/
التدين في ظل الثورة
محمد أبو الخير السيد
رغم مضي أكثر من عام على اشتعال الثورات في عالمنا العربي ما يزال الحديث يدور حول الثورة بوصفها حدثاً سياسياً بامتياز، بينما تغيب جوانب أخرى عن المشهد في اختزالية قد تكون أخطر ما تواجهه الثورة غداة إسقاط نظامٍ ما في بلدٍ ما. ومع الاعتراف بدايةً بأن عقوداً من الإملاق السياسي في معظم المجتمعات العربية لا بد أن تفرز بعد تفجُّر الثورة كثافة غير مسبوقة في الاهتمام بالشأن السياسي من شتى فئات المجتمع وطبقاته، إلا أنه من الضروري بالمقابل الإشارة إلى أن الثورة لا يُختَبَر نجاحها فقط في انتخابات جديدة أو اصطفافات حزبية ناشئة تسعى لإعادة اقتسام مرحلة سابقة، بل بما صنعته من وعي جديد وخطاب يفارق حقبة الماضي سعياً لبناء الواقع البديل. بناء على هذا وفي ضوء وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم فيما يمكن اعتباره إلى حدٍّ ما ثأراً وانتصافاً من الأنظمة البائدة التي همشتهم أكثر من كونه استحقاقاً من استحقاقات الثورة يكون مشروعاً السؤال عن التدين الذي يمارَس والخطاب الديني الذي يقدَّم هل وصله شيءٌ من لهيب الثورة أم ما زال بمنأىً عنه؟ ثمة مشتركٌ جوهري بين التدين والثورة يتجلى في إرادة الإنسان –المتدين أو الثائر- التحرر من طواغيت البشر وسعيه لاستعادة إنسانيته وموقعه ودوره في حركة الحياة، وفي هذا جانب مما عبر عنه الراحل علي عزت بيغوفيتش في كتابه الإسلام بين الشرق والغرب بقوله: "إن كلاً من الدين والثورة يولدان في مخاضٍ من الألم والمعاناة، ويحتضران في الرخاء والرفاهية والترف. . إن المجتمع العاجز عن التدين هو مجتمع عاجز عن الثورة أيضاً. . والبلاد التي تمارس الحماس الثوري تمارس نوعاً من المشاعر الدينية الحية. . "، لا بأس أن نستعيد هذه الكلمات للقول بأن التدين الذي أُنتِج ثم مورِس في ظل أنظمة القمع الإكراه هو تدينٌ قد نال من التشويه والخلل قدراً يكافئ ما ناله فعلنا وواقعنا السياسي من بؤس وعسف، وأن التحرر الذي أصاب جانباً من واقعنا السياسي مؤخراً لا بد أن يمتد بالمثل إلى تديننا وخطابنا الديني، وإذا كان استيلاء قوى جديدة على مقاليد الحكم بعد الثورة قد لا يعد انتصاراً للثورة بقدر ما يمكن أن يكون سرقةً لها، فإن أحد أهم الضمانات التي تقي من وقوع ذلك أن تكون الثورة ومفاعيلها قد تجذرت في وعي الناس وسلوكهم، بما في ذلك أن نشهد تديناً من نوع مختلف وخطاباً دينياً مولوداً من رحم الثورة لا من رحم مؤسسات ظلت أسيرة لشروط أنظمة العسف والإكراه والأثرة السياسية، فقدمت خطاباً دينياً ينسجم مع واقعها السياسي ويبرره بدلاً من أن يفارقه أو يستقل عنه. بناءً على ما سبق يمكن التمييز بين نوعين من التدين، أحدهما مؤسساتي رسمي "تكليفي"، بينما الآخر ثوري متحرر "استخلافي"، ففي التدين المؤسساتي يتخذ المرء موقع "المكلَّف" شرعاً، وهو المعادل الديني لـ"المواطن الصالح" المحكوم من أنظمة الإكراه، وفي الحالتين ليس لهذا الفرد حق في صنع القرار السياسي تماماً كما ليس له حق في الاجتهاد الشرعي، وإنما هو في موقع التنفيذ والامتثال، وهو في نفس الوقت يواجه كماً واسعاً من الواجبات والمسؤوليات كما يواجه كماً