/

 

 

من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث: النشأة المستأنفة

محمد أبو الخير السيد

تمهيد:

عكف جورج طرابيشي في كتابه "من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث: النشأة المستأنفة" على بناء إشكاليته الخاصة حول ما سماه: "استقالة العقل في الإسلام"، وكان المفترض بكتابه أن يأتي كحلقة أخيرة من سلسلة رده على المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري في "نقد العقل العربي"، لكنه وجد نفسه يغادر ساحة سجاله مع الجابري ليصوغ رؤية مغايرة مستقلة وفي الاتجاه المعاكس، فإذا كان الجابري قد قرر أن "استقالة العقل في الإسلام" إنما تمت بفعل عوامل خارجية من غنوصية وهرمسية وعرفان مشرقي وغيرها من تيارات الموروث القديم "للآخر" تسللت إليه كحصان طروادة، فإن طرابيشي على النقيض من ذلك يؤكد أن تلك الاستقالة عينها إنما تمت بمحض آليات داخلية لا شأن "للآخر" بها، فالعقل العربي الإسلامي بحسب طرابيشي قد استقال وظل منكفئاً على نفسه يراوح في حلقة مفرغة بفعل هيمنة "الإيديولوجية الحديثية" عليه ردحاً طويلاً من الزمن، وكان من أعظم جنايات تلك الإيديولوجية أنها غيَّبتْ صراحةً أو ضمناً القرآنَ لصالح "الحديث"، وغيَّبتْ فاعلية العقل لصالح المعجزة، وقضتْ على التعدديات، وهي -برأيه-  إيديولوجية ما تزال ماثلة حتى اليوم، تتبدى في ممانعةٍ للحداثة وعجزٍ عن استيعاب مفهوم التطور وجدلية التقدم، الأمر الذي ينذر -إن استمر- بالردة نحو قرون وسطى جديدة[1].


الله والرسول: الشارع والمشرَّع له


في خطوة تهدف إلى تفكيك أسس "الإيديولوجية الحديثية" التي صنعت التحول من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، يقوم طرابيشي في الفصل الأول من كتابه بـ"رحلة استقرائية" لآيات القرآن يستنتج منها أن الخطاب القرآني قد صاغ جدلية من طرف واحد، يكون فيها الله آمراً مطلَق الحرية، والرسول مأموراً مطلق العبودية، يقف في موقع المفعولية دون الفاعلية، وتقتصر وظيفته على التبليغ دون التشريع، فهو مشَرَّعٌ له غير شارع، مأمورٌ بالقول غير قائل من عنده، ليس له حتى أن يستعجل الوحي وإن تأخر، بل يلومه الوحي أحياناً على مواقف اتخذها باجتهاده، ويتدخل أحياناً أخرى في حياته الخاصة بما في ذلك علاقاته الزوجية.

ويرى طرابيشي أن "بشرية" الرسول هي الثابت، وأنه بشرٌ قبل الوحي وبعدَه، فهو بدون الوحي بشرٌ يخطئ ويصيب ويدرأ خطأ الرأي بالمشاورة، وعلى هذا فلا بد إذن من "التمييز في شخصية الرسول بين البشر الذي يتكلم من عند نفسه والبشر الذي يتكلم من عند الله"، وهذا هو "أس الأسس في لاهوت الوحي في الإسلام[2]".

وفي قراءةٍ إحصائيةٍ/لفظيةٍ يواجه طرابيشي مجموعةً من الآيات الآمرة بـ"طاعة الرسول"، مما يضطره لاجتراح تأويلٍ يخلصه مِن لازِمِها فيرى أن الأمر بطاعة الرسول إن توجَّهَ إلى المشركين أفاد معنى "التصديق والإيمان"، وإن توجه إلى المؤمنين كان ذلك في الأمور العملية الدنيوية كالحرب والغنائم، مع التأكيد على أن طاعة الرسول مقترنة دوماً بطاعة الله ومنبثقةٌ عنها، وهي إن تحققت فلا تستلزم تفويض الرسول بسلطةٍ تشريعيةٍ ما[3].

ويرصد طرابيشي في السيرة النبوية بضعة مواقف تؤكد على أن علاقة الطاعة من المؤمنين للرسول "ما كانت أحياناً تخلو من التوتر"، كـ"تمرد زوجاته عليه بقيادة عائشة وحفصة"، واحتجاج الأنصار على قسمة غنائم حنين، والخلاف المشهور في أحداث صلح الحديبية، وغير ذلك من المواقف، ليَخلُص من هذا كله إلى أن الرسول ليس له من مهمةٍ سوى "تبليغ الرسالة دون تصرُّفٍ أو تأويل"، وأنه بمجرد أن يقول أو يفعل شيئاً من عنده يكف عن أن يكون رسولاً، ويعودُ بشراً يسري عليه قانون البشرية فيصيب أو يخطئ وربما يضل[4].

