ما نسعى إلى تقديمه في القراءة الموالية للجامعات الإسلامية المغاربية الثلاثة هو تعريف بتلك المؤسسات تاريخا ومناهجَ ومشروعا. به نوضح خصوصيات هذه المؤسسات الجامعية في الفترة الحديثة، والجهود الهيكلية والمعرفية المبذولة، خاصة في الفترة التي تلت الحضور الأوربي في المنطقة وما استتبع ذلك من إنشاء مؤسسات تعليمية منافسة قائمة على النمط الحديث.
أما السؤال الذي نسعى للإجابة عنه من خلال هذا التعريف الموجز فهو يتعلق أساسا بمعضلة النخب وتربيع الدائرة كما سنشرحها.
ما نريد أن نتوصل إلى إدراكه هو البحث عن مدى مساهمة هذه الجامعات في تشكيل الذات الوطنية المستوعبة للتراث العربي الإسلامي دون قطع مع مقتضيات الحضارة العصرية ومستلزماتها الفكرية.
بتعبير آخر هل أمكن للزيتونة والقرويين وجامعة الأمير عبد القادر تحقيق المعاصرة؟ وهل كان تكوين النخب يتم في المؤسسات الثلاث ومناهجها بتفعيل قيمة الأصالة؟ أي هل كانت تلك القيمة تعني بالنسبة إلى تلك النخب في الأقطار الثلاثة تكرارا للأصل، أي أنها كانت نسخا لصور حائلة وزائلة أم هي تخلق من الأصل الذي يعلو بالفكر والفعل ليتحول إلى نَسخ حي ومبدع؟
النخب وتربيع الدائرة
--------------------------------------------------------------------------------
إحدى المعضلات الكبرى التي تميز الفترة الراهنة في العالم الإسلامي تتمثل في تكوين النخب التي تفرزها المؤسسات التعليمية الجامعية.
--------------------------------------------------------------------------------
ليس من قبيل المبالغة القول بأن إحدى المعضلات الكبرى التي تميز الفترة الراهنة في العالم الإسلامي تتمثل في تكوين النخب التي تفرزها المؤسسات التعليمية الجامعية عامة، والإسلامية خاصة. فعلى عاتق تلك النخب تقع المسئولية المتعلقة باتخاذ القرارات التي تصوغ مستقبل بلدان العالم الإسلامي. هي مسئولية ثقيلة لأنها تضع تلك النخب أمام اختيارات صعبة تنتهي في غالب الأوقات إلى التناقض والاصطدام مع هوية المواطنين ومطامحهم.
بتعبير آخر يمكننا صياغة المفارقة الأولى التي تواجه النخب، ومن ثم المؤسسات التعليمية في أنها محتاجة إلى بناء روح وطنية تتمثل التراث وتجارب الماضي من جهة، لكنها تجد نفسها -وهي المضطرة إلى ولوج الحضارة العصرية في ظروف استثنائية- ملزمة أن تستغني عن الخصوصيات الثقافية.
معضلة النخب والمؤسسات الجامعية في العالم الإسلامي إذن هي في كيفية استيعاب هذه المفارقة والتعامل معها، هو ضرب من تربيع الدائرة الذي لم تفلح نخب جيل الاستقلال الوطني في النصف الثاني من القرن العشرين في التحكم فيه.
لقد عانت تلك النخب من تمزق شنيع انتهى بها في الغالب إلى فقدان المصداقية. ما تحقق في النصف الثاني من القرن العشرين من اختيارات متعلقة بهذا المجال كان في غالبه احتذاء بالنموذج الثقافي والاجتماعي الأوربي، أي نموذج البلاد الاستعمارية سابقا. لكن رغم ذلك فإن التحولات التي جرت تحققت دون صدام يذكر من جهة، ودون صراع في العمق من جهة أخرى.
بعد خمسة عقود من دورة الاستقلال السياسي يتبين أن تلك النخب بتلك الاختيارات التحديثية ما كان يمكن لها أن تفرز إلا نوعا من الحداثة سماها البعض مغشوشة أو ناقصة، وسماها البعض الآخر متعسفة فأنكرها، غير أنها ظلت على أي حال تحولات تحديثية شكلية في غالبها.
اليوم تعود نفس المعضلة، معضلة تربيع الدائرة التي واجهت نخب الجيل السابق والمؤسسات التي كونتها، لكن في ظروف أشد قسوة، وضمن سياق يختلف عن الذي واكب التحولات الماضية.
في السياق الجديد تبدو النزعة الحمائية المدافعة عن الهوية وعن الخصوصيات أكثر بروزا وحركة، يظهر ذلك في النخب الجديدة الجامعية التي تختلف في وجهتها وفي أدوات تعبيرها عما كان عليه جيل الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين.
هذا ما يجعل من العسير اليوم العود إلى صيغ الصراع بين "القديم والحديث" في الفكر والأدب والسياسة وغيرها، وما تلا كل ذلك من غلبة التيار الثاني. لن يكون من السهل أيضا في المرحلة الحالية الاستغناء عن الخصوصيات الثقافية والدينية أو عدم الاكتراث بها فيما يستلزم من اختيارات كبرى كما كان الشأن في أكثر من عاصمة عربية وإسلامية في النصف الثاني من القرن الماضي.
ما تتجه إليه السياسات الدولية والإقليمية يؤكد من جهة ثالثة أن إعادة توزيع الثروة العالمية المادية والمعنوية سيبلغ حدا من التفاوت شديدا، يجعل من استخدام وسائل الإكراه والقسر أمرا لا مفر منه. لكنه لن يكون من الميسور أيضا في سياق العولمة -أيا كانت صياغتها- تجاهل النمط المتحرر الذي يراد تعميمه وحشر النخب الصاعدة. غاية هذه الجهود هي فصل تلك النخب عن الكتلة الرئيسية للسكان ودمجها مباشرة في دائرة الثقافة والاستهلاك الخاصين بها. ما يفضي إليه هذا الاختيار هو صنف من المواجهة "الباردة" بين ثقافة عالمية لنخب جديدة وبين ثقافات محلية مخفضة وغير قادرة على أية منافسة. مثل هذا التواجه لا يمكن أن يدفع بالنخب -ومن ورائها المؤسسات حسب ما يبدو الآن- إلا إلى أحد أمرين: إما العنف المدافع عن الخصوصيات ومعه مزيد من تراجع تأهيل الثقافات المنافسة للعولمة، أو التنصل من كل التراث الثقافي الخاص قصد الانضواء ضمن ثقافة العولمة.
