|
|
النص والتراث . الفقه و الأصول |
|
|
أسلحة الدمار الشامل: وجهة نظر في المعالجة الفقهية الحديثة
هشام منوّر
|
تثير قضية " اندماج" المسلمين اليوم في محيطهم الإقليمي والعالمي، وانخراطهم في عجلة الفعل والتدافع الحضاري، من الهموم والشجون ما قد "يسود" من السطور والصفحات أكثر مما يتوقع أو حتى يعقل؟!. فالمسلمون قد كتبوا على أنفسهم على الدوام العيش خارج حاضرهم وواقعهم، فهم إما أن يكونوا مكبلين بالماضي وغارقين في أتون التاريخ، على أهميته ونصاعة معظم ما قد احتواه واشتمل عليه بالنسبة لهم، وإما أن يكونوا حالمين بمستقبل يسترجعون فيه ذكريات الماضي التليد وعزهم ومجدهم الحضاري، في نزعة ماضوية لا يكاد الواقع الراهن والمعاصر يكون سوى "ظل" لمنعكساتها، أو بالأحرى: ضحية لطموحاتها وآمالها. لا ريب أننا نستطيع تفهم ما آل إليه حال المسلمين في ضوء عجزهم عن مباشرة الفعل الحضاري واقعهم وحاضرهم، وفي ظل هيمنة " الآخر" وسطوته بل واحتلاله لأجزاء متزايدة من أراضيهم، وهدره اليومي لكرامتهم وسيادتهم واستقلالهم. بيد أن المشكل يجب ألا يتوقف بنا عند مقاربة تفهم حال المسلمين وسر قيامهم بردات فعل أقرب ما تكون إلى العشوائية والانفعالية منها إلى الواقعية والعقلانية، سيما أن أسلوب تفكير المسلمين ورؤيتهم المنهجية والكلية للكون والإنسان والحياة قد أضحت أسيرة رؤاهم الحالمة نحو المستقبل والمكبلة سلفاً بهاجس الماضي. وحتى لا يكون ما تقدم من الكلام ضرباً من التنظير أو الجلد للذات، وهو ما بات يألفه كثير من المثقفين اليوم، يكفي أن نطالع عدداً من مدوناتنا ومتوننا الفقهية الحديثة والمعاصرة، والتي أخذت على عاتقها مهمة توضيح الحكم الشرعي في عدد من المسائل المعاصرة والشائكة على حد سواء، لنلاحظ مدى التخبط في الرؤية والقصور في المنهجية، إلى درجة يعتقد معها القارئ لها أن مؤلف الكتاب لما ينفض عن نفسه أولاً، وعن كتابه تالياً غبار عدة قرون خلت، سواء على صعيد اللغة المستخدمة وأسلوب التعبير، أو على مستوى الطرح والمعالجة. ومع ذلك سوف نرى من أبناء جلدتنا من يبارك صنيعه، ويتبرك بغباره "القديم"؛ نظراً لسريان عادة "التبرك" بكل ما هو قديم حتى ولو كان يدعي المعاصرة والراهنية، مادام في جوهره وكينونته لم يغادر بعد أتون التاريخ والماضي. فعندما يحاول بعض الباحثين المعاصرين، على جلالة قدرهم، معالجة قضية شائكة وخطيرة، من مثل الحكم على مشروعية اتخاذ أسلحة الدمار الشامل واستخدامها، "يهرع" فقهاؤنا إلى المدونات الفقهية ليتلمسوا فيها الحكم الشافي وليكفوا أنفسهم "مشقة" البحث والاجتهاد والتنقيب. وعلى الرغم من إقرارهم صراحة أننا " قد لا نجد من بين الأسلحة والوسائل الحربية القديمة سلاحاً واحداً ينتج من الهلاك والدمار الشامل كما نجد ذلك في الأسلحة الحديثة"، مما يعني اختلاف الحالة المقيس عليها عن الحالة محل البحث، وانتفاء أحد أهم شروط العمل بمصدر "القياس"، لكنهم وقبل أن يتنبهوا من صحوتهم تلك يسارعون إلى التأكيد على أننا " قد نجد هناك عدة أسلحة ووسائل حربية قديمة جرى ذكرها في المراجع الفقهية في معرض ما يجوز استخدامه منها ومالا يجوز في الحرب مع العدو، إذا استعملت بمجموعها أعطت مثل هذه النتيجة أي: الهلاك والدمار. وإن كان ذلك في نطاق ضيق وحيز محدود لا يقارن بما تعطيه الأسلحة الحديثة في هذه الحال"؟!. أما عن التمثيل بأسلحة الدمار الشامل برأيهم، فإن مثلها لا يعدو مثل: المنجنيق والتحريق والتغريق والتدخين (إشعال الدخان) وقطع الأشجار، وإتلاف المزروعات وتخريب الأبنية وقطع المياه وإفسادها على العدو بإلقاء السموم والقاذورات!!. ليتم الإعلان عن الحكم الفقهي وصياغته بحلة جديدة وهي أنه " لا خلاف بين الجمهور على جواز استخدامها كلها ضد العدو، حتى