدين الإسلامي لم يكن زهداً وتزمتاً وطقوساً وعبادة متواصلة، بل كان أيضاً، فسحة للترويح عن النفس وطرفة ونادرة، وأن الفكه لم يكن ضداً للمقدس وطعناً فيه ورفضاً، بل يعمل في رحابه ويسير في ركبه. ورغم ذلك فإنه لم يحظ في الثقافة العربية الإسلامية بمنزلة رفيعة ومكانة تليق به. كونها وجهت اهتمامها بشكل كبير إلى مظاهر الحياة الجدية من سياسة ودين وعلوم إسلامية، فهمّشت النادرة والفكاهة والمزاح ومظاهر الهزل والضحك، وإن احتوت ذلك في خفايا الكتب وفي مختلف مجالات الحياة.

في تاريخية الفَكه

استأثر الفَكه باهتمام الثقافات المتنوعة والحضارات المختلفة، فدرسه الفلاسفة والعلماء والأدباء والفنانون، وزخرت به أعمالهم قديماً وحديثاً، حتى غدا إطاراً للتفلسف وعلماً راسخاً وفناً في الرواية والمسرح وشكلاً من أشكال الفنون التشكيلية، وضرباً من ضروب العلم والإبداع والخلق. ويعتبر الفلاسفة اليونان أول من أسس، ووضع الخطوط الكبرى والحدود الواضحة لدراسة آلية الفَكه.

كما كان أرسطو أول من علّق على أنواع عديدة من الدعابات والتوريات والنكات والظهور غير المتوقع للكلمات. أما الثقافة الغربية باعتبارها الوريثة الشرعية للثقافة اليونانية، فلم تولِ الفَكه في بداية أمرها اهتماماً كبيراً لتأثرها بالصبغة الجادة التي كان ينشرها الكتاب المقدس ووقوعها تحت سلطة الكنيسة. ولما ظهر كانت بدايته في المسرح الذي انقسم إلى المسرح الديني الذي هو وسيلة لتبليغ رسالته ونشر تعاليم الكنيسة، والمسرح الشعبي الذي هو وسيلة للفَكه والسخرية من العلاقات الاجتماعية ومن تعاليم الكنيسة والدين.

في هذا الإطار، نشأت الاحتفالات التي صاحبتها الطقوس والشعائر الشعبية وسط كمّ هائل من الصخب والهيجان، فوجد الفَكه فضاءه للتطور، مرتبطاً بثقافة العامة، معبراً عن طموحاتها المختلفة ومشاعرها المتنوعة التي كانت وليدة كبتٍ مزمن كانت تعانيه. ورأت المؤلفة أن فرويد هو أول من اهتم بدراسة النكتة وتقنياتها فغدت موضوعاً علمياً للبحث، مشيرة إلى اهتمامه بالنكتة اليهودية. وقد اتفقت تلك الدراسات في معظمها على أن اليهودي كان "يضحك كي لا يبكي".

أما الفَكه في الثقافة العربية الإسلامية فتشير بأنها أكثر الثقافات ولعاً بالفَكه. حيث ظهر فيها على مر العصور في صور مختلفة وعبرت عنه بمفردات متنوعة، ولم يترك الفَكه مجالاً من مجالات الثقافة العربية الإسلامية إلا ولجه. فتشكّلت قصصاً تروى عن البخلاء، ونوادر في الحمقى والمغفلين، وأخباراً في سير الأوّلين، وبدعاً افتراها رجال الدين والمتفقهون، ورواية يرويها راوٍ عن أعرابي.

وهناك محطات في الفكر العربي الإسلامي دلَّت عليه، ولعل أهم من كتب في الفَكه هو الجاحظ صاحب البخلاء والحيوان والبيان والتبيين، الذي أشار إلى فوائد الهزل وأهمية الضحك، وضرورة الترويح عن النفس حتى في ساعات الجد. وقد أثار الجاحظ إعجاب التوحيدي الذي نسج على منواله واقتدى به اقتداء التلميذ بالشيخ، فمزج مثله بين العلم والأدب، واتبع نمطه في الكتابة. ولم يكن أبو إسحاق الحصري أقل اهتماماً بالفَكه من الجاحظ أو التوحيدي، فقد وضع فيه كتاباً هو جمع الجواهر في الملح والنوادر، كان مختلفاً حيث فرضت عليه رقابة لم تكن موجودة، بسبب حذره وخوفه من أن يعرض للدين بسوء. وقد تغيرت الأحوال من بعده.

