ثمانية أعشار آيات المصحف ليست لها أسباب نزول، ولا شك في أن هذا يطعن في رأي بعض المعاصرين حول اقتران آيات القرآن الكريم كلها بأسباب نزول تاريخية، والتي يعمدون إليها كمدخل لقراءة تاريخانية للنص، كما أن ثمانين في المئة من الأسباب تتعلق بآيات الأخبار، وهو مخالف للانطباع الشائع عند القدامى من اختصاص أسباب النزول ببيان ما في بعض الآيات من أحكام قرآنية.
وكانت أسباب النزول تعكس تارة متخيلاً إسلامياً لا يرى حرجاً في تحدي قانون السببية، سواء أكان متعلقاً بالعجيب والغريب كالكائنات اللامرئية من جن وملائكة أم بالعناصر الطبيعية، وتعكس تارة أخرى مظاهر محدودة من التاريخ الإسلامي الأول، وبخاصة المغازي وصلة الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالصحابة وبزوجاته (رضي الله عنهم)، كما تهم عدداً من الصحابة في تعبدهم ومعاشهم. ومن الطبيعي والحال هذه أنها لا تكفي في تبين كل ما يطمح الباحث في النص القرآني إلى معرفته على وجه الدقة، ولذا كان الرأي الذي استقر عليه المؤلف هو قلب طريقة علماء القرآن والمفسرين في التعامل مع أسباب النزول رأساً على عقب، فبدلاً من أن نقرأ مثلهم آيات المصحف بعيون الأخبار فإنه ينبغي قراءة الأخبار بتحكيم الآيات فيها تحكيماً نقدياً، هذه النتيجة التي خلصت إليها دراسة الباحث التونسي بسام الجمل «المؤسسة العربية للتحديث الفكري والمركز الثقافي العربي 2005» عن «علم أسباب النزول» بوصفها العلوم التي ظهرت نتيجة لبحث المفسر عن الظروف الحافة بآيات المصحف الشريف وعن مناسباتها والأشخاص المعنيين بها زمن الوحي.
إن البواعث التي تدفع للخوض والبحث في أسباب النزول، تتمثل في الحضور البارز لاسباب النزول في كتب التفسير، وفي وجود قراءتين قاصرتين علمياً وان كتب لهما الرواج على نطاق واسع، أولاهما قراءة إيمانية متشفية في المؤلفات القديمة سلم اصحابها بكل مرويات أسباب النزول وقبلوها على علاتها دون ادنى سؤال عن حقيقتها التاريخية ودون الجرأة على الطعن فيها بسبب ضوابط سطروها في التعامل مع إخبار أسباب النزول، إما القراءة الثانية فهي الاستشراقية الوضعية، وقد حكم فيها ممثلوها قواعد المنهج الوضعي في مقاربتهم اهم المفاهيم المؤسسة للفكر الإسلامي، ولم يعترفوا عند نظرهم في نص المصحف بصفة «المفارق» فيه، وكذلك عدم وجود دراسات عربية حديثة تصدت لمبحث أسباب النزول تصدياً علمياً موسعاً وأثارت قضاياه المنهجية والمعرفية، أو أجابت عن ابرز اشكالياته على نحو يجعلنا ندرك كيفيات اشتغال الفكر الإسلامي وآلياته في شأن نص المصحف من خلال أسباب النزول.
غير أن أهم من ذلك كله أن أسباب النزول تمثل قراءة تاريخية للقرآن تحمس لها بعض الباحثين العرب «نصر حامد أبو زيد على وجه الخصوص» لإثبات وضعيته أو على الأقل عدم الجدوى من الاستفادة منه في الحاضر والراهن.
ثمة قراءتين تناولتا علم أسباب النزول، القراءة التاريخية والقراءة الآنية، حيث تمتد القراءة التاريخية من أوائل القرن الثاني الهجري إلى بداية القرن العاشر، لا يمكن لهذه القراءة أن تكون مستمدة من مصدر واحد، كما أن الباحث في علوم أسباب النزول يحتاج إلى رصد ما يمكن أن يطرأ عليها من ضروب التغير في الرواية وأشكال التبدل في الدلالة، أما القراءة الآنية فلا بد من الاستئناس بها في انجاز عرض نقدي للمؤلفات الحديثة الدائرة على مباحث أسباب النزول.