وإذا كان الله قد جعل الرسول "على شريعةٍ من الأمر" كما جاء في القرآن فلم يكن للرسول أية سلطة في التشريع، فإن "السنة" كذلك لم ترِد في القرآن كله إلا منسوبةً إلى الله، بينما "سنة الرسول" هي الغائب الأكبر في النص القرآني، غير أنها تحولت فيما بعد لتصبح صاحبة الحضور الطاغي في كتب التفسير والفقه والسيرة؛ الأمر الذي يصفه طرابيشي بـ"التحول من الإسلام القرآني إلى الإسلام الحديثي"، ويكرس باقي فصول الكتاب لرصد مساره.


من النبي الأمي إلى النبي الأممي


بناءً على ما تقدم، يتحدث طرابيشي عن تحولٍ آخر موازٍ هو التحول من إسلام الرسالة إلى إسلام الفتوحات، أو "إسلام التاريخ"، وبحسب قراءته أيضاً للنص القرآني، يخرج طرابيشي بنتيجةٍ مفادها أن الرسالة المحمدية لم تكن عالَميةً، بل كانت في الأصل خاصةً عربيةَ اللسان والإنسان والمكان، بدليل أن المشيئة الإلهية قد قضت أن لا يكون الناس أمة واحدة، وأن يكون لكل أمة رسولها، وبالتالي كتابها؛ وبما أن "الأميين" وهم العرب الذين لم يكن لهم كتاب سماوي كانوا آخر الأمم في تلقي الرسالة، فإن الله قد أرسل لهم الرسول محمداً "بلسان قومه" خاصةً لينذر "أم القرى ومن حولها[5]" خاصةً.

ولا تتأكد "حصرية" الرسالة إنساناً ومكاناً بمجرد معطيات النص القرآني فحسب، بل ثمة من الوقائع ما يعزز هذه الفرضية برأيه، فالسجال العسكري بين فارس والروم في العهد النبوي قد وثَّقه القرآن في سورة الروم و"عمَّدَ الرومَ إخواناً" لأتباع الرسالة المحمدية الجديدة محدداً جغرافيتهم الدينية واللغوية على تخوم بلاد الشام، ومن هنا يمكن تفسير الأزمة التي عصفت بالإسلام الفتي عندما "أضرب" بعض الصحابة عن المشاركة في غزوة تبوك التي وُصفت بـ"العسرة" وكان نهايتها "الفشل"، وذلك لأنها دشنت تحولاً من حربٍ ضد مشركي العرب "الأميين" إلى حرب ضد الإخوة من "الكتابيين الروم".

هذا التحول من إسلام الرسالة إلى إسلام الفتوحات "كان يبحث لنفسه عن مرتكزات إيديولوجية، وقد تعهد بتقديمها له المؤولون اللاحقون لآي القرآن، وعلى الأخص مسننو السنة[6]" لتحويل الرسول من النبي الأمي إلى النبي الأممي/العالَمي، وبما أن أظهر آيةٍ ظَفِرَ بها المؤولون وهي: "وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً" قد ظلت بنظر طرابيشي ظنية الدلالة متكلفة التأويل، إذ "الناس" في الآية لا تعني "البشرية قاطبةً" بل هم ناسُ محمدٍ كما كان لكل نبيٍّ ناسُه بدلالةِ منطوقِ آياتٍ أخر؛ فإن كتب الحديث قد تكفلت بتلك المهمة من خلال "تدليس" أحاديث تفيد بعثة النبي محمد إلى الناس عامةً أحمرهم وأسودهم[7].

أثناء ذلك يقدم طرابيشي إجابة مرتبكة للتوفيق بين أمية الرسالة المحمدية وانحصارها بالعرب من ناحية وبين وجود شريحة واسعة من "الكتابيين العرب" من ناحية أخرى، إذ يستلزم التوفيق بين الأمرين إبطال أحدهما وإحقاق الآخر، فيزعم أن الرسالة القرآنية حملت مهمةً "تصحيحيةً" لاهوتيةً ليهود العرب ونصاراهم، فالرسول جاء "ليصحح لهم ما حرَّفوا من كتابهم، وليس من أجل أن يأتيهم بكتاب بديل من كتابهم[8]"!!

