/
الإسلام السياسي والثورة في سورية
عبد الرحمن الحاج
في ظل قناعة بدأت تسود بحتمية وصول الإسلاميين إلى السلطة في سورية أسوة ببقية بلدان الربيع العربي، بعدما أكدت نتائج صناديق الاقتراع ذلك في جميع البلدان التي مرَّ بها هذا الربيع وانتصرت فيها ثورته، تثور تساؤلات عن مصير مشابه في سورية الجديدة بعد الثورة، بل إن هذا اليقين الجديد بوصول الإسلاميين للسلطة خلق سريعاً تحالفات من نوع جديد، وإن لم تستقر بعد، بين العلمانيين والإسلاميين على غرار التجربة التونسية. غير أن استشراف مستقبل الإسلام السياسي في سورية والتنبؤ بدوره في المرحلة الانتقالية لا يصح فيه انتهاج عملية القياس الأرسطية المبسطة على نتائج الربيع العربي في الدول الأخرى، فالاستشراف ينبغي أن ينبني على مجموعة من العوامل يصعب فصلها، منها بنية الحركات الدينية السياسية في المجتمع السوري وطبيعة حراكها السياسي قبل الثورة، ومنها أيضاً نتائج السياسات الحكومية التي سبقت الثورة، وكذلك التحولات التي أجرتها الثورة سواء في بنية حركات الإسلام السياسي أو في تطلعاتها السياسية بل حتى في رؤيتها الفكرية. الأسد الأب والحركات الاسلامية: الاقتلاع كان حافظ الأسد قد قضى بشكل نهائي على وجود الإخوان المسلمين والتنظيم المنشق عنهم "الطليعة المقاتلة"، والتي بدأت نشاطها الفعلي بعد مقتل زعيمها المؤسس مروان حديد في سجنه عام 1976. كان الإخوان المسلمون هم التنظيم الذي جمع كل التجمعات الاسلامية السياسية الصغيرة التي كانت قد تشكلت في حقبة الاستعمار الفرنسي ونهاية الخلافة العثمانية، بحيث لم يأت عام 1963 إلا والإخوان هم تنظيم كبير العدد يشكل عماد الإسلام السياسي في سورية في مطلع مرحلة الاستقلال، ولكنهم كانوا قليلي التأثير في الحياة السياسية قياساً إلى حجمهم، إلا أن ما كان يميزهم هو التزامهم المطلق في تلك الفترة بالديمقراطية. ومع أن حزب التحرير، الداعي إلى اقامة الخلافة، وجد في الخمسينات إلا أنه ظل حزباً نخبوياً خصوصاً وأن لديه موقفاً أيديولوجياً برفض المشاركة في الحياة السياسية. كان ثمة تيار إسلامي سلفي إصلاحي ربما طريف من نوعه قياساً إلى ما كان سائداً آنذاك من التوجه السلفي الكلاسيكي الذي كان يرى في مفهوم الدولة ما يناقض الدين، لكن زعماء هذا التيار -الذين كانت تجمعهم جمعية التمدن الإسلامي التي كان يترأسها مظهر العظمة – يبدون كما لو أنهم امتداد لسلفية جمال الدين القاسمي ورشيد رضا، أو ما بات يعرف بالسلفية الإصلاحية الشامية، وهي سلفية تجمع العقيدة السلفية التقليدية ولكنها في المستوى السياسي هي ديمقراطية تماماً، وليس لديها أي إشكال فكري في ذلك. صخب الحياة السياسية في الخمسينات أدى إلى شعور عام بالفراغ الروحي الذي بدأ يتشكل مع اقتحام منتجات الحداثة الحياة العامة والخاصة، وانصراف علماء الدين إلى الاشتغال بالشأن السياسي وصراعاته التحزبية، فانتهى الأمر في النصف الثاني من الخمسينيات إلى صحوة دينية عمت الحياة الاجتماعية، اتخذت شكل تأسيس جماعات دينية: جماعة القبيسيات، التي أسستها منيرة القبيسي تلميذة الشيخ أحمد كفتارو (الذي بقي 40 عاماً مفتيًا للجمهورية، وارتبط اسمه بنظام البعث)، وجماعة زيد التي أسسها الشيخ عبد الكريم الرفاعي، تركز على التربية وجعل المسجد منطلق النهوض الحضاري، وجماعة الكلتاوية التي أسسها الشيخ محمد النبهان، وهي جماعة