أشد تلك الوسائل الحربية هولاً كإلقاء النيران على المقاتلين من العدو في حالة الحرب، إذا كان من شأن العدو أن يستعمل مثل هذه الأسلحة ضد المسلمين، أو كان لا يستطاع أن كسب المعارك ضده إلا باستخدام مثل تلك الأسلحة والوسائل". وكفى الله المؤمنين القتال؟؟. وعلى الرغم من وضوح تردد صياغة الحكم الشرعي واستثناءاته المتعددة وعدم حسمه في استخدام تلك الأسلحة، على الرغم من ضآلة ضررها وبساطته، إلا أن القفز إلى تعميم الحكم الشرعي، على ما يعتريه من قصور ومحاذير، لا يلبث أن يطرح نفسه وبقوة، ليتم الإعلان ودونما تردد أو لبس أن أسلحة الدمار الشامل الحديثة كالقنابل النووية والذرية والجرثومية والكيماوية تلحق بتلك القديمة، " وإن كان بينهما اختلاف كبير في مدى الخطر والمساحة في التأثير"، وما ذاك إلا لأنها " داخلة في مفهوم النصوص الشرعية التي تدل بإطلاقها على جواز استخدام كل سلاح عسكري أو وسيلة حربية ضد العدو في القتال". وفي الوقت الذي يعترف فيه أولئك الفقهاء والباحثون بالاختلاف الناجم عن ماهية تلك الأسلحة الحديثة ومفارقتها لنظائرها المقيس عليها، إلا أن الحسم والجزم في شمولية الحكم الفقهي لها لا يلبث أن يطال جواز استخدامها حتى ولو كان في الجهات المعادية من أهل الحرب من لا يجوز قتله كالنساء والأطفال أو حتى المسلمين الموجودين بين أظهرهم، ويظهر التردد فقط في التحقق من وجود شرط هامشي بين الحنفية والشافعية، ففيما اشترط الأولون تعذر التغلب على العدو بغير هذه الأسلحة الفتاكة (أسلحة الدمار الشامل)، مال الشافعية إلى تجويز ذلك حتى مع القدرة على الظفر بالعدو دون استخدام هذه الأسلحة، شريطة أن يكون المسلمون " المبادون" في هذه الحالة قلة، يمكن، من وجهة نظرهم، تحمل خسارة فقدانهم على أي حال؟؟. فيما حرم الإمام مالك، رحمه الله، استخدامها في هذه الحال؛ مراعاة لوجود تلك الفئة من غير المحاربين. لست هنا في معرض الانتقاد لتلك الآراء الفقهية، فتلك نقول وآراء محكومة بظرفها التاريخي ومستندة إلى واقعها المعاش، من حيث نوعية السلاح المستخدم أو إمكانية تفادي القضاء على الأبرياء حال الحرب. ما يعنينا هنا هو كيف تم " سحب" تلك الآراء والنقول الفقهية إلى حالات أخرى معاصرة، وصولاً إلى تلبيس الواقعة لبوس حكم فقهي هو، باعتراف أولئك الباحثين، أبعد ما يكون عن مشابهة الواقعة الماضية شكلاً ومضموناً. بل إن الحديث ينسحب تالياً "لتبرير" استخدام شتى أنواع أسلحة الدمار الشامل التي يسميها أحد الباحثين بـ "أسلحة الفتك بالإنسان والحيوان والنبات، دون تدمير المباني والمنشآت"، كالقنابل النيوترونية والكيماوية والجرثومية، والدليل الجاهز على ذلك إطلاق النصوص وعموميتها، واستخدام "القياس بالأولى". فحيث أنه قد ثبت لديهم جواز استخدام أسلحة الدمار الشامل لكل شيء على وجه الأرض سواء كان له حياة أو كان عمراناً ومادة، فالأولى أن تجوز الأسلحة التي تقتصر على تدمير وسحق مظاهر الحياة فقط دون المباني والمنشآت، وقياساً أيضاً على تجويز الفقهاء استخدام الحشرات والحيوانات القاتلة كالحيات والعقارب، فهذه أسلحة في الاصطلاح الحديث، حسب رأيهم، هي من نوع " الأسلحة البيولوجية"؟!. لقد حرص المسلمون على وسم غزواتهم وحروبهم مع أعدائهم بـ " الفتح" ووصف أنفسهم بـ "الفاتحين"؛ إدراكاً منهم لحقيقة كون هذه الحروب، وإن شابهت غيرها في الظاهر من حيث المبدأ، إلا أن إدراكهم لحقيقة الدور المنوط بهم وأنهم بعملهم "الحربي" هذا " فاتحون" للعقول والقلوب، وداعون إلى صراط الله المستقيم، لا غزاة متوحشين همهم الوحيد الغزو والاحتلال والسبي، بل إن مهمتهم لا تعدو الاستخلاف في الأرض وعمارتها (هو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم) ] سورة