 ثم يجيب طرابيشي عن تساؤل قد يرِد حول سذاجة الناس في تصديقهم تلك الإيديولوجية الدينية لإسلام الفتوحات، فيقرر أن الإيديولوجية عموماً لها وظيفتان، واحدة ريادية تستبق الأحداث لتغير الواقع وفق هوى حاملي لوائها، والأخرى ارتجاعية ترتد بها نحو الواقع لتبرر ما تغير منه وفق هوى التاريخ أو مكره بالتعبير الهيغلي، وهذه الوظيفة الارتجاعية قد تحققت فيما بعد، فالإسلام الذي خرج إلى الفتوحات حاملاً الرسالة القرآنية ارتد بعد الفتوحات محمَّلاً بالسنة النبوية على أيدي الموالي من أهل البلاد المفتوحة، وهم الذين لم يكونوا أكبر المساهمين في بناء عمارة السنة النبوية فحسب، بل كانوا مساهمين أيضاً في تطوير صناعة الفقه، وهذا ما أوجد تلاقياً في المصالح بين "الأوتوقراطية العربية الفاتحة وبين النخب والشرائح المثقفة من شعوب البلدان المفتوحة[9]" فغدت العلاقة بينهما "شراكةً" بين طرفين، أحدهما دخل فاتحاً يحمل تشريعاً إلهي المصدر، والآخر من أهل البلاد المفتوحة ينهض بمهمة استمرارية هذا التشريع عبر "تطوير السنة النبوية، وتأميم الرسول العربي" لدرجة أن الحاجة إلى القوة العسكرية لدى الفاتحين قد تلاشت بعد أن أصبحت الإمبراطورية العربية "تتولد ذاتياً" بفعل تلك العلاقة المصلحية؛ وهو أمرٌ ضَمِنَ للوجود العربي الإسلامي "استمراراً تاريخياً في مقابل انقطاعية حضارية"، لأن التشريع الإسلامي بعزوه نفسَه إلى مصدرٍ إلهي صان الوجود العربي الإسلامي من الزوال ولكن جمّده بالمقابل وشل تطوره وجعله متعالياً على التاريخ، وتلك "اللاتاريخية كانت ولا تزال النَّسْغَ المغذي للممانعة العربية عقلياً واجتماعياً تجاه آمر الحداثة[10]".


مالك بن أنس: هامشٌ من الحرية


يجرِّد طرابيشي للحضارة العربية الإسلامية شكلاً دائرياً يتموضع "النص" في مركزه، مشيراً إلى "العقل النَّصِّي" كخاصيةٍ تتميز بها جميع الحضارات المتمركزة دائرياً على نفسها بما فيها الحضارة العربية الإسلامية، ويعرِّفه بأنه: "العقل الذي يقدِّم تعقُّلَ النصوص على تعقُّل الواقع، أو يرهن الثاني بالأول"، ثم يميز طرابيشي بين نموذجين لاشتغال هذا العقل، أحدهما العقل المتعقِّل والآخر العقل المعقْلِن؛ فبينما يتقيد الأولُ بالنص ويأخذ به لكن دون أن يتنكر للواقع، فإن الآخر المعقْلِن يعطي النص شهادة معقوليةٍ مسبقةٍ ومطلقةٍ وتنحصر مهمته في تبرئة النص من عيوبه وسد نواقصه وفراغاته للإبقاء على قدسيته وهيمنته وصولاً إلى احتكار النص للحقيقة والجزم بـ"أُحاديتها".

وبرأي طرابيشي فإن النص المركزي في الحضارة العربية الإسلامية مرَّ أولاً بمرحلةِ تشكُّلٍ كانت فيها كثيرٌ من الدوائر ما تزال تُفتَح حول المركز، ثم في مرحلةٍ لاحقةٍ اكتمل "تأسيس النص" وبدأت عملية: "إغلاق الدوائر" تدريجياً بالتزامن مع دوران منضبط حول المركز.

وعلى ضوء ذلك يأتي مالك بن أنس كواحد مِن أبرزِ مَن مارس عقلانية متعقلة في اللحظات الأخيرة قبل مرحلة إغلاق الدوائر، فالنص المركزي زمن مالك لم يكن قد اكتمل تأسيسه أو تدوينه بعد، وإذا كان الشافعي قد جعله محصوراً بقطبين لا ثالث لهما: الكتاب والسنة، فإنه عند مالك كان رباعي الأقطاب، فهو قد أخذ أولاً بالنص القرآني مضافاً إليه المنسوخ والقراءات التي لم يعد معمولاً بها اليوم، وثانياً بالسنة التي انعتق نسبياً من إسار منظومتها الحديثية حتى أفتى أحياناً بخلاف ما جاء به الحديث، وثالثاً بأقضية الصحابة وفتاويهم التي جعل منها أصلاً تشريعياً قائماً بذاته يُقَدَّم على خبر الآحاد أحياناً مما جرَّ عليه ملامة الشافعي لاحقاً، ورابعاً بعمل أهل المدينة التي أعطاها مركزيةً إبستمولوجيةً أثارت عليه ردود الليث بن سعد في مصر، وعلى ضوء هذا فإن "السنة" بمفهومها المالكي هي أكثر تعدديةً وأقل انغلاقيةً مما هي عند الشافعي، فإذا كان الأخير قد حصر السنة في إطارها النبوي لا غير، فإن السنة عند مالكٍ هي سنةٌ نبويةٌ وصحابيةٌ وتابعيةٌ، الأمر الذي يترتب عليه تفاوتٌ في درجة الإلزام وفي مدى المرونة في التأويل والاجتهاد؛ وإذا أمكن لمالكٍ أن "يتكلم" ولو على هامش النص، فإنه ومع "إغلاق الدوائر" لاحقاً لم يعد لأحد أن يتكلم سوى "النص"[11].