يغلب عليها التصوف، وغيرها، وباستثناء جماعة كفتارو فإن الجماعات الأخرى أبقت نفسها على مسافة من السياسة في إطار ديني شبه خالص، في حين كانت السياسة في بنية الجماعة التي أسسها الشيخ أحمد كفتارو، حيث شكل التحالف مع النظام أحد أركانها الأصيلة. في نهاية عام 1999 قامت السلطات الحكومية عبر جهاز المخابرات الجوية بالقبض على جميع أعضاء حزب التحرير، وهو حزب عمل بسرية وتجنب في الثمانينات الأزمة بسبب خصومته التاريخية مع الإخوان المسلمين، الأمر الذي كشف عمق التغلغل الاستخباراتي في هذا التنظيم، فقد كان جميع أسماء أعضاء التنظيم ومن اتصل بهم في حوزة الاستخبارات، وبذلك تم اقتلاع آخر تنظيم إسلامي سياسي في سورية، مع اقتراب نهاية حافظ الأسد, وشروعه في توريث ابنه نظاما لا تهدده الحركة الاسلامية. الأسد الأبن: التلاعب بالورقة الدينية ربما لا يشبه السياسات الحكومية السورية في ظل عهد بشار الأسد مع الإسلاميين أي نموذج آخر، فالسنوات العشر من هذا العهد اتسمت بتغييرات جذرية سببها حاجات النظام إلى البقاء في ظل نظام دولي مضطرب وأحداث سياسية عاصفة كادت تطيح به، بدأت بأحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، فاحتلال العراق 2003، وأخيراً اغتيال الحريري 2005. ففي حين حرص الأسد الأب على توازنات صارمة في علاقته بالجماعات الدينية وطوائفها، خصوصاً بعد تجربة جمعية المرتضى، أسسها جميل الأسد عام 1983 بهدف دمج الطائفة العلوية في المجتمع السوري من خلال توسيع نطاق التشيع، وإقصاء شقيقه الجنرال رفعت الأسد عام 1983، كانت هذه السياسات تهدف إلى إضعاف التطلعات الدينية لأي جماعات دينية أو قومية. وفي هذا السياق، حرص على مشاركة الأكثرية السنية والأقليات الدينية والعرقية في المناصب الحكومية؛ صحيح أن كل المناصب كانت شكلية للغاية، بحيث أنها لا تسهم في صناعة القرار الحكومي وإنما في تنفيذه، إلا أنها في النهاية كانت ذات طبيعة متشابهة للجميع، وذلك بجوار تعاظم الأجهزة الأمنية وتدخلها في تفاصيل الحياة العامة. كان هدف الأسد الأب تحقيق الاستقرار عبر ممارسه سياسة تعتمد التوازنات بجوار قبضة أمنية حديدية، وقفل المجال العام أمام أية حركة قد تتسبب بخلل في استقرار النظام، فاستطاع إنهاء أي وجود لأي تشكيل سياسي إسلامي داخل سورية، باستثناء حزب التحرير الذي كان على خصومة شديدة مع الإخوان المسلمين والذي كان يمارس حياة سرية، ولكنه كان تحت المراقبة الشديدة ووجهت إليه ضربة قاصمة عام 2000 عندما بدأ الأسد يشعر بأن نهايته قد اقتربت. في السنوات العشر الأولى من حكم الأسد الابن وبالتضافر مع ظروف دولية معقدة وحساسة للغاية، حدث تحول نوعي في هذه التوازنات، ففي حين منحت جماعات وطوائف دينية امتيازات سياسة واجتماعية، غالباً لا تناسب حجمها (جماعة المتشيعين الجدد من الطائفة الشيعية السورية والوافدة)، فإن جماعات وطوائف دينية كثيرة حُرمت منها، وعولجت انعكاسات حالة عدم التوازن تلك بطريقة أمنية مفرطة في الغالب (مثل اعتقال فتيان تأثروا بعمرو خالد -الداعية المصري المعروف- وأطلقوا على أنفسهم جماعة "صناع الحياة"، والمحاكمات القاسية للإسلاميين الناقدين لامتيازات الطائفة الشيعية الجديدة)، فساد الإحساس بالغبن لدى معظم الجماعات الدينية السنية، عبَّر عنها بوضوح تصريح قيادات ورموز دينية لطالما حسبت على النظام نفسه. استفاد النظام