|
|
النص والتراث . الفقه و الأصول |
|
|
|
بغض النظر ٍعن الملابسات التاريخية المعقدة التي ادت الى الانحراف عن فكر المقاصد العظيم و نظامه المتكامل-فإن هناك حوادث في صدر الاسلام و دولة الخلفاء الراشدين تبين لنا عمق و اصالة الاستدلال بالمقاصد العامة للشريعة بدلاٍ من التمسك بالبحث عن النصوص –التي قد تكون غير موجودة !. و لو اخذنا مثالاً حياً ، واقعياً و عملياً و يمتلك اثراً تاريخياً و دينياً عظيماً لرأينا ان فكر المقاصد والاستدلال بها يرقى إلى فترة نزول الوحي نفسها فعمر ابن الخطاب كشخصية فذه ونادرة كان رائداً من رواد هذا الفكر: لا كمكتشف او مخترع او صاحب مذهب فلم يكن عمر واحداً من هؤلاء، بل كان قارئاً جيداً للقرآن : فاهماً جيداً له واعياً لمقاصده واتجاهاته، لقد كان متحسساً للاتجاهات الداخلية فيه، لنسغه، لتشريعاته وارتباطاتها بالواقع شديد التغير وكثير التحول. لقد كان عمر فقيهاً بمعنى فقه مقاصد القرآن- مقاصد الشريعة وفقهه هذا بالذات هو الذي جعله تلك الشخصية الفذة . ان ما هو معروف اليوم من موافقة عمر للقرآن قبل نزوله في ثلاث مواضع او أربع نابع من فهمه للمقاصد القرآنية ليس ال،ا فقد ثبت في الصحاح ان عمراً وافق الوحي قبل نزوله في مقترحات صادق عليها الخطاب القرآني فيما بعد : مثل إصراره على عدم الصلاة على المنافقين واقتراحه احتجاب زوجات النبي واقتراحه تطليق زوجات النبي بسبب مشاكل الغيرة والتنافس القائمة بينهن (وبينهن ابنته حفصة!) وكذلك بأقتراحه بشأن أسرى بدر وكلها مقترحات صادق بالإيجاب عليها الوحي القرآني المنزل. فهل كان عمر يسترق السمع الى الوحي قبل نزوله ؟ هل كان يتجسس على الملائكة وهم ينقلون الوحي إليه عليه افضل الصلاة والسلام ؟ هل كان مُلهماً مُحدثاً بمعنى ان تلك الموافقات كانت تحدث بشكل خارق للمألوف ؟ في الحقيقة ان الأمر كان ابسط من ذلك بكثير واعقد في الوقت ذاته. ابسط لانه لم يحدث كشيء خارجي خارق للطبيعة البشرية وصادر عن قوى فوق طبيعة، واعقد لانه نتيجة لجهد بشري متواصل في سبر أعماق الخطاب القرآني وفهمه فهماً مترابطاً بالواقع. انه نتيجة تفاعل العقل واعماله باتجاهين في ان واحد : الخطاب القرآني والواقع . ان موافقات عمر للوحي هي من قبيل موافقات العقل للشريعة وهي موافقات متجددة ومفتوحة وممكنة الحدوث ما دام الواقع يظل يتغير ويتجدد ويتطلب الاستجابة لتحدياته واستفزازاته وهذه الموافقات قطعاً ليست قاصرة على عمر بن الخطاب وان كان عمر قد قدم لنا بمواقفه، خصوصاً بعد وفاة النبي وانقطاع الوحي نموذجاً لفهم متجدد للشريعة وللحدود عبر تطبيقها على مجتمع سريع التغير خاصة ان الدولة الإسلامية في عهد عمر قد تضاعف حجمها عدة مرات عما كانت عليه وقت نزول الوحي في حياته عليه افضل الصلاة والسلام . ان هاجس المقاصد وفهم المقاصد وفقه النسغ القرآني الساري في كل قانون وحد قرآنيين هو الذي جعل عمر يتعامل بشكل مختلف عن حرفية النص متجاوزاً إياها الى الغاية من النص الى المقصد منه . يظهرهذا جلياً في إبطاله الحد على السرقة في عام الرمادة وهو العام الذي عم به الجوع واشتد الفقر . أي فقيه اخر يتمسك بالنصوص وما أكثرها سيقوم بتطبيق الحد فوراً وسيقول ضمن ما يقوله : لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها … الخ لكن عمر الذي يفهم النصوص القرآنية