وبمزيد من التفصيل يلاحظ طرابيشي في "تحليلٍ داخلي لمعجم مفردات مالك" أنه كان من القلة القليلة في حضارة النص العربية الإسلامية ممن تجرأ على القول: هذا رأيي، وأن موطأه حافلٌ بعباراتٍ له من قبيل: "أرى، ولا أرى، وأحبُّ وأكره، ولا بأس"، ناهيك بآلاف الآثار "الأرأيتية" المروية عنه في "المدونة"، كما أن ممارسة مالكٍ الاجتهادية كانت في جوهرها انزياحاً من متن النص إلى هامشه نزولاً عند مقتضيات الواقع، فجاء فيها القياس كمخرَجٍ من صمت النص إزاء واقعة، ثم الاستحسان كقياسٍ مزدوج يجترئ على كليات النص، ثم الاستصلاح كقياسٍ مرسَلٍ واجتهادٍ طليقٍ من قيد النص، ما أنتج فقهاً افتراضياً يستمر في الكلام حتى بعد أن يصمت النص أو يغيب؛ ويستنتج طرابيشي من هذا أن مالكاً -من منظور العقل النصي- قد تحرك في هامشٍ من الحرية وأبقى الباب مفتوحاً وإن نسبياً لاشتغال العقل في النص، في مرحلةٍ كانت فيها الحضارة العربية الإسلامية ما تزال تفتح الدوائر حول نصِّها المركزي، قبل أن تنكفئ على يد العقل المعقلِن فتغلق الدوائر وتسد الهوامش.

ومن هنا ينتقل طرابيشي لتصحيح ما يعتبره "خطأً إبستمولوجياً تأسيسياً" وقع فيه المؤرخ أحمد أمين عندما صنف مالكاً إماماً لمدرسة الحديث في الحجاز، فيقرر أنه إذا كان لزعامة مدرسة الرأي أن تُنسب لأحدٍ فإلى مالك بن أنس، وإن ليس حصراً فبالدرجة الأولى[12]، ويستدل على هذا بأن الشافعي عندما تصدى لأصحاب الرأي في كتاباته إنما استهدف مالكاً ومدرسته الحجازية لا أبا حنيفة ومدرسته العراقية، ثم إن ابن قتيبة الذي أشار مبكراً في "معارفه" إلى معركة أصحاب الرأي وأصحاب الحديث كان قد أدرج مالكاً في عداد أهل الرأي لا الحديث، فضلاً عن أن مالكاً يعد الوريث الشرعي لمنهج شيخه "ربيعة الرأي" وأبرزَ تلاميذه.

على صعيد آخر يتناول طرابيشي قضية الرواية عند مالك ويسجل له أنه كان "واحداً من المتقدمين الذين أسسوا آلية الإسناد في رواية الأحاديث النبوية"، إلا أنه لم يقيد نفسه بها كل التقييد بل ترك لنفسه فسحةً من الحرية من خلال روايته المراسيل والبلاغات منقطعة الأسانيد، ويستنتج طرابيشي من هذا أن "إتقان آلية الإسناد في القرن الثالث الهجري فصاعداً لم تكن وظيفتها ضمان عدم الكذب على الرسول والسيطرة على ظاهرة وضع الأحاديث، بل على العكس من ذلك كانت وظيفتها إتاحة الفرصة للمزيد من الكذب على الرسول والتمادي في الوضع تحت حمايةِ سلسلة الضامنين[13]"، وهذا ما يفسر التضخم المتسارع للمنظومة الحديثية تزامناً مع إتقان آلية الإسناد التي تمثل "عيباً إبستمولوجياً" يتمثل في "الشكلية الخالصة" التي قلبت معيار الصحة من المتن إلى الإسناد.


الشافعي: تكريس السنة


يحتل الشافعي مكانة كبرى في أطروحة طرابيشي، فهو ليس مجرد مؤسس علم أصول الفقه فحسب، بل هو مؤسس نظرية المعرفة في الإسلام حيث "كرَّس السنة" وصاغَ أول منظومةٍ نظريةٍ تلغي المسافة بينها وبين الكتاب، فنجح في "قَرْأَنَة السنة" وجعلها "وحياً غير متلو" مشاركاً أو مماهياً للقرآن في المصدر والجوهر ثم في الأهلية التشريعية، وكان ذلك هو المشروع الجوهري للشافعي في "الرسالة"[14] التي أضمر فيها الرد على من لا يحتج بالسنة من "القرآنيين" في عصره.

