تمهيد:
منذ قرون والفكر الإسلامي يعيش مخاضاً يزداد عسراً يوماً بعد يوم نظراً للتحولات السريعة في أنظمة الحياة وبطء المسلمين في درسها واستيعابها والتعامل معها. وكل محاولة للخروج من ضيق الأفق من أجل بلورة رؤية جدية وجديدة للأمور تؤول لنقطة البداية، التي تحصر أفق البحث والنظر بحدود التاريخ والإمكانات المتجلية فيه. ويزداد هذا الأفق ضيقاً عندما يُتناول النص القرآني بالدرس بينما النص نفسه يفترض العكس؛ إذ يتميز النص القرآني بخصائص تجعل منه مَعيناً يمكن لقارئه ومتدبره أن يدرك معنى وصفه بأنه لا يخلق على كثرة الرد، وكونه نصاً معادلاً للوحي الإلهي في التاريخ وبديلاً عنه في مرحلة ختم النبوة، هذه الخصائص تنبع من بنائية القرآن المطلقة والتي تكتسب هذه الصفة من البعد الإلهي للنص لا من حيث المصدر فحسب إنما من حيث استمرارية الحفظ الإلهي له وطابعه المهيمن، هذه الإطلاقية إنما تتجلى عبر منهجية القرآن المعرفية والتي قاربت عصر النـزول بما هو واقع محسوس لتنتقل بهذه المعالجة التاريخية إلى القيم القرآنية المطلقة التي كُلِّف الناس بمقاربتها، فكان النص القرآني ينطلق من ظروف عصر النـزول ليفتح أنظار المتلقي إلى آفاق أرحب وأوسع مما هو بحاجة إليه في لحظة النـزول تلك، وبذلك كان القرآن نصاً يعالج الحدث التاريخي بلغة ومنهجية تتعالى عليه وتشده إلى المستقبل، عبر صياغة نصية موحاة من الله تتسم بالاستمرارية، وذلك من خلال صموده رغم تغيرات الزمان والمكان، وأوصافه القرآنية تدل على ذلك، فأصبح معيناً يمكن للإنسان أن يهتدي من خلال مقاربته -والتي هي نسبية بطبيعة الحال- إلى التي هي أقوم.
وبقراءة أفقية للتفاسير والدراسات القرآنية بما هي مقاربات للنص، نجدها تكرر نفسها وتتنـزل بلبوس جديد دون أن تضيف جديداً فضلاً عن أن تحل مشكلاً، لكن الوعي قائم بإمكانية وأهمية تثوير القرآن واكتشاف الإضافة في فهمه واكتناه معانيه، ويزداد هذا الجانب أهمية مع الحملة التي يتعرض لها القرآن من خلال خلط متعمد بين أخطاء بعض المسلمين وبين القرآن كمصدر للإسلام، وفي إطار المحاولات في تطوير الدراسات القرآنية برز الاهتمام بالمفردات القرآنية وما كان يعرف بعلم الوجوه والنظائر، وأخذ لدى المتأخرين اسم المصطلحات أو المفاهيم القرآنية، لكن ما صدر في هذا الإطار لم يكن إلا تنسيقاً جديداً للتفاسير القرآنية، فلم يقدم جديداً غير الشكل، فكانت الأزمة في تلك المقاربات منهجية، كما هو الشأن في معظم مقاربات التجديد في الفكر الإسلامي تهتم بالعناوين والشكل دون الغوص في الإشكال المنهجي.
ما تحاوله هذه الدراسة هو العناية بالجانب المنهجي وذلك من خلال تسليط الضوء على المسار التاريخي الذي آل بالدراسات القرآنية إلى دراسة المفاهيم والمصطلحات القرآنية ضمن ما يعرف بالتفسير الموضوعي، وإبراز أهمية اللغة والدراسات اللغوية المعاصرة في منهجية دراسة المفاهيم والمصطلحات القرآنية، مع محاولة في تحديد خطوات منهجية لدرس المفاهيم.
كذلك تحاول الدراسة تأطير معنى المفهوم ومعنى المصطلح من خلال دراستهما في جوانبهما اللغوية والفلسفية والتداولية، وبيان الفرق بينهما، وتحديد مصادر المفاهيم والمصطلحات، وتنـزيل ما استخلصناه من هذه الدراسة على المفردات القرآنية.
أولاً: مناهج التفسير/محاولات الخروج من مأزق الإسقاط
كثرت التفاسير والمقاربات للنص القرآني قديماً وحديثاً وتعددت المناهج واصطبغت بالمذاهب الفقهية والكلامية والتيارات الفكرية، فترددت تلك المقاربات بين الوفاء للنص في اكتشاف معانية وبين إسقاط المعاني عليه والتعسف في تأويله بما يتناسب مع توجهات القارئ، وفي سعي لتجاوز المزالق المذهبية في التفاسير ظهرت محاولات عديدة لاكتشاف معاني القرآن من خلال بنيته الداخلية، فظهر ما يسمى بالوحدة الموضوعية في القرآن الكريم، وهي فكرة قديمة تجد جذورها عند الجاحظ، لكنها استحضرت مؤخراً كمنطلق لما غدا يعرف بالتفسير الموضوعي، الذي يسعى -من خلال تتبع موضوع ما في جميع القرآن، أو اكتشاف موضوع يشكل رابطاً لكل سورة بمفردها- إلى تفسير القرآن بعيداً ما أمكن عن قَبليات القارئ وأملاً في تصحيح الكثير من القواعد والأحكام التي اختلف فيها أصحاب الفنون، لكن معظم هذه المحاولات سقطت في نفس الفخ الذي هربت منه إذ انطلقت إلى التفسير الموضوعي من خلال تجميع ما ورد في التفسير التحليلي وتركيبه بما هو عليه، فلم تختلف إلا صورة البحث وقالبه فقط، ومكمن ذلك افتقارها إلى المنهجية الشمولية المنضبطة.
