/

 

 

المدخل المقاصدي والمقاربة العلمانية: نصوص الوحي*

أحمد الطعان

تمهيد : 
تتناول هذه الدراسة إحدى القضايا ذات الأهمية الخاصة التي يحاول الخطاب العلماني أن يتسلل من خلالها [لخلخلة] الثوابت الإسلامية، متقنعاً بثوبٍ إسلاميٍ يمكِّنه من ذر الرماد في العيون ، إنه مبدأ المقاصد ذلك المبدأ الذي اتفق المسلمون على أنه مبدأ أساسيٌّ في فهم الشريعة واستنباط الأحكام من نصوصها ، فالشريعة بالاتفاق جاءت لتحقيق مقاصد سامية في حياة الإنسان والمجتمع والأمة ، ولكن مقاصد من ؟! 
هل هي مقاصد الله عز وجل وعلى صعيد الدارين الدنيا والآخرة ؟ أم مقاصد الإنسان الغارق في دنيويته المحضة ، ويريد تطويع كل شيء لخدمة هذه الدنيوية ؟ 
وكيف نصل إلى هذه المقاصد ؟
هل يتم ذلك عبر القراءة المتدبرة للنص والتي تريد معرفة مراد الخالق عز وجل منه ؟ أم عبر القراءة المستَلبَة للواقع والمصلحة ، والتي لا تقبل من النص أي قولٍ خلاف ذلك ، فإن أراد النص أن يُقوِّم مرادات الإنسان وأهواءَه ، ويُهذِّب واقعَه وسلوكَه فإن النص يُلوى عنقه عبر ذريعة المقاصد ، ويُحرَّف مضمونه عبر وسائل القراءة كـ الهرطقة أعني الهرمينوطيقا (1) لكي يستجيب لما تمليه عليه إرادة القارئ .
وقد اعتمدت في هذا البحث على المصادر الأساسية والمباشرة للخطاب العلماني وحرصت على أن أترك النصوص هي التي تتكلم ، وأن يكون منهجي هو المنهج الوصفي الكشفي التركيبي الاستنتاجي حتى لا أُتهم بالتجني والتحامل . 
وها هنا ملاحظة مهمة أود أن ألفت النظر إليها لعلها تجنبني الكثير من النقد وسوء الفهم وهي أنني في هذه الدراسة لم أتعامل مع الخطاب العلماني كأشخاص وأفراد متمايزين مختلفين ، وإنما تعاملت معه كمنظومة فلسفية تنتهي إلى جذور واحدة وتستند على أسس متقاربة ، ولذلك تجنبت ذكر الأسماء غالباً في متن الدراسة ، وأحلت إليها في الهوامش ، ولذلك أيضاً كنت أنتقل من نص إلى نص دون اعتبار لقائله ما دام يتكامل مع غيره في داخل السياج الأيديولوجي العلماني . 
لقد أراد البحث إذن أن يكشف عن الوحدة المتخفية وراء التنوع والاختلاف في المنظومة العلمانية ، وأن يصل إلى الجذور الكامنة وراء الأغصان والفروع ، فالتيارات والمدارس العلمانية الليبرالية والماركسية والحداثية والعدمية على الرغم من اختلافها إلا أنها تتفق إلى حد كبير كلما حاولنا الحفر في الأعماق للوصول إلى الجذور المادية والدنيوية التي تغذيها ، ويكون الاتفاق أكثر وضوحاً حين يتعلق الأمر بالدراسات الإسلامية عموماً ، وذلك بسبب التضاد المطلق بين هدف الرسالة الإسلامية وهدف العلمانية عموماً في التعامل مع أسئلة الإنسان الكبرى وقضاياه المصيرية . 
أما ما يبدو في البحث على أنه نزعة عدوانية متشنجة تجاه الخطاب المدروس فيمكن أن يفهم على أنه صراحة شديدة لم تستطع التقنع بالدبلوماسية البحثية ، كما أنها لم توفر جهداً في عرض النصوص مهما كانت صادمة وذلك لفضح التنكر والمناورة . 
وقد جاءت هذه الدراسة في مبحثين وخاتمة :
المبحث الأول : القضية المقاصدية كما يتداولها الخطاب العلماني .
المبحث الثاني : مراجعة نقدية .
الخاتمة : النتائج .
 