من تغيير مواز في السياسات الدولية أيضاً تجاه الجماعات والحركات الإسلامية، حيث طُبِّقت ممارسات أمنية دولية متشددة ضدها دون تمييز بين المعتدلة والمتشددة، والوطنية والأممية، والنخبوية أو العامة، فكانت من نتائج ذلك إشاعة "فوبيا الإسلام" في أمريكا وأوروبا؛ وعلى الرغم من التغييرات التي أحدثتها إدارة أوباما إلا أن تأثيرات تلك المرحلة مازالت فاعلة، يشهد عليها الجدل الأمريكي المتصاعد حول بناء مسجد في "الموقع صفر" في نيويورك بالقرب من مكان وقوع الهجمات في 11 أيلول/سبتمبر 2001، والجدل المحتدم في أوربا حول النقاب والمآذن عشية الربيع العربي في نهاية 2010. التغيير الأهم والأخطر الذي حدث في السياسة السورية في التعاطي مع الشأن الديني والقضايا التي تتعلق بالجماعات الدينية هو نقل السياسة الحكومية بخصوصهم من "السياسة الداخلية" إلى "السياسة الخارجية"، وبالتالي التعاطي مع هذه القضية طبقاً لمتطلبات خارجية. هذا التغيير الانقلابي في طبيعة السياسات يفسر التنقلات أو التقلبات الكثيرة والسريعة في السياسات الحكومية السورية في سنوات قليلة. وكأمثلة على ذلك، عندما شعر صناع القرار في سورية أن مساهمتهم في "الحرب على الإرهاب" مفيدة لهم للاندماج في المجتمع الدولي لم يترددوا في الانتقال من سياسة "اليد الممدودة" مع الجماعات السورية الدينية إلى سياسة أمنية متشددة تجاههم، ثم عندما شعر صناع القرار بأن النظام في خطر عند غزو العراق لجأوا إلى تعزيز نفوذهم وفتح مجال واسع للسلفية الجهادية على وجه الخصوص، ودفعهم للتطوع والقتال في العراق، و لما شعروا أن النظام بأكمله بات مهدداً بشكل مباشر من قبل الولايات المتحدة والمجتمع الدولي سُمح لمظاهر التدين بالبروز بل وحُفِّزت كي تطفو على السطح لاستثمارها في التخويف من "التطرف" فيما إذا انهار النظام. وفي الوقت الذي احتاجوا فيه إلى طهران كخشبة إنقاذ بعد احتلال العراق ومقتل الحريري، عادوا وشددوا قبضتهم الأمنية على الجماعات الإسلامية بينما عُزِّزت امتيازات الأقلية الشيعية (السورية واللاجئة). أحد أبرز الممارسات السياسية الجديدة هي الخلط المتعمد بين "مظاهر التدين" و"التطرف"، ومع أن هذا كان جزءاً من ممارسات قد لا تكون مقصودة دائماً في ممارسة المجتمع الدولي في "الحرب على الإرهاب" إلا أنها في سورية كانت دعائية ومقصودة وانتقائية في الوقت نفسه، فحين شعر المسؤولون بأن النظام مهدد بدأوا بالتلويح بالبديل الاسلامي المتشدد، وكان من وسائل هذا التلويح المطابقة غير المباشرة بين "تنامي" مظاهر التدين "المفاجأة" وبين "التطرف" من خلال الإعلان عن عملية لجماعات مسلحة هنا وهناك في الوقت نفسه، وهو أمر حدث في الفترة التي بلغ تهديد النظام ذروته (2004-2006)، وفي الوقت نفسه فإن مظاهر التدين المتكاثرة في السيدة زينب والتزايد المطرد على شكل متوالية حسابية للمقامات والمزارات والزوار الشيعة أمر كان يتم تجنب الحديث عنه، بل والحرص على عدم إخراجه للعلن. الإسلام السياسي: فترة التطلعات محصلة السياستين المحلية والدولية في عهد بشار الأسد، أدت إلى طفرة نمو في التطلعات السياسية للجماعات الدينية واتجاهاتها السياسية بل وظهور جماعات الإسلام السياسي بعد اختفائها لمدة عقدين على الأقل (مثل: الإسلاميون الأكراد، والتيار الإسلامي الديمقراطي، والسلفية الجهادية، إسلاميو اللاعنف)؛ والمثير في الأمر