مؤسستان في المسيرة
تعتبر الزيتونة بمدينة تونس أهم مؤسسة جامعية في الغرب الإسلامي من حيث زمن الإنشاء وطول البقاء. بدأ التعليم فيها منذ العقد الثاني من القرن الثاني للهجرة (الثامن للميلاد)، ثم عرف تألقا مع الحكم الحفصي ودولته الرابعة التي حكمت البلاد التونسية بعد الفتح الإسلامي [626-981هـ / 1228-1574م].
يرجع الإشعاع العلمي للزيتونة في العصر الوسيط إلى عوامل عدة، كان من أولها تبني المؤسسة مذهب أهل السنة وتركيزه، مستبعدة بذلك المذاهب العقدية والفقهية الأخرى التي كان لها حضور وتأثير في الساحة السياسية والاجتماعية. يضاف إلى ذلك توافد عدد من علماء الأندلس للإقامة بالعاصمة والتدريس في مؤسستها.
بسقوط الحفصيين في القرن التاسع الهـجري/الخامس عشر الميلادي، وبتناقص الاستقرار السياسي ومرور البلاد بفترة طويلة من الاضطرابات عرفت الزيتونة انتكاسا علميا واجتماعيا لم يتوقف إلا عندما استقر الحسينيون في الحكم مطلع القرن الثاني عشر الهجري/الثامن عشر الميلادي.
بعد ذلك عرفت الزيتونة قرنا عصيبا (840 إلى 1958) انتهى بإغلاقها وتعويضها بتعليم جامعي عصري سنة 1960 احتفظت فيه الجامعة القديمة بموقع بسيط مثلته كلية للشريعة وأصول الدين محدودة الآفاق وقليلة المنخرطين. ثم في سنة 1987 أعيد للزيتونة الاعتبار فأصبحت جامعة مستقلة بذاتها لها ثلاث كليات: كلية لأصول الدين وكلية للحضارة وثالثة للشريعة.
كانت آثار القرن العصيب وما تلاه من عقود التوقف الثلاثة فادحة الخطورة. بدأت مصاعب الزيتونة بظهور منافسة معلنة لها وبدعم من الدولة متمثلة في تكوين معاهد تعليمية جديدة أسست على النمط الأوربي كالمدرسة الحربية بباردو والمدرسة الصادقية والمدرسة العلوية وغيرها. ثم انتهت هذه الإجراءات بما سمي توحيد التعليم الوطني الذي ألغى تعدد المؤسسات التعليمية التونسية فتم الاستغناء عن كل فروع التعليم الزيتوني في البلاد كما ألغت كل شعبه الشرعية والأدبية والعصرية.
كان هذا بعد أن أفقدت الدولة الزيتونة استقلالها المالي منهية بذلك صفتها الأهلية التي كانت تربطها بالأوقاف الإسلامية العامة مما ألحق الهيئة التعليمية والإدارية بموظفي الدولة.
في خط مواز لهذه القرارات السياسية والإدارية توالت مشاريع الإصلاح الهيكلي والتعليمي منذ سنة 1875 وتواصلت حتى منتصف القرن العشرين، أحيانا بضغوط داخلية طلابية وأحيانا بمشاركة الأساتذة، وفي حالات كثيرة أخرى لاعتبارات سياسية أو وطنية. ومن ثَمَّ تنوعت المشاريع الإصلاحية للمؤسسة من مطالبة بإضافة مواد علمية جديدة (إدخال مادة الحساب والهندسة واللغة الفرنسية مثلا) على ضرورة تطوير أو تغيير مناهج التعليم ونظمه واعتماد مراجع حديثة تتيح المجال للخريجين من أن يتمكنوا من آفاق أوسع كالعمل في دواوين الدولة أو المؤسسات العصرية الأخرى.
واجهت هذه الرغبةَ الأكيدة في الإصلاح عدةُ جهات مما أوقف المد الإصلاحي فظهرت سلسلة من الإضرابات عن التعليم كانت تطول أحيانا، مثلما حصل في سنوات 1910 و 1933 و 1948 و 1952. مثل هذه الحركية حولت الزيتونة تدريجيا إلى بوتقة تفاعلت فيها تيارات فكرية وسياسية واجتماعية مختلفة، انتهت في الغالب إلى اعتبار أن تحقيق المطالب المتعلقة بنظام التعليم ومناهجه وآفاقه مرهون بتغيير النظام السياسي والاجتماعي في البلاد كلها.
ما تحقق بعد ذلك كان له وجهان: وجه سياسي عام ووجه تعليمي محض.
من جهة أولى تبين لقادة الحركة الوطنية أن الزيتونة اكتسبت من القوة والفاعلية ما يمكن أن يمنحها شرعية تتجاوز بكثير الحدود التي يرضونها للمؤسسة عندما يرسون بناء الدولة الحديثة بعد الحصول على الاستقلال السياسي، لذلك جاء قرار توحيد التعليم الذي قضى على كل مشاريع التوسع الزيتوني.
من جهة ثانية أقر أهل المؤسسة الزيتونية -عندما أصبحت مؤسستهم تابعة للجامعة التونسية- برامج حرصت على التخصص الشرعي مع تثقيف عام واهتمام نسبي باللغات الأجنبية. عبر هذه الرؤية الإصلاحية تم إقرار تعليم عال متخصص في الدراسات الشرعية والعقدية تستبعد المناهج التقليدية المعتنية بالنصوص والمتون والتركيز على شروحها. بذلك ظلت الزيتونة قريبة لما كان قد شرع فيه رواد الإصلاح سنة 1896 عندما بعثت جمعية الخلدونية الملحقة بالزيتونة لتدريس بعض العلوم الجديدة كالجغرافيا والعلوم الطبيعية والفيزياء باللغة العربية.
