/

 

 

مشكلة العلوم الإسلامية عند الإصلاحيين في العصر الحديث

معتز الخطيب

مقدمة

إن الإحساس بأزمة التخلف الذي حاق بالمسلمين ومجتمعاتهم، واليقينَ الإيماني - الذي ما انفك تعقد القلوب عليه أطرافها - بأن الإسلام قادر على تحقيق الشهود الحضاري، كان قدرًا مشتركًا بين رواد الإصلاح ومشاريع التجديد في القرنين الماضيين، وهذا كان دافعَ التجديد ومحرِّكه. لكن إدراك جوهر الأزمة وأسبابها كان مُضْطرَب العقول والأنظار، فكلٌّ نظر إليه من زاويةٍ رآها مَكمنَ العلل، وعليها أقام رؤيته، وحولها دارت همومه وانشغالاته وكتاباته. وكان أبرز تلك الانشغالات وأهمَّها - من وجهة نظري- الانشغالات المعرفية بتجديد العلوم وبحث مشكلاتها والنهوض بعقلية العالم والمتعلم لاستئناف الدور الحضاري من بوابة الإصلاح المعرفي.

والانشغال المعرفي شكّل عصب المسيرة الإصلاحية التي اتسعت آفاقها وموجاتها فعمّت الشرقَ والغرب الإسلاميَّين، ولا عجب في ذلك، فالاهتمام بمسألة تدوين العلوم والتأليف فيها يُعدّ من "مبادئ نهضة الفكر البشري"، وقد وُجدت نصوص وصياغات مختلفة للعديد من الإصلاحيين في العصر الحديث تتناول انتقادات جزئية أو كلية لما آلت إليه العلوم الإسلامية، إما في ذاتها وبِنيتها أو في تآليفها وتعليمها، لكن تبقى محاولة العلامة الطاهر بن عاشور متميزة لجهة إفرادها بالتأليف والشمول ووضوح توجهها الإصلاحي، فهو قد شخّص مُشكِلة العلوم الإسلامية في الأعصر المتأخرة، ونَقَدَ أوجه الخلل وحال الجمود الذي آلت إليه، وبنى رؤيته الإصلاحية وحدد مسالك النهوض فيها لأجل مواكبة ما أسماه "العقل الجديد".

وابن عاشور يعزو أسباب فساد العلوم إلى فساد المعلم، وفساد التأليف، وفساد النظام العام، فهو يعيب "جهل المعلم أو المؤلف أو واضع نظام التعليم بمراتب الأفكار ومقدار قبولها، وبمراتب العلوم بالنسبة إلى قابلية الأفكار". وعليه، فهو يبحث في المشكلات البِنيوية للعلوم الإسلامية كما وقف عليها دارسًا ومدرِّسًا، متعلّمًا فعالِمًا فمعلِّما.

تقدم هذه الورقة قراءة تحليلية نقدية للمقاربة الإصلاحية لمشكلة التعليم والعلوم الإسلامية في العصر الحديث، فهي ستحاول رسم ملامح وعي الإصلاحيين بأوجه مشكلة العلوم بما يتضمن مشكلة التعليم والتآليف، وفي سبيل ذلك ستنقب في نصوص أبرز رجالات الإصلاح في مصر والشام والمغرب العربي الكبير، مع تَلَمّس أوجه الإصلاح المقترحة لمواجهة حالة التأخر التي حفّت بالعلوم وقعدت بها عن مقاصدها.

لكن لماذا هذه العودة إلى التاريخ وإن كان تاريخًا قريبًا؟ لأن الورقة تفترض أن تشخيص الإصلاحيين لمشكلة العلوم لا يزال راهنًا، فهو تشخيص لحاضرنا أيضًا؛ لأننا لم نفارق تلك الحال التي قاموا بنقدها وتشريحها، ذلك أن العلوم الإسلامية التي لا تزال تُدَرَّس في معاهدنا وجامعاتنا لم يطرأ عليها تغيرات جوهرية، فضلاً عن شدة اعتمادها على كتب وتقريرات المتأخرين، كما أن حالة التعليم لا تكاد تخالف ما كان عليه الحال زمن ابن عاشور نفسه كما يبدو من تشخيصه!.