المبحث الأول: القضية المقاصدية كما يتداولها الخطاب العلماني العربي
 
أولاً - كلمات حق يراد بها باطل:
يتداول العلمانيون في خطابهم مفاهيم متعددة مثل : المقاصد (2) والمصالح (3) والمغزى والجوهر والروح(4) والضمير الحديث(5) والضمير الإسلامي والوجدان الحديث(6) والمنهج(7) والرحمة(8).
وهي كلمات حق يراد بها باطل لأن بينها مفاهيم إسلامية يراد بها استئناس الضمير الإسلامي ، مثلها مثل الكلمات التبجيلية التي يتداولها العلمانيون أثناء الحديث عن القرآن الكريم تمهيداً لإقصائه عن الحياة والتشريع وذلك كقولهم : 
- "" القرآن كتاب هداية وبشرى ، يقول كل شيء ولا يقول شيئاً ""(9).
- القرآن كتاب هداية وإقحامه في كل أمورنا الحياتية ليست من تخصصه إنه ليس كتاباً في الطب والفيزياء(10).
- "" والخطاب القرآني خطاب تثقيفي تربوي من أوله إلى آخره ""(11). 
- "" القرآن كتاب هداية وبشرى ورحمة ، وليس كتاب قانون تعليمي ""(12). 
- "" القرآن ليس كتاب علم ، وإنما خطاب ديني روحي أخلاقي كوني ""(13). 
- "" القرآن كتاب دين وإيمان وليس كتاب تقنين وتشريع بعكس التوراة ""(14). - "" شريعـة موسى الـحق ، وعيسى الحب ، ومحمـد  هي الرحمة "" (15).
وعلى هذا السبيل تُستخدم المقاصد والمصالح والتأويل وعلوم القرآن كما سنرى .
 
