من الصعب الحديث عن الوجود العربى على مسرح التاريخ بدون ربطه بالاسلام الذى اعطى العرب دورا حضاريا يعادل الادوار التى لعبتها امم ساهمت بالحضارة الانسانية مثل اليونان و الرومان و الصين و الهند.و لهذا السبب ارتبطت كلمة عربى بكلمة مسلم فى معظم الفترة الماضية ما عدا القرون الاخيرة عندما بات الاتراك يمثلون الشرعية الاسلامية و باتت كلمة تركى تعادل تقريبا كلمة مسلم .لكن رغم ادراك العرب انهم المساهم الاكبر فى اعطاء البعد الكونى للاسلام كونه انطلق من البيئة العربية و كون العرب ممن حمل لواءه الى مختلف بقاع الدنيا.ظلت كلمة مسلم طيلة العصور الماضية هى التعريف الابرز الذى يعبر عن هوية العربى الفردية و الجمعية خاصة بعد ان دخل فى الاسلام شعوب عديدة بحيث بدا الاسلام البوتقة التى انصهر فيها الجميع حيث لعب المسلمون من غير العرب ادوارا اساسية فى الحكم و لفترات طويلة. على اية حال من المهم التفريق بين امرين ,العرب الذين يتحدثون اللغة العربية و الذين يشعروا بهذا الانتماء بغض النظر عن اصولهم العرقية الفعلية و الذين ليسوا مسلمين بالضرورة لان الجزيرة العربية كانت تحتوى على حوالى 64 قبيلة عربية مسيحية اضافة للغساسنة .
و العروبة اى الايديولوجية السياسية التى بدأت بالتشكل و الظهور فى القرن التاسع عشر و التى سعت الى تأسيس كيان سياسى يجمع العرب. و لذا ليس من المستغرب ان منشورات الجمعيات القومية كالجمعية القحطانية و جمعية العربية الفتاة كانت تخاطب العرب بابناء لغة الضاد فى فترة شهدت جهدا عربيا مهما فى عصرنة اللغة العربية,خاصة و ان تلك الفترة شهدت ظهور القوميات و منها القومية الطورانية التى كانت تمارس ضغوطا ثقافية على العرب فيما اسمى فى التاريخ العربى بمرحلة التتريك. و هناك ادلة عديدة تؤكد ان العرب باتوا يشعرون بكيانهم المعنوى كعرب و لعل الحدث الذى حصل عام 1912 عندما قصف الاسطول الايطالى بيروت بسبب تاييدها لابناء طرابلس الغرب يؤكد على بداية نهوض عربى بدات سحبه تتجمع و تتراكم هنا و هناك لتفرز ما عرف لاحقا بالقومية العربية كحركة سياسية تهدف الى اقامة دولة فى كل الاقاليم التى تتحدث بالعربية.
السؤال الهام الذى اثير لاحقا و الذى يستحق الاضاءه عليه ما الذى جعل العرب يختارون التحالف مع الغرب(انجلترا و فرنسا) ضد الاتراك المفترض انهم اخوة فى الدين مع المسلمين؟ اهمية هذا السؤال انه يسعى لفهم التحولات الفكرية و الايديولوجية التى كانت تحصل فى العقل الجمعى العربى فى تلك الفترة. لان هذه التحولات لم تكن عارضة بقدر ما كانت فى منطقة ما تتعارض مع منظومة العقل الجمعى العربى التاريخى. او رؤية العرب للكون حيث يشكل الدين جزءا هاما منها وWeltanschauung التى تشكلت طوال قرون طويلة, و بموجبها تحدد مفهوم الصداقة و مفهوم العداء او دار الحرب و دار السلم. كان التعارض مع الاتراك تعارضا سياسيا اذا جاز التعبير اما التعارض مع الغرب فقد كان تعارضا ايديولوجيا. و باختيار العرب الوقوف مع الغرب فانهم بذلك كانوا يقدمون السياسى على الايديولوجى و هذا التحول كان مؤشرا على تغيرات عميقة فى الفكر العربى لانه كان يعنى خروجا عن الموروث