1- ضرورة الإصلاح التعليمي:

شكّل إصلاح التعليم مطلبًا نهضويًّا أساسيًّا لدى عامة إصلاحيي القرن التاسع عشر، بناء على تشخيصهم لأزمة الانحطاط؛ إذ رأى كثير منهم أن الدواء أولاً "في تنوير الأفكار بالتعليم" بتعبير الكواكبي (ت1902م) [1]. وقد تنوع كلام الإصلاحيين في هذا الأمر ما بين حديث عن إصلاح إداري، وآخر دراسي، وثالث يتعلق بإصلاح ما لحق العلوم نفسها من خلل، ورابع يتعلق بإعادة تصنيف العلوم ودراسة علوم جديدة تم استبعادها أو هجرها أو القول بكفرها!.

وهذا التوجه الإصلاحي العلمي والتعليمي نجده مبثوثًا في نصوص كثير من الإصلاحيين آنذاك على اختلاف أمكنتهم، وإن اختلف إدراكهم لشكل العلاقة بين التعليم والنهضة وعلة الانحطاط هل هي علة واحدة أم متعددة؟. ففي حين نجد أن "التفكير العلّيّ الأحادي ميز - إلى حد بعيد - كلاً من محمد عبده ورشيد رضا والمغربي والغلاييني وأرسلان، وهو التفكير الذي يُدير النهضة والتأخر على علة التعلم والتربية والتعليم المدعومين بالأخلاق" [2]، فإن آخرين -كالكواكبي مثلاً- قد رأوا في التعليم أحد سبل العلاج، وكان إدراكهم لمشكلة الانحطاط إدراكًا شموليًّا وليس أحاديّ العلة، وإن كان الملمح الطاغي على اشتغال الإصلاحيين السلفيين الشوام والمصريين وحتى المغاربة هو الإصلاح التعليمي الذي امتد - في بعض الأحيان ومع بعض الشخصيات - إلى إصلاح العلوم نفسها.

فمحمد عبده يقول: "إن إصلاح الأزهر أعظم خدمة للإسلام؛ فإن إصلاحه إصلاح للمسلمين وفساده فساد لهم"[3]. وقد كان أحد أغراض مجلة "المنار" منذ مقالها الافتتاحي من العدد الأول عام 1898م "الحث على التربية والترغيب في تحصيل العلوم والفنون، وإصلاح كتب العلم وطريقة التعليم، ومجاراة الأمم في الأعمال المفيدة وطَرْق أبواب الكسب والاقتصاد". وكان رضا قد أوضح في درسيه اللذين ألقاهما في المسجد الأموي سنة 1908م "إمكان الجمع بين هداية الدين وبين جميع العلوم والفنون التي عليها مدار العمران في هذا العصر، إذا صلحت طريقة التربية الدينية والتعليم" [4]، فـ"التربية والتعليم هما الركنان اللذان يقوم عليهما بناء سعادة الأمة والعاملان الرافعان إلى قمة السيادة" [5].

وكان من وظائف الجمعية التي اقترح الكواكبي تشكيلها باسم "جمعية تعليم الموحدين" لمعالجة داء الأمة: إيقاظ فكر علماء الدين إلى أمور منها: "إصلاح أصول تعليم اللغة العربية والعلوم الدينية وتسهيل تحصيلها بحيث يبقى في عمر الطالب بقية يصرفها في تحصيل الفنون النافعة" [6].

أما ابن باديس فقد كان صريحًا كل الصراحة في القول: إن "صلاح التعليم أساس الإصلاح"؛ لأن التعليم هو الذي يطبع المتعلم بالطابع الذي يكون عليه في مستقبل حياته وما يستقبل من عمله لنفسه وغيره" [7].

ويعيد المغربي إلى الأذهان أنه سأل الأفغاني مرة عن "أية الطرق نسلك للم الشعث وانتشال أمتنا الإسلامية من هوة انحطاطها" فكان جوابه أنه لا بد في الوصول إلى هذا الغرض من "حركة دينية" هي في الحقيقة "إصلاح ديني" شبيه بحركة لوثيروس" الدينية، أي أنه "إصلاح علمي تعليمي محض" [8].

