/
"الحداثة والهوكوست" لـ زيجمونت باومان: دروس لحاضرنا العربي
عبد الرحمن حللي
تكاد تنحصر الصورة الذهنية عن الاستبداد في شخص المستبد الفرد الذي يبدو في رأس الهرم يُحكِم السيطرة على منظومة محكمة التماسك يصعب انهيارها أو تفكيكها، وغالباً ما تسقط هذه المنظومة فجأة بسقوط مرتكزها الأساسي زعيمها الفرد، لكن بنية الاستبداد لا تتوانى عن إعادة تركيب نفسها وفرز رؤوس جديدة لها تنطق باسمها، وفي كلا الحالتين فإن المستبد المؤسس أو البديل المعبر عن المنظومة يستندان إلى عقلية واحدة ومرتكزات توطد أركانه وتبعد عنه مخاطر التفكك والانهيار، ولعل الجرائم والمجازر تعد من أهم هذه المرتكزات، سواء لإحكام تماسك أنصاره وإشراكهم في المسؤولية أو لإرهاب ضحاياه من أن يفكروا بما فكر به ضحايا المجازر، وقد اتجهت كثير من الدراسات إلى تحليل شخصية المستبد ودراستها، لكن قلة من تلك الدراسات من نظرت إلى الدائرة الأوسع التي توطد سلطة المستبد وترسخها، فما كان للفرد أن يتحول إلى دكتاتور من دون جماعة أو جماعات شاركت في صنعه وانتفعت بصعوده، لكن الأهم الذي يستحق النظر والتحليل هو الدور الذي تؤديه المؤسسات التي تبدو محايدة في تكريس الاستبداد أو تنفيذ جرائمه، بل إن ما هو أهم وأدعى للنظر الدور الذي يلعبه الضحايا أنفسهم في الوقت الذي ينتظرون فيه دورهم على مذبح الاستبداد، فلا يقف دورهم على صناعة المستبد فقط بل في المشاركة في تنفيذ جرائمه بحق أسلافهم، لكن مسؤولية المستبد الفرد عن جرائمه لا تقلل من قبحها مسؤولية المنظومة التي يعتمد عليها، فهي شريكة في لائحة الاتهام وإن اختلفت درجة المسؤولية، بل إن دورها قد يكون أخطر بعد القضاء على رأس الهرم، لذا كان من الطبيعي أن تتبع كل ثورة من أجل الحرية ثورات مضادة لاستعادة العبيد إلى حظيرة الاستبداد. ظاهرة الاستبداد المنظومة التي جلَّاها الربيع العربي ستجد نموذجاً تفسيرياً لها في تجربة غربية أخذت صورة نمطية في العالم، وهي "الهولوكست" الذي تم قصر المسؤولية عنه على رأس الهرم (النازية وهتلر) وتوسيع دائرة الضحايا لتشمل كل اليهود في العالم، حسب المرحوم عبد الوهاب المسيري الذي اعتمد في منهجه التفسيري على عالم الاجتماع اليهودي البولندي زيجمونت باومان "Zygmunt Bauman" الذي درس الظاهرة في كتابه "الحداثة الهولوكوست/ Modernity and the Holocaust"، الذي ظهرت طبعته الأولى عام 1989، وأعيدت طباعته أكثر من عشرة مرات، وترجماه مؤخراً حجاج أبو جبر ودينا رمضان، وصدرت ترجمته عن دار مدارات للأبحاث والنشر بالقاهرة، 2014 ، في 367 صفحة، ويقع الكتاب في سبعة فصول، إضافة إلى تمهيد وخاتمة. اعتنق زيجمونت باومان (الذي نجا وأسرته من معسكرات الاعتقال والإبادة النازية)، الشيوعية أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، وفي نهاية التسعينيات، كان باومان مناضلاً ومؤثراً في حركة مضادة