فنجد العلماء وقد دعوا إلى الانغلاق في عالم الجد والتزمّت والزهد ونذر الفقهاء ورجال الدين أنفسهم لمحاربة الفَكه وأشكاله المختلفة. وها هو الغزالي يدعو إلى وقف الفَكه وحرّمه على العامة والخاصة معاً، واعتبر المزاح آفة من الآفات المنهي عنها مستعملاً جميع الوسائل للتحذير من كل أشكال الفَكه، ولم يمض وقت طويل حتى ظهر ابن الجوزي الذي سعى لرد الاعتبار إلى الفَكه المحظور، وأوجد لنفسه في عالم الفَكه فضاء خاصاً به، فلم يوجه سهام سخريته إلا إلى الحمقى والمغفلين من القراء ورواة الحديث والقضاة والأمراء والولاة والكتاب والمؤذنين والأئمة ومدّعي الفصاحة والإعراب. ورغم ذلك فإن محاولته ظلت محدودة التأثير في الثقافة العربية الإسلامية التي عرفت الانطواء على نفسها والانغلاق في عالم الجد والشدة والعسر، وكأن النحو الذي نحاه الغزالي وأمثاله أثر فيها تأثيراً بالغاً لم يستطع مناهضوه القضاء عليه، فظلت بذلك محاولات فرض الفَكه محدودة قاصرة عن تجاوز الآراء المحتشمة الحذرة، وهو ما بدا واضحاً في أعمال التيفاشي والأبشيهي.

الفَكه من عالم الله

الأحاديث التي يظهر الله فيها ضاحكاً تؤدي دوراً فعالاً في ترسيخ العالم الفَكه، وتنهض بوظيفة فنية غايتها انتقال الضحك من ملهم الضحك الذي هو الله إلى المسلمين عامة عبر الرسول والصحابة. فإذا الضحك الواحد يصبح متعدداً، ويتضاعف شيئاً فشيئاً عبر الرواية حتى يعمّ الأمة قاطبة.

وقد صورت الأحاديث الخاصة بيوم الحساب الله في صورة الضاحك دائماً. فرغم ثقل ذلك اليوم الذي تنتظر فيه كل نفس الحكم الذي يخصها، فإن الله لا يتجلى إلا ضاحكاً مبشراً المسلمين جميعاً بالفوز بالجنة، وهكذا تتجلى بوضوح وظيفة الدين المتمثلة في السعي إلى نشر اليسر وتجنب العسر. والناظر في ضحك الله في الحديث يجده إيجابياً كله إذ لا يبرز فيه الله إلا راضياً عن عباده المسلمين، عطوفاً به رحيماً، مجزلاً العطاء، واهباً الخلود في جنة السماء. ولم يشكل ضحك الله الخيّر عند علماء المسلمين أمراً تحار فيه العقول. و لم يجدوا فيه حرجاً وبسطوا بسطاً يستجيب لمذاهبهم المختلفة في فهم صفات الله وأعماله وطرق علاقته بالخلق. وإذ جعلت الأحاديث الله ضاحكاً فقد جعلته أيضاً متعجباً من خلقه الذين ينهضون بأعمال تسرّه أو تدعو إلى السخرية اللطيفة التي تقوم نادرة وفكهة. فالله يتعجب سروراً إذ يرى العائلة المسلمة تبيت على الطوى وتكرم ضيفها وتخفي عنه أمرها حتى لا يرى الحاجة التي هي عليها. وإذا كان علماء الإسلام لم يجدوا حرجاً في نسبة العجب إلى الله في الأحاديث الكثيرة فلأن كثيراً منهم، وخاصة من المفسرين، وجدوا أن القرآن نفسه لم يخلُ من عجب نسبه الله إلى نفسه. ومثلما كرست الأحاديث ضحك الله وعجبه كرست سعادته وفرحه، فجعلت سعادة الله عارمة وفرحه شديداً كلما رأى عبداً من عباده تائباً خاضعاً مسلماً. وتذهب أحاديث أخرى إلى أبعد من ذلك فتبرز الله يبشّ للمسلم إذا أبدى إيمانه ولازم المساجد تماماً كما يبشّ الإنسان لمن يحب. وإذا كان الفَكه في عالم الله نتيجة للضحك والابتسام والفرح والسرور والعجب، فإنه في أحاديث أخرى ظهر من خلال ما صاغه الفكر من مشاهد وحركات وصور رُسمت بإتقان كبير، فأضحكت الناس، بمن فيهم الرسول. وقد قامت هذه الأحاديث –بفضل ما احتوته من فَكه- تكرس التسامح وتبني بين الإسلام والأديان الأخرى علاقة تتسم بالتكامل والنسج على المنوال نفسه.

