/
الاعتزال في الفتنة: الأصول والتداعيات المعاصرة
رضوان السيد
تكثُرُ في السنوات الأخيرة دعوات ونداءات الابتعاد عن الفتنة، والفتنة مصطلح قرآني، تكرر عشرات المرات بصيغ مختلفة، اسمية وفعلية. وهو في صيغته الفعلية يعني الاختبار والامتحان للأفراد في الأعم الأغلب، وفي مسألة الإيمان والصلاح بالذات. اما في الصيغة الاسمية (الفتنة) فيعني النزاع الداخلي بين ابناء الجماعة الواحدة او الدين الواحد. ويبدو ان مصطلح العرب قبل الإسلام للانقسام داخل القبيلة كان: الفساد، واشهر ما يُستعمل في ذلك: فساد طيء، وفساد بكر وتغلب من ربيعة. والقرآن الكريم يستخدم مصطلح «الفساد» ايضاً ليعني النزاع، لكنه النزاع والانحراف العام، وليس الخاص بتفرق الكلمة داخل جماعة المؤمنين. وهناك آية في سورة الأنفال يقترن فيها المصطلحان: «إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير».
وتغصّ كتب التفسير السنّة والتاريخ بآثار وأحاديث وأقوال وقصص (تعود كلها الى القرنين الأول والثاني للهجرة) تنهى كلها عن الفتنة، وبخاصة ما يتعلق بأحداث النزاع الداخلي الأول والتي ادت الى قتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، ثم الرابع علي بن ابي طالب. ثم النزاع الثاني والذي أفضى الى حرب اهلية علنية على أثر موت يزيد بن معاوية (65 – 72هـ) وقيام خلافتين: خلافة المروانيين في دمشق، وخلافة عبدالله بن الزبير في مكة. ثم النزاع الثالث المحدود والمسمى بثورة ابن الأشعث (82 – 84هـ) على الحجاج بن يوسف بالعراق وسجستان. ثم النزاع الرابع الذي قاده يزيد بن المهلب ضد القيسية والأمويين بخراسان (101 – 102هـ). فالنزاع الخامس والذي كان انقساماً داخل الأسرة الأموية افضى الى قتل الوليد بن يزيد (124 – 125هـ).
في النزاع الأول تُركّزُ الآثار على إدانة قتلة عثمان، وقتلة علي، وتحريم الانقسام في شكل عام. وفي النزاع الثاني (بين الأمويين والزبيريين) تشدد المرويات والقصص النكير على قريش، التي تفتن بين الناس من اجل المُلك. وفي تمرد ابن الأشعث يشدد الناجون بعد الفشل على تحريم سفك الدم، وعلى الندم للمشاركة في الفتنة. وفي تمرد ابن المهلّب يبرزُ الحسنُ البصريُّ (22 – 110هـ) ناهياً الناس عن التردي في الفتنة مدفوعين بأهواء ذوي السلطة والسلطان، والذين لا يريدون وجه الله، برفعهم شعارات اتّباع كتاب الله وسنّة رسوله. ونشهدُ للمرة الأولى في رسائل عبدالحميد الكاتب، العامل بديوان الإنشاء لدى الأمويين منذ ايام هشام بن عبدالملك (105 – 124هـ)، والذي يـبـدو انه صار رئـيـساً لذاك الديوان ايام مروان بن محمد (125 – 132هـ) استـخداماً واعيـاً لمصطلح «الفتنة» للدعـوة الى طاعة السلطة، والنهي عن عصيانها، لما في ذلك من إهلاك للنفوس، وضياع للأموال والممتلكات، فضلاً عن غضب الله على الساعين في الفساد والإفساد. وربما في هذه الحقبة بالذات (الربع الأول من القرن الثاني الهجري) صار مصطلح «الجماعة» (= الاجتماع على الإمام) مواجهاً لمصطلح «الفتنة». وهذا الأمر يستعيده مؤرخو القرن الثالث الهجري ومحدّثوه وبخاصة الطبري (- 310هـ) في التفسير وتاريخ الأمم والملوك، وأبو دُرعة الدمشقي في تاريخ دمشق، وكلاهما في أواخر القرن الثالث. وبهذه المناسبة يعتبر هؤلاء ورواتهم الشاميون البيعة لمعاوية بن ابي سفيان عودة للنهج السلمي الذي كان سائـداً في عهد عمر فيُسمّون العام الذي بـويع فيه معاوية (40هـ) عام الجماعة.