مثل هذا التمشي التوليفي هو الذي سيميز التوجهات الإصلاحية في سبعينيات القرن العشرين، والذي تأكد في التسعينيات بعد ذلك انطلاقا من برامج 1989 وخاصة عند إقرار البرامج الجديدة سنة 1995.
إذا انتقلنا إلى المغرب الأقصى وجدنا المؤسسة التعليمية الثانية -وهي جامعة القرويين بمدينة فاس- تتفق مع الزيتونة في جوانب من تاريخها وخصوصياتها وتختلف معها في جوانب أخرى من مسيرتها وآفاقها.
ظهر التعليم بالقرويين مع دولة المرابطين (القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي) ثانية الدول التي حكمت المغرب الأقصى بعد الفتح، وكان ذا طابع دعوي خطابي يؤمه عدد من الطلبة من كامل البلاد كما يفدون من الأندلس والمغرب الأوسط والأدنى وجنوب الصحراء. ثم بلغ التعليم أوجَه مع الدولة المرينية [651-869/1258-1465]. بعد ذلك تراجعت أهمية القرويين مع دولة السعديين في القرن العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي، والتي نقلت عاصمتها من فاس مقر القرويين كما ازداد الوضع سوءا بانهيار الأندلس مما كان له أثر كبير في اكتفاء المناهج التعليمية على الطرق التقليدية.
مع عودة فاس عاصمة للدولة العلوية في القرن الثاني عشر الهجري/الثامن عشر الميلادي توفر بعض من الاستقرار السياسي بعد أنواع من الصراع المرير الذي شهده المغرب، كان أحيانا مع بعض الطرق الصوفية وأحيانا مع الأتراك في المغرب الأوسط، وأحيانا أخرى مع الأسبان والبرتغاليين في جهات من السواحل الشمالية. بهذا الاستقرار أمكن لمؤسسة القرويين أن تستعيد بعض نشاطها وتألقها العلميين.
مع منتصف القرن التاسع عشر حرصت الإدارة السياسية العلوية على إجراء بعض الإصلاحات المتعلقة بالمناهج الدراسية والتنظيم الإداري، لكن التعليم ظل مركِّزا في محاوره على التكوين الفقهي والدراسات العقدية، واستمر الجانب الإداري الواقع تحت إشراف القاضي يعاني من اضطراب واضح في سير الدروس وطرق الامتحان.
في القرن العشرين اتخذت جملة من الإصلاحات الإدارية والهيكلية قصد ترقية الدراسات [1]. ثم تحول التعليم في القرويين سنة 1963 إثر الاستقلال السياسي إلى مؤسسة دولة ذات شخصية مدنية تشرف عليها وزارة التربية العمومية. ضمن هذا السياق الجديد حُدد للتعليم بالقرويين غايتان رئيسيتان:
1- السهر على تحقيق تكوين متخصص في الدراسات الشرعية واللغوية.
2- تطوير مجال البحث العلمي في مجال الفقه الإسلامي.
تواصلت بعد ذلك في الثمانينيات بعض الإجراءات الإصلاحية الجزئية مثل إصلاح نظام الامتحانات سنة 1983.
لكن أهم ما ميز هذه المرحلة هو ظهور أقسام للدراسات الإسلامية في كليات الآداب المختلفة مثل الدار البيضاء والرباط؛ مما أثار نقاشا حول مناهجها وخصوصياتها وغاياتها. لقد رأى البعض أن هذه الأقسام ليست سوى امتداد لمؤسسة القرويين داخل الجامعات المغربية ذات التوجه الحداثي. إنها- في تقدير هؤلاء- تعبير عن خط مقاوم لذاك التوجه الحديث يريد أن يتوسع ليتجاوز نفوذه مجال النخب المحافظة التي يتم تخريجها من مؤسسة القرويين. هذا في حين يرى البعض الآخر أن أقسام الدراسات الإسلامية تُمكن -بما تعتني به من علوم إنسانية إلى جانب التكوين الشرعي واللغوي- من رؤية جديدة تتجاوز ما تميز به التعليم في القرويين من توجه محافظ على التراث ونظمه الفكرية والتربوية.
مهما يكن من أمر فإن الدراسات في القرويين تواصلت على نفس النسق معتبرة أن غايتها هي الحرص على التكوين الشرعي التقليدي المركز في كلية الشريعة على الدراسات الفقهية والأصولية مع اعتناء خاص بالدراسات القرآنية والحديثية واهتمام محدود جدا باللغات الأجنبية. لا يختلف الأمر كثيرا في كلية أصول الدين فلا نكاد نجد اهتماما يذكر بالدراسات الدينية المقارنة أو بتاريخ الأديان.
لقد نجحت مؤسسة القرويين في القرن العشرين في أن تحافظ على التخصص الشرعي بفضل المناهج القائمة على الحفظ واعتماد المتون والشروح واستبعاد كل تمش مقارن أو نقدي. لقد أتاحت هذه الخصوصية المغربية أن تحصن موقعها العملي الخاص، بل أن تكون بصورة غير مباشرة سندا معنويا واجتماعيا للدعوات الدينية ذات الطابع الحركي والتي تعاظمت أهميتها منذ الثورة في إيران أواخر السبعينيات.
بالمقابل فإن الحرص على هذه الروح التقليدية في التكوين الجامعي أسفر عن تراجع ملحوظ في الإشعاع الفكري والاجتماعي للقرويين ضمن النخب الفاعلة والحاكمة في مرحلة شهدت تحولا حضاريا بالغ الأهمية.
هل يستعيد الشيخ ظله؟
صحن جامع الزيتونة.. والمئذنة الحسينية
إذا قصرنا النظر على الزيتونة والقرويين في مسيرتيهما التاريخية أمكننا أن نلاحظ أننا أمام مؤسستين عريقتين ظلتا تنشران العلوم الدينية وتبثان اللغة والآداب العربية بمناهج وطرق لم تتطور إلا قليلا. ثم إن هذا التطور انحسر في تنظيم الدراسة أكثر من مادتها وروحها. ينقل لنا أحد المدرسين بالجامعة الفاسية [2]صورة موجزة ومركزة عن التعليم ونظامه بالقرويين في القرن الماضي. يذكر أن عدد الطلبة كان يبلغ السبع مائة بين أجانب ومغاربة، وأن عدد المدرسين أربعون، أما العلوم المقررة فهي النحو والفقه والحديث والبلاغة والتفسير والعقيدة.