ثانياً - إبراز الشاطبي وتصفية الشافعي :
لقد أخذ الجابري على الأصوليين اهتمامهم الشديد بالمباحث اللغوية والمسائل النحوية ، واعتبرهم غفلوا عن المقاصد الشرعية ، وصنع من ذلك إشكالية جعلها محور دراسته وهي إشكالية اللفظ والمعنى(16) فقال : "" إن أول ما يلفت الانتباه في الدراسات والأبحاث البيانية سواء في اللغة أو النحو أو الفقه أو الكلام أو البلاغة أو النقد الأدبي هو ميلها العام الواضح إلى النظر إلى اللفظ والمعنى ككيانين منفصلين ، أو على الأقل كطرفين يتمتع كل منهما بنسبة واسعة من الاستقلال عن الآخر ""(17). 
وحَكَم الجابري على علم الأصول منذ الشافعي إلى الغزالي بأنه كان يطلب المعاني من الألفاظ (18) "" فجعلوا من الاجتهاد اجتهاداً في اللغة التي نزل بها القرآن ، فكانت النتيجة أن شغلتهم المسائل اللغوية عن المقاصد الشرعية ، فعمقوا في العقل البياني وفي النظام المعرفي الذي يؤسسه خاصيتين لازمتاه منذ البداية : الأولى هي الانطلاق من الألفاظ إلى المعاني ، ومن هنا أهمية اللفظ ووزنه في التفكير البياني ، والثانية هي الاهتمام بالجزئيات على حساب الكليات - الاهتمام باللفظ وأصنافه الخ - على حساب مقاصد الشريعة ""(19)، وهو ما سبب مشاكل من التأويلات المتعارضة والمتناقضة التي وظفت حسب المذاهب المختلفة(20).
والبديل لديه هو مقاصد الشريعة كما مهد لها ابن حزم ثم ابن رشد ثم ابن خلدون(21) ثم الشاطبي الذي دشن نقلة إبيستمولوجية " معرفية " في علم المقاصد(22). 
وهـكذا حظي الشاطبي بكثير من الإطـراء والثناء على حساب الشافعي وغيره من الأصوليين(23)، واعتُبر مؤسس علم المقاصد وقواعده الكلية(24)، واعتبرت نظريته في المقاصد "" جديدة كل الجدة ""(25)، وقيل بأن الجديد فيها أنها تجعل المقاصد حاكمة على الوسائل(26)، وأن العبرة – على ذلك - ليست بخصوص السبب ولا بعموم اللفظ وإنما بالمقاصد(27)، بل وصل الأمر إلى حد القول بان مقاصد الشريعة الشاطبية تقدم المصلحة على النص(28). 
كانت هذه الإشادة بالشاطبي تتوازى مع نقدٍ شديد للإمام الشافعي الذي وُصِم بأنه مكرس "" الإيديولوجية العربية "" !(29) "" إن الشافعي وهو يؤسس عروبة الكتاب ... كان يفعل ذلك من منظور أيديولوجي ضمني في سياق الصراع الشعوبي الفكري والثقافي ... لقد انحاز إلى العروبة فقط بل إلى القرشية تحديداً ""(30).
ولأن الشافعي رفض الاستحسان اعتُبر بأنه كان يناضل "" للقضاء على التعددية الفكرية والفقهية وهو نضال لا يخلو من مغزى اجتماعي فكري سياسي واضح ""(31)، و""استطاع الشافعي عن طريق هذا الأسلوب البسيط في تركيب الحقائق أن يُعمم الصيغ والقوالب التيولوجية الشعبوية العنيدة والرازحة ويجعلها فاعلة ومؤثرة حتى يومنا هذا ""(32)، وهو الذي ابتدأ في احتكار الوظيفة القانونية والتشريعية ومن بعده أجيال العلماء التقليديين(33)، وأصّل بذلك لهيمنة الدين والعقيدة على كل مجالات الحياة(34)، لأنه بمنهجه الأصولي كان محكوماً بهاجس "" توسيع مجال النصوص لتضييق مجال الاجتهاد العقلي""(35) ، وهو ما أدى إلى "" إغلاق باب العقل والرأي والاجتهاد بذرائع شرعية ومقولات إسلامية ، وبهذا يكون العقل الإسلامي فيما يتعلق بالفقه والتشريع قد ضُرب تماماً ، وأُغلق بصورة شبه نهائية ، فشروط الشافعي أغلقت باب الاجتهاد فعلياً منذ عهده ""(36)، وليست رسالته إلا "" الحيلـة الكبـرى التي أتـاحت شيـوع ذلك الوهـم الكبـير بأن الشـريعـة ذات أصل إلهي ""(37) " فكان منظّر المنهجية التقليدية بقوله : "" جهة العلم الخبر ""(38). وكان يستخدم طريقة ملتوية في فهم الآية  وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ  (39) (40).
ذلك "" من تسميه التقاليد إماماً مجتهداً ""!!(41) كان هو"" المشرع الأكبر للعقل العربي "" (42)، لأنه جعل "" النص هو السلطة المرجعية الأساسية للعقل العربي وفاعلياته، وواضح أن عقلاً في مثل هذه الحالة لا يمكن أن ينتج إلا من خلال إنتاج آخر ""(43).
ولذلك فمن غير المقبول اليوم أن نتمسك بمنهج الشافعي الأصولي، إذ فهم الكتاب والسنة على نحو فهم الشافعي وتأويله لا يؤديان إلا إلى مأزق منهجي لا عهد للأسلاف به(44).
هذه بعض النماذج لمـوقف الخطاب العلماني من الإمام الشافعي وهناك نماذج أخرى(45). 
 