ثم إنه بعد أن كرس أولاً حجيةً إلهيةً للسنة قائمةً على المرادفة أو المطابقة اللامشروعة بين مصطلح "الحكمة" القرآني وبين "السنة"، فإنه في الخطوة الثانية كرَّس حجيةً إبستمولوجيةً لـ"خبر الآحاد" قائمةً على مماثلةٍ لا منطقيةٍ بين الرواية والشهادة[15]، ثم أكمل مشروعه بتأسيس آلية الناسخ والمنسوخ التي "أطلقت من القمقم عفريت التلاعب بالنص القرآني"[16] فجعلت مُؤوِّلَ النص القرآني لا قائله هو من يحدد ناسخ الآيات من منسوخها، ورهنت آيات القرآن بآفاقها المفتوحة إلى ما تمليه عليها نصوص السنة المتكاثرة مع الزمن-برأي طرابيشي-، ما دفعه للقول بأن الشافعي من خلال مشروعه هذا لم يكن محضَ متابعٍ لمن تقدمه، بل دشَّن "نشأةً مستأنفة" حسب التعبير الخلدوني، أو نفَّذ انقلاباً لاهوتياً وإبستمولوجياً معاً يضاهي الانقلاب الذي نفّذته المسيحية في الإمبراطورية الرومانية؛ إذ جعلت المسيح ابناً مشاركاً للرب في الجوهر، مع فارق أن انقلاب الشافعي أَلَّه سُنَّة الرسول لا شخصه، وهو أقصى ما يمكن أن يتحقق في دين توحيدي تجريدي كالإسلام[17].

ولا يخفى أن "انقلاب" الشافعي هذا جاء على حساب دور العقل، فباعتبار القرآن تبياناً لكل شيء، ثم باعتبار السنة تبياناً للقرآن، ولأن السنة غير محصورةٍ بين دفتي كتاب، بل هي محفوظةٌ في ذاكرة الأجيال في شتى الأمصار، وبما أنها في تنظير الشافعي جَماعيةُ التداول مثلها مثل لغة العرب يستعصي جمعُها على فردٍ بعينه، فقد أمست من خلال آلية الإسناد قابلةً للتضخم اللامتناهي، وبهذا يكون الشافعي من الناحية الإبستمولوجية قد أحال العقل على النقل فجعله يلهث دون توقفٍ خلف نصوص الأحاديث الكثيرة أو المتكاثرة، واستتبعه استتباعاً ذليلاً للآمر الديني المتمثل في السنة ليقف العقل منها بعد ذلك موقف التصديق والتسليم لا غير[18]، ثم لما اضطر الشافعي لـ"الاجتهاد" أفسح للعقل –وحفظاً لكبريائه- حيزاً ضيقاً من الممارسة تتمثل في "قياسٍ" يقتصر على الفروع التي لا نص فيها، لكنه سرعان ما أن قام بسدِّ آفاقه بإبطاله للاستحسان وعدِّه نوعاً من اتباع الهوى والحكم بالتشهي.

يختم طرابيشي بأن دعوى "وسطية" الشافعي أو توفيقيته بين أهل الرأي وأهل الحديث التي روَّجها أحمد أمين وقلده فيها من جاء بعده إنما هي مصادرة تحجب عن الأذهان "الانقلاب اللاهوتي والإبستمولوجي" الذي قاده الشافعي كـ"مؤسس ثانٍ للإسلام"، ثم تضفي على هذا الانقلاب صفة المشروعية حين تصفه بـ"الجمع والتوسط والتوفيق"، فضلاً عن كونها تشبع نرجسية حضارةً قائمةٍ على مركزية النص حين تزعم أنها وفقت يبن العقل والنقل مع أن العقل في واقعها الفعلي مهمشٌ أو مستتبَعٌ ذليلٌ للنص[19].


أبو حنيفة: من الرأي إلى الحديث


يتوقف طرابيشي في فصلٍ قصير عند أبي حنيفة مؤْثراً التحفظ في الحكم على معالم مذهبه خلافاً لما فعل قبلُ مع مالكٍ والشافعي، فأبو حنيفة قد سبقهما بنصف قرنٍ دون أن يترك أثراً مكتوباً، وكل ما أُثر عنه لم يكن أكثر من أقوالٍ ساقها تلامذته من بعده[20].

ومع الإقرار بأنه كان من فقهاء الرأي فإن ثمة مسافة زمانية و"إبستمولوجية" تفصل بين أبي حنيفة وبين تلاميذه، فاليومُ الذي "قال" فيه أبو حنيفة هو غير اليوم الذي "كتب" فيه التلاميذ، وبين ذينك اليومين حصل التحول الهائل، إذ بدأت الرحلة في طلب الحديث وأخذت المدونة الحديثية تتبلور، وتيار أهل الحديث يتعاظم، وفي تلك الفترة أخذ تلامذة أبي حنيفة أنفسهم يطلبون الحديث ويتلقونه من أعلامه، ومع ذلك فإن صفة "الرأي" ضلت تطارد أصحاب المذهب كوصمة عار بعد انتصار الإيديولوجية الحديثية، وبلغ تشنيعُ أصحاب الحديث على أبي حنيفة حدَّ إخراجه من الدين أو كاد، فغدت تبرئة أبي حنيفة من اتهامات أصحاب الحديث هاجساً لدى أصحاب المذهب آلَ بهم للانقلاب على أنفسهم، فبدلاً من أن يدافعوا عن مذهب أستاذهم في الرأي قاموا بتحويل أستاذهم إلى صاحب حديث، بل إلى محدث صاحب مسنَد، بل ألحقوه بالتابعين، وضربوا له بسهمٍ في علم الرجال وبرَّؤوه من تهمة "الرأي" إلى غير ذلك من "التنازلات" التي قدموها نزولاً منهم عند مقتضيات الإيديولوجية السائدة التي فرضت نفسها في عموم الساحة الفقهية منذ انتصار أهل الحديث.