فيما يتصل بنظام الدروس يذكر المخطوط أن الكتب المعتمدة هي مختصر سيدي خليل وشرح الدردير في الفقه، وفي أصوله: جمع الجوامع لأبي علي السبكي، وألفية ابن مالك والمكودي في النحو، والشمسية أو السلم في المنطق، ثم تفسير الخازن والزمخشري في علم التفسير. ثم يتناول بالعرض نظام الامتحانات الذي يعتني بالاستظهار والحفظ ومدة الدراسة التي ليست لها فترة محددة إذ تتراوح بين أربع وخمس سنوات وقد تزيد أكثر من ذلك.
لم يكن الوضع بالزيتونة في نفس الفترة مختلفا عما كان عليه في القرويين. سجل ذلك في العقد السابع من القرن التاسع عشر أحد منتقدي التعليم الزيتوني المكلفين من قبل الوزير الأكبر خير الدين في صورة دقيقة، عرض فيها سير التعليم ومواد الدراسة فيه. أبرز ما احتوى عليه تقرير المنتقد تمثل في اهتمام شديد بعلمي الفقه والنحو مقابل إهمال كامل أو شبه كامل لمواد أخرى مقررة مثل تفسير القرآن والتصوف والتاريخ. تضاف إلى هذا ملاحظات تتصل بطريقة التعليم التي تتميز بأسلوبها الـ "مدرسي" (السكولاستيكي) القائم بالأساس على تلقين نصوص مع شروحها. هذا إلى جانب سوء إدارة للدروس وكثرة غياب المدرسين مع تباين أعمار طلبة المستوى الواحد وكثرة الضجيج وارتفاع الأصوات.
ما طرأ على المؤسستين من التغيير -فيما يزيد عن قرن من الزمن-مهم، لكنه لم يصبح جوهريّا. تغيرت المباني ونظم الامتحان كما أدخلت تعديلات عديدة على النظام التعليمي ليحذو حذو الجامعات الحديثة القائمة على تقسيم المادة المعرفية إلى مسافات محددة تربطها برامج أشرفت على وضعها هيئة علمية مختصة. ظلت بعض المتون معتمدة في القرويين كما ظل الاستظهار أساسيا في المؤسسة الفاسية، التي حرصت على أن تكون بحق -كما سماها بعض المؤرخين- "أثينا إفريقيا".
لكن الأمر تجاوز ذلك في الزيتونة منذ تسعينيات القرن العشرين حيث عملت بعض النخب الحداثية على أن تجعل منها "سربون الغرب الإسلامي" أي مؤسسة جامعية ذات عراقة في التحصيل العلمي الإسلامي، لكنها تعمل على تمكين "المتعلم مما يؤهله للتفاعل المعمق مع الثقافات والحضارات وإثراء الفكر الإسلامي والإنساني".
ما تزال هذه التجربة الطريفة حديثة عهد في المؤسسة الإفريقية مما يجعل من العسير على الدارس أن يقوّم نوعية التغييرات المستفادة من هذه الإصلاحات.
--------------------------------------------------------------------------------
طرح سؤال المعاصرة مرتبط بمنهج التفكير وفلسفة المعرفة، وبما يقع إنجازه ضمن بنية المجتمع بمؤسساته المختلفة وفي النسيج الثقافي.
--------------------------------------------------------------------------------
لذلك فإن ما ينبغي أن تقتصر عليه ملاحظاتنا المتعلقة بنوعية التحولات التي شهدتها مسيرة المؤسستين العريقتين هو أن المؤسسات الكبرى ذات خصوصية مركبة؛ إذ هي تشكل بوتقة تفاعل ثقافي-اجتماعي هي من ناحية: مجال تقدم فيه المعرفة ويصاغ فيه الوعي، وهي من جهة ثانية: طرف في مشهد لا يفهم على حقيقته إلا بالنظر إليه في علاقاته مع من حوله في فعله وانفعاله.
لذلك فإن طرح سؤال المعاصرة على مؤسسة جامعية إسلامية كالزيتونة أو القرويين لا ينفك مرتبطا من جانب بمنهج التفكير وفلسفة المعرفة التي تعتمدها المؤسسة، ومن جانب آخر بما يقع إنجازه في نفس الاتجاه ضمن بنية المجتمع بمؤسساته المختلفة وفي النسيج الثقافي السائد الذي يصوغ تصورات النخب والجمهور.
إذا كانت المؤسسة قائمة على رؤية تجعل مرجعية "النص المقدس" هي فهمه حسب المعاني التي ضبطت زمن نزوله وما تلا ذلك بقرن أو قرنين بما يوسع من دائرة القدسية لتضم إلى جانب "النص المؤسس" الثقافة المرجعية الحافة به وبالنصوص الثانية التي وقع إنتاجها بالاعتماد عليه، فلا غرابة أن يكون همّها الأكبر هو حفظ ذلك النص، بمعنى "أحادية الفهم" وأن ينظر باستخفاف إلى مستجدات المعرفة ومعضلات الواقع؛ وعندها يكون الهاجس الأساسي في المجتمع بمؤسساته المختلفة هو "وحدة الجماعة" واعتبار التعدد فُرقة لا تؤدي إلا إلى إيقاظ "الفتنة النائمة" فإنه يعسر على النخب داخل الجامعة أن تستنبط أفكارا جديدة تمكنها من معالجة مختلفة للعلوم الإسلامية مما يتيح لها تحكما في الواقع المعرفي والاجتماعي.
هل نستغرب بعد ذلك إن عثرنا في قانون إحدى المؤسسات الجامعية الإسلامية للمغرب العربي ما يعد أحد الضوابط الأساسية المحددة للتحصيل العلمي مصاغا صياغة "مدرسية" لا تتيح أي نقد أو تجاوز؟.
