/
هيجل و الآخر: الكونية المعطوبة
عبد الواحد العلمي
في رسالة إلى صديقه العالم الفيزيائي توماس يوهان سيبيك (1770-1831)كتب جوته ، غير مخف هلعه و صدمته الكبرى مما كتبه صديقه الفيلسوف هيجل : "إنه بالصدفة سقط بين يدي مقطع من مقدمة كتاب (منطق هيجل ) و هو يصرح ما يلي"يختفي البرعم مع تبرعم الوردة و نستطيع القول إن أحدهما نقيض للآخر، و بنفس الطريقة تعلن الثمرة أن الوردة إنما هي وجود مزيف ينبثق عن النبتة ، تأخذ الثمرة مكان الوردة فالأولى حقيقة للثانية .إن هذه الأشكال يدفع بعضها البعض لأنها غير متطابقة ، لكن طبائعها السيالة تجعل منها في نفس الآن لحظات من الوحدة العضوية حيث لا تتناقض فيما بينها و حيث وجود الأولى ضروري لوجود الثانية.إن الحياة في كليتها تتشكل عن طريق هذه الضرورة فقط . إنه ليس في الإمكان إبداع قول أكثر بشاعة مثل هذا ، ها هنا إرادة تدمير أزلية الطبيعة عن طريق مزحة سخيفة و مصطنعة .و غير لائق تماما أن يصدر كلام مثل هذا عن رجل عاقل ." وبأسى كبير يختم جوته تعليقه قائلا: "سأكون آسف جدا إذا اضطررت إلى خسارة رجل مثل هيجل ..فماذا يمكن أن أؤمل في منطق ورد في مقدمة نجد فيها تعبيرات تافهة عن استنتاجات جيدة و صحيحة مستخلصة عن مقدمات مغلوطة"(1) تعمد جوته التعبير عن الصدمة التي أحدثتها فيه صور هيجل بنفس التعبيرات الجدلية التي عبر بها هيجل عن علاقة الوردة بالنبتة و الثمرة فجمع في جملة واحدة بين مصطلحات مثل الجودة و التفاهة و الصحة و الغلط . إن ما أرعب جوته في فكر هيجل هو منطق الإقصاء و الإعدام الذي لا يتجلى فقط في الصورة المجازية/الحقيقية حسب هيجل الدالة على الصراع القائم داخل النبتة و الذي بموجبه تقصي الوردة البرعم و "تعدمه " بل أيضا تلك "البنية الفلسفية" التي نراها تنسج رؤية هيجل ،حيث باسم الجدل الجامع بين الشيء و نقيضه المؤدي إلى التجاوز و التركيب تطفح نزعة إقصائية و عنيفة تجاه الوجود و الطبيعة و الأشياء. من جهتنا نعتقد أن صورة النبتة المحتوية على صراع إقصائي بين الوردة و البرعم تلخص فلسفة هيجل في الهوية و الغيرية خير تلخيص .فلا هوية من غير صراع مع الغير و لا غيرية إلا و فيها إقصاء بل وإعدام ، و الإعدام هنا ليس مجازيا فحسب ، و لو أنه داخل فلسفة هيجل من الصعب التمييز بين المجازي و الحقيقي أليس" كل ما هو واقعي هو عقلي و كل ما هو عقلي واقعي"(2)، بل إن الإعدام والإقصاء من صميم "أدوات" الروح المطلق المتمظهر في التاريخ و به . الروح الكوني و صيرورة الإقصاء في إطار بحثه عن أشكال تحقق العقل في التاريخ أو قل تمظهر الروح المطلق عبر التاريخ ، يدعو هيجل قارئه في كتابه "محاضرات في فلسفة التاريخ" إلى سفر طويل عبر التاريخ البشري . إن هيجل يروم من خلال هذا السفر ،في إطار فلسفته للتاريخ، أن يبين لنا، إضافة إلى طبيعة صيرورة التاريخ نحو التحقق الذاتي للعقل أو الروح المطلق ، تاريخ الصيرورة