ابن حزم: وثنية النص


يمثل ابن حزم في دراسة طرابيشي مفارقةً حادةً، إذ هو أبرزُ مَن أشاد بسؤدد العقل وأبرزُ مَن أقاله أيضاً في آنٍ واحد، فهو الذي رصع مقدمات بعض كتبه بإثبات حجج العقول، وأفرد كتاباً في "التقريب لحد المنطق"، جاعلاً للعقل الإمرة على ما سواه من وسائل المعرفة، لدرجة أن الجابري –بوهمٍ أو بإيهامٍ- أدرجه في عداد "المدرسة العقلانية النقدية"، متبنياً ظاهريته كمشروعٍ فكريٍّ فلسفيِّ الأبعاد بينما لا يرى طرابيشي في ظاهريته سوى استعادةٍ لمنهج الشافعي باتجاه أكثر غلواً في "النصية" مما فعل الشافعي[21].

وفي هذا الصدد يرصد طرابيشي دور العقل عند ابن حزم حيثما ورد في مؤلفاته، فهو لا يتجاوز مجرد "معرفة الأشياء على ما هي عليه"، وهو بالتالي عقل "انطباعي لا بنائي"[22]، أما أبرز مظاهر إقالة ابن حزم للعقل فتتمثل في أنه –عملياً- أعطى النص أولويةً مطلقةً واستتبع العقلَ له، فأجاز أن يرِد النصُّ بما لا يُعقَل دون أن يحط ذلك من منزلة النص أو يمنع العقلَ من قبوله، فجائزٌ عنده أن يأمر النص بالشرك أو التثليث بدلاً من التوحيد، أو يبيح القتل أو الزنى أو السرقة بدلاً من أضدادها، ولو فعل النصُّ ذلك لكان ما أَمَرَ به حسناً وما نهى عنه قبيحاً، وهنا ينسف ابن حزم مبدأ الهوية الأرسطي مقرراً أن المعقول يستمد معقوليته لا من العقل بل من النص، وبمد هذه النزعة من حيز الاعتقادات إلى حيز الأخلاق يكون ابن حزم أول مَن قال بـ"جزافية النص" ليستحق أن يوصف بكونه "متعبداً عصابياً في معبد وثنية النص"[23].

وفي العلاقة بين ابن حزم والشافعي يأتي مشروع ابن حزم مستأنفاً لمذهب الشافعي ومضاداً له معاً، فهو من ناحيةٍ تابعَ الشافعي في تكريس السنة قرآناً بعد القرآن وزايدَ عليه بأن ماثلَ بينهما في "الماهية الوحيية" حتى أجاز نسخ أحدهما بالآخر، وفي موقف آخر بالِغ الغلو أسبغ "عصمةً" على رواة الحديث الثقات لأن الحديث "ذكرٌ" كالقرآن، فرواة الحديث إذن نقَلَة الدين، وعصمتهم في النقل جزء من عصمة الدين وحفظه[24].

ومن الناحية الأخرى شنَّ ابن حزم حملته المشهورة على فاعلية العقل في النص ممثلةً في القياس وتوابعه من تعليل واستحسان ومصالح مرسلة، وتكلَّفَ في إبطالها شتى التأويلات، والتفّ على أنواع الدلالات مع تشبثٍ مستميت بحرفية النصوص وألفاظها لدرجة يبدو فيها وكأنه يعاني حالةً من "رُهاب القياس"، وأنكر حتى قانون السببية وقاعدة مقاصد الشريعة، ونظر إلى العالَم نظرة سكونية باعتباره ناجزاً ونهائياً لا يتوقع أن يطرأ عليه أي تغيير أو تطور، فالدين قد اكتمل والشرائع ثابتة لا تجديد فيها ولا تبديل إلى يوم القيامة، ما اضطره إلى إقرار مبدأ الاستصحاب الذي يفيد بقاء ما كان على ما كان، وفتح باب الإباحة على مصراعيه ليدخل فيه كل مستجد لم يتناوله النص[25].

وهنا، وبعد كف فاعلية العقل على يد الشافعي القائل: من استحسن فقد شرع، ثم على يد ابن حزم القائل من قاس فقد شرع، وبعد إحالة العقل على النقل المتكاثرةِ نصوصه عبر الزمن، فإن ما آل إليه أمر "إسلام التاريخ" يستدعي القول بأن "من شرَّع في واقع الحال هو مَن حدَّث"[26].