ككل متكامل مترابط ببعضه البعض يعي جيداً ان الله لم يبعث محمداً ليقطع أيدي الناس – ولكن ليجفف منابع الانحراف والجريمة بعدها فقط يكون للحد معنى ومغزى. لذلك عندما نزلت بالناس كارثة طبيعية مثل المجاعة فان عمر تجاوز النص الى مقصده وابطل الحد الى حين زوال الأزمة . كذلك عندما قام بأبطال سهم (المؤلفة قلوبهم) الذي كان يعطى من ضمن اسهم الزكاة بالنص القرآني للفئة الضعيفة الدين حديثة الدخول في الإسلام لتقوية روابطها بالمجتمع الإسلامي ولتأليف قلوبهم- بالتعريف- لكن عمر الذي قويت على عهده الدولة رأى ان المجتمع الإسلامي صار مركز استقطاب وقوة بحيث لا يحتاج معها إلى إنفاق الأموال ليجمع الناس حوله بل صار الناس مع توسع الدولة ودخولهم في الدين افواجاً هم الذين يطمعون في قبول المجتمع بهم وخاصةً مع توزيع الغنائم والعطايا عبر الفتوحات الهائلة . … ومثل ذلك ايضاً عدم تقسيمه ارض العراق على المسلمين وتركها وقفاً لعامة المسلمين بتتالي اجيالهم مواجهاً في ذلك معارضة شديدة من بعض الصحابة وتدلنا تفاصيل الخلاف ان عمراً كان قد وصل للحكم- المقصد قبل ان يصل الى الدليل من القرآن بلغة اليوم الى ان وجد دليلاً في قوله تعالى (… ولمن لحقهم بأحسان ) فواجه به معارضيه من الصحابة لتقوية موقفه من المسألة. أي ان الموضوع لم يكن مسألة نصوص متعارضة بل مسألة استقراء عام لكل نصوص القرآن ومقاصده ومفاهيمه وصولاً إلى حكم قد يجد نصاً قرآنياً يسنده وقد لا يجد فيظل مرتبطاً بالمقاصد العامة للشريعة دون ان يفقده ذلك من قوته شيء . والمسألة المهمة في مواقف عمر الثلاث التي يجب ان ننتبه إليها هو ارتباطها المباشر جميعاً بنصوص قرآنية لم تنسخ ولم يرو عنها أنها قد نسخت أي انه قام ظاهرياً و وللوهلة الاولى بمخالفة نصوص شرعية قطعية- وليس بمخالفة سنة او حديث نبوي مثلاً نقول ذلك للوهلة الاولى فقط والحقيقة انه كان يقوم بتطبيق الشريعة الحقيقية بروحيتها ومقاصدها، بمعانيها،بشمولها، بتجددها وانفتاحها على مختلف التحديات والتطورات بأختصار كان يطبق الشريعة ككل مترابط الاجراء. بأستقراء لكل النصوص لا شريعة النصوص المتجزئة عن سياقها وواقعها .. وللانصاف لم يكن عمر منفرداً بهذا الفهم لمقاصد الخطاب القرآني وتأسيس فقهه عليه بل كان معه غيره من الصحابة في هذا الفهم القرآني للقرآن أي الفهم المستمد من القرآن نفسه لنصوص القرآن وآياته لكن عمر برز اكثر من غيره بسبب طول فترة خلافته من جهة واستتباب الامن والاستقرار فيها فكان ان اتيح لعمر ان يبرز فقهه المقاصدي للشريعة وتطبيقاتها (ام ان استتباب الامن كان نتيجة لهذا الفقه وتطيبقاته العملية الفذة المتطورة مع تغيرات الواقع ؟) بينما اختلف الامر مع علي الذي كان صاحب فقه مقاصدي نفاذ تدل على ذلك آثاره لكن الارث التقبل الذي استلمه مع الخلافة الفتنة والحرب الاهلية كان كفيلاً بتجميد التطبيقات العملية لفقهة المقاصدي القرآني للخطاب القراني . وقد جمد فقه المقاصد العملي من يومها إلى يومنا هذا . * * * لقد كان تجميد الفقه المقاصدي ، واحداً من اكبر الخسائر التي مني بها الفكر والفقه الإسلاميين- وبالتالي العقل المسلم. ورغم ان مسألة (الاستحسان) كانت تعد مصدراً فقهياً- عند الأحناف والمالكية تحديداً- الا ان- رفض الإمام الشافعي لها من ناحية- وعدم وجود تنظير فقهي يربط هذه المسألة