الثقافى العربى. بعض التفسيرات التى عالجت تلك المرحلة خاصة ذات التوجه الاسلامى اعتبرت ان المساهمة الفعالة فى الفكر القومى للعرب المسيحيين كان لها الدور البارز فى هذا التحول الذى نقل العرب من مرحلة لمرحلة. و اذا كان من غير الممكن تجاهل هذا الدور لكن من الصعب ايضا قبوله كتفسير وحيد لهذه التحولات. اضف الى ذلك ان معظم الابحاث التى تحدثت عن تلك المرحلة كانت غالبا ما تعتبر نقطة البداية مرحلة الثاقف العربى مع الغرب او التأثيرات الغربية فى القرن التاسع عشر. و حسب اعتقادى من الصعب اعتبار تلك المرحلة فعلا مرحلة البداية لاننا نعرف ان المراحل الانتقالية تحتاج لوقت لبلورة الهوية الجديدة و هذا الامر يتطلب مراكمات طويلة لفرز فكر نوعى كما يقول الماركسيون.لذا من الصعب قبوله كتفسير وحيد. و لكى اكون اكثر دقة اتحدث بصفة خاصة عن التحولات فى منطقة ما يعرف بالهلال الخصيب التى اعتبرت الحاضن الاول للفكر القومى العربى. و على اية حال يبدو لى ان هناك القليل من الابحاث التى رصدت بدايات التحولات منذ القرن السادس عشر و الثامن عشر لانه لا بد من بدايات اكثر تواضعا التى اوصلت فى النهايه الى مرحلة التحول الكبرى .و لربما تكون حركات التمرد التى قام بها الاقطاع فى القرن السادس عشر مع حركة الامير فخر الدين الثانى و ظاهر العمر فى بلاد الشام و محمد على فى القرن التاسع عشر فى مصر ارهاصات لتحولات لم تنضج الا بعد حوالى القرنين. هذه الارهاصات لم تكن تطرح خيارات سياسية عربية بديلة عن الدولة العثمانية الا ان حالة التمرد تعنى نوعا من تعزيز الثقة بالنفس و تقوية الذات الجمعية و لا بد انها ساهمت تدريجيا فى اضعاف شرعية الحكم العثمانى الذى لم ينظر اليه كحكم اجنبي الا مع بدايات القرن العشرين. وهذا امر طبيعى لان فكرة انه كان حكما اجنبيا كانت غير موجودة اصلا بسبب الانسجام و عمق الصلة ما بين النظام الحاكم و منظومة الافكار الشعبية.و بالتالى فان النظرة اليه على انه حكم اجنبى يعزز الفكرة التى تقول ان المرحلة شهدت زحزحة على مستوى اليقينيات الفكرية المتوارثة. لكن من المهم التأكيد ان هذا التحول سار ببطء لان تغيير ما يعرف باليقينيات الثقافية يتطلب وقتا طويلا. و انا اتذكر انه حتى عهد قريب كان تعابير مثل تعبير الشعب المسلم او الشعب المسيحيى من التعابير التى كانت تستخدم للتعبير عن الهوية و الانتماء فى عدد من البلدان العربية المتعددة الاديان.و هذا ليس بالمستغرب لان الاشكاليات المتعلقة بالهوية و كيفية تعريف الذات الفردية و الجمعية تحتاج عادة لوقت لكى تتبلور. و قد شهدنا منذ زمن غير بعيد تعقيدات هذا التحول لدى انحلال الاتحاد السوفياتى كما شهدنا مرارة و الالام و تعقيدات هذه التحولات ابان تحلل الجمهورية اليوغوسلافية. و السبب الاساس يكمن انه حين تسقط الهوية الفردية و الجمعية القديمة و المتعارف عليها تحل مكانها هويات جديدة و هو مخاض له تعقيداته و صعوباته . ولعل هذا الذى يفسر ان العديد من النخب العربية خاصة ذات التوجه الدينى ظلت حتى الحرب الاولى تعتقد بامكانية الاستمرار ضمن الدولة العثمانية و لذا لم تكن تؤيد فكرة الانفصال التام. و هذا