وكما يذهب الكاتب بسام الجمل في دراسته المذكورة آنفاً، فإن استعراض الدراسات الحديثة في أسباب النزول يفضي إلى رصد موقفين متقابلين موقف تمجيدي اكتفى أصحابه باجترار ما انتهى إليه القدامى من نتائج في هذا العلم، فانعدم الحس النقدي في تلك الأعماق انعداماً كلياً، ومن هؤلاء صاحب كتاب «مناهل العرفان» و«مباحث في علوم القرآن»، وموقف نقدي لم يأت أصحابه إلا ببعض الملاحظات الجدية، لم تصل إلى مرحلة البحث المتكامل من منظور نقدي، استرشد ممثلوه بالمكاسب المعرفة والمنهجية المستفادة من العلوم الإنسانية وعلوم اللسان والانثروبولوجيا، من هؤلاء حسن حنفي، ونصر حامد أبو زيد، وفي هذا السياق لم يغفل الكاتب الدراسات الاستشراقية وسبب اهتمامهم بعلوم القرآن، التي تقوم على منهجين: المنهج الوضعي الذي كان قاصراً في تدبر المفاهيم المحورية المؤسسة للرسالة المحمدية مثل الوحي والنبوة والقرآن، ثم المنهج الفيلولوجي الذي كلف أصحابه بتتبع تاريخ المصحف والمراحل الكبرى للوحي، ووضع ترجمات للقرآن الكريم والخوض في بعض مسائل علوم القرآن ومنها أسباب النزول.
عمل الجمل على دراسة تاريخ علم أسباب النزول والكشف عن أهم عوامل تكون هذا العلم وتشكله وهي عوامل ثقافية (دور القصاص في الاهتمام بأسباب نزول بعض الآيات المتصلة بالسيرة النبوية والمغازي) ومعرفية (معرفة تاريخ نزول أي القرآن والخوص في الأحكام الناسخة والمنسوخة) وايديولوجية (تنازع المذاهب في تأويل النص الديني تعويلاً على أسباب النزول).
بعد دراسة بنية أخبار أسباب النزول وتبين طرق صناعتها ينتهي الجمل أن القسم الأكبر من مادة أسباب النزول مختلفة، ومشكوك في صحتها، وعدم ملاءمتها لمنطوق نص المصحف ولمقاصد الرسالة المحمدية، وهذا الاختلاق كانت وراءه دواع سياسية، ومذهبية، وبيئية، حتى قد تكون لعقد صلة بين آيات المصحف وما شاع من أخبار سيرة الرسول ومغازيه انطلاقاً من مجالس القصاص والإخباريين. ابن عباس مثلاً الذي استأثر برواية أكثر من ثلثي المرويات لا يعتبر شاهداً حقيقياً على مرحلة الوحي إذ لم تكن سنه – وهو في سن الثانية عشرة عند وفاة الرسول – تسمح له بأن يكون صحابياً بالمعنى الدقيق للصحبة وشاهداً موثوقاً به على أحداث فترة الوحي، ولكن من يجرؤ في ظل الدولة العباسية على تكذيب «جد الخلفاء» وقتها أو التشكيك في سلامة رأيه، كما أن جل التابعين رواة الأخبار من الموالي، ومن المعروف أن مناهضة بني أمية للموالي سيدفع بالعديد منهم إلى الرغبة في التفوق على العرب في الميادين التي كانوا يترفعون عنها، ومنها مجال العلوم عموماً كعلوم الدين واللغة وما شاكلها.
ولعل المفسرين استغلوا أسباب النزول لاستعادة طور متميز من تاريخ الإسلام، هو طور النبوة، فأعادوا بناء علاقة الرسول بالوحي، بخاصة لحظة تقبله التنزيل، ولقد أسسوا تصوراً للوحي لا يعكس إخباراً بما حصل في الواقع التاريخي وقتئذ من علاقة الرسول بالمفارق بقدر ما يترجم عن تمثلهم الخاص للوحي، وقاموا بتبرير القراءات الموافقة للمصحف العثماني في غالب الأحيان، والمخالفة له في بعض الأوقات، ووظفت تلك الأخبار لإقامة الدليل على صحة مقالاتهم في النسخ، وحسبما يرى المؤلف فإن ذلك التوظيف لم يقم على معايير مقنعة في تصور العلاقة بين أسباب النزول والنسخ، وان جل العلماء قاموا بهذا التطويع المقصود على رغم الشبهات العالقة به، من جهة الرواية وطرقها ومرجعيتها التاريخية ومدى صلتها بمقاصد النص الديني ورهانات الرسالة المحمدية.