العقلية للجنس البشري لأن تموضع الفكرة لا يتم فقط عبر الصيرورة الفيزيائية و البيولوجية للطبيعة و إنما بدرجة أعلى من خلال صيرورة هذا الكائن المتميز الذي هو الانسان . إن هذا السفر عبر التاريخ الكوني و العالمي محكوم بغائية مسبقة إذن، بل إنه مسبوق بحكم من قبل الفيلسوف ذاته أي هيجل ، ألم يبن هيجل فلسفته للتاريخ عبر استقراء ه أو بالأحرى استقراء مظاهر حضور الروح المطلق فيه؟ لهذا فحكم الفيلسوف أو معرفته للتاريخ ستكون مؤطرة و موجهة لهذا السفر. وهذا ما يعلل إقصاءه منذ البداية للشعوب التي لم يكن لها إسهام في الدفع بالتاريخ نحو التحقق في الكوني أو بكل بساطة لم يكن لها تاريخ .و قد اتخذ هذا الحق في الإقصاء بناء على اعتبارات جغرافية لفلسفته في التاريخ، فالشروط الجغرافية من أرض و طقس تلعب دورا كبيرا في التاريخ بما أنها تحدد روح وطبائع الشعوب و بالتالي مكانتهم في التاريخ الكوني(3). يقصي هيجل إذن منذ البداية المناطق ( بشعوبها طبعا )التي،و بحسب المحددات الجغرافية التي وضعها هو، لم و لن يمكنها أن تساعد أو توفر شروط ظهور مساهمة حقيقية في مسيرة الروح الكوني.هذه المناطق هي، حسب تقديره، في الغالب المناطق الشديدة البرودة أو الشديدة الحرارة . إن هذه المناطق ليست مؤهلة حسب هيجل لتحتضن شعوبا تاريخية أي شعوبا تساهم في تسريع وتيرة تحقق العقل المطلق أو الروح الكوني الذي يشكل منطق التاريخ و ضامن صيرورته.ذلك لأن الظروف الطبيعية القاسية تجعلها تتجمد في حياة بدائية لا تقوم إلا على محاولة تحقيق الحاجيات الأولية و البدائية للإنسان ، و الإنسان بذلك لا يجد الحرية المطلوبة من أجل الحركة والفعل في التاريخ و يبقى دائما مشدودا إلى "الطبيعة" (4).فلا مجال إذن للروح المطلق أمام الانشداد إلى الضرورة والطبيعة إلا أن ينزوي و ينحسر.و هكذا يكون مسرح التاريخ الكوني الذي يشكل بدوره مسرحا للروح الكوني حكرا على شعوب"المناطق المعتدلة".لكن الاعتدال ليس سواء ، فالمناطق المعتدلة في الشمال أقدر وأنسب من المناطق المعتدلة في الجنوب .و يمكن طبعا أن نفهم تماما إلى ما يرمي إليه فيلسوف يينا وإلى ما يهيئ له القارئ.إن الاكتفاء بقراءة الشروط الجغرافية و المناخية التي حددها هيجل يمكن أن يدع العنان للاستنتاج المنطقي القائل مثلا إن أغلب المناطق الأمريكية باعتدال مناخها المعروف لا يمكن إلا أن تكون مهدا لبزوغ شعوب تاريخية لها نصيب من كعكة الروح الكوني هذه ، لكن هيجل سرعان ما سيوقف عنان منطقنا عند شروعه في هذا السفر الفلسفي. هكذا إذن يدعونا إلى تتبع ملحمة الروح المطلق عبر تاريخ الشعوب و الحضارات التي توفرت فيها الشروط التاريخية و الجغرافية المحددة أعلاه .يسمي هيجل الشعوب الفعالة في التاريخ ب"الشعوب التاريخية" أما الشعوب التي لم يكن لها نصيب و لا حظ في هذا الدور التاريخي فيسميها بالشعوب "الخارجة عن التاريخ" أو اللاتاريخية . اكتشاف أمريكا.."