بضوابط محددة من ناحية أخرى- جعلها تندثر او تتحول على الأقل على مصدر من الدرجة الثانية- في آخر القائمة التراتيبة للمصادر . ولو بحثنا عن أصول الفقه وتراتبيتها لما وجدنا للمقاصد فيها حصة- مع الأسف الشديد فالأصول الفقهية الأربعة التي سادت وسيطرت وامتلكت الشيوع هي الكتاب والسنة والقياس والإجماع . ومبدئياً- لا يمكن لمسلم الاعتراض على كون الكتاب والسنة يمتلكان الأولوية المطلقة والهيمنة على كل مايلي . المشكلة هي، كيف يتم فهم هذين المصدرين: الكتاب والسنة؟ كيف تم التعامل معهما – في الآلية الفقهية التقليدية . لقد عومل كلاً منهما.اولاً – كما لو كان نصوصاً مستقلة عن بعضها. منفصلة عن واقعها وعن السياق الذي أنزلت فيه- او حصلت فيه . الحكم المستخرج من كل نص سواء كان قرآنياً او نبوياً، كان يستخرج من (النص) على حدة- دون ان يربط ببقية النصوص- دون ان يوضح في سياق النصوص الأصلية و (الأسباب ) و (المقاصد) وراء نزولها. هذا اولاً . اما ثانياً ، فقد عوملت هذه النصوص القرآنية والنبوية- بتساوي تام ومطلق فيما بينهما، فصار طبيعياً ان يتقبل الفكر التقليدي إمكانية نسخ القرآن بالسنة بل وان يستبعد العكس! أي نسخ السنة بالقرآن . وكان ذلك يعني، ضمن ما يعني من أمور، ان يتصدر حكم- مستقى من نص نبوي خاص- على حكم مستقى من نص قراني عام. بدعوى النسخ والتخصيص لا بدعوى تبدل الظرف الآني الذي أتى بنص نبوي مختلف . .. وكان هذين العاملين معاً، هما ابعد ما يمكن ويكون عن الفهم المقاصدي الذي تميز به عمر مثلاً- وفترة الخلافة الراشدة عموماً. كان الفهم المقاصدي- لا يستقى حكماً من نص منفصل- مستقل عن النصوص الأخرى او عن السياق الذي أنزلت فيه. بل كان يعتمد على (استقراء) مجمل النصوص- مترابطة فيما بينها- مرتبطة مع سياقاتها- ليصل الى المقصد وراء الحكم- وصولاً الى الحكم نفسه . أما الفهم التقليدي فكان اعتماده الأساسي والأولي على (نص ) منفرد- ما هم ان كان قرآنياً او نبوياً. مع افتراض ان هذا النص هو الناسخ لكل ما سبق من نصوص، واستقاء الحكم منه على هذا الأساس . الفهم المقاصدي (يستقري) جملة النصوص- ما بين النصوص، وما وراء السطور- يركز على شموليتها وترابطها فيما بينها- وارتباطها بالواقع الذي نزلت اصلاً من اجله- اما الفهم التقليدي فهو يقرأ قراءة أحادية لنص واحد- يتصوره سابحاً في فراغ مطلق- ويصدر أحكامه واستنباطاته منطلقاً من هذه القراءة الأحادية الجامدة . الفهم المقاصدي يقرأ نصوص السنة على ضوء فهم القرآن- بحيث تكون السنة تابعة للقران- منبثقة منه ومترابطة معه . اما الفهم التقليدي فهو يساوي ويماثل بين الاثنين : كتاب وسنة- ويمارس قراءته الاحادية على نصوص مستقلة منهما معاً- فيحدث طبعاً ان تهيمن مثلاً قراءة احادية للسنة على فهم جمعي لنصوص القرآن . باختصار : الفهم المقاصدي يمثل شمولية العقل المسلم ورؤيته التكاملية- المنبثقة اساساً عن شمولية الخطاب القرآني وتكامليته . اما الفهم التقليدي فهو يمثل النظرة التجزيئية- النصوصية التي فرضت نفسها فرضاً عبر تقاطعات السياسة والتاريخ والفقه والعقيدة .. الفهم المقاصدي يعرض السنة على القرآن ولا يتحرج من القول ، كما قال عمر: لا ندع كتاب الله لحديث امرأة لعلها اخطأت او نسيت . والفهم التقليدي يعرض القرآن على السنة ولا يتحرج من القول : " الكتاب أحوج