بدأ اهتمامي العلمي بموضوع «الفتنة» في العام 1975 بعد أن أنهيت مساقات الماجستير بجامعة توبنغن، وبدأتُ – بالتشاور مع أستاذي يوسف فان أس (تقاعد قبل سنوات وهو لا يزال ناشطاً في التأليف وآخر ما قرأت له دراسة «ضخمة» عن عقيدة القضاء والقدر في علم الكلام الإسلامي) – بالإعداد لأطروحة الدكتوراه. وكنت شديد التأثر بمقولة ماكس فيبر (1920) السوسيولوجي الألماني الكبير في ظهور الفرق في اليهودية والمسيحية، فاقترحت على الأستاذ ان أحاول تطبيق ذلك في المجال الإسلامي. واستحسن الأستاذ ذلك وإن رأى أن تلك الفرضية لن تصح في الاسلام، باعتبار أن الأكثرية الساحقة للمسلمين (أهل السنّة والجماعة) ما انتظم نظامهم العقدي، إلا في مطلع القرن الثالث الهجري، أي بعد الفرق الأخرى. ورأيت أن اختبر ذلك من طريق جماعة القراء (وهم مجموعة غريبة من رجال القرآن يذكر المؤرخون انهم حاولوا التوسط بين علي ومعاوية، ثم ثارت أكثريتهم مع ابن الأشعث على الحجاج بعد عقود عدة، وندم من بقوا على قيد الحياة على المشاركة في سفك الدم). وجه الاهتمام بهؤلاء أنهم قالوا باعتزال الفتنة، وهو مبدأ أهلي وأساسي في عقائد أهل السنّة الأوائل (من النصف الثاني من القرن الثاني والى منتصف القرن الثالث، 150 – 250 هـ). ففي كتاب المأمون العباسي الى واليه على بغداد اسحاق بن ابراهيم قبل وفاته عام 218 هـ يطلب منه استدعاء أولئك (ذكر منهم ستة بالاسم) الذين يزعمون أنهم من أهل السنّة، وهم في الحقيقة من أهل البدعة، ويزعمون أنهم من أهل الجماعة، وهم في الحقيقة من أهل التفرقة. ونعرف بيانات عقدية لعبدالله بن المبارك وابن سيرين والحسن البصري.. وأحمد بن حنبل (ستة منها) تدعو كلها الى «طاعة ولاة الأمور والاعتزال في الفتنة». وما استطعت بالفعل تبيان انطباق قوانين فيبر على التطورات العقدية المبكرة في التاريخ الاسلامي، لكنني ازددت تشبثاً بالموضوع لنشوب الحرب الأهلية وقتها في لبنان، وسيطرة موضوع الفتنة والخوف منها على تفكيرنا وتصرفاتنا. وبخلاف زملائي اللبنانيين في ألمانيا وقتها ما تحمست للانقسام والنزاع إلا بمناسبتين، ولوقت قصير: عندما قتل شقيقي وكثيرون من عائلتنا عام 1975، وعندما قتل كمال جنبلاط عام 1977. وعندما كانت الحمية تستبد بي كنت أعود الى تلك الصفحات المؤثرة من كتاب «وقعة صفين» لنصر بن مزاحم، وهو من أنصار الإمام علي، لكنه شديد الكراهية للاقتتال الداخلي، وهو يعرض مشهداً عن كلل أخوين اقتتلا حتى تكسرت سيوفهما، متشابكاً بالأيدي حتى عجزا، فاعتنقا وماتا!