للعولمة، يحاول زيجمونت باومان في كتابه هذا دراسة الهولوكوست وعلل استحواذه كل الاهتمام دونًا عن الجرائم التي اقترفتها الإمبريالية الغربية، وتناسِي ما يقرُب من خمسة عشر مليونًا آخرين ذبحتهم النازية أيضًا، ويبرز علاقة الهولوكوست العميقة بالحداثة، ويرى أنه مهما بلغ خيال هتلر من الحيوية، ما كان لينجز إلا قليلاً لولا أن الجهاز البيروقراطي الضخم ترجم هذا الخيال إلى عملية علمية عقلانية، فثمة تعاون كامل بين مؤسسات "العلم" الألمانية، وبيروقراطية الدولة النازية، ويرفض باومان التعامل مع الهولوكوست على أنها مسألة يهودية أو خطيئة ألمانية، فالهولوكوست لم تتعارض في أية مرحلة من مراحل تنفيذها مع مبادئ العقلانية والحداثة. وإنما هي إمكانية كامنة ظهرت في مجتمع الحداثة العقلاني التنويري الذى يتسلح بالعلم والتكنولوجيا، ويسعى باومان من خلال إبراز هذه الحقائق إلى تأكيد أنَّ المهمة السياسيَّة والأخلاقيَّة الحقيقيَّة هي نقد عمل المؤسَّسَاتِ التي تبدو محايدة ومستقلَّة، بطريقةٍ ترفعُ النقاب عن العنفِ والقهرِ اللذين مورِسا دوماً عبرها. هذا النقد الذي يقدمه باومان للحداثة الغربية وطريقة تناوله للهولوكوست يتضمن الكثير من الدروس لحاضرنا العربي الذي عاش "الهولوكست" الخاص به بشكل بطيء وعلى مدار عقود وبدأ يتسارع في السنوات الأخيرة، في مسرح يعاد فيه تمثيل الأدوار التاريخية للهولوكست، فلم تختلف أدوار كثير من المؤسسات الدينية الرسمية وزعماء الجماعات في حاضرنا عن أدوار شبيهة لقادة الجماعات اليهودية إبان الهولوكست فقد "قام قادة الجماعات اليهودية بمعظم المهام البيروقراطية التمهيدية، فأمدوا النازيين بكل السجلات، وأعدوا الملفات الخاصة بالضحايا المستهدفين، وأشرفوا على مهام الإنتاج والتوزيع اللازمة لإبقاء الضحايا على قيد الحياة حتى يحين وقت حصادهم وتكون أفران الغاز جاهزة لاستقبالهم. ناهيك عن مراقبة الشعب الأسير، وتطبيق القوانين والنظام عليه حتى لا يفلت زمام الأمور من أيديهم، وتوفير السبل اللازمة بحيث تتم عملية الإبادة بيسر وسلام" (ص206) "والمفارقة العجيبة أن موقف اليهود خلال المراحل الأولى من الحل النازي النهائي كان يشبه موقف أية جماعة مرؤوسة داخل نظام سلطة طبيعي لا موقف ضحايا يتعرضون للإبادة. لقد كان اليهود جزءاً من هذه الخطة الاجتماعية التي استهدفت القضاء عليهم، وكانت أعمالهم تشكل حلقة مهمة، وجزءاً لا يتجزأ من العملية كلها، وشرطاً أساسياً لنجاحها. إن الإبادة الجماعية "العادية" يجري فيها تقسيم المشتركين بوضوح إلى قتلة وقتلى، ورد الفعل العقلاني الأوحد للطرف الثاني هو المقاومة، لكن الهولوكست لم تكن بهذه البساطة. فالجماعات اليهودية أقحمت في العملية كلها، بل وشاركت فيها، وأسندت إليها المهام والأدوار، وكانت أمامها في ظاهر الأمر اختيارات. كما جاء تعاون اليهود مع عدوهم اللدود وقاتليهم وفق معايير