ثالثاً - الطوفي ومصلحته :
كما أبرز العلمانيون الشاطبي ومقاصده إبرازاً فكرانياً كذلك يبرز الطوفي ومصلحته ويتم التأكيد على أن الطوفي من القائلين بتقديم المصلحة على النص في حال تعارضهما(46)، وأنه يتصور إمكانية التعارض بين النص والمصلحة فيقترح التوفيق بينهما ولكن "" على وجه لا يخل بالمصلحة ولا يفضي إلى التلاعب بالأدلة أو بعضها ""(47)، كما يرى تقديم المصلحة المقطوعة على النص القطعي إن تعذر ذلك التوفيق(48)؛ لأنه يعتبر المصلحة أصلاً مستقراً يحكم على الأصول الأخرى برمتها بما فيها الكتاب والسنة(49)، وإن كان يفرق بين جانبين فيرى التعويل على النصوص والإجماع في العبادات والمقدرات، وعلى اعتبار المصالـح في المعاملات وباقي الأحكام(50). 
وخلاصة رأي الطوفي - كما يرى الخطاب العلماني - أنه يقول بنسخ النصوص وتخصيصها بالمصلحة ، لأنه يعتبر المصلحة أقوى وأخص أدلة الشرع(51) يقول الطوفي : "" قد قررنا أن المصلحة من أدلة الشرع ، وهي أقواها وأخصها فلنقدمها في تحصيل المصالح ""(52) ويُعتبر كلام الطوفي هذا فتحاً عقلياً عظيماً(53)، لأن المصلحة أساس التشريع(54) والنص تابع لها لأن النص ثابت والمصلحة متغيرة(55). ""وهذا هو عين الصواب وأقرب الكلام من حقيقة الأحكام القرآنية ومن روح الإسلام""(56). 
 
رابعاً – توظيف المنهج كبديل للفهم السلفي للقرآن : 
بدلاً من مفهوم المقاصد والمصالح تُطرح قضية المنهج وهي الرؤية التي صاغها أبو القاسم حاج حمد وتتمثل بولادة جديدة للإنسان العربي ""وليست عودة إلى عنعنات ابن كثير وإلى ما ثبت وما لم يثبت من أحاديث الرسول ""(57) الكريم عليه الصلاة والسلام . إذ "" العالمية الثانية والجديدة ليست تجديداً للأولى بأي حال من الأحوال ، وإنما هي تاريخ حضاري جديد متواصل ، والعالمية في نشوئها وتكوينها تستمد من القرآن ولأول مرة منهجه الكلي بكافة الشمولية والاتساع كما يستطيعها الإنسان ""(58).
وهي - أي العالمية الثانية - لا ترث عن العالمية الإسلامية الأولى مفهومها السلفي والتطبيقي للقرآن، ولا ترث عنها مفهومها التأويلي بل تستعيض عن السلفية التطبيقية والتأويلية الباطنية بمفهوم منهجي جديد للقرآن في وحدته العضوية ودلالاته الكونية ، وهذه الاستعاضة تأتي من قبيل التجاوز التاريخي للمرحلة البدوية العربية المتخلفة(59). 
ومن هنا فإن "" التبصر بالمنهج القرآني الكلي يدفع بنا عميقاً إلى المكنونات ، ويكشف لنا عن أن الكيفية التي فُهم بها القرآن في مرحلة تاريخية معينة لا تعني أن الفهم كان خاطئاً بالقياس إلى تلك المرحلة ، فذلك حظهم من القرآن ضمن خصائص واقعهم وأبعاده التاريخية ، ولكن الخطأ في تطبيق مفهومية التجربة السلفية على خصائص واقع مغاير بأبعاد تاريخية مغايرة. وتحسباً لهذه المتغيرات التاريخية في الواقع، مع بقاء القرآن كما هو مستمراً وخالداً، فقد جعل الله عز وجل المنهـج مـرادفاً للقدوة النبوية، وجعل النفاذ إلى المكنون بالمنهج هو البديـل عن الفهم السلفي للقرآن ""(60). 
"" فهي ليست رسالة ثانية(61) كما ادعى بعضهم ، وإنما عالمية ثانية تأخذ محتواها الجديد لا من تطبيقات سلفية ومفهوم سلفي ، ولكن من تجريد منهجي قرآني يهيمن على معاني التطبيق في المرحلة السابقة ""(62). لأن هذا التجريد المنهجي يعلو على كل الخصائص المحلية ، والتجربة النبوية تأتي في إطار المراعاة الكاملة لخصائص المرحلة الموضوعية تاريخياً واجتماعياً وفكرياً، لأنه ما من مرحلة تستطيع أن تحتوي تطبيقياً وبالوعي الكامل المنهج الإلهي، فإن المنهج يرقى على النبوة لأن القرآن محتوى هذا المنهج(63).
 