العقل التخريجي


يفرد طرابيشي فصلاً مستقلاً يبين فيه واحداً من أبرز خصائص الإيديولوجية الحديثية، وذلك فيما يسميه: "العقل التخريجي" الذي هو عقل نمطي يتحكم بكل الإبستمولوجية الحديثية ويمثل السقف الأعلى لاشتغال العقل عند أهل النقل، وإذ يستعرض طرابيشي جهود أهل الحديث في التخريج بدءاً بابن قتيبة بمَخْرَجه التأويلي، مروراً بالطحاوي ومَخرَجه التوهيمي ثم ابن شاهين صاحب المَخرج النسخي والحازمي صاحب المَخرَج الترجيحي، وصولاً إلى الشعراني بمخرجه التعادلي فإنه يلاحظ أنه رغم ما قد يبدو من اختلاف طرائقهم فيما بينهم إلا أن القاسم المشترك بينهم يتمثل في "طلب المخرج" لتعارض النصوص أياً كان الـمَـخرَج وأياً كانت منزلته، ولو كان ذلك بتأويلٍ مُتكلَّفٍ للألفاظ، أو افتراضِ ما لا يُتصوَّر في العادة، بل حتى ما لا يتصور في العقل كالقول بتكافؤ الأضداد، ولو كان التخريج بإبطال ما أُثبِت أو إثبات ما أُبطِل في تخريجٍ سابق، أو توثيق راوٍ سبق القول بجرحه في "لعبة علم الرجال"، ولو كان التخريج بافتراض "نَسْخٍ" تكذِّبه رواياتٌ أخرى أو الزعم بأن روايةً ما عزيمة وأخرى تناقضها رخصة ..، التخريج في الحصيلة عملية ترقيعٍ مضطربة تعيش "رُهاب التناقض"، همُّها استبقاء الرواية وإنقاذ الحديث من الرد أو النقد، وهو عملية يقوم بها "العقل المُعَقْلِن"[27] في "سيرورة منطقية ونفسية معاً، ومن طبيعةٍ مرَضية تدّعي نصاب المعقولية المسبقة واللامشروطة للنص، وتنحصر مهمتها في تبرئة النص من العيوب وسد نواقصه وثغراته وتسوية تضاريسه"، وبإدخال ظاهرة التخريج إلى "عيادة التحليل النفسي" فإن طرابيشي يشخِّص النتيجة: "هاجساً إنكارياً عُصابياً" يعاني منه رجال التخريج، ليس هدفه صيانة المدونة الحديثية عن التناقض فحسب، بل وتبرئتها من شبهة التدخل البشري الذي لطالما ساهم في تأليفها ومراكمتها عبر الزمن[28].


انتصار أهل الحديث


تحت عنوان "انتصار أهل الحديث" يؤرخ طرابيشي عهد المتوكل باعتباره مقدمة التحول الحاسم من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، فبينما كانت السياسة التي اختطها الخلفاء قبل المتوكل تنحو منحى أن يكون الناس على دين ملوكهم –ويمكن فهم محنة خلق القرآن في هذا الإطار- وهي عينها السياسة التي أتاحت لأوربا أن تقطع مع عصورها الوسطى وتصنع نهضتها، فإن المتوكل قام بـ"انقلابٍ" على تلك السياسة وفعل العكس تماماً حين لانَ للرعية/ العامَّة وماشاها في توجهها كسباً لولائها ونفوذها المتعاظم عددياً؛ والحال أن المتوكل حين أغلق ملف خلق القرآن ورد الاعتبار لأهل الحديث وقربهم وأغدق عليهم لم يكن ذلك منه انقلاباً لاهوتياً -وهو المستغرق في ملذاته وقصوره الباذخة-، بل كان انقلاباً سياسياً يضع في اعتباره مصلحة المُلك الطبيعي الذي آل إليه على غير ما توقع[29].

وكان من النتائج الكبرى لهذا الانقلاب أن يفتح أولاً الباب على مصراعيه أمام تسييد السنة إبستمولوجياً لتتبوأ الإشكاليةُ الحديثية من حينه الصدارة على حساب الإشكالية القرآنية، ويتم التحول إلى إسلام الحديث كإيديولوجية سائدة على امتداد القرون العشرة الفاصلة بين عصر المتوكل وعصر النهضة.

وانعكس انقلاب المتوكل ثانياً طائفياً وطوائفياً من خلال معاداته كلاً من الشيعة والنصارى معاً، فأرسى جذوراً سوسيولوجيةً فضلاً عن الإيديولوجية غير قابلة للاجتثاث أو التجاوز، وأخذت أدبيات معاداة الشيعة وأهل الذمة تتطور في المدونة الحديثية وصولاً إلى التفاسير المتأخرة للقرآن نفسه.