يقول الفصل الخامس عشر من قانون 28 ذي القعدة 1292هـ [26/12/1875] المتعلق بالتعليم بجامع الزيتونة بتونس: "ليس لأحد أن يبحث في الأصول التي تلقتها العلماء جيلا بعد آخر بالقبول أو الرفض، ولا أن يكثر من تغليط المصنفين؛ فإن كثرة التغليط أمارة الاشتباه والتخليط". إذا كان هذا النص قد ألغي فيما بعد من لوائح الزيتونة، جامعة تونس الأولى، وإن لم يوجد له نظير في لوائح جامعة إسلامية أخرى فإن هذا لم يمنع تلك المؤسسات من أن تعتبر أن التقليد ضمان الحفاظ على الذات.
هذا ما عنيناه حين قلنا: إن التغيير الذي شهدته الجامعتان في الفترة الحديثة لم يشمل منهج التعليم وروحه.
صحيح أن تقديم المادة العلمية قد تغير مثلا في الزيتونة منذ ثلاثة عقود فاعتمدت المداخل التاريخية والفلسفية إلى جانب الاهتمام بدراسة المنهجية واللغات الأجنبية، فضلا عن تغييرات عرّفت الطالب منذ عقد من الزمن على وحدات علمية جديدة كالأنثروبولوجيا واللسانيات وعلم الاجتماع الديني. لكن هذه التجربة -على أهميتها- لا تزال بحاجة إلى التدقيق والتقويم.
إننا من ناحية أولى لا نعرف الغاية العلمية من هذا التغيير. لقد ذكرت البرامج الجديدة أن المقصود هو "إضافة عبقرية المُحْدَث إلى فذاذة الموروث"، وجعل الطالب "يحدث أفنان المعرفة الحديثة التي تتيح له فرص الاطلاع على إنتاج الفكر الكوني اطلاعا مباشرا". فهل مجرد الجمع بين علوم قديمة وأخرى حديثة مما يجعل الجامعة الإسلامية تعاصر عصرها؟.
--------------------------------------------------------------------------------
المعاصرة: اعتماد معارف جديدة بقصد إعادة بناء المنظومة المعرفية والثقافية القديمة بشكل يجعلها قادرة على إنتاج متناسب مع مقتضيات العصر.
--------------------------------------------------------------------------------
ما نفهمه من المعاصرة هو أمر يختلف عن مجرد حشد معارف جديدة إلى جانب أخرى تقليدية. في المعاصرة اعتماد معارف جديدة دون شك، لكن بقصد إعادة بناء المنظومة المعرفية والثقافية القديمة بشكل يجعلها قادرة على إنتاج متناسب مع مقتضيات العصر. هي حركة جدل بين الداخل والخارج المعرفيين والثقافيين، غايتها بناء معرفة متسقة تتجاوز النسيج المعرفي السابق من حيث التمكن والراهنية من خلال القدرات الكامنة في الفكر والشخصية الذاتيين. هي حركة لا تنكر الوحي ولا تتجاهله، بل تعتبر أن البناء العلمي الشامخ الذي تركه الأسلاف لم يكن ليبلغ ما بلغه إلا انطلاقا من اعتبار قوله تعالى: "وفوق كل ذي علم عليم" واعتمادا على الحديث الشريف: "الحكمة ضالة المؤمن".
لذلك فلكي تعاصر الجامعات الإسلامية عصرها لا بد أن تدرك من جهة أن:
* العلوم الإسلامية جزء مؤسس للهوية في المجتمعات الإسلامية فلا يمكن التفريط فيها.
* وأنها من جهة ثانية علوم بناها الإنسان على ضوء الوحي لمعالجة أوضاعه التاريخية فهي نتاج عقيدة وحراك وتفاعل.
في مجال التعليم الديني، تكون المعاصرة انطلاقا من التراث بأدوات معرفية حديثة قصد تجاوز نفس ذلك التراث؛ لأنه لا يمكن أن يحتوي التاريخَ والواقع المستجد، إنه تجاوز للتراث عبر فهم جديد له يتيح إنهاء حالة التعطل التي حالت بين الهوية الجماعية وبين مواكبة مقتضيات اللحظة التاريخية؛ غاية المعاصرة الإبداع من "الداخل" عندما يتمثل الفكر مستجدات المعرفة والواقع.
من ناحية ثانية مثل هذه العلوم الحديثة كعلم الأديان المقارن وعلم الاجتماع الديني حين اعتمدت في بعض المؤسسات الجامعية الأوربية كان ذلك من أجل تفهم النص الديني المسيحي بإعادة النظر في صبغته الإلهية والتاريخية. حصل ذلك في سياق ضرورة تقويض رؤية العالم والإنسان التي فرضتها الكنيسة والتي تبين تهافتها في ضوء الاكتشافات والحقائق العلمية.
السؤال الذي ينبغي أن نجيب عنه بوضوح هو: لماذا نؤطر تعليم الدين بعلوم الحداثة في البلاد الإسلامية؟ إن كان القصد هو المعاصرة وإعادة التأويل والتمكن من الاجتهاد -كما أشرنا إلى ذلك منذ قليل- فذلك هو المرجو، وهو على أي حال محتاج إلى دعائم تحققه. أما إن كان ينطلق من اعتقاد بأن النص المقدس قد حال بين عقول المسلمين وبين الانفتاح على العصر بمعارفه ومناهجه فذلك توجه آخر لا معنى له في مؤسسة جامعية إسلامية معاصرة. هذا النوع من المعالجة دراسة للإسلام من "الخارج"؛ هي ما يسميها الفرنسيون إسلامولوبيا (Islamologie) أو دراسات للإسلام بصفته حضارة منجزة وواقعا منصرما. محل هذا الضرب من الدراسات كليات أخرى، أما في مؤسسة جامعية إسلامية عصرية فلا معنى لها؛ لأنها تعتبر ضمنيا أن المدروس حضارة "ميتة" فلا يمكن أن يقدم الإسلام للواقع والفكر: الجديدَ.
أكثر من ذلك، مثل هذه الدراسات مهمة، لكن عيبها الأساسي أنها باسم "الموضوعية" تشترط على أي دارس أكاديمي التجرد من كل أثر للمقدس الديني إن هو أراد أن يقدم أعمالا جامعية حديثة تستحق هذه الصفة. إنه الخلط بين ضرورة التجرد لاكتشاف "تاريخية" فهمٍ ما للنص الإلهي قصد تنسيب ذلك الفهم ووضعه في النسق الفكري والتاريخي المناسب له، وبين الإيمان الديني الذي يتجاوز التقاليد والاعتقادات السائدة ليعبر عن اختيار حر خاص بالفرد وبالمجموعة التي ينتمي إليها.