يؤكد كما بات معروفا ان الولاءات القديمة لم تزل قوية الى حد ما و بالتالى لم تكن النخب العربية المشتغلة على هذا الامر قد حسمت خياراتها تماما و ان كان الامر يتفاوت باعتقادى ما بين ناشط و اخر او تيار فكرى و اخر. وقد بدا هذا واضحا فى مؤتمر باريس العام 1913الذى تبنى فكرة اللامركزية او الحكم الذاتى العربى للسكان العرب الذين كانوا يشكلون الاغلبية فى الدولة لانهم كما قال عضو المؤتمر الشيخ احمد طبارة لا يريدون الانفصال عن الدولة العثمانية انما يريدون تنفيذ الاصلاحات المطلوبة و اتباع نظام اللامركزية. لذا فاننا حين نسعى لفهم ظروف تشكل الوعى القومى العربى لا بد لنا من السعى لتفكيك التاريخ لاجل فهم افضل للاسباب التى دفعت بهذا الفكر الحديث لان يتشكل. لذا فانى اعتقد بوجود عوامل عديدة لعبت دورا لاجل ان يتحالف العرب مع الغرب.لا شك ان عوامل الاحتكاك بالغرب و التعرف على افكار جديدة من خلال المدارس التبشيرية و الاستبداد و الضغط الثقافى التركى لعبت كلها دورا فى اضعاف شرعية الحكم التركى الذى بدا لعرب تلك الفترة انه حكم تركى اكثر منه حكم عثمانى للجميع على قدم المساواة. و لعل تفسير ثقة العرب بالغرب انه حتى ذلك الوقت لم يكن الغرب معروفا جيدا للعرب. و لعل النظره الايجابية العربية للغرب كانت هى الطاغية بسبب ان العرب سمعوا او شاهدوا بل و انبهروا بانجازاته العلمية و بالتالى شجعهم على الثقة باوروبا لان تجربتهم كانت محدودة جدا فى مسألة العلاقات الدولية و لم يكن العرب يملكون الخبرة السياسية الكافية لمعرفة ان التحالف مع الغرب سيؤدى الى و قوع العرب فى مشاكل لا يزالوا يعانون منها حتى الان. احد ابرز الاسباب التى لعبت فى اعتقادى دورا لا يمكن القفز عنه الا و هو ان نقد الدولة العثمانية لم ياتى فقط من مثقفين مسلمين علمانيين او متاثرين بالغرب , بل ايضا من نخب مسلمة قامت بنقد الدولة العثمانية من ذات الموقع الايديولوجى من امثال عبد الرحمن الكواكبى الذى لم ينقد السياسة العثمانية المستبدة فقط بل قام بنزع الشرعية عنها عندما اكد على عروبة الخليفة بل على انه يجب ان يكون قريشيا . و باعتقادى ان هذا النقد كان الاصعب للدولة العثمانية لانه ياتى من رجال دين مسلمون فى الوقت الذى كان بوسع الدولة اتهام المسلمين العلمانيين او المسيحيين بالعمالة للغرب كما حصل مع دعاة القومية العربية الذين اتهموا بتعاملهم مع فرنسا و تم شنقهم فى المحكمة العرفية فى عاليه فى جبل لبنان فى 6 ايار 1916 . على كل حال لا يمكن فهم هذا الحراك الا فى اطار المناخ الذى بدا يتشكل و يسمح بمقاربات دينية و سياسية جديدة تسمح بنزع الشرعية السياسية و الدينية عن العثمانيين. و لعل تعبير الشريف حسين الشهير اننا عرب قبل ان نكون مسلمين كان يعبر عن ولادة حقبة جديدة من تاريخ العرب. و قد يكون من مفارقات التاريخ العربى انه فى ذات العام الذى اعلن فيها العرب ثورتهم على الحكم التركى كانت الدول الغربية المفترض انها حليفة للعرب توقع فى الخفاء على تقسيم المنطقة , و هو القرار الذى مهد العام التالى لبلفور وزير الخارجية البريطانى باعلان وعده باقامة سرطان يهودى فى فلسطين.