ومن ناحية ثالثة فإن انقلاب المتوكل هذا كان انقلاباً في المرجعية والعلاقة بين السلطان والرعية فيما يتعلق بالسلطة الدينية، وإذا كانت الحداثة الأوربية قد ولدت بعد الإصلاح البروتستانتي الذي أوجد مسيحيةً جديدة منعتقةً من قبضة الكاثوليكية المحافظة منفتحةً على تباشير الحداثة، فإن انقلاب المتوكل كذلك قد وأد جميع محاولات الإصلاح الديني التي أطلق شرارتها المعتزلة القائلون بوجوب توافق العقل مع النقل واستبعاد أو تأويل ما يعارض العقل من نصوص، لتقع السلطةُ الدينية في قبضةِ سلطةٍ سنيةٍ سلفيةٍ متشددةٍ لا تعترف بأي استقلالية للعقل إزاء النقل، ولا ترى في الجديد –أي جديد- إلا كونه بدعة[30].

وعلى ضوء ما سبق يأتي أحمد بن حنبل ألمع رموز "الإسلام الحديثي" الذي يعتبره طرابيشي المؤسس الثاني للسنة والمسؤول الثاني عن التضخم المتسارع للمدونة الحديثية، فهو الذي أعطى السنة مرجعية معرفية مطلقة لا تدانيها أية مرجعية أخرى، حتى إنه قدّم السنة على القرآن وجعلها مدخلاً أو مقدمة إلى علم الكتاب والدين، وكان من منهجه أن "يقبل الأحاديث ولا يردَّ منها شيئاً إذا كانت أسانيدها صحيحة وإن نَبَا الحديثُ عن الأسماع أو استوحشه السامع"، ولهذا السبب جرى "تطويبه"[31] كإمام للسنة في جوٍّ من الروايات المبالِغة في مكانته وبطولته ومناقبه الحاوية للعجائب والمستمدة حتى من المنامات، وفي هذا السياق يأتي دائماً الحديث عن "محنة خلق القرآن" وكأنها "محنة ابن حنبل" وحده دون غيره حتى لَيمكن القول بأنه لو لم توجد محنة خلق القرآن لكان ينبغي اختراعها تعزيزاً لمكانة "إمام السنة" ورفعه إلى مرتبة "الصديقين"[32].

وإذ يعلل طرابيشي سبب خلق الهالة حول ابن حنبل دون غيره ممن واجهوا "محنة المعتصم" بأن ابن حنبل كان صاحب "المسند" أضخم مدونة حديثية، فإنه يرى في "تضخم" المدونة الحديثية منذ ذلك الحين دليلاً على أن "آلية الإسناد" اتُّخذت درعاً يتم من ورائها انتحال الأحاديث وتلفيقها خصوصاً بعد كف يد العقل وتقييد فعاليته الاجتهادية بإطار النصوص عبر الزمن، ويسجل طرابيشي أنه ابتداءً من عصر أحمد بن حنبل تحولت المدونة الحديثية إلى "متاهة يستحيل تمييز الصحيح عن المكذوب فيها" بما في ذلك مسند أحمد نفسه الذي زادت أحاديثه على الثلاثين ألفاً حشاه مؤلفه بالحديث المشهور لا بما صح عنده ليغدو هو المسؤول الثاني بعد الشافعي عن التضخم المتسارع للمدونة الحديثية[33]،

ولا يقف التضخم -عملياً- عند مجرد زيادات كل من ابنه عبد الله وتلميذه القطيعي المشكوك في ضبطه، فهذا الحاكم النيسابوري يرسي قواعد نظرية للتضخم متمثلةً فيما يسميه بآلية "الاستدراك" التي أتاحت له إلحاق آلاف الأحاديث بصحيحَي البخاري ومسلم دون حرج من قواعد الجرح والتعديل التي لا تخضع سوى المعيار الذاتي المحض لرجال الصنعة الحديثية[34].

وبعد الحاكم النيسابوري يأتي الخطيب البغدادي "الإيديولوجيُّ الأول لأصحاب الحديث"[35] مُنظّراً للتضخم من خلال شرعنته الرواية بالمعنى، وقبول مراسيل الصحابة، وتصحيح الرواية بمجرد الإجازة دون السماع، وعدم اعتبار التدليس جرحاً، وقبول سماع الصغير، وقبول التعديل دون تفسير بخلاف الجرح، ونفي وقوع التعارض بين الروايات وإن بدت في الظاهر كذلك[36]، ليأتي كتاب الغزالي "إحياء علوم الدين" معبراً بكل وضوح عما آلت إليه ظاهرة تضخم الحديث من استعصاءٍ على الضبط، حيث اصطفت فيه آلاف الأحاديث الصحيحة والموضوعة جنباً إلى جنب دون تمييز، حتى إن الحافظ العراقي الذي استغرق تخريج أحاديث "الإحياء" منه عشر سنين أقر لا بوجود مئات الأحاديث الضعيفة فيه فحسب، بل بأمثالها مما لم يجد له أصلاً أو لم يعثر عليه إلا في "الموضوعات" 

 

18-12-2011 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=886