أن غالب هذه التطلعات كانت تعبر عن نفسها إما على شكل مطالب مدنية ديمقراطية، وكان أحد المقاصد من ابراز الهوية الديمقراطية هو اكتساب الشرعية السياسية، أو تبدو التطلعات السياسية على شكل تحالف واندماج عضوي في النظام ومؤسساته. والنتيجة هي تشكل ما يشبه الهجرة الجماعية للجماعات الدينية (والإسلامية منها) نحو السياسة، على شكل تحالف وارتباط عضوي مع النظام، أو على شكل اعتراض على سياساته، وذلك كتفاعل مع السياسات الحكومية وبالتضافر مع الأحداث الجارية في الجوار، وبشكل خاص في العراق ولبنان. ويمكن استعراض أهم الجماعات كالآتي: وباستثناء جماعة القبيسيات التي بقيت على الحياد، فإن جميع الجماعات الدينية الأخرى أظهرت تطلعات سياسية واتجاهات متفاوتة الشدة نحوها. وبدا وقتها أن ذلك يرجع إلى أن جماعة القبيسيات ذات تكوين نسوي صرف، وبالتالي تحكمها صورة الأنثى في المجتمع السوري، وابتعادها عن المجال السياسي جزء من تكوينها الفكري. الحاصل، أن هناك هجرة للقيادات الدينية باتجاه السياسة على صيغة تحالف مع النظام أو اعتراض عليه أو حتى معارضته، مع انحسار في نسبة المستقلين المنصرفين إلى الشأن الديني الصرف، الأمر الذي أدى إلى صعود الدور السياسي للدين أمام دوره الروحي والاجتماعي. لكن حتى هذا الانصراف عن الشأن السياسي لدى الباقين لم يكن زهداً فيه على الأرجح، فجميع السياسات التي انتهجها النظام تحفز تطلعاتهم السياسية، بقدر ما كان شكلاً من أشكال اليأس من النظام وضماناً للسلامة أو اعتراضاً صامتاً على قاعدة "أضعف الإيمان". على أن الجماعات الإسلامية المتحالفة مع النظام (جماعة كفتارو)، تفككت في النهاية بسبب ارتباطها الشديد به وخضوعها لتغيرات مزاجه السياسي، بالإضافة إلى بنيتها الفكرية المتناقضة. العمامة والثورة: تاريخ جديد أحدثت الثورة تحولات جديدة وعميقة، ولكنها في الوقت نفسه عكست بوضوح نتائج السياسات الحكومية كما هو متوقع، فقد لعبت الجماعات الدينية ورموزها دوراً بارزاً في الثورة سلباً (حلب ودمشق) وإيجاباً (درعا وحماة وحمص والساحل ودير الزور)؛ ففي حين دفعت المتحالفين مع النظام غالباً إلى مزيد من الالتصاق به والدفاع عنه، دفعت الفئة التي كانت تمارس الاعتراض على سياساته إلى الانتقال خطوة أخرى نحو معارضته (جماعة زيد وأنصارها)، كما دفعت بالقادة الدينيين للثورة إلى الانخراط المباشر في العمل السياسي. وقد كان هذا متوقعاً بالنظر إلى تاريخ كل من هذه القيادات الدينية، وبالنظر إلى تأثير السياسات الحكومية المحفز على التطلعات السياسية. لكن الشيء الجديد الذي يجب ملاحظته هو الدور الكبير للقيادات الدينية والجماعات الدينية الاجتماعية في الثورة. وفي تلك الأثناء، كانت جماعات الإسلام السياسي في موقف المراقب ومشغولة بالبحث عن موطئ قدم، خصوصاً الجماعة الأكبر والأكثر نفوذاً، أعني جماعة الإخوان المسلمين. جزء من تفسير هذا الانخراط المتزايد في العمل السياسي وتصعيد تطلعات الإسلاميين للعمل السياسي المدني، يكمن في السياسات الحكومية الاستفزازية والمتطرفة حتى في أشهر ما قبل الثورة، وجزء منها يكمن في تحول المساجد والجوامع إلى نقطة انطلاق للتظاهرات وإشعال الثورة؛ ففي حين سدَّ النظام أي مساحة للاجتماع خارج رقابته، بقيت أماكن العبادة خارج سلطته، وقد وجدها الشبان المتظاهرون المكان الملائم للاجتماع، الأمر الذي جعل القادة