في الوقت الذي أقبلت فيه على جمع أخبار تمرد ابن الأشعث، والقراء الذين شاركوا معه، كان البروفسور غرنوت روتر (عمل استاذاً مساعداً مع فان أس، ثم صار استاذ كرسي في هامبورغ، وقد تكاثرت عليه الأدواء في السنوات العشر الأخيرة شفاه الله) قد أنهى أطروحته الثانية عن الحرب الأهلية الثانية في الاسلام، أي فترة خلافة عبدالملك بن مروان الأولى حتى مقتل ابن الزبير (65 – 72 هـ)، وما كان الرجل مهتماً بالآثار في الفتنة، لكنه جمعها وأمدني بها على البطاقات الباقية. إذ كان يرى أن آثار النهي عن الفتنة! إنما تعود لقرن بعد ذلك. وقد أخذت اكثر من عمل زميل إسباني اسمه خورخي اغواديه (صار استاذاً للدراسات الإسلامية بجامعة مدريد) كان يعمل على كتاب «الفتن والملاحم» لنعيم بن حماد المروزي (-228 هـ) المتوفى بسجن المعتصم لمعارضته لعقيدة خلق القرآن. فقد تبين لي أن هناك جنساً أدبياً اسمه الفتن والملاحم، ألّف فيه نعيم، كما ألف فيه حنبل بن اسحاق بن حنبل ابن عم الإمام أحمد، وأبو عمرو الداني الأندلسي. ثم هناك أبواب في سائر كتب السنة النبوية منذ القرن الثالث عن «الفتن والملاحم» ترد فيها أحاديث وآثار في المسألة. لكن المشكل فيها أنها تقصد بالفتن (وليس بالفتنة) ما تقصده الآثار المسيحية بأمارات أو علامات القيامة. وهي في مصطلح علماء الدينيات تسمى إسكاتولوجيا وأبوكالبت. وقد أضافها ابن كثير المحدّث والمؤرخ (-772هـ) الى كتابه في التاريخ: البداية والنهاية، فكتب جزءاً فيها سماه: نهاية البداية والنهاية، أي ما بعد التاريخ! وتدور اكثر تلك الاهوال في الموروثات الاسلامية، على مشارف عودة المسيح (وقتله المسيح الدجّال)، وظهور المهدي، ثم تقوم القيامة. ويؤدي فيها الروم (المقصود البيزنطيون المسيحيون) دوراً بارزاً. فعندما انتشرت تلك الآثار كانت الجبهة مع البيزنطيين في دروب بلاد الشام وثغورها هي الرئيسية في الواقع والوعي. ولذلك تصوروا ان حربهم مع المسيحية لن يحلها غير عودة المسيح، فهو الذي سيقتل المسيح الدجّال وأنصاره من اليهود، ويوحد المسيحيين والمسلمين استعداداً لليوم الأخير.
المهم انني لاحظت البعد التاريخي الواقعي الى حد ما في تلك الآثار التي يردُ فيها المصطلح مفرداً (الفتنة)، او يردُ فيها اسم احد أولئك الذين شاركوا في النزاعات الداخلية بين 65 و 125هـ، ورأيت وقتها ان مصطلحي الفتنة والجماعة استقرا او صار لهما معنى محدد على يد عبدالله بن المبارك وجيله في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، ثم تحولا الى مبدأ عقدي وعلى يد أحمد بن حنبل وجيله في القرن الثالث.
وأود هنا ان أختم بقصة ليس للإرعاب، بل للاعتبار. فعندما نجحت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الانتخابات في الجزائر مطلع التسعينات، وبدأت صولاتها وجولاتها مع الجيش، كتبتُ مقالة قلت فيها ان هذا النجاح مشكل كبير لأنه يصطدم بمصالح مستقرة، ولأن الإسلاميين ليسوا ناضجين، ولا يعرفون كيف يتعاملون مع هذا الفوز، لكن مفهوم «الجماعة» عند المالكية – وأهل الغرب الإسلامي كلّهم من المالكية – بالغ الأهمية، ولذلك فالراجح ان لا يدخل المجتمع في «فتنة»! وكلّمني الشيخ محمد مهدي شمس الدين رحمه الله فذهبتُ إليه، وتناقشنا بحماسة لنصف ساعة، هو يرى ان هذا النجاح يحمل مخاطر كبيرة ولن ينتهي الأمر على خير. وأنا أسلّم له بأن الإسلاميين الراديكاليين هؤلاء هم انشقاق عميق، لكن الفتنة غير مرجّحة. وقد تحققت مخاوفُهُ فعسى الاّ تتحقق مخاوف النزاع الآخر المشتعل الآن. ولله الأمر من قبل ومن بعد |
10-02-2007 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=876
|