العالم الجديد" لكن و كما أشرنا إلى ذلك سابقا لا يذهب هيجل بمنطقه الجغرافي إلى نهايته الطبيعية والمنطقية .ففي ما يتعلق بالقارة الأمريكية التي تستجيب بدون شك للشروط الجغرافية التي وضعها، أي باعتبارها معتدلة المناخ منتمية إلى شمال الكوكب الأرضي، يعمد هيجل منذ البداية إلى التمييز بين العالم القديم والعالم الجديد (5) .قد نفهم أن مسمى العالم الجديد مرده إلى حداثة اكتشاف أمريكا من قبل كريستوف كولومبوس ، وذلك ما درج عليه الأوربيون منذ ذك الاكتشاف ، لكن هيجل يصر على أن هذا العالم حديث بالمعنى المادي الفيزيقي أيضا .إن هيجل يطابق، دون أدنى إحراج ، بين الجدة الاستكشافية لهذه القارة والجدة الجغرافية..أو بالأحرى إن الجدة الجغرافية تطابق الجدة الاستعمارية من قبل الأوربيين لهذه القارة.يقول هيجل:"إن العالم الجديد جديد بمعنى الكلمة وليس نسبيا فقط. لكنه جديد من جميع النواحي أي بكل مكوناته الخاصة الفيزيقية منها و السياسية.إن قدامته الجيولوجية لا تهمنا .و لا أريد أن أنزع عنه هو أيضا شرف الارتفاع عن الماء منذ خلق العالم.لكن يمكننا القول إن الأرخبيل الواقع بين أمريكا الجنوبية و آسيا يظهر عليه بعض عدم النضوج الفيزيقي أيضا: إن الجزء الأكبر من الجزر يقف على شعب المرجان ، و بما أن هذه الجزر لا تشكل بشكل ما إلا غطاء أرضيا لصخور انبثقت عن هوة بدون عمق ، فإنه يظهر عليها طابع التكوين المتأخر."(6) و هكذا لا توجد أمريكا القديمة بالنسبة لهيجل، وإذا وجدت فإنها في طريقها إلى الزوال إذ لا بد أن تزول بمجرد لقائها مع الغرب ، يقول هيجل في هذا الصدد :"لدينا بالتأكيد معلومات عن أمريكا وحضارتها خاصة عن المكسيك والبيرو لكنها تنبؤنا ببساطة أن هذه الحضارة كانت طبيعية و إنها انهارت بمجرد اقتراب الروح منها.إن أمريكا أظهرت دائما و ما زالت تظهر عجزا سواء على المستوى الفيزيائي أو على المستوى الأخلاقي" ويضيف هيجل بروح من الثقة بالنفس عجيبة"إنه منذ أن جاء الأوربيون إلى أمريكا بدا السكان المحليون في الاضمحلال شيئا فشيئا بسبب نفس نشاط الأوربيين"(7) و بروح عجيبة البرودة يخبرنا هيجل أنه فيما يتعلق بالسكان الأصليين في أمريكا "لم يبق إلا القليل من سلالاتهم "و أن "سبعة ملايين منهم أعدموا ".و دون أدنى مواربة أو تردد يعلل سبب اختفائهم بضعف تكوينهم الإنساني و بدونيتهم أمام التفوق الحضاري و الثقافي للأوربيين"و هكذا ففي الدول الحرة في أمريكا الشمالية جميع المواطنين هم من أصل أوروبي و لم يستطع السكان القدماء أن يختلطوا بهم".