عقلانية خاصة. وهكذا كان اليهود يعملون تحت سيطرة جلاديهم ويسهلون مهمتهم، ويحفرون قبورهم بأنفسهم، معتدين في ذلك بما يطلق عليه من وجهة عقلانية (الرغبة في البقاء على قيد الحياة)" (ص210)، ليس هذا حال زعماء الجماعات بل "كان عزل اليهود مصحوباً بصمت رهيب من النخب الألمانية" (ص214) التي عاشت معزولة عن القيم باسم العلم "فالجامعات الألمانية كانت مثل كل الجامعات في الدول الحديثة، إذ غرست النموذج العلمي كنشاط منفصل عن القيمة، وصبت اهتمامها على خدمة (مصالح المعرفة)، وتجاهلت أية مصالح أخرى قد تتصادم مع المصالح العلمية. وإذا أخذنا ذلك في الاعتبار، فلن نستغرب صمت النخب الألمانية في تنفيذ المهام النازية." (ص214)، ويصل باومان من تحليل هذه الأدوار إلى أن "أبشع الجرائم في تاريخ الإنسان لم ينشأ من كسر النظام، بل عن اتباع النظام بشدة وبلا أخطاء، فلم تكن الهولوكست جريمة ارتكبتها مجموعة من الغوغاء بل نفذتها مجموعة محترمة ومنظمة ترتدي زيًا رسميًا وتتبع القانون، وتتحرى الدقة في تعليماتها" (ص245) ، ويتابع تحليل هذا الانهيار الأخلاقي بعزوه إلى دور المنظومة البيروقراطية في تمييع المسؤولية واستعاضة القيم بالواجب العقلاني، ويعتمد في ذلك على تجربة (ميلغرام) التي اختبر فيها مدى استجابة من خضعوا للتجربة لأوامر بتعذيب متطوعين آخرين في التجربة عبر مستويات وأحوال مختلفة، وكانت النتائج مفاجئة في الجرأة على إلحاق الأذى عندما تغيب الضحية عن العين وعندما يحمل الغير المسؤولية، ويصل باومان بعد عرض نتائج هذه التجربة إلى أن "المسؤولية العائمة هي صلب الأعمال غير الأخلاقية أو غير الشرعية التي تتم من خلال المشاركة المطيعة، بل والطوعية، لأناس يعجزون بطبيعتهم عن مخالفة القواعد الأخلاقية، فالمسؤولية العائمة تعني عملياً أن السلطة الأخلاقية في حد ذاتها قد جرى إسقاطها دون مواجهتها أو إنكارها صراحة" (ص 258)، فالتراتب الإداري وسلطة الأوامر وعقلنة المصلحة والطاعة المطلقة تمكن المستبد من تطويع الناس بل وربما الضحايا أنفسهم للقيام بالدور القذر الذي يريده لهم، وينتهي باومان إلى أن "أشد ما يؤسف له السهولة التي ينزلق بها معظم الناس إلى الدور الذي يتطلب القسوة أو على الأقل العمى الأخلاقي – فقط - في حالة وجود سلطة عليا تدعم هذا الدور وتضفي عليه شرعية" (ص264)، هذه النتيجة ستجد مصداقها في كل المجازر التي تمت في العصر الحديث بل والتي نعيشها يومياً في حاضرنا العربي، وإذا أضيف لها العامل الديني سيصبح الانهيار الأخلاقي أسهل إذ ستصبح الجريمة عملاً أخلاقياً بحد ذاتها، وستظل نظرية باومان قاصرة عن فهم مجازر أعقد في تركيبها من "الهولكوست". إن غياب الأخلاق وتغييبها هو المستند الذي تنطلق منه عقلية الاستبداد في ارتكابها للمجازر فـ "ما كان من الممكن أن تتم الهولوكوست لولا تحييد تأثير الدوافع الأخلاقية الأولية، ولولا فصل آلة القتل