/
الفكر السياسي العربي: مقاربة في النشأة والمصطلح
عبد الرحمن حللي
يمثل الفكر السياسي العربي والإسلامي مادة ثرية للبحث والتحليل والنقاش، ولم يحظ التراث السياسي الإسلامي بالدراسة والاهتمام كالذي نالته ميادين أخرى كالفقه والحديث والتاريخ، ولعل ذلك يرجع إلى مكانة العلوم السياسية ومناهج دراستها في العالم العربي، فهي حيث وجدت فإنها في الغالب تنظر إلى السياسة كفعل آني لا صلة له بالتراث العلمي والبناء الفكري التراكمي عبر تاريخ الحضارة الإسلامية، وهذا ما يفسر عقم التحليلات السياسية التي تحاول تفسير مسار العالم الإسلامي وتطور المجتمعات فيه، إذ تنظر إلى هذه التحولات بغض النظر عن المخزون القيمي والثقافي الذي استمرت من خلاله الخصائص البنيوية للمجتمعات الإسلامية، ولم تلحظ أن التحولات التي طرأت على تلك المجتمعات لم تكن إلا وليدة إكراهات أخرى فرضت عليها لم تسمح بانتظامها ضمن مسار طبيعي ينتج الأهداف منها. من هنا تأتي أهمية العودة لدراسة الفكر السياسي من أبعاده المختلفة الفقهية والفلسفية، نظرية وممارسة، والتعمق في دراسة الإشكالات التي تكونت على هوامشها نظريات واتجاهات ما تزال ذيولها مستمرة في عالمنا المعاصر، بل إنها تحضر اليوم بشكل أشد وكأنها تقفز من الزمن الماضي متجاوزة قروناً لتصبح موضوع اللحظة الراهنة، ولو أنها أخذت حظها الكافي من الدرس المعمق في فترة أسبق وأخف وطأة من الظروف الراهنة لربما غيرت من وجهات النظر المعاصرة تجاه تلك القضايا، لاسيما مع تطور مناهج البحث ووفرة المصادر. ضمن هذا السياق تأتي أهمية دراسة محمد علي الكبسي : "نشأة الفكر السياسي عند العرب:حفريات في مسلمات الفكر العربي" التي صدرت عن دار الفكر بدمشق عام 2005، وتتمتها "الفكر السياسي العربي:من التطور إلى المصطلح" الصادرة 2006، حيث بحث عن نشأة الفكر السياسي العربي وإمكانية وجود نزعة إنسانية فيه، فاستقرأ نصوص أهل السنة والشيعة والخوارج باحثاً في إشكالية الخلافة من العصر الراشدي إلى الحكم العثماني، متسائلاً عن مسلمات نظرية سارت الممارسة التاريخية على خلافها، ويؤكد في دراسته على ضرورة التفريق بين السياسة والفكر السياسي، بمعنى أنه ينبغي ألا يختزل الفكر السياسي في نظرية الحكم أو الفرق السياسية، فالفكر السياسي بمثابة اللاشعور الجمعي للجماعات البشرية، ويصل إلى أن الفكر السياسي حامل لصورة واضحة لنظام الحكم وهو الخلافة التي مبدؤها وحدة الأمة، وظل الخليفة رمزاً لا يمكن تنحيته، وحتى بعد إلغائها ما تزال تحرك ملايين المسلمين. ويبرهن على رؤيته من خلال الجزء الثاني من الدراسة الذي تناول فيه المصطلح السياسي وتاريخ ظهوره وحقيقته وتوظيفاته وقراءاته المكونة له خلال القرون الهجرية الثلاثة الأولى، فدرس مصطلحات الفتنة والخلافة والملك والسياسة، مؤكداً على الارتباط بين ولادة المصطلح وولادة دلالته، وتأتي أهمية دراسة المصطلحات من كونها تشكل المادة المعرفية التي صهرت معها مختلف المجالات المعرفية الأخرى، بحيث يمكن منها معرفة الأسباب التي أدت إلى تمزق الخلافة وقيام أحزاب وتيارات متصارعة لتجربة حكم جديد. يصل الكبسي في دراسته إلى نتائج مهمة في الفكر السياسي، يمكن من خلالها كشف الكثير من التوظيف للرؤى السياسية في التاريخ الإسلامي، فالماسك بالسلطة لا ينظر إليه على أنه ملك إله بل خليفة إنسان مستخلف على نمط من الحكم، ونظرية الخلافة تراوح بين مبدأ الحق والقوة والتوريث والجبر، لكن إطار هذه المراوحة هو الأمن والاستمرارية ومبدأ الشرعية (السيادة) ومبدأ الطاعة، ويصل إلى أن علاقة الدين والدولة خاصية عربية وليست إسلامية فقط، وتظل السياسة شرعية سواء نطقت بما ينطق به الشرع أم لا ما دامت تعتمد على تأويل العلماء. تمثل دراسة الكبسي بجزأيها مدخلاً مهماً لدراسة الفكر السياسي الإسلامي، وبالخصوص البعد المنهجي في المقاربة، ولئن كانت في جوهرها فلسفية إلا أنها بحاجة إلى مقاربة أكثر عمقاً للنصوص التأسيسية وتأويلاتها، فالمصادر التي اعتمدها كانت وسيطة وغير مباشرة، ومن جهة أخرى هناك مقاربات متخصصة للكثير من المصطلحات لم يقترب منها لاسيما ما تم توظيفه في الفكر المعاصر، خصوصاً وأنه يحرص على هدف مهم هو الربط بالعصر الحاضر. هذا وثمة مصطلحات مهمة استعملها لكن كان ينبغي أن تستقل بالبحث وتأخذ مكانها ضمن ما اختاره للدرس من مصطلحات تأسيسية كـ (الجماعة، وأهل الحل والعقد، ..)، ويمكن للدراسة أن تكون أكثر يسراً لو أنها أردفت بفهرس للمصطلحات المستعملة لا مجرد ذكرها، ويبدو أن الدراسة التي أصلها أطروحة جامعية لم تخضع للمراجعة الكافية للنشر ككتاب، فاستمرت فيها بعض الأخطاء الشكلية المهمة، والتي كان يمكن تلافيها. إن التراث السياسي العربي والإسلامي ما يزال بحاجة لدراسات أكثر تنوعاً وتخصصاً، فإلحاح المسألة السياسية اليوم ومن المنظور الإسلامي يقتضي دراسات معمقة للنظرية السياسية في الإسلام والتاريخ الإسلامي، فالممارسة السياسية في العصر الحديث كانت أسبق من التنظير والفكر السياسي، لذلك كان هناك فصام فيها، وانتكاسات ستظل تتكرر، ومن شأن التعمق في هذا المجال أن يفتح أفقاً جديداً لممارسة سياسية أكثر انسجاماً واستمرارية. |
20-05-2007 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=882
|