(8) هكذا يمرر هيجل أولا، في صمت، تلك المذابح البشعة التي ارتكبت في حق السكان الأصليين للقارة الأمريكية بل و "ينجح" في حذلقة عجيبة و مقلقة في تنزيل مفردات فلسفته النسقية على هذا الواقع ، فتتبدى فلسفة تبريرية لا غبار على نزعتها التبريرية ، فأمام الروح المطلق أو العقل الكوني الذي يجسده الأوربيون في هذه المرحلة لا مهرب إلا التلاشي الفيزيقي و المعنوي. طبعا إن هيجل لا يعلل لنا بوضوح كيف لم تتح الجغرافية المعتدلة لهؤلاء السكان الأصليين الارتفاع إلى مرتبة الشعوب التاريخية التي لها حظ في التعجيل بتحقق الروح المطلق في التاريخ و لا حتى بلغت درجة الشعوب "المساعدة" للشعوب التاريخية. لهذا نراه كما سبق الذكر يقلل من أهمية تاريخهم و حضارتهم ، و نراه لا يكتفي بذلك بل إنه بعد تعليل اضمحلالهم و تلاشيهم من ساحة التاريخ يظهر حتمية و ضرورة اختفائهم ما داموا أقرب إلى الطبيعة و أبعد عن تسامي الروح الكوني.بدا كأن اختفائهم يمثل لهيجل ضرورة "أنطولوجية" لتحقق نسقه الفلسفي .إنه لعمري لتغريد بومة مينرفا بعد غروب الشمس(9).نقصد بذلك أن الملمح التبريري طفح بشكل كبير في هذا السفر الفلسفي الذي لم يكلف صاحبه تطعيمه بسفر "إنساني" يسافر بموجبه نحو الآخرين عوض قولبتهم في مقولات فلسفية هلامية و متوحشة وحشية النسق الفلسفي الهيجيلي ذاته. لقد أمعن هيجل في تصوير دونية السكان الأصليين ليعلي من شأن الوافدين الأوربيين في حركة "جدلية" ناجحة يقول "إن الوداعة و النقص في العفوية و الوضاعة مع خضوع حسير،هذه هي الخاصية الرئيسية للأمريكيين(السكان الأصليين) و يجب الانتظار طويلا حتى يستطيع الأوربيون أن يمنحوهم قليلا من الكرامة الشخصية.إن أمر دونية هؤلاء الأفراد في كل الأحوال، حتى بالنسبة لقاماتهم، ظاهر كل الظهور"(10).إن نبرة هيجل تدل على إمعان في الرغبة "الفلسفية" و السياسية في تصفية هؤلاء الأقوام ، إن كل ما يقوله و يكتبه في الصفحات المخصصة لهم في "العقل في التاريخ" و "محاضرات في فلسفة التاريخ" ينم عن أن الواقعي صار عقليا في ذهن هيجل لكن العقلي فشل فشلا ذريعا في التحقق داخل "واقع" الفلسفة الهيجيلية. و من المفارقات التي تقبع في خطاب هيجل هنا هي اتسامه بنزعة ضد-طبيعية واضحة و معلن عنها ، لكن في نفس الوقت إنه يعتبر من الطبيعي جدا أن "يسحق" الروحي الكوني المطلق المتجلي في "النشاط الحيوي" للأوربيين هؤلاء الأقوام الدونيون . إفريقيا..الرجل "الطبيعي" سوف يواصل هيجل رحلته الفلسفية هذه ليتحدث عن شعوب تاريخية و أخرى غير تاريخية ، و هذه المرة ستحط رحال بومته في إفريقيا، و هو يبدأ كلامه عنها بقوله:"إن إفريقيا بصفة عامة هي البلد المنطوي على نفسه و الذي يواصل هذا الطابع الرئيسي الذي هو التمركز على الذات."(11) ينعت هيجل الرجل الإفريقي بالرجل"الطبيعي بدرجة أولى"، و قد رأينا أن الدنو من الحالة الطبيعية عند هيجل ترادف الدونية ."إن الرجل الإفريقي يمثل الرجل الطبيعي بكل وحشيته و نزقه.إذا أردنا فهمه يجب تناسي كل طرائق رؤيتنا للأشياء نحن الأوربيون.يجب ألا نفكر لا في إله روحي و لا في قانون أخلاقي، يجب تعليق كل احترام و كل أخلاق لما نسميه مشاعر .كل ذلك ينقص الإنسان (الإفريقي ) الذي ما زال في مرحلة خام.