ولكن ما هو هذا المنهج ؟ 
إنه بنظر حاج حمد "" الناظم المقنن لإنتاج الأفكار ذات النسق الواحد "" أو "" خروج العقل من حالة التوليد الذاتي للمفاهيم إلى اكتشاف النسق المرجعي ""(64). هذا هو المنهج الحاج حمدي بشكل عام أما المنهج القرآني الحاج حمدي فهو تركيبة تتكون من "" المعنى القرآني + المنهج + الخصائص العالمية ""(65).
ومن هنا نتبين – بنظر الخطاب العلماني (**) - نسبية التشريع المنزل تبعاً للحالات التاريخية والأوضاع الاجتماعية المختلفة ، فعقوبات مثل القطع والرجم كانت سارية المفعول في ذلك العصر التاريخي بسبب ملاءمتها للأحوال الاجتماعية آنذاك(66)، حيث المجتمعات بدوية بدائية متنقلة فلا توجد سجون ولا جدران وإنما خيام ، فكيف يسجن السارق ؟ وكيف تحفظ الأموال؟ لا بد من عقوبة تميز السارق وتجعل الناس يحذرون منه أما اليوم فقد تغير الحال(67). 
وما دام القرآن يوضح لنا نسبية التشريع في علاقته مع بيئته التاريخية الحاملة له بقوله : ""  لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا(68) فإن الثابت إذن هو مبدأ العقوبة أو الجزاء ، أما الأشكال التطبيقية لهذا المبدأ فموكولة إلى كل عصر حسب أوضاعه وأعرافه وقيمه ، وبذلك تظل التشريعات تفاصيل تطبيقية مشدودة إلى كلية المنهج(69). وبهذا يستوعب القرآن متغيرات العصور ، ويبقى كما أراد الله صالحاً لكل زمان ومكان(70). 
هذا المنهج الحاج حمدي يختلف مع منهج العشماوي في الوسائل والمقدمات ولكنهما يؤولان إلى نفس المآل إذ "" الإسلام يُعنى بالإنسان ولا يهتم بالنظم والنظريات ""(71) "" وإن ما تفردت به الشريعة حقيقة ليس الأحكام التي نصت عليها ، ولا القواعد التي استخلصت من هذه الأحكام ، وإنما المنهج الحركي القادر على التجديد الدائم والملاءمة المستمرة ""(72). وإن الذي أفسد المسلمين هو استبدالهم للقواعد والنصوص والأحكام بالمنهج والروح ، فتركوا الأصل واستبدلوه بالفرع(73).
والمنهج هو الشريعة ، والشريعة هي المنهج ، لأن معنى الشريعة في القرآن هو المنهج والمدخل والسبيل ، وليست الشريعة القواعد والأحكام التفصيلية(74)، ذلك لأن (75) المنهج قادر على الحركة الدائمة مع الواقع أما الأحكام التفصيلية فهي نسبية مرتبطة بظروفها(75)، ولذلك يخطئ الكثيرون عندما يظنون أن تطبيق الشريعة يعني تطبيق أحكامها وتفاصيلها ، والحق أنه تطبيق روحها(76)، وروحها هو المنهج الذي يتقدم باستمرار(77)، أما تفاصيل المعاملات وغيرها فليست هي الشريعة ، وإنما هي أحكام الشريعة(78).
إن تطبيق الشريعة يعني إعمال الرحمة في كل شيء(79) لأن القرآن يقوم على منهج الرحمة أو التجديد والمعاصرة(80)، ومن هنا ما دامت الرحمة هي المنهج ، والمنهج هو الرحمة، فـإن القانون المصري بكـل فروعه المدنية والتجارية الآن موافـق لشريعـة الإيمان وروح القرآن(81). ونظام الربا في الإسلام يؤكد ذلك فقد تغير الحال ولم يعد الأمر كما كان استغلالاً لحاجة المدين يؤدي إلى إعساره وإفلاسه(82)، ولم يعد ثمة نظام للربا وإنما نظام لحساب الفوائد على الديون في مجتمع يقوم فيه المشرع بدور الرقابة على المعاملات ، ويحدد الفائدة بحيث لا تغني الدائن ولا تستغل المدين(83). 
ونظام الحدود في الإسلام يؤكد ذلك أيضاً فالشروط التي وضعها الفقهاء لإدانة السارق أو الزاني وإقامة الحد عليه يصعب أن تتحقق(84)، كما أن تطبيق حد الرجم يبدو أنه من خصوصيات الرسول الله  (85)، وأيضاً فإن هذه العقوبات لا تتفق مع روح الإسلام وأحكامه ، لأنها تقرنه بالعنف والتشدد والقسوة أمام الرأي العام العالمي(86)، ولذلك فتطبيق هذه العقوبات باسم القرآن خيانة له(87)، وأقوم الطرق أن نبحث عن الجوهر(88)، إذ لا يجب التمسك بحرفية النصوص وإنما بروحها ومغزاها ومقاصدها ، وهو ما يكفل لنا الحفاظ على مصداقية الإسلام(89) وصلاحه لكل زمان ومكان ، ووفائه لمقتضيات الضمير الحديث(90)، والوجدان الحديث(91)، دون خوف من معارضة المسلمات بدعوى أنها من المعلوم من الدين بالضرورة ، ما دام الوفاء لجوهر الرسالة المحمدية قائماً(92)، وما دام "" التشبع بروح الإسلام "" حاصلاً(93). 
 