الدينيين دون إرادتهم ربما في صلب الحدث؛ والجزء الآخر يكمن أيضاً في النهج الذي اتبعه النظام، وفقاً لما كشفته الوثيقة الأمنية المسربة التي صاغتها لجنة أمنية مصغرة في 23 شباط/فبراير 2011، ويستند على عنف ممنهج يقوم في أحد أعمدته على إدخال الدين في عملية القمع. السلفية الجهادية: فزاعة النظام الشيء المثير أيضاً هو أن هذه الاستراتيجية التي اتبعها النظام لمواجهة التظاهرات السلمية ومحاولة قمعها تحت حجة "الجماعات السلفية المسلحة" أو "الإرهابية" تبين فشلها حيث ثبت خلو سورية من قواعد للجهادية السلفية وتنظيماتها المتشددة (القاعدة وأخواتها)، وذلك بالرغم من العنف الشديد الذي مورس ضد المتظاهرين السلميين وقتل آلاف المدنيين الأبرياء (بما فيهم مئات الأطفال والنساء) بدون أي رادع، وقد كان جزء يسير من ذلك العنف الوحشي كافياً لإخراج المارد الجهادي السلفي من قمقمه لو وجد، ذلك أن الإلحاح المستمر على سلمية الثورة والحرص على عدم استخدام العنف مقابل القمع الوحشي المفرط الذي يستخدمه النظام لم يكن ملائماً قط للفكر الجهادي السلفي، الأمر الذي منع من يحملون هذه التوجهات من الانخراط في الثورة كأعضاء من تنظيماتهم السابقة، إضافة إلى أن الجهادية السلفية كانت على شكل مجموعات صغيرة غير متماسكة تنظيمياً، أو حتى ليست تنظيمات، إنما جماعات يربطها توافق فكري أكثر منه عمل جهادي أو سياسي. وتشير دراسات عديدة، منها دراسات انجزتها منظمات حقوقية، إلى أن انتشار الفكر السلفي الجهادي في سورية أساساً هو محدود للغاية وعلى شكل جماعات صغيرة جداً متفاوتة الحجم متأثرة بأفكار تنظيمات دولية متشددة أو "إرهابية"، إلا أنه لا يوجد رابط تنظيمي معها على الأغلب، وأن تنظيمات مثل "تنظيم جند الشام للدعوة والجهاد"، و"التكفير والهجرة"، أو حتى "القاعدة" التي تردد ذكرها في الإعلام، لا تتجاوز واقع الأمر لائحة اتهامات معدة سلفاً بناء على أدلة لا يمكن الاعتماد عليها. وإذا كانت الدراسات تشير إلى تزايد مستمر في انتشار هذا الفكر السلفي الاعتراضي، ونزوح العديد من الشباب السلفيين من الفكر الديني السلفي إلى السفلية الجهادية تحت ضغط تجربة السجن، خصوصاً وأن الأكثرية العظمى من المعتقلين السلفيين لم يكونوا ينتمون إلى جماعات جهادية، وهم في حالات قليلة يحملون فقط أفكاراً جهادية وفي أغلب الحالات لا يحملون أي فكر جهادي، فإنه رغم ذلك، لا توجد حتى في السجن أية جماعات تؤمن بالعمل الجهادي داخل سورية، الأمر الذي يؤكد بأن السياسة الأمنية القاسية التي استخدمت ضد المتشددين وبمحاكمات استثنائية جائرة لا تتمتع بأدنى شروط العدالة أفضت إلى توسيع الفكر السلفي الاعتراضي، إلا أن ثقافة المقاومة السلمية تفشت فجأة وعلى نحو مثير بعد أن لعبت دروس الثورة التونسية والمصرية دوراً رئيسياً في كبح العنف، وربما في تغيير وجه النهج السلفي السياسي، حيث بدأت تيارات سلفية (بالمعنى الكلاسيكي) بالظهور لأول مرة في شكل تنظيمات سياسية. ("حركة المؤمنون يشاركون" التي يتزعمها لؤي الزعبي أحد أعضاء تنظيم الطليعة المقاتلة المتأخرين، تيار الأمة في بلاد الشام (نادر أسعد بيُّوض التميمي/فلسطيني)، والمفاجأة أن ظهور السلفية المسلح كان محدوداً للغاية، حيث بدأ يتقاسم المشهد السلفيون الديمقراطيون (النسخة الشامية القديمة المحدثة)، ونقول محدثة لأنه في حين كانت السلفية الشامية