لا يمكن أن نجد في طبعه ما يمكن أن يذكرنا بالإنسان"(12) و لعله لذلك لا يمكننا بأي حال من الأحوال أن " نتقمص طبيعته، بنفس الطريقة التي لا يمكننا بها أن نتقمص طبيعة كلب"(13).و هكذا ينزع هيجل الإنسانية عن الرجل الإفريقي .و هو يستحق ذلك لأنه هو نفسه يحتقر ذاته يقول هيجل: "يكتسب السود هذا الاحتقار الكامل للإنسان .و هذا الاحتقار شرط أساسي عندهم في القانون والأخلاق.أما أزلية الروح فمجهولة عندهم رغم أننا نجد لديهم أشباح الموتى.و تصل لا قيمة الإنسان عندهم درجة لا تتصور، فالاستبداد لا ينظر له كظلم و هو منتشر بشكل كبير و هو يبيح أكل البشر."(14) لا يجد هيجل ضالته في إفريقيا السوداء بل بعكس ذلك انه يجد كل ما لا يناسب شروط انبثاق الروح الكوني . فإفريقيا مرتع للحيوانات الأكثر توحشا و شراسة و مناخها سام بالنسبة للأوربيين و هذا يطرح سؤالا ضمنيا بالنسبة لهيجل و هو كيف يتحمل هؤلاء الخلائق هذا المناخ المضاد للإنسان اللهم إلا إذا كانوا اقرب من حيث خصائصهم "الطبيعية" إلى هذه الطبيعة المحيطة بهم ، بمعنى آخر إلا إذا كانوا أقرب إلى الحيوانات التي استطاعت أن تتأقلم مع هذا المناخ.و هذا فعلا ما يحوم حوله هيجل و يدور بدون أن يصرح عنه بهذه العبارة المباشرة. يتحدث هيجل في سياق جولته الإفريقية عن الحس الغريزي البدائي الذي يمنع الأوربيين من أكل لحم البشر و يلمح بذلك إلى غياب هذا الحس الغريزي عند الكائن الإفريقي ، كما يرفع هيغل من فعل أكل لحم البشر إلى مبدأ عام و قار في الثقافة الإفريقية . يعرج هيجل على موضوع العبودية في "الحضارة"الإفريقية و يجعل منه "خاصية" افريقية بامتياز إذ إن "في كل الممالك الإفريقية المعروفة تشكل العبودية مؤسسة محلية و هي تطغى بشكل طبيعي"(15).لهذا فهو بعد أن يخبرنا أن الأوروبيين يبيعون الأفارقة كعبيد في القارة الأمريكية يعلق على ذلك قائلا "مع ذلك فمصيرهم في بلدانهم الأصلية أنكى و أشد بسبب وجود عبودية مطلقة أيضا"(16). و قول هيجل يعبر طيا عما يعبر عنه في مواضع أخرى صراحة ،فالأوربيون باستعباد الأفارقة و بيعهم بعيدا عن بلدانهم الأصلية يسدون خدمة جليلة لهم و ينتشلونهم من عبودية محلية قاسية لا قبل لهم بمعاناتها.بل إن هيجل يذهب بعيدا في هذا السياق و يقرر أن الاستعباد يؤدي إلى ظهور نوع من الإنسانية بين الأفارقة. يقول "العلاقة الوحيدة التي تربط السود و مازالت تربطهم بالأوربيين هي الاستعباد.لا يرى السود في الاستعباد ما لا يناسبهم.فهو ضروري بالنسبة للملوك لأنهم بموجبه يبيعون مساجين أعدائهم بل حتى بعض رعاياهم.و هكذا أنتج الاستعباد إنسانية أكثر بين السود"(17).لهذا يعارض هيجل القضاء على العبودية بشكل فوري فلا بد للعبد أن يصير ناضجا و يتعلم الحرية أولا ، فرغم أن العبودية في ذاتها فيها ظلم فلا ينبغي إلغائها مرة واحدة لا بد في الأمر من تدريج. و قد فسر هيجل مسألة تعدد الزوجات المنتشرة في إفريقيا بعامل الحاجة في بيع الأولاد يقول" إن الآباء يبيعون أطفالهم و قد نجد العكس أيضا ..