خامساً- توظيف أفعال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : في مثل السياق الذي تحدثنا فيه " المقاصد – المصلحة – المنهج " يوظف العلمانيون اجتهادات سيدنا عمر رضي الله عنه للقول بأن المقاصد أو المصالح هي الحاكمة على النص القرآني ، وأن النص يدور معها وجوداً وعدماً ، أو يُوقف أو يُعطّل إذا حصل تعارض بينهما ، وأن الاجتهادات الجريئة التي صدرت من عمر في القضايا المستجدة أبلغ دليل على ذلك ، مثل إيقافه لحد السرقة عام الرمادة ، وإيقافه لسهم المؤلفة قلوبهم ، وإمضائه الطلاق الثلاث في مجلس واحد ثلاثاً . ونشير هنا إلى بعض ما يقوله الخطاب العلماني في ذلك : 
- لقد فعل عمر ذلك عملاً بنور العقل المنهجي(94). 
- عمر ألغى بعض الفرائض ، وأوقف بعض الأحكام(95). 
- ألغى عمر حصة المؤلفة قلوبهم اتباعاً لمقاصد الشرع(96).
- عمر أوقف العمل بنصوص ثابتة(97).
- يمكن للاجتهاد المطلق أن يخصص العام ، ويقيد مطلقه ، وأن يوقف العمل بنصوص ثابتة ، وقد فعل عمر ذلك(98).
- لقد أبطل عمر القطع عام المجاعة ، وقطع سهم المؤلفة قلوبهم ، وأبطل قول المؤذن الصلاة خير من النوم(99). 
- ألغى عمر حد السرقة ، وسهم المؤلفة قلوبهم(100). 
- حَكَم عمر بما لا يطابق النص القرآني(101).
- أصبح عمر أكثر مرونة في التعامل مع النصوص(102). 
- لقد أوقف عمر بن الخطاب حد السرقة ، وسهم المؤلفة قلوبهم(103). 
- وعمر لم ينصع للآيات في سهم المؤلفة قلوبهم ، وحد السرقة(104). 
- عمر أبطل مفعول آيتين من القرآن ، وهو موقف مستنير(105). 
- خرج عمر إلى المسلمين بتأويل في قضية الزواج بالكتابيات وأحله محل التشريع(106). 
- لقد غير عمر شرائع ثابتة في القرآن والسنة مثل حد الخمر وحد السرقة وسهم المؤلفة قلوبهم(107). 
- - الخطاب الديني يتجاهل مقاصد الشريعة كما جاءت في أفعال عمر بن الخطاب عندما ألغى حد السرقة وسهم المؤلفة قلوبهم وهي ثابتة بالنص(108). 
 