مشكلة الدراسات "على الإسلام المنجز" أنها تتبنى موقفا قبليا من الإسلام، وتعتبر أن ذلك من مقتضيات الموضوعية، إنها تطلب أن ينفض الباحث يديه ابتداء من إمكانية أن يضيف "الإسلام/الحضارة" جديدا للفكر والإنسانية المعاصرين، وأن يعرض نفس الباحث عن الإيمان الديني إن هو أراد لأعماله أن تبلغ أفق الحداثة العلمية.
يقع هذا رغم أننا لم نسمع أحدا قد نعى على مفكر غربي كبير مثل "بول ريكور" (Paul Ricoeur) إيمانه الديني وهو المرجع الحي للفلسفة التأويلية المهتمة بالرمز والأسطورة واللغة في العالم الغربي. إنه لم يقحم اختياراته الإيمانية ليكسب أفكاره مصداقية لا صلة لها بالمعرفة الفلسفية أو بالمنهج الأكاديمي بما أن انتسابه إلى المسيحية لم يحل بينه وبين الإبداع والإضافة، بل لعل العكس هو الصحيح.
لا يعني هذا المثال أن كل باحث جامعي مؤمن قادر على أن يكون مثل ريكور أو أن يحقق الحد الأدنى الضروري من الموضوعية الذي تتطلبه كل دراسة علمية حديثة. لكن صعوبة تحقق هذا الشرط لا ينبغي أن تدفع بنا إلى قصور في الوعي وتعسف في فهم شروط تحديث المؤسسة الجامعية.
ما أحسبه متأكدا اليوم هو العمل على إرساء مؤسسة جامعية، دائرة الإحالة فيها تراثية إسلامية لكنها متسعة ومنفتحة على المعرفة الإنسانية بما يحقق معاصرتها. مثل هذا الجانب قادر -إن اعتمد في الزيتونة وفي القرويين- على أن يعيد للمؤسستين ما افتقدتاه من ثقة الجمهور والنخب على السواء.
لقد كانت المؤسستان ولفترات طويلة وبنسب متفاوتة تعبران عن نبض الهوية الحية في مجتمعها، كان الشيوخ في رحاب المؤسستين مصدرا للمعرفة وصورة من صور الإبداع الفكري، ومركزا لتوازن المجتمع ونموه. أما حين تراجع أداء المؤسسة وانحسرت دائرة العلم والفكر فيها عندئذ فقد الشيوخ ظلهم في الواقع فتحول مؤهلهم إلى عائق، ودخلت المؤسستان في طور من التهميش أفقدهما القدرة على المساهمة مع غيرهما من المؤسسات لمواجهة تحديات العصر وتوظيف مؤهلاتهما، ولتفادي أزمات التغيير بأقل هزات ممكنة.
الجامعات.. معاصرة أم غزالية؟
تؤكد جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية في قسنطينة بالجزائر بعض الخصائص التي توصلنا إليها مع الجامعتين السابقتين، ولكنها رغم حداثة إنشائها فإنها تمكنت من إضافة جوانب انفردت بها عن الزيتونة والقرويين.
منذ الانطلاق سنة 1984 جاء الإعلان عن افتتاح جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة مؤسسة عمومية تخضع لوزارة الجامعات. أما أهدافها فهي مزدوجة؛ إذ هي تعتني -من جهة- بنشر المعارف الإسلامية وتطوير البحث وتحقيق المخطوطات وتنمية الروح العلمية، لكنها من جهة ثانية ذات رسالة تمكن المتخرج من مسايرة "متطلبات العصر ومواجهة الغزو الثقافي الهدام".
من أجل تحقيق هذه المهام وضعت للجامعة هيكلة عصرية يمثلها رئيس الجامعة المعين بمرسوم رئاسي، وأمين عام لها مع نيابات الإدارة ومجلس علمي. تقوم هذه الهيكلة على سير الدروس والامتحانات في المعاهد الثلاثة: معهد الدعوة وأصول الدين ومعهد الشريعة ومعهد الحضارة الإسلامية. يضاف إلى هذا أن الجامعة رصدت اعتمادات مالية مهمة، خاصة في السنوات الأولى للتعاقد مع هيئة تدريس كانت غالبية عناصرها وافدة من المشرق العربي (مصر- العراق- فلسطين- سوريا) ومن تونس.
بهذا الإنشاء عبرت السلطة السياسية بالجزائر عن اختيار إستراتيجي واضح يتمثل في ضرورة بعث جامعة إسلامية بصفتها مكونا أساسيا من مكونات السيادة الوطنية.
إذا نظرنا في البرامج اتضحت لنا الخصوصية المعرفية منزّلة ضمن بناء وثوقي ودعوي. نلاحظ ذلك بصفة جلية في برامج السنوات الثلاث من معهد الشريعة بمختلف أقسامه فهو يركز على تفريع مسائل التراث الفقهي وتكثيف مادته دون حرص موازٍ على تأريخه وتمكين الطالب من نظرة نقدية له. لذلك نصت البرامج الرسمية على دراسة فقه المعاملات على مذهب الإمام مالك مع تركيز على آيات الأحكام وأحاديثها ثم ربط ذلك بأصول الفقه. هذا إلى جانب مدخل إلى الاقتصاد الإسلامي.
إذا تأملنا المواد الرئيسية في المعهدين الآخرين كالفقه والعقيدة والتفسير والحديث وجدنا أن مسائل هذه المواد كلها تنطلق من مداخل تقوم على تعاريف مدرسية مشفوعة بتفريعات تعتمد المنهج التقريري الذي يتجاهل المعالجة التاريخية ولا يهتم بالطرح الإشكالي. نجد مثلا أن برامج علوم الحديث للسنة الأولى في الجذع المشترك تنص على الموضوعات التالية: التعريف بالسنة لغة واصطلاحا- السنة وعمل الصحابة- السنة والبدعة- الحديث والخبر والأثر- الحديث القدسي- المتن والسند لغة وشرعا- السنة تشريع وغير تشريع- مكانة السنة من التشريع. أما برنامج السنة الثالثة لمادة أصول الفقه فينص على: الإجماع- تعريفه لغة واصطلاحا- إمكانية الإجماع وحجيته- عرض أدلة المنكرين ومناقشتها- أنواع الإجماع- القياس تعريفه في اللغة والاصطلاح- حجية القياس.