الواقع أنه كثيراً ما يجد الباحثون المعاصرون حرجاً في التصدي بروح نقدية لجوانب من منظومة العلوم الإسلامية الأساسية التقليدية، ذلك أن عناصرها متضافرة، يعضد بعضها بعضاً، خشية أن تنهار المنظومة برمتها فيما إذا تبين الخلل في فرع من فروعها، ولهذا فهم مترددون بين الإثبات والنفي، بين الجرأة والخوف، بين مقتضيات المعرفة الحديثة ومقتضيات الوفاء لجهود القدماء، وتحتل دراسة المحاور العلمية التي ما فتئت تشغل المفسرين منذ استقام التفسير القرآني فناً ذا ملامح محددة، ومكانة متميزة، وقد تبلورت هذه المحاور بصفة تدريجية وتنوعت بتنوع اهتمامات المفسرين، كما تدل على ذلك مقدمات كتبهم، إلى أن جمعت في فترة متأخرة في «برهان» الزركشي و «إتقان» السيوطي، وقد عمل كلاهما على تصنيفها ضمن ما أصبح معروفاً بـ «علوم القرآن». وكانت وظيفتها الرئيسة توفير المعطيات التي تعين المفسر على فهم النص فهماً صحيحاً بحسب معايير المدرسة الفكرية والمذهبية التي ينتمي إليها.
ما تخلص إليه هذه الدراسة فإن جل مادة أسباب النزول لا تصلح لأن تكون معرفة إسلامية موثوقاً بها ومؤهلة بحق للإجابة عما طرحه العلماء المسلمون من أسئلة في مباحث السيرة والمغازي والحديث والوحي والفقه والقراءات والتفسير... فهذه الأخبار ليست سوى تمثل القدامى لمرحلة الوحي، وهو تمثل متأثر بأحوالهم التاريخية وناطق بهمومهم الثقافية عموماً.
موضوعات كثيرة تشترك مع أسباب النزول في مراوحة بين قراءة تاريخية وأخرى تاريخانية (مثل: الناسخ والمنسوخ والتخصيص والقراءة الفيلولوجية) تثار كلما أعيد الحديث عن القرآن وتاريخه وعلومه، تماماً كما يمكن أن نراها في كتاب تيودور نولكه «تاريخ القرآن» الذي نشر أخيرا (2004) وأثار حماسة بعض الحداثويين العرب من جديد ليتخذه دليلاً على أن العالم العربي أصبح أمام الحقيقة التاريخانية للقرآن بعد الدراسة «العلمية» لنولكه! فيما استثار حفيظة البعض الآخر (هاشم صالح مثلاً) ان يمنع الكتاب من التداول في أهم عاصمة النشر العربية (بيروت) ويصبح ذلك دليلاً على ان العالم العربي غير قادر على مواجهة الحقيقة التاريخانية للقرآن الذي يؤمن في شكل مطلق غير مخلوق ولا علاقة له بالنص البشري لا من قريب ولا من بعيد. والواقع أن تاريخانية هاشم صلاح وزملائه لا يدركون في شكل جيد أنهم يؤمنون بالمثل وفي شكل حقيقة مطلقة وغير قابلة للنقاش أن القرآن مخلوق وهو جزء من التاريخ البشري!
إن كتاباً يبحث في تاريخ القرآن سيبقى مهماً حتى لو كان استشراقياً ولكن كتاب نولكه – على رغم انه يمثل تحولاً في دراسة الاستشراق للقرآن إلا أن علله الكثيرة لا تجعلنا نذهب إلى القول بحماسة (كما ذهب هاشم صالح): «انه يمثل الثورة الكوبرنيكية بالنسبة إلى الدراسات القرآنية»، بقدر ما تجعلنا على اطلاع بتاريخ الدراسات الاستشراقية ومسارها المضطرب مع القرآن الكريم.
ــــــــــــــــ
الكتاب:علم أسباب النزول
المؤلف:بسام الجمل
الناشر:المؤسسة العربية للتحديث الفكري والمركز الثقافي العربي 2005
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.