تستند إلى أسس ما يسمى اليوم بـ"السلفية العلمية" فإن خلفية السلفية الديمقراطية الجديدة هي "السلفية الجهادية"، وهذا يعني احتمال جنوحها للعنف في وقت قصير، وربما تحولها إلى جسر للتنظيمات المتطرفة، في حال تصاعد العنف الوحشي ولم يتدخل المجتمع الدولي عسكرياً ورفض تسليح الجيش الحر بانتظام وتدريبه، لأن حاجة الشعب للسلاح والخبرة في المقاومة للدفاع عن نفسه ستتحول إلى منفذ مهم لدخول التنظيمات المتشددة بدون شك. عودة الإخوان: ترميم الجسور موضوع "الإخوان المسلمون" يحظى باهتمام خاص، فقد انتهى تأثير جماعة الإخوان المسلمين في الحياة السياسية السورية منذ أحداث مجزرة حماة عام 1982. ومع انتهائها وسحق بقايا المعارضة الإسلامية المسلحة، اقتلع النظام العمل المسلح ضده في البلاد ومعه الإخوان المسلمون بالاعتقالات والإعدامات وبالأثر النفسي لقانون 49، وبالتالي لم يعد لهم وجود على الأراضي السورية بعد ذلك، وقد حرص النظام على مطاردتهم إلى ما وراء الحدود حتى نهاية التسعينات. انشقت الجماعة وانقسمت على نفسها في الخارج بعد أن توحدت في مطلع الثمانينات، ولم يعد لهم وجود في الداخل إلا على شكل ذكرى مريرة؛ ونتيجة للدعاية الإعلامية المكثفة التي قام بها النظام، وبالتضافر مع الخيبة التي حصدها السوريون مع القتل والسجن والتنكيل، فقد أصبح اللوم على الإخوان وتحميلهم مسؤولية ما حدث أمراً سائدا في الداخل؛ إذ لم تجد فئة من السوريين، أمام هذا الحال، من يحملونهم المسؤولية سوى الإخوان أنفسهم. كان تأثير هذه الفظاعات قد طال مئات الألوف من الأسر في مختلف أنحاء البلاد، ومنذ ذلك الحين وحتى انطلاق الثورة حرص النظام على تذكير الشعب بتلك الأحداث، فحرم طوال أكثر من ربع قرن، وما يزال يفعل ذلك إلى الآن، أبناء المسجونين والمفقودين والمنفيين وأقربائهم (حتى الدرجة الثالثة) من أغلب حقوقهم المدنية، وصادر أملاك كثيرين منهم، فذهب معظمها كغنائم استولى عليها ضباط كبار. وأما ما تبقى من أعضاء الطليعة المقاتلة، فقد اضطرت، كسائر أعضاء تنظيم الإخوان، للنزوح خارج البلاد، متبادلة التهم مع الإخوان حول المسؤولية وأسباب الفشل، لتنتشر في أنحاء مختلفة في الخليج والأردن والعراق وأوروبا. مع انطلاق الثورة، تردد الإخوان المسلمون في البداية في تأييدها، وعندما بدا أن الاحتجاجات آخذة بالتحول إلى ثورة حقيقية بدأوا يمدون نفوذهم من جديد إلى سورية عبر الإغاثة (أنشأوا جمعية خاصة بدأت تعمل على الفور)، وعبر العلاقات الاجتماعية المناطقية (الحموية والحلبية على نحو خاص)، فبدأت خيوط جديدة من علاقات الولاء السياسي تُنسج في المجتمع السوري مع الإخوان المسلمين. تطور الأحداث ما بعد الثورة في دول الربيع العربي أثرت بدورها في تفكيرهم، فقد أدى فوز الإسلاميين في انتخابات دول الربيع العربي إلى نمو تطلع الإخوان المسلمين إلى استلام السلطة في نهاية الثورة، وهكذا بدأوا يسيرون على ضوء استراتيجية عامة تقوم على تحالف رخو بين واجهات يسارية أو ليبرالية بغرض مماثلة التجربة التونسية التي بدا الإخوان متشوفين لاستنساخها في بلد يعج مجتمعه بمختلف التوجهات السياسية، واستعادة النفوذ في الداخل عبر حملات الإغاثة لضحايا الثورة، وتقديم الدعم اللوجستي للثوار في مدن إدلب وحماة على نحو خاص، حيث يمتلكون النفوذ الأكبر. وقد ظهر واضحاً تأثير الانقسام المناطقي الحلبي - الحموي