مستقبل الإسلام في الشرق والغرب عبد المجيد الشرفي ومراد هوفمان دمشق: دار الفكر ط.1، 2008، 280 ص. يزداد سؤال المستقبل أهمية وإلحاحاً عندما يتعلق الأمر بالإسلام، فهو قضية تشغل الغرب، بل العالم، أكثر من أي موضوع آخر، والسؤال الذي بقي معلقاً بين مآلات سيرورته إلى العلمنة أو التدين أكثر هو ما الذي يمكن فعله لرسم أفق أفضل لمستقبل الإسلام؟ وما المعيار الذي يحدد به هذا الأفق؟ وما العوامل المؤثرة في هذه المسار الذي يمكن تلمس معالمه؟ حول هذه الأسئلة يدور كتاب «مستقبل الإسلام في الغرب والشرق» الذي شارك فيه عبد المجيد الشرفي ومراد ويلفريد هوفمان. يربط عبدالمجيد الشرفي الخطوط العريضة لمستقبل الإسلام بالاتفاق على خصائص الماضي والحاضر، ومن هذه الخصائص ما يلحظه من تشبث المسلمين بالأشكال الدينية العتيقة نظراً الى انتمائهم إلى العالم الذي لم يسهم في إنتاج الحداثة، وينطلق من رؤية نقدية لما هو موجود في الفكر الإسلامي الذي يراه متخلفاً عن ماضيه أو مجتراً له، ثم يسرد رؤيته للخيارات التي ستتحكم في مستقبل الإسلام وأتباعه، مجتراً وملخصاً أفكاراً كان طرحها في مقاربات ومقالات سابقة له، داعياً إلى العدول عما هو سائد من مسلمات، إلى ما يراه، بدءاً من تفسير القرآن الذي لا قراءة بريئة له ولا قطعي للدلالة فيه، فمعنى النص القرآني ليس واحداً، ويدعو إلى أن تطبق على النص القرآني المناهج النقدية التاريخية بما يشمل علم الاجتماع والنفس والمقارنة مع النصوص الدينية وما كشفت عنه الحفريات، وأن يفسر القرآن بطريقة تأليفية كما يحصل بالنسبة إلى «الكتاب المقدس» عند علماء التفسير المسيحيين، ووضع آيات المصحف في سياقها التاريخي والمعنوي وبالتالي تنسيب معانيها، واعتبار روح النص، فالمستقبل - كما يرى – «سيكون بلا ريب لتأويلية (هرمنوطيقا) جديدة تفسح المجال لقراءة النص القرآني قراءات متعددة تستجيب حاجات المؤمنين إلى معان متناغمة مع ظروفهم المستجدة، المادية والثقافية». أما مستقبل علم الكلام فيربطه بتقديم المعطى الإيماني تقديماً يناسب المعقولية الحديثة لا العقلانية وحدها، وفك صلته بالسياسة لن يتأخر وستكون نظرية الخلافة والإمام ذكرى لما كان عليه المسلمون في عصور ما قبل الحداثة، ويدعو الى ثورة معرفية حول صلة علم الكلام بالفلسفة ليصبح الإنسان هو المحور والمنطلق، ليصل إلى ضرورة اعتبار الوحي تجربة نبوية متميزة لا تلغي التأثيرات المجتمعية والثقافية والنفسانية التي لم يكن النبي بمعزل عنها، وبالتالي الاعتراف بأثر تلك العوامل في صوغ النص القرآني، ويرى أن انتشار القراءة والكتابة والاطلاع على الكشوف المعرفية الحديثة وعوامل أخرى ستجعل العالم الإسلامي يقبل على مراجعات جذرية لمقولاته التقليدية، بما في ذلك الطقوس التي كان توحيدها مما اقتضته سيرورة المأسسة التي خضع لها الدين الإسلامي، ويطرح أساسين لتطوير العبادات: المرونة والعودة إلى روحها وتقديم الغاية منها على الأداء الشكلي، فعدم التنصيص على كيفية الصلاة وركعاتها مقصود لأن الهدف هو تنمية الشعور الديني الصادق، كما يمكن ترك الصوم مع الفدية، واستبدال الزكاة بالضرائب، والحج محتاج إلى اجتهاد لتيسير أدائه. ويتوقع أن يسير الفكر الإسلامي في مراجعة قواعد الاستنباط، كون «علم أصول الفقه برمته ذو وظيفة تبريرية لاختيارات أملتها ظروف المجتمعات الإسلامية في عصر التدوين ونشأة المذاهب الفقهية» . هذه الرؤى التي قدمها الشرفي ليست دعوة منه إلى العلمانية فهو كما يقول: «لا نعتبر أنفسنا من الداعين إلى علمنة المجتمعات الإسلامية، إذ نحن واعون كل الوعي أن العلمانية لا ينبغي أن تكون إيديولوجية، ولا سيما حين تنقلب إلى إيديولوجية معادية