- أوقف عمر حد السرقة عام المجاعة ، وسهم المؤلفة قلوبهم مع أن النصوص ثابتة لم تنسخ(109).
 
المبحث الثاني: مراجعة ونقد
التعميم ، التلفيق ، المغالطة ، المجازفة والارتجال(110) ممارسات تغلب على الخطاب العلماني ، ولا يكف عن تعاطيها في أكثر الأحوال ، والمفاهيم التي نحن بصددها من أبرز الأمثلة على ذلك .
 
أولاً - المقاصد :
 
1 – الشاطبي والأصوليون قبله :
هل كان الشاطبي مُبدعاً في قضية المقاصد ؟ وهل كان متفرداً في ذلك ؟ 
إن قول الجابري بأن ما جاء به الشاطبي كان جديداً كل الجدة – كما سبق ورأينا – نوع من المجازفة والارتجال ، لأن الشاطبي –لاشك – كان له إضافات مهمة في علم المقاصد ولكنه كان يبني على أسس وقواعد أسّسها وقعّدها السلف والأصوليون والعلماء قبله ، وهو ما يعتز به الشاطبي نفسه لأن هذا يعني بنظره أنه متبع وليس مبتدعاً ، ولذلك فإنه يرى أن ما جاء به "" أمر قررته الآيات والأخبار ، وشد معاقله السلف الأخيار ، ورسم معالمه العلماء الأحبار، وشيّد أركانه أنظار النظار ""(111). 
ويأتي في طليعة هؤلاء أصحاب رسول الله  "" الذين عرفوا مقاصد الشريعة فحصلوها وأسسوا قواعدها وأصَّلُوها ""(112)، ثم الأصوليون كالجويني والغزالي اللذَين قسما المصالح إلى خمس ضرورية : الدين ، والنفس ، والعقل ، والنسل ، والمال(113). ويبدو الغزالي من أكثر الأصوليين الذين يذكرهم الشاطبي في كتابه الموافقات(114)، فقد ذكره أكثر من أربعين مرة في أغلبها موافقاً ومؤيداً ومستدلاً بآرائه ، ومحيلاً إلى كتبه(115). كما استفاد كثيراً من الرازي والعز بن عبد السلام والقرافي(116). 
ولا بد أيضاً من الإشارة هنا إلى أن علم مقاصد الشريعة كان مستعملاً قبل الشاطبي بحقب طويلة(117) لفظاً ومضموناً عند الحكيم الترمذي " أبو عبد الله محمد بن علي ، " والماتريدي ت : 333 هـ وأبو بكر القفال الشاشي " القفال الكبير " ت : 365 هـ وأبو بكر الأبهري ت : 375هـ والباقلاني ت : 403 هـ والجويني ، ت : 478 هـ، والغزالي ت : 505 هـ والرازي ت : 606 هـ والآمدي ت : 631هـ وابن الحاجب ت : 646 هـ والبيضاوي ت : 685هـ والإسنوي ت : 772هـ وابن السبكي ت : 771 هـ وعز الدين بن عبد السلام ت: 660هـ وابن تيمية ت : 728 هـ(118). 
والإمام الجويني هو صاحب الفضل والسبق في التقسيم الثلاثي لمقاصد الشارع إلى ضروريات وحاجيات وتحسينيات كما أنه من ذوي السبق في الإشارة إلى الضروريات الكبرى في الشريعة(119). وقد كشف الباحثون عن أوجه الإبداع والاتباع في نظرية المقاصد الشاطبية بما فيه كفاية فلا نطيل هنا(120).
 