إلى السنة من السنة الى الكتاب " و " السنة قاضية على الكتاب " (هامش أوردها الشوكاني الأولي نقلاً عن الاوزاعي ولثانية عن يحيى بن ابي كثير وكذلك الدارمي) . والبعد بين الفهمين شاسع كما نرى. والفرق كبير . ولو أخذنا مسألة فقهية وطبقنا عليها آليات الفهم المقاصدي مرة- والفهم التقليدي مرة أخرى ، لوصلنا الى حكم مختلف في كل مرة . ويقدم لنا د. لؤي صافي- في كتابه المهم أعمال العقل(1) نموذجاً عن الاختلاف في اليتي النظر والاستنباط الذي يؤدي إلى الاختلاف في الحكم . ففي كتاب ألام ، ينقل عن الإمام الشافعي رحمه الله ، تخصيصه للحكم الوارد في الاية (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق) بحديث نبوي واحد هو (لا يقتل مؤمن بكافر). فيخلص إلى عدم قتل (عقوبة) المسلم بالكافر- أي عدم الاقتصاص بالقتل من مسلم اذا قتل كافراً . والأكثر من ذلك انه لا يفرق بين الكافر الحربي او المستأمن او المعاهد- بل يذهب الى إعتبار ان الحديث يشملهم جميعاً ما دام الكفر لازماً لهم غير مفارق أي ما دام كونهم معاهدين او مستأمنين لا يغير من كونهم كفاراً . انها النظرة التقليدية التي تجعل من السنة- او بالأحرى نص مجتزئ من السنة- قاضية على الكتاب . حاكمة عليه تهيمن على كل آياته - كل أحكامه. كل مقاصده. انها- بهذه الطريقة التجزيئية - ليست قاضية على الكتاب بمعنى الحكم والمقاضاة فحسب بل قاضية بمعنى القضاء المطلق- التدمير الشامل . نعم . تطبيق هذا الفهم التجزيئي- التقليدي يقضي على مقاصد القرآن -على روحيته ومعانيه - وكل ما انزل من اجله . ويقارن د. لؤي صافي ، نفس الحكم عندما يصدر عن رؤية تكاملية واضحة ، رؤية تحتكم الى آيات الخطاب القرآني اولاً - وتقرأ السنة بناءً على ذلك . لا العكس كما تفعل النظرة التجزيئية . الرؤية التكاملية لا تهمل نصوصاً قرآنية كهذه: ( ان الله يأمركم ان تؤدوا الأمانات الى أهلها. واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل) النساء 58 (ومن اجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل انه من قتل نفساً بغير نفس او فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) المائدة 32 (يأيها الذين أمنوا كونوا قوامين للشهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على الا تعدلوا. اعدلوا هو اقرب للتقوى) المائدة 8 ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق. ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل انه كان منصوراً) الإسراء 33 (ومن أهل الكتاب من ان تأتيه بقنطار يؤده إليك ومنهم من ان تامنه بدينار لا يؤده الا ما دمت عيه قائماً) آل عمران 75 هل يمكن حقاً - تحت أي شعار - ترك هذه المبادئ القرآنية الواضحة العامة والعمل بنص حديث مجتزء حتماً من سياق خاص له ظروفه ودلالته المختلفة ؟ هل يمكن حقاً ان يخصص حديث واحد كل هذه الآيات ؟ فأذا بالمؤمن لا يقتل بالكافر، بينما نرى ان الآيات القرآنية تأمر بالأمانة بالمطلق - تأمر بالعدل حتى مع من لا يعدل- وتقرر الآيات ان من قتل نفساً واحدة فكأنما قتل الناس جميعاً . وتستخدم في سياق آخر لفظة (النفس ) بالمطلق- عندما تحرم القتل وهو اللفظ الذي يلزم الناس جميعهم ولا يرتفع عنهم سواء كانوا كفاراً او مؤمنين ويعمم الخطاب القرآني حقيقة ان بعض أهل الكتاب يمتازون بالأمانة والنزاهة في التعامل- وبعضهم تنقصهم هذه الامانة- دون ان يرتبط ذلك بكونهم كفاراً او مؤمنين .. هل يمكن تجاهل كل هذه المبادئ القرآنية الواضحة- من اجل ان تخصص بحديث مقتص حتماً من سياق معين- واقعة معينة عسكرية على الأغلب ؟ اذا اعتمدنا النظرة التقليدية التجزيئية ، التي اولاً – تقرأ النصوص بشكل مستقل ومنفصل. وثانياً- تساوي تماماً بين نصوص القرآن والسنة- ان لم يكن تولي السنة أولوية على القرآنية .. اذا اعتمدنا هذه النظرة : نعم. ممكن جداً ان تصل لهذه النتيجة . لكن الرؤية التكاملية- المقاصدية التي تقرأ النصوص بشموليتها تصل الى نتيجة أخرى.. نتيجة مختلفة(2). وبين النتيجتين فارق كبير- لانهما يصدران عقلين مختلفين : يمتلك كل منهما رؤية مختلفة وآليات استنباط ونظر مختلفة. واحداهما عقل عامل وفاعل ، والآخر عقل جامد و مستقيل . * * * وكان لا بد ان تلقي هذه النظرة التجزيئية بظلالها المباشرة على موضوع القياس- وهو من اهم من موضوعات الفقه والاجتهاد عبر العصور. وموضوع القياس كان يمكن لو تزامن مع رؤية تكاملية واضحة المعالم ان يتحول الى آلية لسبر المقاصد وراء النصوص- لكن ارتباطه المباشر بالنظرة التجزيئية وقراءة النصوص بالطريقة المستقلة أدى الى ان يكون استمراراً لمطلب الفهم التقليدي البعيد عن روح المقاصد والمعاني القرآنية ولعل أوضح مثال على هذا المطلب هو مسألة العلة وتعريفها والخلافات حولها. فالعلة مثلاً- ليست تماماً السبب وراء الحكم كما قد نتصور من النظرة السطحية العامة. فالعلة كما يعرفها الغزالي مثلاً ( اعلم إننا نعني بالعلة في الشرعيات مناط الحكم أي ما أضاف الشرع الحكم اليه وناط به ونصبه علامة عليه) (المستصفي جـ2 ص330) أي ان الاسكار بهذا ليس هو العلة الموجبة لتحريم الخمر- بل هو فقط وصف جعله الله امارة لنا لنفهم سبب تحريم الخمر. (الجابري- بنية العقل العربي ص 161) – ويقول الغزالي ايضاً (اما اصل تعليل الأحكام واثبات عين العلة ووصفها فلا يمكن الا بالدلالة السمعية لان العلة الشرعية علامة وامارة لا توجب الحكم بذاتها انما معنى كونها علة نصب الشرع اياها علامة وذلك من وضع الشارع). (المستصفي جـ1 ص305) . ويؤكد أستاذه الجويني ت478 (علل الأحكام لا تقتضيها لذواتها واعيانها وانما تصير اعلاماًُ عليها اذا نصبت.) (البرهان في أصول الفقه جـ م ص649 – ويذكر الامدي (ت631هـ) (ان العلة العقلية مقتضية للحكم بذاتها .. بخلاف العلة الشرعية فانها بمعنى الامارة والعلامة او بمعنى الباعث ولا يمتنع ان يكون الوصف علامة على الحكم في بعض الازمان دون البعض ) الأحكام جـ 24 ص24. ويقول الشيرازي (ت 476 هـ) : اعلم ان العلة الشرعية إمارة على الحكم ودلالة عليه ومن أصحابنا من قال موجبة (…) ومنهم قال ليست بموجبة لأنها لو كانت موجبة لما جاز ان توجد في حال موجبة للحكم فدل على انها غير موجبة (الجامع في أصول الفقه – الشيرازي جـ1 ص105) . ويذهب ابن حزم (ت456هـ) الى اكثر من ذلك بكثير فيقول لا علة في شيء من الدين اصلاً والقول بها في الدين بدعة وباطل (!!) (الأحكام جـ1 ص45) . كل هذه التفاصيل مثل كون العلة موجبة او غير موجبة للحكم- او تعريفها كعلامة او مناط او امارة او رفضها اصلاً ، تمثل امتداداً فقهياً لخلاف عقائدي اصلاً : فاذا كانت العلة موجبة للحكم- فهذا يعني ان الله يجب عليه شيء – والمسألة