للدين» لكنه يلاحظ ملاحظة النزيه أن العلمانية أصبحت ظاهرة شاملة لكل المجتمعات المعاصرة، والشعارات المعادية لها ترجع إلى الخلط بين الشريعة الإلهية والفقه البشري، ولامتداد عقلية الماضي في الحاضر، ولمصلحة الحكام لإدامة الاستبداد، ويمثل ضعف التصنيع عائقاً كبيراً في الشعور بالعلمانية. وتبقى قضايا الأسرة والسياسة والحدود هي الأكثر استعصاء على العلمنة، والحل لها في القراءة التاريخية والمقاصدية التي هي القراءة المستقبلية للنص القرآني، ويحدد ثلاثة عناصر متعلقة بالتراث سيجدد المسلمون النظر إليها وهي سلوك الصحابة ومجاميع الحديث والنظرة إلى التاريخ الإسلامي والفتوحات. وفي ختام مقاربته يبدو الشرفي متفائلاً بمصير الإسلام بفضل شيوع التعليم والعنصر الديموغرافي، فغالبية المسلمين من الشباب يمكن أن يتأقلموا مع المستجدات، لكن هذا المستقبل مرتبط بأن يصل المسلمون إلى «استنباط نظم وقيم تأخذ في الاعتبار الحاجة إلى تدين مدخلن على أنقاض تدين طقوسي شكلي، وفيها ما في النظم الديموقراطية وفي قيم حقوق الإنسان الكونية من مزايا وزيادة، وفيها أقل ما في هذه النظم والقيم من نقائص، إلا أنها لا تنحط عنها أبداً». رؤية عبدالمجيد الشرفي هذه تعكس - كما قرأه محاوره مراد هوفمان – تجربة شخصية لا تخفي الإعجاب بالنمط الفرنسي المقصي للدين، وهي تتأسس على أحكام هدامة تقوم على التعميم والانفعال لاسيما في ما يخص النظرة إلى المؤسسة الدينية والهجوم على الشكلانية الشعائرية في الإسلام وكأنها لا تتساوق مع الروحانية أو أن أي دين يمكن أن يزدهر بدونها، بل إنه راديكالي واضح في إقصائه مقادير كبيرة من القانون الإسلامي لأنه لا يميز بين العقيدة والعبادة والمعاملات، ويتابع هوفمان ملاحظته على مقاربة الشرفي، فبعد أن همش أركان الإسلام والفقه الإسلامي وحكم على السنة كاملها بالتلاشي، يتقدم بكلام ولائي كاذب للواقع الحالي السائد ليصل إلى «أن الإسلام لن يخسر شيئاً إذا ما تخلص من عقلية الحلال والحرام»، ويرجع هوفمان رؤية الشرفي إلى الاعتقاد بحتمية التطور على نمط حركة التنوير والماركسية، وكأن الإنسان وتحيراته الغيبية تغيرت تغيراً جوهرياً على مدى الأربعة آلاف عام الماضية. ويسأل هوفمان الشرفي في الخاتمة إن ما تدعو إليه من قيم ونظم كونية بمقدور أي دين أو فكر إيديولوجي أن يضطلع به، فلماذا نرتبك في شأن قيام الإسلام بذلك؟ . في المقابل يرى مراد هوفمان في مقاربته أن الإسلام ليس إيديولوجية بل دين، فمصيره يعتمد إلى حد كبير على مستوى التدين واتجاهاته إجمالاً، ثم يعرض مسار العلم والدين في الغرب الذي أقصي في القرن العشرين وتحوّل إلى إيديولوجية ثم آل الأمر إلى الاعتراف بالدين وربطه بالعلم كما يقول أنشتاين «العلم أعرج من دون دين»، ووصل كبار فلاسفة الحداثة إلى رؤية صوفية بفضل النتائج التي توصلوا إليها عقلياً، ونهضة الدين لا تفاجئ إلا أولئك الذين يؤمنون بالحداثة على طريقة أسطورية وثنية جديدة، هذه العودة للدين إلى عالم العقل المعاصر ستجعل الإسلام أكثر الأديان انتفاعاً من هذه الفرصة التي أتاحها القرن الحادي والعشرون، ولو بسبب عوامل إضافية، أهمها وسائل الاتصال. ويلاحظ هوفمان أن لا شيء يجعل مصير الإسلام في العالم مجهولاً أكثر من العنف الذي يمارس ضد الأبرياء باسم الإسلام، والخوف في الغرب من مزيد من (الإرهاب الإسلامي) له ما يسوغه، ومن الوهم الاعتقاد بأن المسلمين قادرون على السيطرة على هذا الوضع بإثبات أن القرآن والسنة لا يسمحان إلا بالدفاع المشروع، فالناس لا يهتمون بما يأمر به الإسلام بل بكيفية تصرف المسلمين، وللأسف لا يحاول أحد حل الوضع بكسب قلوب المسلمين اليائسين وعقولهم عن طريق