واسعاً من المحظورات والمنهيات تحددها كلٌّ من السلطة الدينية والسلطة الدنيوية فلا تبقيان له من هامش الحرية إلا ما يكفي لضمان استمرار تبعيته، ومن البدهي في حالٍ كهذه أن تكون المواطنة منقوصة ومختزلةً في قوالب شكلية تماماً كما يُختزَل الدين حينها في جانبٍ منه وبشكليةٍ طاغية. فضلاً عن ذلك كله نشهد في التدين المؤسساتي سكونيةٌ غالبة، ورتابةٌ تتمادى لا يكاد يعكر صفوها شيء، سواء في الخطاب الديني أو في النظرة إلى الزمن والتعاطي مع الواقع، وهي عين الرتابة والسكونية التي تصنعها الأنظمة الشمولية حين تلغي حرية الفرد وفاعليته وإبداعه. وإذا كانت الثورة منذ لحظة اندلاعها فعلاً يستعيد فيه المواطن مواطنته وحقه السياسي المستلب، فهي بالقدر نفسه ثورة يستعيد فيها الإنسان إنسانيته التي شوهتها أنظمة الإكراه، تلك الإنسانية التي هي مناط "الاستخلاف" الإلهي للإنسان، والذي لا يقوم إلا على ركني العقل والحرية، وعلى أساسه يبنى التدين المقابل: التدين الاستخلافي، ومن هنا يمكن توصيف التدين المأمول بعد الثورة وما يحمله من خطاب ديني بالقول إن أخص خصائصه أنه يولي أولوية لإخراج الإنسان "المستخلَف" قبل أن يبني الإنسان "المكلَّف"، ذلك أن استعادة الإنسان "المستخلَف" هي الخطوة الموازية لاستعادة "المواطن الحر" الذي نزل إلى الساحات والميادين مطالباً بالحصول على شرط استخلافه في الأرض: الحرية. إن استحضار بُعد استخلاف الإنسان في الخطاب الديني عقدياً كان أو فقهياً أو وعظياً يتطلب إخراج الإنسان من مقام المنفعل بالقدَر إلى مقام الفاعل بالقدر، كما يتطلب إعادة النظر إلى العالم باعتباره متغيراً غير ثابت ما يستلزم إعمال مبدأ "التقوى" كطريقة حياة، والنظر إلى الكون باعتباره كوناً مفتوحاً متسعاً ما يستلزم إعمال مبدأ "الإحسان" كمعيار عمل ومنظار حكم، وفي سياق ذلك يكون "العمل الصالح" عبادة عملية كبرى لا تضاد العبادة الشعائرية بقدر ما تكون امتداداً لها. ولا يستقيم ذلك كله من دون تحرير الإنسان من الاستلاب للماضي المتمثل في الارتهان لنموذج "السلف الصالح" الذي غالباً ما يقدَّم متعالياً في مثاليته على شروط الواقع، وتحريره أيضاً من الاستلاب للمستقبل الملبَّد بغيوم الفتن والملاحم و"آخر الزمان"، فكلٌّ من هذين الاستلابين قد أصبحا في الوعظيات الساذجة ودون قصد أداة تثبيط بدل أن يكونا رافعة عمل وتغيير. وبالمثل لا بد أن ينال جانب الفقه والفتوى حظاً من ذلك التغيير، مدعوماً بثورة المعلومات التي عززت فردية الإنسان بقدر ما قلصت من سلطاتٍ، فبدلاً من أن نرى تديناً يستفتي في كل صغيرة وكبيرة، وفقيهاً يفتي فتتسع بفتواه دائرة الحظر والكراهة، يمكن أن نشهد متديناً "فقيه النفس"، تضيق لديه دائرة "الحرام البيّن" لينفتح ما وراءها من آفاق "إباحة أصلية" تستوعب حرية الإنسان وإبداعه المتغذي من مبدأي "الإحسان"، والعمل الصالح". إن مثل هذا التجديد في التدين والخطاب الديني إن لم يتحقق كمعطى من معطيات الثورة فهو ضرورة من ضرورات نجاحها ومعيار له، وبدونه يمكن أن تتقلص الثورة إلى مجرد حدث سياسي عابر تتناقله وسائل الإعلام.
20-01-2012 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=887 |