تتصل على الفور – بهذا الاتجاه- بمسألة الحسن والقبح ونسبتهما وعدم نسبتهما لله – وهي مسألة مرتبطة بخلق الأفعال ومسألتي التخيير والتسيير ذائعة الصيت والتي تركت بصمة في كل مكان من الفكر والعقل المسلمين .. .. وهذا كله كان ولا يزال يمثل انحرافاً كبيراً عن الخط المقاصدي لفهم القرآن والسنة فالمسالة هنا لم تعد- مجرد قراءة مستقلة وأحادية للنصوص ولكن أصبحت قراءة (تعتقد) ان لاشيء وراء قراءتها : لا أيجاب. ولا علة حقيقية بمعنى المقصد. وربما لا مقصد أصلا ! (كما لا يصح عندنا ان يقال لم خلق الله الاحتراق عقيب مسيس النار ولم يحصل ابتداء او عقيب مماسة الماء وكذا ههنا لا يصح ان يقال لم أثيب عقيب أفعال- مخصوصة وعاقب عقيب أفعال أخرى ) المواقف 3/212 . لقد الغوا الاسباب كما رأينا سابقاً - والغوا ايضاً المقاصد هنا- فلا يصح ان يقال لم ثواب على عمل هنا- ولم عقاب على عمل هناك . (فيجمع القبول لما في كتاب الله وسنة رسول الله القبول لكل واحد منهما عن الله وان تفرقت فروع الاسباب التي قبل بها عنهما كما احل وحرم وفرض وحد بأسباب متفرقة كما شاء جل ثناؤه لا يسئل عما يفعل وهم يسألون ) الشافعي الرسالة ص33. أحل وحرم وفرض وحد- لكن لأسباب لا يسئل عنها- وهم يسألون ؟! عندما تصير الفرائض- الحلال- والحرام والحدود- اموراً دونما أسباب، دونما مقاصد- ماذا يبقى حقاً من الشريعة ؟ ماذا يبقى من صلتها بالعقل ، بالأسباب ؟ فلنسجل هنا ، ان سياق الآية لا علاقة له قط بمسألة الفرائض والحدود- وان هذا الاجتزاء هو ذاته النمط الآلي الذي يعتمد قراءة واحدة – مستقلة عن سياقها وعن غيرها من النصوص- ليحكم على العالم كله من خلال هذه القراءة . نعم. لا يسئل عما يفعل وهم يسألون- بمعنى المحاسبة. بمعنى العقوبة . لكن التساؤل عن الأسباب والمقاصد والعلل وراء الفرائض لا يأتي لردها او رفضها، ولكن لفهمها. لسبر اغوارها. لتطبيقها بشكل اقرب لروح الشريعة عند تبدل الظروف- لكن الفهم التقليدي يأخذ الآية من السياق ليطبقها على سياق اخر مختلف تماماً.. بالتأكيد سيقولون: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب). ربما، قاعدة فقهية أخرى نتجت عن هذا الفهم التقليدي وامتلكت مع التقادم قدسية وحصانة حتى صارت هي الأخرى بمثابة النص الذي لا يمكن مناقشته او مراجعته على الأقل. والبعض منهم يذهب الى الأبعد من ذلك بكثير (دلت الوجوه المذكورة انه يستحيل ان يكون شيئاً من أفعاله واحكامه معللاً بالمصالح(!!) فظهر بهذه الوجوه انه ليس في الغالب في أفعال الله تعالى رعاية مصالح الخلق ) الرازي- المحصول في علم أصول الفقه 5/265 . ليس في الغالب في افعال الله تعالى رعاية مصالح الخلق ؟! ياسبحان الله ! اين اذن وما ارسلناك الا رحمة للعالمين ؟ اين اذن رحمته ،عفوه، كرمه ومغفرته ؟؟ اكثر من ذلك واكثر (ليس جعل البعض من افعاله واثاره غرضاً اولى من البعض الاخر اذ لا مدخل لشيء منها في وجود الاخر على تقدير استنادها بأسرها اليه على سواء فجعل بعضها غرضاً من بعض اخر دون عكسه تحكم بحت فلا يتصور في تعليل افعاله اصلاً (…) احتجوا (أي المعتزلة ) على وجوب الغرض في افعاله تعالى بأن الفعل الخالي عن الغرض عبث وانه قبيح بالضرورة يجب تنزيه الله عنه لكونه عالماً بقبحه واستغنائه عنه فلا بد اذن في فعله من غرض يعود الى غيره نفياً للعبث