الفَكه والدين اليسر

وردت في المجاميع أحاديث كثيرة تسند الأحاديث التي جعلت الفَكه من أصل مقدس، فجعلت الرسول مقتدياً بربه، فيضحك مثله ويفرح ويتعجب ويبش ويهزأ ويسخر. وهو فكه اختص به رسول الله لنشر الدين بيسر بين الناس، فيسمح إذا ما خالف المسلم تعاليم الدين بكفارة تكاد تكون رمزاً لا غير. ويتم ذلك في كل مجال يطغى عليه ضحك الرسول ومزاحه وحتى سخريته من شخصيات اشتهرت بالشدة مثل عمر بن الخطاب. وفي هذا الإطار يصبح الصوم خفيفاً على المسلم، والجنة في متناول يديه، والكفارة شيئاً من التمر يمنحه الرسول نفسه لمن كتبت عليه الكفارة. ولم يقتصر فكه الرسول في نشر دعوته بل كان من أفكه الناس مع أهله. وخاصة زوجاته فكانت علاقته معهن علاقة ود ومداعبة بالكلمة اللطيفة والإشارة الخافية والمزاح الذي لا غاية له غير إقامة عالم من البهجة والسرور في بيته. فكان يحدث زوجاته بحكايات وقصص الجاهلية العميقة الجذور في ثقافة العرب، الأمر الذي أعطى هذا النوع من القصّ شرعية وجعله فناً تام الشروط. وجاءت أحاديث أخرى تعالج علاقة الرسول الفكهة بزوجته المفضلة عائشة أم المؤمنين التي كان لها في الحديث النبوي مكانة رفيعة بوصفها راوية أو بوصفها فاعلة في الأحداث، وقد أولاها الرسول حسب ما ورد في الأحاديث من العطف والحنان والود ما لم يوله غيرها. باعتبارها الأصغر سناً والبكر الوحيد فكانت حرة في بيت زوجها الرسول، تلعب وصويحباتها، فلا يثور ولا يغضب. بل كان يفرح للأمر ويسمح لها باللعب فيغدو البيت فضاء للفَكه.

كما كان يداعب بجميل الكلام وخفيف العبارة ابنته فاطمة التي كانت لها عنده مكانة خاصة، وحظي الأطفال بمحبة الرسول وعطفه، وخاصة، الحسن والحسين فكان يأخذهما على ركبتيه يعلمهما القرآن ومكارم الأخلاق أمام الملأ، فيتعلم الناس من رسولهم كيفية تنشئة الأولاد وملاعبتهم وملاطفتهم وتحفيظهم نصيباً من القرآن وتعويدهم ارتياد بيوت الرحمان.

كان الأطفال يلعبون على ظهر الرسول ذكوراً وإناثاً لا يفرق بينهم، وكانوا ينتشرون بالقيام والقعود أثناء السجود والركوع حتى ليخيّل إليهم أن الرسول لا يركع أو يسجد إلا ليمتطوا ظهره. ولم يكن فكه الرسول خاصاً بالأطفال أو الأهل وحدهم بل تجاوزهم ليشمل الرجال من أصحاب وبدو وأعراب وعجائز. فبدت وظيفة الفَكه في ترسيخ المقدس في عالم الإنسان الدنيوي بطريقة عفوية وعن طريق الابتسام والضحك، فيتبدّى الغيب عالماً من الحور العين يتوق إليها الإنسان. هنا يبرز الرسول متفكهاً مازحاً، بعيداً عن التزمّت في الدين، ولكن مزاحه لا يخلو من حكمة وعبرة، فيذكر بطريقة ذكية بالجنة وبجزاء المؤمنين، بعيداً عن التعليم الذي سترسخه السنة الثقافية من بعد، وهو تعليم يتخذ من الوعد والوعيد وكل أنواع الترهيب نظاماً وطريقة.

الفكه في حضرة الصحابة

لم تخل علاقة الرسول بالصحابة من الفَكه فقد حرص على أن يوفر لهم كل ما من شأنه أن يجعل حياتهم أرفه وأجمل. كان يسمح لهم بالمزاح في ساحة الوغى، ويمكنهم من متعة الزواج عام الفتح، فيشعرون بالرفق واليسر. وكانوا يمزحون فيضحك ويمزح فيضحكون، فيبدو الفَكه فضاء للجميع يؤتون فيه ما يشاؤون مقتدين في ذلك بالرسول. وأبرز ما ظهر أثر الفَكه مع الرسول وأصحابه في الشعر، الذي كان ينشر –على الأغلب- في فضاء المسجد الحرام حيث يتحول منبر الصلاة ركناً لإلقاء أجود الكلام. وكان حسان بن ثابت، لقربه من الرسول وتفضيله له على غيره، يسيطر أكثر من غيره على المكان. فكان الشعر مباحاً، طبيعياً، يقرأ في المساجد، وفي حلقات الصحابة، وفي مجالس هزلهم ولهوهم وهذا دليل على وعي الرسول عليه الصلاة والسلام ببلاغة الكلمة وسلطتها في التأثير على السامع، فكان له خير سند على نشر الدعوة الإسلامية وهي في بداية طريقها إلى الناس.

وقد خلصت الكاتبة أن سبب اختيارها الفَكه موضوعاً للبحث هو محاولة للإسهام في الاهتمام بهذا الجانب الذي لم يحظ في الثقافة العربية الإسلامية قديماً بمنزلة رفيعة، وهو جانب مسكوت عنه في ما يقال ويكتب حول الإسلام. وليس الفَكه في الدين إلا تواصلاً للفَكه في الأجناس الأخرى، فكان الكتاب ـ حسب الكاتبة- إبرازاً لقيام الفَكه سنداً للحديث في مجال تبليغ الدين للناس، ومحاولة للجمع بين الفَكه والمقدس في الثقافة العربية الإسلامية التي كثيراً ما فُصل بينهما فيها.

نقلا عن موقع مسلم أون لاين

 

 

07-08-2010 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=853