ذلك يتعلق بمسألة من سيظفر الأول بالآخر..و ظاهرة تعدد الزوجات وجدت بهدف الحصول على كثير من الأطفال حتى يتم بيعهم كعبيد".بل "إننا نسمع كثيرا عن شكاوى ساذجة، مثل تلك التي صدرت عن رجل أسود في لندن و هو يرثي حاله لأنه أصبح فقيرا تماما لأنه باع كل أفراد عائلته و لم يبق له ما يبيعه".(18)و إن المرء ليستغرب كيف لرجل مثل هيجل في علمه و حصافته يوظف كلام الجرائد في تحليل إحدى أخطر الظواهر و كل ذلك في سياق تبريري لا يخفى. إن هيجل يذهب إذن بدون التباس إلى أن الإفريقي هو أصل العبودية و هو أصل استعباده لنفسه.و رغم أننا لا نجد كلاما واضحا عن العرق أو الأعراق عند هيجل إلا أن كل تحليلاته توحي بأنه كان يستبطن شيئا من هذا القبيل و يحاذيه في مختلف تحليلاته و وقفاته عند ثقافات الشعوب، و إلا كيف نفسر تراجعه عن المعايير الجغرافية المساعدة على الفاعلية الحضارية ،التي وضعها هو نفسه في بداية سفره الفلسفي عبر التاريخ، ثم التراجع عن ذلك عند السفر التطبيقي على الشعوب .كيف تكون القارة الأمريكية مناخيا معتدلة و منتمية للشمال المعتدل كما وصفه و لم يستطع شعوبها المساهمة في تحقيق الروح الكوني أو الدفع بعجلة التاريخ تجاهه؟ كيف يكون مناخ إفريقيا سام بالنسبة للأوربيين لكنه بغرابة كبيرة لا يقتل السكان الأصليين أي الأفارقة اللهم إلا إذا كانوا قريبين إلى الحيوانات المتوحشة المزدهر في أدغال هذه القارة؟ لا نحتاج إلى كثير من النباهة و نصيب من الذكاء كبير لنخمن مثلا أن هيجل لا يعارض الاستعمار و يبقى وفيا لمنطلقاته التي بها نظر إلى موضوع الإبادة الجماعية ضد الهنود الحمر و استعباد الأفارقة.. الشرق ..الروح الكوني "طفلا" يحط رحال هيجل بعد ذلك في آسيا .بعد الوصف الجغرافي لهذه القارة يخبرنا هيجل أن آسيا هي فعلا "بدايات كل المبادئ الدينية و السياسية ، لكن هذه المبادئ لن تتطور إلا في أوربا".و هيجل يكون بذلك وفيا لنظريته "البدائية" في نشوء و تطور و مسار الروح الكوني ، حيث يشبهه بمراحل حياة الإنسان .فلقد كانت طفولته في آسيا أي في الشرق و شبابه في عالم اليونان و رجولته في العالم الروماني وشيخوخته في الحضارة الجرمانية ."و هي صورة جميلة كما يقول فوزي بوبية إلا إنها ناقصة و مبتورة "على غرار الصور الأخرى التي نجدها في كتاباته الفلسفية " لأنه في الحالة الطبيعية "ينتظر من طفل شيء من الاكتمال إلا أن شرق هيجل لا يتحرك و لا يتطور.فهو يبقى محدودا كما القارة الإفريقية في مرحلة الطفولة و يمكث من ثمة في الدرجة الصفر من الكونية"(19) و قد يتعجب المرء كيف يضع هيجل العالم الجرماني موضع الشيخوخة وهي كما نعرف مرحلة ضعف و تقهقر إن لم تكن توقفا عن العطاء.