والنقص. قلنا في جوابهم ان اردتم بالعبث ما لاغرض فيه من الافعال فهو اول المسائل المتنازع فيها اذ نحن نجوز ان يصدر عنه فعل لا غرض فيه اصلاً وانتم تمنعونه وتعبرون عنه بالعبث فلا يجديكم نفعاً ) المواقف 3 / 297. وكان ذلك كله انحرافاً بعيداً جداً عن كل ما في القرآن من حكم ومعاني وامثال وفرائض، كان انحرافاً عن القرآن نفسه وابتعاداً عن اعمق ما فيه ،عن لبه، عن روحه، عن الهدف الذي انزل اصلاً من اجله.. لكنهم سيقولون ما معنى ان يكون هناك هدف انزل اصلاً من اجله ؟ لا يوجد هدف هناك ولا غرض ولا علة . * * * وللانصاف فان التصريح بعدم وجود علة او غرض او قصد في احكام الشريعة ظل مقتصراً على فئة محددة من علماء المؤسسة التقليدية الذين امتلكوا جرأة التصريح بما يتناقض صراحة وقطعاً مع مضامين النص القرآني اما الاغلبية من العلماء الاعلام فقد كانوا على الاغلب بعيدين عن التصريح بما يقرب من ذلك . وللانصاف اكثر فان هناك عدداً من العلماء من المنتمين للمؤسسة الدينية حاولوا وبصدق تأصيل الفكر المقاصدي عبر القرون المتتابعة ولعل اول هؤلاء كان الامام العز ابن عبد السلام (ت660هـ) الذي اصل في كتاب (قواعد الاحكام في مصالح الانام )(3)• عدداً من القواعد المقاصدية الشرعية حول محور واحد اساسي واصلي وهو اقامة المصلحة ودرء المفسدة وتبع العز في ذلك تلميذه القرافي (ت 185) الذي مضى شوطاً في تأصيل الفقه المقاصدي كما كان ابن تيمية (ت 728هـ) وتلميذه ابن القيم (751هـ) يمثلان –احياناً- تجدداً فقهياً في هذا المجال مدعوماً بالنصوص والادلة والمقدمات المحكمة ((الشريعة مبناها على تحصيل المصالح بحسب الامكان لا يفوت منها شيء فأن امكن تحصيلها كلها حصلت وان تزاحمت ولم يمكن تحصيل بعضها الا بتفويت البعض قدم اكملها واهمها واشدها طلباً للشارع)) ابن القيم اعلام الموقعين 2/88 . يظل الامام الشاطبي (ت/790) صاحب كتاب الموافقات هو صاحب الحلقة الاهم في هذا المجال اذ ان نظريته في فقه المقاصد بشموليتها واصالتها تكاد تمثل قطيعة مع الفقه التقليدي الذي ما خرج عنه أي من العلماء السابقين بل كانت اضافاتهم تصب في مجال الاجتهاد فيه اما نظرية الشاطبي فقد كانت تبنى قواعداً جديدة . تؤصل فهمها للتشريع ضمن اطار جديد- اطار مقاصد الشريعة واستقرانها عبر ماهو قطعي الدلالة . نعم حصل ذلك لقد اجتهد هؤلاء وابدعوا وقدموا فكراً مغايراً للفقه السائد في زمانهم ولكن لم تحدث الشرارة، ولم يحصل التفاعل وظل ذلك الفكر المغاير مجرد تعبير على اوراق مخطوطة . كانت الحضارة الاسلامية تعيش لحظات غروبها الاخيرة وكان الفقه السائد عبر المؤسسة التقليدية يمثل تكريساً لهذا الغروب ان لم يكن بمثابة سبباً اساسياً له. كان الفكر يمثل تكريس السلبية والجهل وقتل روح التساؤل والاستسلام لكل ما يحدث ونفي الاسباب والمقاصد . .. وكان كل ذلك قد بدء وتراكم منذ فترة طويلة، منذ قرون لدرجة انه صار لصيقاً بالناس ،بمفاهمهم ،بعقائدهم، صار جزء منهم لا ينفصل عنهم.. لذلك لم يفرق كثيراً ان يكتب كتاب بفكر مغاير .. وفقه مغاير ليؤصل اصولاً جديدة ..لقد كانت النهاية قد حانت والستار قد أسدل . * * * وهذه المأساة لا تزال مستمرة الى يومنا هذا -رغم كل دعوات التجديد ودعاوي النهضة واسطورة الصحوة- لا يزال الفقه السائد يتعامل مع النصوص بنفس الطريقة التقليدية التي نتجت عن ملابسات تاريخية وسياسية، لا يزال الفقه يتعامل مع النصوص كل على انفراد يترك شمولية الاستقراء وكليات الرؤية العامة التي تشرف من بعد، لتلم بعموميات المقاصد بدلاً من ان تنشغل بتفاصيل الجزئيات . الامثلة ؟ كثيرة جداً. بعضها شأنك وحساس. والبعض الاخر اقل حساسية وكلها تتعلق بمقاصد النصوص وارتباطها بشمول الاحكام القرأنية .مثال قد لا يزعج احدا:ً زواج المسلم من غير المسلمة -الكتابية- جائز بالنص، فهل يمكن تطبيق هذا التجويز على واقعنا المعاصر بكل تبعيته وضياعه؟ في صدر الاسلام عندما كان المجتمع الاسلامي قوياً ومركزاً للاستقطاب والجذب كان الزواج من غير المسلمة يعني انصهارها وذوبانها بالمجتمع الجديد الذي كان لا يزال مرتبطاً بقوة بعقيدة الخطاب القراني ومعانيها، فكان لايمكن للزوجة ان تأخذ بأولادها بعيداً عن دينهم الذي هو مجتمعهم ومجتمعها ايضاً. اما اليوم، في ظل التفكك الاجتماعي الذي نعاني منه، في ظل التبعية التي نمارسها بشتى الوسائل والاشكال تجاه الغرب كما يمارس أي مهزوم التبعية تجاه المنتصر، وفي ظل غياب الوعي الديني بل وانعدامه، هل يمكن للزواج من غير المسلمة الا ان يكون تكريساً لضياع الدين عند اولادها حتى لو كانوا مسلمين بالهوية ؟ ان هذا الزواج لا يخالف نصاً معيناً لكنه ببساطة يخالف المقصد من النص والمقصد من الزواج الاسلامي نفسه. مثال اخر غير حساس ايضا،ً يتعلق بالزكاة. ان مقصد الزكاة بل مقاصدها المتنوعة معروفة وواقعية والمسألة هي هل ان مصادر الزكاة تظل ثابتة بالنسبة لمجتمع الجزيرة العربية في صدر الاسلام و مجتمع المسلمين اليوم الممتد من طنجة إلى جاكارتا بأختلاف الاقاليم المناخية والجغرافية وبالتالي اختلاف زراعاتها- مثلاً- ومنتجاتها الزراعية؟ ينتشر اليوم القول السائد بأن لازكاة الافي اربعة او خمسة منتجات: شعير، قمح، زبيب، تمور وذرة وهي المنتجات التي كانت سائدة في الجزيرة العربية كمجتمع ناشيء زراعياً محاط بظروف بيئية صعبة ويذهب مالك والشافعي إلى ان الزكاة لا تحق الا على المزروعات الخاصة بتغذية الانسان بأستثناء الفواكه التي يرون انها لا تدفع عنها الزكاة بينما يرى احمد ان الزكاة لا تستحق الا على المواد القابلة للتجفيف والتخزين مثل الحبوب والتمور والبقول المجففة واللوز والجوز ويستثنى منها الخضر والفواكه ايضاً. ان الوقوف عند هذه الاراء خاصة في الوقت الراهن سيعني ليس فقط ضياع موارد هائلة للزكاة من الفواكه والخضروات وغيرها من المنتجات الغذائية الزراعية التي لم تكن معروفة وقتها ولا حتى وقت قريب في بعض الاحيان( مثل البطاطا التي
تاريخ النشر : 25-04-2006
|
|
|
|
|
|
|
الصفحة الرئيسية
l
دراسات قرأنية l
دراسات حديثة l
الفقه و الأصول l
العقيدة و الكلام l
فلسفة التجديد
قضايا التجـديـد l
إتجاهات الإصلاح
l
التعليم و المناهج l
التراث السياسي l
الدين و الدولة l
الحقوق و الحريات
مفاهيم و مصطلحات l
الإسلام السياسي l
الظاهرة الدينية l
فلسفة الدين l
فلسفة الأخلاق l
قضايا فلسفية
المـــرأة و النسوية l
الإسلام و الغرب l
عروض و مراجعات l
إصدارات l
حوارات و شخصيات l
مـؤتـمـرات و متابعات
جديد الملتقى l
سجل الزوار l
رأيك يهمنا l
اتصل بنا
©2024
Almultaka جميع الحقوق محفوظة
Designed by
ZoomSite.com
|
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.