إشاعة العدل وتعزيزه. أما العوامل المؤثرة في مستقبل الإسلام فيراها مرتبطة بتطور التعليم وتكيف التربية في العالم الإسلامي مع المعايير التعليمية الإجمالية، والعودة إلى المفهوم الشامل للإسلام وتقديمه على أنه قادر على حل مشكلات الفرد والإشكالات العالمية، فقد قلص الدين على أيدي النخب التي قادت العالم الإسلامي بعد الاستعمار إلى مجرد أخلاقية فردية خاصة، وأصبح طيعاً لأغراض سياسية محددة. والطريق الوحيد لربط الإسلام بالعلم هي تكوين علماء مسلمين حقيقيين، ومن الشروط الجوهرية لتطور العالم الإسلامي تطوراً شاملاً إدخال آلية الديموقراطية، وحول وضع المرأة ينبغي أن يكون معيار النظر تجرد كثيرات من المسلمات من الحقوق التي منحها القرآن الكريم. أما المسلمون في الغرب غير الإسلامي فتواجههم تحديات الفرقة بينهم لغوياً وعرقياً وطائفياً، ما يجعل من الصعب جداً الوصول إلى تمثيل عام للمسلمين، الذين يبقون مرتبطين بأوطانهم الأم، ويواجههم تحدي الإعلام الذي يمثل وضعاً غير مريح في مجتمع ذاكرته مشحونة من تاريخ يرجع إلى الحروب الصليبية ولا ينتهي بأحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) ومشكلات الإرهاب المتصاعد باستمرار الظلم واليأس، ما سيزيد معاناة الجاليات الإسلامية في الغرب، لكن على رغم كل تلك التحديات ثمة مسلمون يطرحون حلولاً مختلفة للاندماج والتعايش في الغرب ولعل المسلمين في أميركا نجحوا في هذا المجال أكثر. ويرى هوفمان أن المسؤولية الأكبر للدفاع عن الإسلام وانتشاره في الغرب تقع على الغربيين الداخلين في الإسلام، بل يرى أن المستقبل العالمي للإسلام مرتبط بدورهم، نظراً الى تمثلهم الإسلام على أساس القرآن والسنة الصحيحة من دون أية صفقة ثقافية معه، ويذهب بعيداً إلى القول إن المسلمين الشرقيين يمكن أن يتعلموا من هؤلاء القادمين الجدد، ومن مدرسة الشريعة الإسلامية الغربية، ويصل الى حد اعتبار أن اللغة الإنكليزية عملياً هي لغة الإسلام الأولى لما ينشر بها من كتب وبحوث ومجلات لها اعتبار ومكانة ليس هناك ما يضاهيها بالعربية. ويرجع ذلك إلى غياب الرقابة على الأفكار في الغرب، ما يؤمل منه أن يسهم في اختفاء الجاليات وتحولها إلى أمة عالمية حقاً، عندئذ يمكن أن يصبح الإسلام بديلاً في عالم تختفي فيه المسيحية تدريجاً، ولا يرى الدولة شرطاً لوحدة المسلمين، فالإسلام يستطيع العيش من دون خليفة مشترك، ولكنه لا يستطيع العيش من دون أمة. هذه رؤية مراد هوفمان حول مستقبل الإسلام والعوامل المؤثرة في مساره، رؤية يراها الشرفي تنطلق من زاوية إيمانية وسياسية وعملية، ويأخذ عليه ما أولاه العامل الديني في أكثر من قضية، ويعمم آراءه ومواقفه ويبني عليها نقداً في قضايا لا تلزمه، والقارئ لتعقيب الشرفي التونسي يظن أنه غربي متعصب للغرب وأن هوفمان الألماني يجهل الغرب وينعى قيمه وحداثته بجرأة ومن غير أسف!، بينما يجد قارئ هوفمان نقداً صريحاً للعوائق أمام مستقبل أفضل للمسلمين في الشرق والغرب على حد سواء، بل يرى المستقبل مرهوناً بما ينتجه المسلمون الغربيون. أخيراً... يمكن قارئ هذا الكتاب أن يفهم طبيعة حملة المفكر التونسي محمد الطالبي على تلميذه عبد المجيد الشرفي الذي استلب منه الدعوة إلى القراءة المقاصدية للقرآن، فما قدمه الشرفي من دعوة وإلحاح وحسم أحياناً لتطوير الدين ليصبح منسجماً مع الحداثة التي يدعيها حتمية وكونية ما هو إلا تجسيد صريح لما ادعى التبرؤ منه وهو الدعوة إلى علمنة المجتمعات الإسلامية، وكأن الإسلام الذي يتحدث عنه الشرفي لن يوجد إلا عند من لا يعني لهم الإسلام في حياتهم شيئاً، وهذا هو المستقبل الذي يطمح إليه ويسير التاريخ بعكسه كما يرى هوفمان. |