إلا أن هيجل كعادته في قلب القواعد التي وضعها هو و في تقرير الاستثناءات (ضخمة في غالب الأحيان) كما رأينا في مسالة القارة الأمريكية المناسبة بالنسبة للأوربيين و الغير مناسبة بالنسبة للسكان الأصليين ، يقلب بغير حرج و لا تردد حقائق الشيخوخة و يقول"إن الشيخوخة الطبيعية (الفيزيقية) ضعف، لكن شيخوخة الفكر و الروح هي نضج مطلق فهو يعود من خلالها إلى الوحدة كفكر وكروح".(20) و هذا ديدن هيجل و لب فلسفته ، و قد أشرنا إلى ذلك في موضع سابق ، فهو يعتبر العالم الجرماني مصب الروح المطلق أو العقل المطلق و منتهى مساره ،من هنا مقولة نهاية التاريخ.و ما الروح المطلق مطبقا داخل الفلسفة السياسية لهيجل إلا الدولة البروسية لا غير.لهذا يكفى الشرق دوره الطفولي . وضمن رصده لمسارات و تجليات هذا الروح الكوني الذي ما هو في الحقيقة إلا الروح الجرماني ، يحلو لهيجل أن يبين لنا التمايزات و الفروق التي تطبع كل فترة من فترات هذه التجليات يقول "نستطيع تعريف الاختلاف ما بين الحرية في الشرق و في اليونان و نظيرتها في العالم الجرماني.في الشرق لا يوجد سوى الفرد الواحد هو الحر (المستبد).في اليونان الكثرة هي الحرة أما في البلاد الجرمانية فكل الأفراد أحرار، أي إن الإنسان حر لكونه إنسان"(21). ففي اليونان يبدأ عالم الحرية بل أساس الحرية ، ففيه تفكر الروح ذاتها ويحدس الفرد ذاته باعتباره كونيا. و يكمن الكوني في ذاتية كل فرد أي أن الفرد يعي ذاته في بعده الكوني و هذا ما لم يوجد في الشرق فهو لم يعرف فكرة الحرية أو قل إنه عرف حرية الفرد المطلق أي الحاكم المستبد الطاغية ، أما اليونان فقد عرف حرية طبقة اجتماعية معينة ،بينما سيكون العالم الجرماني الوحيد القادر على الوصول إلى نوع من الحرية للجميع.إن الاستبداد إذن كان من خواص العالم الشرقي أما ديمقراطية الأرستقراطية فقد وجدت في العالم اليوناني بينما الملكية في العالم الجرماني. لن يكون للشرق ، حسب هذه التراتبية، حظ في الاتصال بالروح الكوني فإضافة إلى أن الفرد فيه ينمحي باعتباره مجرد انعكاس للماهية فقد حدد هيجل الخصائص الأساسية لشعوب الشرق كما يلي : "فالطبع الشرقي ، تكون فيه الروح غارقة في الطبيعة و تعتبر الإرادة مجرد تابعة للنهائي. تريد الإرادة أن تكون نهائية مع أنها تدرك ذاتها بعد. بموجب ذلك لا يوجد إذن إلا فئتين: الأسياد و الخدم.هذا هو فلك الاستبداد. و بما أن التعبير عن ذلك يتم بواسطة المشاعر فهذا يعني أن الخوف هو المقولة السائدة..و ما يسيطر في الشرق هو إذن الخوف و الاستبداد.."(22) و لكي تكتمل اللوحة و تزيد في قتامة صورة الشرق و تتم عليه لعنة الروح الكوني و العقل المطلق لا يجد هيجل في الدين الشرقي إلا "التوكل على الحسية الأكثر عمقا والأكثر غلظة كعبادة و نجد فيه، من جهة ثانية اللجوء إلى أقصى درجات التجريد و أفرغها. و من ثم السقوط في الانتفاء الخالص أي العدم و هو التسامي الذي يعني التخلي عن كل محسوس"(23) إن الفكر في الشرق "غيبي تماما و ماهوي بلا تقدم ولا تطور و هو على حاله كما كان في السابق منذ آلاف من السنين".