الأنعام:165[، ]ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون( ] سورة يونس: 14[، بل إن من جملة ما وعد الله به عباده جزاء ما يقومون به في الدنيا من نشر لدينه وحفاظ عليه أن يستخلفهم في الأرض: ]وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنكم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم( ]سورة النور: 55[ . وهذا يقتضي الحفاظ على شتى معالم الحياة ومظاهرها، وفي مقدمتها الإنسان الذي لا يعدل سفك دمه بغير حق الدنيا بما فيها: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) ]سورة المائدة: 22[ . فالأصل أن مهمة الإنسان في هذا الكون تتمحور حول وجوب الحفاظ على كافة ملامح الحياة فيه ومظاهرها، وبالتالي فإن أي عمل من شأنه الانتقاص من هذا الواجب أو الإخلال به هو محرم قطعاً، وماالحرب في نظر الإسلام سوى وسيلة شرعية قد يلجأ إليها المسلم في حالات معينة ومحدودة، ولا يجوز على سبيل المثال العدوان على الغير دونما سبب: (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً) ]سورة النساء:94[، أو التمادي في استعمال القوة مادام الأمر يقضى بما هو أدنى منها: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، فكيف يجوز بناء على ذلك استخدام أسلحة الدمار الشامل ابتداء لإنهاء حرب لم تعلم بعد سياقاتها ومساراتها وما قد تؤول وتفضي إليه؟ ثم عن تجويز ذلك ينم عن جهل بآثار تلك الأسلحة التي لا يتوقف مداها وانتشارها على المنطقة المعنية ذاتها، وإنما يمتد لآلاف الكيلومترات شرقاً وغرباً، وتدوم آثارها لسنوات طويلة، فهل من عدل الإسلام أن يحاسب أناس قد يولدون بعد ذلك بسنوات طويلة بجريرة آبائهم وأجدادهم، والنبي صلى الله عليه وسلم رفض القيام بمثل ذلك عندما خيره جبريل عليه السلام أن يطبق ملك الجبال الأخشبين على المشركين، فأجابه: (لا، عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يقول لا إله إلا الله). فضلاً عن أن هذه الأسلحة قد أصبحت اليوم في عرف المجتمع الدولي محرمة ومدانة من قبل جميع القوانين والشرائع، وإن امتلاكها اليوم من قبل بعض الدول لم يزد في أمنها وأمانها في بلادها، بل على العكس، فإن كلفة الحفاظ على سلامة هذه الأسلحة وحراستها مما يرهق كاهل هذه الدول، مما يجعل تعقد من الاتفاقات بين الفينة والأخرى للتخلص من جزء منها بالتوازي مع أعدائها المفترضين. لا ننكر في هذا الصدد أن الرغبة الجامحة لدى الكثيرين من أبناء جلدتنا لامتلاك مثل هذه الأسلحة تحت ذريعة الحفاظ على نوع من التوازن العسكري مع العدو، ومن قبيل إرهاب العدو، كما هو المصطلح القرآني، بيد أن سعار الحصول على القوة المدمرة والمفنية لمظاهر الحياة مهما جعلنا ننتشي من فخر امتلاكها وتكديسها، لا يجب أن يحجبنا عن حقيقة الدور المنوط بنا في هذه الحياة الدنيا، وأننا مستخلفون على ما تحت أيدينا ومستأمنون عليه. وبدهي أن يقوم المستخلف والمستأمن بواجبه بما يحقق قوام الشيء المستخلف والمستأمن عليه، لا بما يدمره ويبيده ويسحقه؟!.
تاريخ النشر : 25-04-2006
|
|
|
|
|
|
|
الصفحة الرئيسية
l
دراسات قرأنية l
دراسات حديثة l
الفقه و الأصول l
العقيدة و الكلام l
فلسفة التجديد
قضايا التجـديـد l
إتجاهات الإصلاح
l
التعليم و المناهج l
التراث السياسي l
الدين و الدولة l
الحقوق و الحريات
مفاهيم و مصطلحات l
الإسلام السياسي l
الظاهرة الدينية l
فلسفة الدين l
فلسفة الأخلاق l
قضايا فلسفية
المـــرأة و النسوية l
الإسلام و الغرب l
عروض و مراجعات l
إصدارات l
حوارات و شخصيات l
مـؤتـمـرات و متابعات
جديد الملتقى l
سجل الزوار l
رأيك يهمنا l
اتصل بنا
©2024
Almultaka جميع الحقوق محفوظة
Designed by
ZoomSite.com
|
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.