ومن المهم أن هذه الدعوات لم تكن دعوة رجل واحد فانتشرت، بل بعضها كان متزامنًا مع الآخر وليس وليدًا عنه، صحيح أن المغربي كان متأثرًا بأفكار الأفغاني، ورشيد رضا كان متأثرًا بعبده، لكن يبدو لي أن الجزائري والقاسمي في دمشق وابن باديس في الجزائر كانوا مستقلين بدعوتهم تلك، التي يبدو أنها كانت حسًّا عامًّا مشتركًا بين إصلاحيي تلك المرحلة على اختلاف أماكنهم؛ بفضل التيار الفكري الذي كان يتبلور من خلال الصحبة والمناقشات والمراسلات والرحلات، وقبل كل ذلك بفضل مبلغ الجمود وتردي حال العلوم الإسلامية الذي كان قاهرًا للجميع في المعاهد الدينية [9] وبين صفوف علماء ذلك الوقت الذين توحّد الإصلاحيون جميعًا على نقدهم ونقد أحوالهم. فضلاً عن أن تونس قد شهدت محاولات إصلاح تعليمي عديدة في زمن مبكر، خلال القرن التاسع عشر، في سنة 1842م أثناء حكم أحمد باي (1837-1855) وفيما بين سنتي 1870 و1878 على يدي خير الدين باشا الذي كان له دور حاسم في دفعها وإنجازها بإنشاء المدرسة الصادقية، وإصلاح التعليم الزيتوني[10]، الأمر الذي جعل محمد عبده يقول: "إن مسلمي الزيتونة سبقونا إلى إصلاح التعليم حتى كان ما يجرون عليه في جامع الزيتونة خيرًا مما عليه أهل الأزهر[11].


الدراسة كاملة في المرفق



[1] تنبغي الإشارة هنا إلى اختلاف الإصلاحيين فيما بينهم، حول العلاقة بين التعليم والنهضة، ففي حين نجد أن "التفكير العلّيّ الأحادي ميز إلى حد بعيد كلاً من محمد عبده ورشيد رضا والمغربي والغلاييني وأرسلان، وهو التفكير الذي يُدير النهضة والتأخر على علة التعلم والتربية والتعليم المدعومين بالأخلاق" كما يلاحظ فهمي جدعان في أسس التقدم ص462، فإن آخرين قد رأوا في التعليم أحد سبل العلاج، كالكواكبي مثلاً، وكان إدراكهم لمشكلة الانحطاط إدراكًا شموليًّا وليس أحاديّ العلة.

[2] فهمي جدعان، أسس التقدم ص462.

[3] رشيد رضا، تاريخ الأستاذ الإمام، ص425.

[4] رشيد رضا، مجلة المنار، مجلد 11، 12/941.

[5] رشيد رضا، المنار، مجلد 1، 30/567.

[6] انظر: الكواكبي، أم القرى، ص178-186.

[7] آثار ابن باديس، إعداد وتصنيف عمار الطالبي، الجزائر: درا مكتبة الشركة الجزائرية، ط1، 1968، جزء 1، 2/217، وانظر: فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الإسلام، عمان: دار الشروق، ط3، 1988م، ص459-461.

[8] عبد القادر المغربي، البينات (الإصلاح الإسلامي: 1909م)، 1/302. وانظر: جدعان، أسس التقدم، ص438 وما بعد.

[9] انظر نبذة عن تلك الأحوال في: علي المحافظة، الاتجاهات الفكرية عند العرب، بيروت: الأهلية للنشر والتوزيع، ط3، 1980م، ص12-20، وزهير الزوادي، تناقضات المشروع الإصلاحي لدى بيرم الخامس، تونس: الأطلسية للنشر، ص14.

[10] انظر: الطاهر بن عاشور، أليس الصبح بقريب، تونس: الشركة التونسية، ط1، 1967م، ص96 وما بعدها، وج. س. فان كريكن، خير الدين والبلاد التونسية (1850-1881م) تونس: دار سحنون، ط 1988م، ص200-212، ومحمد العزيز الساحلي، قضية التربية والتعليم من خلال فكر زعماء الإصلاح، بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط1، 1995م، ص14، وص73.

[11] مصدق الجليدي، رواد الإصلاح التربوي في تونس، تونس: دار سحر، ط1999م، ص72، وانظر: ابن عاشور، أليس الصبح بقريب، ص181؛ فإن فيه: "لقد شهد الأستاذ الشيخ محمد عبده حين حلّ بتونس سنة 1331هـ بأن التونسيين أشد قبولاً للرقي من المصريين لو قُيِّض لهم رجال ينهضون بهم".

 

 

01-09-2016 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=988