(24) خاتمة نستطيع القول بدون مجازفة إن التجربة الفلسفية الغيرية عند هيجل تنم عن كثير من الاختزال والقولبة الماهوية للآخر.فدائما ينزع إلى البحث عن ماهية ثابتة للآخر يختزله فيها يقولبه على منوالها بدون أدنى حرج أو تريث في الأحكام و التقييم.ورغم أنه أكثر الفلاسفة بحثا عن تجليات ما أسماه داخل نسقه الفلسفي بالروح الكوني أو العقل المطلق إلا أنه أشدهم اختزالا للآخر و أكثرهم تبريرا للنزعة الفوقية التي سادت خطاب الغرب تجاه باقي العالم. هوامش: 1)Goethe , Briefe An Seebeck. ذكره فوزي بوبيبة في كتابه: La pensée de l’universel, Editions Marsam 2007 p94 2) « Was vernünftig ist, das ist wirklich ; und was wirklich ist, das ist vernünftig ». 3) Hegel, Georg Wilhelm Friedrich, Philosophie de l’histoire [Paris] : Presses universitaires de France, 1975 p24 4) Philosophie de l’histoire p67 5)Hegel, La Raison dans l’histoire 10/18 p230 6)Raison dans l’histoire p 7) Philosophie de l’histoire, p68 8)La Raison dans l’histoire, p 9) يقول هيجل "إن بومة مينرفا لا تشرع في الطيران إلا حينما يرخي الليل سدوله " إن هذه العبارة من العبارات المشهورة لهيجل حيث بومة منيرفا ترمز إلى الفلسفة أو الحكمة و حدوث الليل يرمز الى الحوادث و معنى العبارة الكلي أن الفلسفة لا تأتي إلا بعد الأحداث لتعقلها و تفلسفها.أما منيرفا فهي إلهة الحكمة و العلوم عند اليونان. 10)Philosophie de l’histoire p68 11)La Raison dans l’histoire p 12)Philosophie de l’histoire p76 13)La raison dans l’histoire p251 14)Ibid p251 15La Raison dans l’histoirep260 16)Philosophie de l’histoire p70 17) ibid p79 18)ibid p77 19) Fawzi Boubia : La pensée de l’universel p31 20)philosophie de l’histoire p55 21)Leçon sur l’histoire de la philosophie Vol II Gallimard Trad. Gibelin, 1954 p24 22)ibid p16 و انظر تحليل هذه الآراء العنصرية الواضحة عند ميشيل هولان في : Hulin, Michel, Hegel et l'Orient : suivi de la traduction annotée d'un essai de Hegel sur la Bhagavad-gî, Vrin 1979. p 33 23)ibid p17 24)ibid p25-26 لائحة المراجع : ▪Boubia ,Fawzi, La pensée de l’universel, Editions Marsam , série « Sciences en société », 1993. ▪Hegel, Georg Wilhelm Friedrich, Philosophie de l’histoire [Paris] : Presses universitaires de France, 1975 . ▪Hegel, La Raison dans l’histoire 10/18.Paris.1983. ▪Hegel, Leçon sur l’histoire de la philosophie Vol II Gallimard Trad. Gibelin ▪Hulin, Michel, Hegel et l'Orient : suivi de la traduction annotée d'un essai de Hegel sur la Bhagavad-gî, Vrin 1979.
31-10-2015 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=919 |