2 – الشاطبي والشافعي :
ولكن السؤال : هل أحدث الشاطبي كما يزعم العلمانيون "" قطيعة إبيستمولوجية حقيقية مع طريقة الشافعي والأصوليين الذين جاؤو من بعده "" ؟(121).
في الواقع إن "" الشاطبي لا يقوم ولا يقعد ولا يقدم ولا يؤخر إلا بأمثال الجويني والغزالي وابن العربي وابن عبد السلام والقرافي ""(122)، وكل العلماء الأصوليين والسلف الصالح كما ذكر الشاطبي نفسه(123)، فإذا كان الشافعي قال : "" ليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها ""(124). وقال بأن استنباط الأدلة يكون إما بنص قرآني أو سنة نبوية أو ما فرض الله على خلقه من الاجتهـاد وفي طلبه(125)، فإن الشاطبي يقـول : إن القـرآن فيه بيان كل شيء من أمور الدين "" والعالم به على التحقيق عالم بجملة الشريعة ، ولا يعوزه منها شيء ""(126) "" وعلى هذا لا بد في كل مسألة يراد تحصيل علمها على أكمل الوجوه أن يُلتفت إلى أصلها في القرآن ""(127). 
وقال : "" وأيضاً فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها المعنوية وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال وهي الضروريات والحاجيات والتحسينيات ""(128)، وقال مستشهداً بقول ابن حزم : "" كل أبواب الفقه ليس منها باب إلا وله أصل في الكتاب والسنة نعلمه والحمد لله .. ""(129). 
وظل الشاطبي يلح ويؤكد دائماً على أن العقل تابع للنقل بعكس ما يريد العلمانيون ، أو بعكس ما يتجاهلون فيقول : "" إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعاً ، ويتأخر العقل فيكون تابعاً ، فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل ""(130). "" والعقل إنما ينظر من وراء الشرع ""(131) ويقول في الاعتصام : "" فالعقل غير مستقلٍ ألبتة ، ولا ينبني على غير أصل ، وإنما ينبني على أصل متقدم مسلم على الإطلاق … ولا أصل مسلم إلا من طريق الوحي ""(132) "" لأن العقل إذا لم يكن متبعاً للشرع لم يبق له إلا الهوى والشهوة ""(133). ويضيف الشاطبي "" وإذا ثبت هذا وأن الأمر دائر بين الشرع والهوى تزلزلت قاعدة حكم العقل المجرد فكأن ليس للعقل في هذا الميدان مجال إلا من تحت نظر الهوى فهو إذاً اتباع للهوى بعينه في تشريع الاحكام ""(134). 
 
3 – الشاطبي والأزمة البيانية :
هل كان الشاطبي يشعر بأزمة بيانية أصولية تتمثل في الإشكالية التي صاغها الجابري بين اللفظ والمعنى ؟ بمعنى آخر : هل تجاوز دلالات الألفاظ العربية بناء على نظريته في المقاصد ؟ أو بعبارة أخرى : كيف يمكن الوصول إلى المقاصد عند الشاطبي ؟ وكيف تتم معرفتها ؟ أبنفس طريقة الأصوليين البيانية أم أن له منهجاً مختلفاً ؟ 
يجيب الشاطبي نفسه فيقول : 
"" إن هذه الشريعة المباركة عربية لا مدخل فيها للألسن العجمية ... والمقصود هنا أن القرآن نزل بلسان العرب على الجملة فطلب فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة لأن الله تعالى يقول  إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ ت

 

 

30-08-2005 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=870