عن النطاق الذي تنشأ فيه هذه الدوافع وتؤدي عملها، ولولا تهميش هذه الدوافع أو استبعادها تماماً" (ص289)، ومن وسائل تغييب الأخلاق عن المشهد الفصل بينها وبين الواجب المهني، وجعل الخبرة الفنية هي الأصل والمرجع، "إن ما أثبتته تجربة (ميلغرام) في النهاية هو قوة الخبرة الفنية وقدرتها على الانتصار على الدوافع الأخلاقية، حيث يمكن أن يجد أصحاب الأخلاق أنفسهم يقترفون أعمالاً غير أخلاقية حتى وإن كانوا يعلمون أو يعتقدون أنها غير أخلاقية بعد أن يقتنعوا بأن الخبراء - من يعرفون أشياء لا يعرفونها هم – أظهروا بوضوح أن أعمالهم ضرورية. وأخيراً فإن معظم الأفعال في مجتمعنا لا تكتسب شرعيتها من مناقشة أهدافها، بل من مشورة أهل الخبرة الفنية أو تعليماتهم" (ص300). هذا التحييد للأخلاق في عالمنا المعاصر سيعزز من احتمالات تكرار المجازر وتفاقمها دون أي رادع، فـ "في نظام قائم على التناقض بين العقلانية والمبادئ الأخلاقية، تصير الإنسانية هي الخاسر الأكبر، ويستطيع الشر أن يلعب دوره الوضيع" ص313)، ولعودة الأخلاق إلى فاعليتها في الحياة ينبغي إنهاء فرص التفصي من المسؤولية أو الاعتذار عن المشاركة في الجريمة حفاظاً على النفس، فـ "تقديم الحفاظ على الذات ليس أمراً حتمياً يستحيل تجنبه أو الهروب منه. فمن الممكن أن يفعل المرء ذلك تحت الضغوط، لكن لا يمكن إجبار المرء على القيام بذلك، ومن ثم لا يستطيع أحد أن يحيل مسؤولية أفعاله إلى من مارسوا الضغط عليه" (ص314). من غير إحياء الأخلاق وحاكميتها والمسؤولية على مختلف مستوياتها فلن تتوقف المجازر، بل ستكون مدعومة بمنظومة من القوانين أحياناً، وبرعاية أممية ودول، وإشراف قادة وحكماء ورجال دين، بل وأناس طيبين لن يجدوا مشكلة في مشاركتهم مهنياً في جرائم ومجازر لا يرضونها أخلاقياً، طالما كان سياقها يجد فلسفته العقلانية التي تخلق التبرير الذي يمكن التترس به ولو كان كما تخفي الإصبع الوجه. لقد حاول باومان في كتابه التنبيه إلى غفلة العالم عن جرائم كانت الحداثة أداة لها بعيداً عن الأخلاق، وما تزال هذه الإمكانية قائمة لدى الحداثة لخلق وتبرير مجازر أخرى من غير تأنيب ضمير فـ "في مجتمعاتنا الحديثة أصبح من الممكن لأناس عاديين غير فاسدين وغير متحاملين أن يشتركوا بكل إخلاص وإتقان في تدمير فئة مستهدفة من البشر. كما أن اشتراكهم لا يستدعي أية مبادئ أخلاقية أو أية معتقدات أخرى، بل ويتطلب محوها واستبعادها تماماً" (ص 365) بهذه الكلمات ختم باومان كتابه الذي يفتح أسئلة كبرى أمام الباحثين خصوصاً في العالم العربي وما يجري فيه من تطلعات نحو الحرية والديمقراطية تم وأدها بحملات وحروب ومجازر شارك فيها مجرمون وقادة ومؤسسات ونخب وأناس طيبون أيضاً، والمفارقة أن جميع الأطراف تحمي مواقفها باسم الدين والقوانين والأخلاق.
15-11-2015 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=931 |