تكشف لنا المواد الأخرى ذات الصلة بالواقع المعاصر جانبا أوضح لمفهوم المعاصرة عند واضعي المناهج في جامعة الأمير عبد القادر: إنها تعني الاهتمام بقضايا عصرية مقدمة في ثوب دعوي- إيديولوجي. لو اقتصرنا مثلا على السنة الرابعة فإننا نجد أن معهد الدعوة وأصول الدين- قسم العقيدة وقسم الدعوة والإعلام، يقرر مادة "الاستشراق والتنصير" لإثبات نوع من التلازم بين أمرين لا ندري كيف يمكن أن يقره تكوين جامعي غير متحيز.
إلى جانب ذلك نقف على مادة تربط بين "الفرق الإسلامية والحركات الهدامة المعاصرة" وهو ربط فيه الكثير مما يقال علميا، خاصة لما فيه من الإيحاء بلزوم إدانة التعدد الموجود في الفرق القديمة من خلال ما هو ثابت من تخريب حركات حديثة ثم ما وراء ذلك مما يترسب من دعم لمنهج "أحادية الفهم".
في قسم الدعوة والإعلام، معهد الدعوة وأصول الدين: نجد مادة علم الاجتماع من منظور إسلامي بما يفيد اعتماد مقولة "أسلمة المعرفة". أما في معهد الحضارة الإسلامية- قسم اللغة العربية والدراسات القرآنية فإن عناوين المواد واضحة في توجهها "الملتزم"، لذلك قررت مسألة الأدب الإسلامي المعاصر، وفي نفس المعهد من قسم التاريخ والحضارة الإسلامية تدرس مادة الاستعمار الأوربي والتبشير في إفريقيا وآسيا وأوربا. يتضح نفس المسار في السنة الثانية معهد الدعوة وأصول الدين فيدرس نظام الحكم بين الإسلام والغرب، مشكلة التنمية والتبعية التكنولوجية، والجهاد ومشكلة الصهيونية، وأخيرا البديل الإسلامي والمشروع التغريبي.
السؤال الذي يتبادر للذهن عند النظر في هذه البرامج وفي جل المراجع التي حددت لها هو: هل يمكن التوصل إلى معاصرة حقيقية عبر هذا التوجه "الملتزم" بمواقف الدفاعية، وهل يمكن للمنهج التلقيني أن يرشد الإيمان ويجذر الهوية؟.
ما يبدو لنا أولى بالعناية من أجل تكوين نخب معاصرة في جامعة مثل جامعة الأمير عبد القادر وفي قُطْر انتزع استقلاله بتضحيات لم يسبقه إليها قطر عربي أو إسلامي آخر هو تجنب النزعة الخطابية والأحكام المسبقة.
كيف يمكن مثلا ضمن برامج مقررة في نهاية الثمانينيات من القرن العشرين أن نقرر دراسة تعتمد التلقين المذهبي [المذهب المالكي] الذي قد يكون له ما يفسره في الماضي البعيد أو القريب، إلا أنه لا يمكن أن يتواصل في جامعة مدركة لتحديات العصر وعوامل التحول في العالم الإسلامي.
ثم كيف يتحقق تكوين جامعي في جامعة إسلامية معاصرة مع تجاهل لمادة الفلسفة ومادة التاريخ والفكر التاريخي والدراسات المقارنة؟.
كيف يمكن أن نطمئن إلى مضامين تهمل التنسيب في خصوص الحديث عن الاتجاهات الفكرية كالاستشراق، وعن الديانات المختلفة فتسارع إلى جاهزية المواقف والأحكام؟.
ما يلاحظ أيضا في نفس المقررات التي اطلعنا عليها هو ورود عناوين لا يمكن إدراجها في المسافات المعرفية الجامعية؛ لأنها ما تزال بحاجة إلى الدرس والبحث مثل مادة الاقتصاد الإسلامي أو علم الاجتماعي الإسلامي. المجال الذي يمكن لهذه المسائل أن تطرح فيها هو مراكز بحث أو ملتقيات علمية متخصصة، أما الجامعة الإسلامية فلا ينبغي لها أن تخوض في مسائل لم تحدد معالمها النظرية أو كانت مجرد شعارات للاستهلاك المحلي.
إن ما عرضناه من نماذج المنهج التكويني في جامعة الأمير عبد القادر كما نصت عليها الوثائق المعتمدة في بداية العقد الأخير من القرن الماضي يدل على فهم خاص للمعاصرة في أحدث جامعة إسلامية بالمغرب العربي.
ما هو أهم مأخذ على تدريس "جامعي" له هذا المنحى؟
ما ينبغي أن نتذكره هو أن الجامعة الإسلامية العصرية بالمعنى الدقيق ينبغي أن تدرس المعرفة الإسلامية باعتماد مناهج علمية تجدد الفكر وتتيح في نفس الوقت إنتاج معرفة قابلة للاستيعاب ضمن تلك المؤسسات وخارجها. من ثم جاز لنا أن نقول: إنه إن كان غير مجدٍ أن يدرس التراث الإسلامي على أنه ظاهرة تاريخية خالصة لا صلة للباحث بها بأي صورة؛ فإنه من غير المفيد فهم الانتماء إلى الثقافة الإسلامية على أنه رفض للتاريخ والوضوح النظري. في الحالة الأولى يكون البحث أشبه بتشريح جثة هامدة وتفكيك أواصرها بينما هو في الوضع الثاني سيادة الانفعال وبكاء ونحيب فهو في الظاهر دفاع وفي الحقيقة تعبير عن أزمة.
ما تؤاخذ عليه مناهج جامعة الأمير عبد القادر الإسلامية هو نزعتها الخطابية الغالبة التي تعجز عن تحقيق تكوين نظري يقارب حتى المستوى العقلي والتنظيري الذي كان عليه علماء السلف، هذا فضلا عن أن يتجاوز نوعيّا ذلك المستوى.