في قيادة الإخوان، في تدني حصة مدينة حلب والمناطق الشرقية من الدعم الإغاثي واللوجستي قياساً إلى مدينتي حماة وإدلب. وقد أدى هذا الانقسام المناطقي مع تطور أحداث الثورة إلى ظهور تنظيم جديد يعتمد على العنصر الحلبي (الجيل الثاني من إخوان الثمانينات) وعلى دعم الآباء الروحيين (علي البيانوني وزهير سالم) بشكل رئيسي، هو "مجموعة العمل الوطني" (يتزعمها أحمد رمضان)، ومن الواضح أن ثمة محاولة لتعميق الطابع المدني من خلال الاسم الذي ابتعد عن تضمين أي لفظ يشير إلى إسلامية التنظيم، لكن هذا التنظيم مازال ضعيفا للغاية في التأثير على الداخل، ويكاد نشاطه أن يكون محصوراً في الجالية السورية في الأردن والخليج. في مقابل ذلك، عاد عصام العطار القيادي الشامي الكاريزمي للظهور من جديد، وعادت مجموعته (الطلائع الإسلامية) للنشاط داخل سورية، غير أن إمكاناتها محدودة، وهامش قدرتها على النشاط داخل العاصمة دمشق (المعقل الرئيس لها) مازال ضعيفاً لا يوازي إطلاقاً حجم الدور الذي يلعبه التنظيم الأم: الإخوان المسلمون. الإسلام السياسي: أصوات متعددة لطالما استند الإخوان المسلمون عموماً في طموحهم إلى فرضية - روجها النظام وروجوها هم أنفسهم – تمثيلهم الإسلام السني، بحيث يكونون حامله الوحيد المحتمل، وخلو الحياة السياسية من تنظيم إسلامي سياسي منافس، لكن هذا صار مختلفاً، فقد بدأت بعد الثورة تنظيمات إسلامية سياسية جديدة بالتشكل أو عادت أخرى للبروز، (التيار الوطني، الإسلاميون الأكراد، والكتلة التركمانية السورية الوطنية)، في حين بدأت تنظيمات إسلامية وسطية نشأت في منتصف العقد الأول من الألفية الثانية بالتفكك دون أن يظهر لها تأثير ما في الثورة (حركة العدالة والبناء، وحدة العمل الوطني لكورد سورية). المفاجئ ربما هو ظهور انشقاق في الحركة النسوية الإسلامية (القبيسيات)، تحت ضغط وتأثير تطور أحداث الثورة، فقد عملت الجماعة بشكل شديد الوضوح على الابتعاد عن أي موقف سياسي مع الثورة أو مع النظام، إلا أن ما يجري على الأرض لم يكن يسمح بضبط كامل للتنظيم، فقد كان لا بد للبعض من اتخاذ موقف واضح من الثورة. هكذا ظهر تنظيم نسوي جديد تحت اسم "حرائر القبيسيات" في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2011، يعمل على دعم الثورة، لكن من غير الواضح حتى الآن مدى تماسكه وتأثيره. الإسلام السياسي في سورية إلى أين؟ عملت الثورة على فرز حاد بين من هم "مع" وبين من هم "ضد"، دفع هذا بالقيادات الدينية المستقلة وقيادات الحركات الإسلامية الاجتماعية التي كانت دائماً تعلن اعتراضاتها على السياسات الحكومية إلى موقف أكثر وضوحاً في معارضة النظام، فبرز في وقت مبكر نسبياً (الشيخ كريِّم راجح، والشيخان سارية وأسامة الرفاعي (جماعة زيد)، والشيخ إبراهيم سلقيني، والشيخ أحمد الصياصنة)، بشكل خاص في دمشق وحلب ودرعا. من المفيد هنا التنويه على أن جماعة كفتاروا التي تبعثرت بعد وفاة مؤسسها والتي عانت من تدخل النظام في قراراتها الإدارية والتنظيمية، انحاز العديد من أتباعها للثورة، وتحول بعضهم إلى قيادات لها في بعض المدن. ويمكن القول بأن سنة كاملة من عمر الثورة السلمية بدت ربيعاً لجماعة اللاعنف التي تتمثل أفكار المفكر الإسلامي المعروف جودت سعيد، لكن في نهاية سنة من القتل الممنهج وتصاعد العنف الوحشي ضد المتظاهرين العزل، إلى مرحلة قصف المدن