هو منهج لا يُنهي الانفصام القائم بين الباحث المسلم وعصره؛ إنه يعتمد مقولة: "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا"، بينما العالم يعيش توقيتا حضاريا واحدا، سواء أكان موقع المسلمين فيه متقدما أم متخلفا. هو منهج يركز الاغتراب والحنق والحيرة فلا يتيح مساهمة في حل مشاكل معرفية أو معضلات وطنية كما لا يسمح بمواجهة إيجابية للتحديات العالمية.
--------------------------------------------------------------------------------
يمكن تلخيص الجامعات الإسلامية في أنها: تاريخ ومناهج ومشروع. لكن قصورها في وظيفتها النقدية أخل بوظيفتها المؤسساتية.
--------------------------------------------------------------------------------
سؤال المعاصرة عندما يطرح على المؤسسة الجامعية الإسلامية فلا بد أن يفضي إلى إنتاج معرفة تكون "سلطة" تحقق للمؤسسة ذاتية لا تقبل المنازعة. بذلك يمكن أن نخلص المؤسسة الجامعية الإسلامية من معرفة غير موصولة بالواقع، ومن وعي مفوت لا يواجه التحديات المستجدة وإن ظن أنه فاعل في الشعارات والحمية، هذا بينما يمكن تلخيص الجامعات الإسلامية في أنها: تاريخ ومناهج ومشروع.
ما يفيده تاريخ الجامعات الدينية في البلاد الإسلامية هو أن قصورها في وظيفتها النقدية أخل بوظيفتها المؤسساتية فلم تكن مساهمة في تجاوز انسداد الأوضاع الفكرية والاجتماعية. من هذه الناحية فقد كانت مختلفة نوعيا عن الجامعات في أوربا الغربية. هذه الأخيرة كانت منذ ظهورها في القرن الثاني عشر الميلادي مؤسسات تعليمية تابعة للكنيسة غير أنها انخرطت في صراع مع الكنيسة أحيانا ومع الدولة وممثليها أحيانا أخرى. أفرز هذا السياق حصانة خاصة للجامعات تدعمت من خلال خصائصها الكبرى التي صاغت وظيفتها العلمية القائمة على ثلاث دعائم هي: الاستقلال /التنظيم /الفاعلية السياسية. بذلك استطاعت الجامعات الأوربية أن تصوغ بمعرفتها سلطة تحمي بها أعضاءها بما يتيح لهم حرية البحث والإبداع، وبما يجعلها قادرة على المساهمة في التحولات الاجتماعية والاقتصادية السائدة في أوربا من جهة أخرى.
هذا في حين كانت المؤسسات التعليمية في البلاد الإسلامية مغايرة في مراميها وطبيعة نشأتها. كانت للمعاهد الإسلامية مهمتان:
1- تأييد الدين بنشر العلوم الإسلامية وخاصة الفقه.
2- بث اللغة العربية لسانا وأدبا.
هذه الغايات أفضت إلى الارتباط بالغاية السياسية، فأصبحت المعرفة والأنظمة الحاكمة أمرين متلازمين يعتمد أحدهما على الآخر؛ تدعم المعرفة شرعية الحاكم في حين يركز هذا الأخير سلطة المعرفة. هذا ما جعل المؤسسات التعليمية الإسلامية مطبوعة بتبعية أبعدتها عن هموم "العامة"، وأفقدتها القدرة على التطوير النوعي في أساليب التعليم ومناهجه بما حرمها من أن تنحت لنفسها المشروع المميز والسلطة الذاتية الواقية. لا غرابة إذن إن تركز فيها فكر أحادي ثابت يعتبر الإطلال على عالم متغير من داخل الثقافة والتراث ابتداعا يستحق النفي.
إن أردنا أن نلخص في النهاية طبيعة المؤسسات الجامعية الإسلامية في المغرب الكبير حتى الفترة الحالية فإننا نقول: إنها ذات خصوصية لا تتاح للجامعات العادية الأخرى، ذلك أنها أقدر على تعميق التساؤلات الحضارية الكبرى التي تنشأ في فترات التحولات الضخمة، لكن ذلك مشروط بوعيها لرهان المعاصرة.
من جانب آخر تختزل تلك المؤسسات معضلة النخبة العربية المسلمة منذ ما لا يقل عن قرن ونصف بحيث تكون إشكالية المؤسسة الجامعية ومعضلة النخب عندنا واحدة: هي كيف تكون معاصرة لعصرها.
من ثم فلا بد من السؤال القديم والمزدوج: لماذا ندرس العلوم الشرعية اليوم؟ وكيف ينبغي أن يكون ذلك؟
قديما كان أبو حامد الغزالي قد أدرك أن خللا هائلا قد طرأ على علاقة منظومة مجتمعه الثقافية بمقتضيات لحظته التاريخية، ولذلك حرر "إحياء علوم الدين". كان تشخيص "الإحياء" على أن جوهر الخلل الذي أصاب المجتمعات ذاتي، تم عند انحراف تلك المجتمعات عن "النموذج الإسلامي" الذي هو أساس توازنها وتطورها. لذلك فالإصلاح يكون بمنطق داخلي صرف دون اعتماد أي عنصر خارجي باعتبار أن المجتمعات الإسلامية لا تحتاج في إصلاح ذاتها إلا إلى الموروث وحده.
سؤال المعاصرة كفيل بتجاوز هذا الخطاب بما يحرر مؤسسات التعليم الإسلامي عامة من منهج الغزالي الإحيائي، ذلك أن الإحالة التراثية للتراث تقيد غاية التعليم في الاكتفاء بذات التراث وقدرته -وحده- على تحقيق الرسالة العلمية وعلى مواجهة كل المصاعب.
أما "معاصرة العصر" ضمن المؤسسات الجامعية الإسلامية -على معنى التجديد وليس على معنى الإحياء- فإنها لا تتركز إلا عندما تخرج نخبا قادرة على تركيب نسيج ثقافي حي يبلور قيما وأفكارا وأذواقا تحقق التواصل مع الماضي، لكنها تصوغها صورا جديدة للمطالب المشروعة والمطامح الإنسانية المتوثبة.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.