بالدبابات والصواريخ ومدافع الهاون والمروحيات العسكرية، ومضادات الطيران لتخر البيوت فوق رؤوس ساكنيها، وعمليات القتل الطائفي الممنهج، وجد السوريون أنفسهم في نهاية المطاف مضطرين لحمل السلاح دفاعاً عن أنفسهم مع تباطؤ المجتمع الدولي في التحرك لحمايتهم، وبدأ يتحول ربيع هذا التيار الإسلامي الفريد، الداعي إلى اللاعنف، إلى شتاء قارس لكنه خلف وراءه تنظيمات مدنية ذات طابع سياسي لدعم الثورة، مثل "الحراك السلمي السوري" وهو تنظيم من تنظيمات المجتمع المدني يهدف إلى تعميق الطابع المدني الديمقراطي للحراك الثوري وسورية ما بعد الثورة، فلعب دوراً متميزاً في التظاهر السلمي وتطوير تكتيكاته. كلما زاد القمع تطلبت مقاومته خطاباً حاسماً قادراً على دفع الناس إلى التضحية والصمود في وجه القمع الوحشي، وهذا سيؤدي بطبيعة الحال إلى نمو الخطاب المتشدد، وفي الوقت نفسه سيتمتع القادة العسكريون بفرصة كبيرة للتحكم بالمرحلة الانتقالية، ومن الطبيعي والحال هذه أنه إذا استمر العنف على هذا النحو أن يصبح للخطاب السلفي ظهور أكبر كلما تأخر التدخل الدولي والتسليح المنظم للمعارضة تحت مظلة وطنية، لكن باعتبار أن هذا الخطاب لا توجد له قواعد اجتماعية واسعة، ولا تنظيمات سابقة، ولا ينسجم مع المزاج العام المائل إلى نوع من الليبرالية المحافظة فإن دوره العسكري المتزايد لن يوازيه على الأرجح دور سياسي كبير. على أنه سيكون في المرحلة الانتقالية، للإخوان المسلمين دور واضح، وكذلك للتنظيمات الإسلامية الجديدة ذات الطابع الوسطي دور بارز وإن كان بدرجة أقل، لكن لن يكون دور الإخوان المسلمين أنفسهم في سورية بحجم ما حصل في تونس وليبيا ومصر، نظراً لإسهام التنظيمات اليسارية والقومية الأخرى في الثورة التي عززت طابع الثورة المدني خلال سنة من عمر الثورة. التطور الجديد المتمثل في حصول تفجيرات ضخمة يثير شكوكا كثيرة جداً في الجهة التي تقف وراءها، المعارضة اتهمت النظام السوري لأنه المستفيد الوحيد منها، ولا يمكن أن تستهدف المعارضة نفسها بعد كل هذا القتل، والنظام يلقي اللوم على تنظيم القاعدة، ليقنع المجتمع الدولي بأن الأمور بدأت تفلت وأن من مصلحة المجتمع الدولي إبقاء النظام؛ لأن بديله طوفان العنف الأعمى، مستفيداً من الذاكرة الأمريكية الطرية في العراق، وبغض النظر عن صحة دعوى أيِ من الطرفين فإنه من المحتمل أن بعض التفجيرات قامت بها جهة تنتسب للقاعدة فعلاً لكنها مخترقة من قبل النظام على الأرجح، فمن المعروف أن النظام أطلق عناصر تنظيم القاعدة التي كانت معتقلة لديه، وبشكل خاص الأجانب، وأخرج أبو مصعب السوري (مصطفى ست مريم مزيك) أحد منظري القاعدة البارزين من سجنه (ما يزال في الإقامة الجبرية) مؤخراً، في رسالة واضحة للمجتمع الدولي بأنه مستعد إلى تحويل البلاد جحيما وجر المنطقة كلها معه إلى هاوية العنف، ويبدو الأمر كالمسح على المصباح لاستخراج المارد، لكن هذا المارد لا توجد دلائل متينة على خروجه، لكنه إن خرج فعلاً ومتأخراً فقد ينقلب على مولاه، إذا ما اقتنع المجتمع الدولي أن لعبة النظام مع القاعدة قد تجر المنطقة بالفعل إلى خراب وبالتالي يقتنع بضرورة العمل العسكري للتخلص من النظام قبل أن ينجح في إغراق المنطقة في العنف. نشر في مركز الجزيرة للدراسات بتاريخ 21.05.2012
21-05-2012 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=918 |