ولنفس الأسباب أعيد الاهتمام المعاصر بعلم له صلة وثقى بعلوم القرآن والتفسير هو: علم الوجوه والنظائر في القرآن الكريم، ويُعنى بالألفاظ القرآنية المستخدمة على أكثر من وجه، وهو علم لصيق بعلوم العربية لكنه منحصر في السياق القرآني وتعود جذوره إلى القرن الثاني الهجري، وظهرت أهميته مؤخراً مع تطور المناهج اللغوية وتركيزها على السياق في تحديد المعنى وتوجيه فهم المفسر، وهو نفس التوجه الذي كان سلكه مؤلفو كتب الوجوه والنظائر قديماً، فكان في العودة إلى مناهجهم -على اختلافها- ودراستها مُعين في تطوير مناهج التفسير وإحياء مكانة اللغة فيها، فظهرت فكرة المصطلح القرآني.
وفي إطار ما غدت تحتله اللغة من مكانة في تفسير النصوص عموماً ظهرت في الدراسات العربية جهود تقتفي أثر تطور العلوم اللغوية واللسانية في الغرب على اختلاف تياراتها وتباينها وتناقضها وخلفياتها، فظهرت تيارات لغوية عربية متناقضة تتلقف أثر هذه التيارات دون نقد لها أو مراعاة لخلفياتها الفلسفية أو التاريخية، أو لما تعرضت له من نقد ضمن أوساط نشأتها، والبعض الآخر حاول تطبيقها على النصوص العربية فأبعدت هذه التطبيقات النصوص عن تجلياتها لدى القارئ وزادتها غموضاً، بل أوصدت تلك التطبيقات التعسفية ما كان يمكن أن تفتحه هذه العلوم من آفاق لتطوير البحث اللغوي العربي وما يتعلق به، وما دامت هذه المناهج مضطربة ومثيرة للجدل في أوساطها فضلاً عن تطبيقاتها المستنسخة في غير سياقاتها في النصوص العربية، فإنها ستكون مثيرة للجدل أكثر عندما تطبق على النص القرآني، وكانت المحاولات في هذا المجال ظاهرة الخلل إذ كان دور المناهج في هذه المحاولات توظيفياً وبمثابة الغطاء (للأيديولوجيا) التي تحكم تلك المحاولات، لكن ذلك التوظيف لم يمنع عديد الباحثين من الاستفادة من تطور علوم اللغة بشكل عام في تطوير مناهج اللغة العربية وإعادة اكتشاف قوانينها وآلياتها.
لكن النص القرآني الذي هو مدار الدراسات اللغوية القديمة لم ينله من المناهج اللغوية الحديثة إلا الحظ الزهيد، وكانت معظم المقاربات التي تناولته وصفية تحليلية ، دون أن يمنع ذلك من ظهور بعض الدراسات القرآنية الجادة التي قاربت بين المناهج اللغوية العربية وتطورات العلوم اللغوية المعاصرة، وقد ظهرت محاولات وما تزال تقارب النص القرآني مراعية الأبعاد الثلاثة المشار إليها، أعني الوحدة الموضوعية، والمفردات القرآنية، والمناهج اللغوية، فانطلقت في التفسير الموضوعي من خلال دراسة المفردات القرآنية وبمدخل لغوي في تحديد دلالاتها، ويفترض هذا التوجه مركزية المصطلح القرآني في تحديد دلالة النص ضمن وحدته البنائية، ولقد وعى المشتغلون بالتفسير وعلوم القرآن ذلك قديماً، فنبه الراغب الأصفهاني (503ﻫ) في مقدمة كتابه (مفردات القرآن) إلى أهمية العناية بالعلوم اللفظية وتحقيق الألفاظ المفردة في القرآن واعتبار أهمية ذلك تتعدى علوم القرآن، وكان كتابه المفردات مساهمة في هذا الجهد الأوسع الذي كان يطمح إليه.
ثانياً: المدخل اللغوي في مقاربة المنهج
الالتفات إلى مراعاة أهمية بنية النص القرآني بفضل تطورات العلوم اللغوية واللسانيات أعاد الاعتبار إلى المفردة القرآنية وضرورة قراءة القرآن من خلال مقاربة المفردات القرآنية وإعادة تدبرها بمنهجية تتجاوز مشكلات المنهجيات التي اقتصرت على المعنى اللغوي المعجمي الذي يدرس معنى المفردة، فركزت على الاشتراك والتضاد والترادف من خلال التركيب، فالمفردة القرآنية تتجاوز المعنى المطروح للألفاظ في عصر النـزول، وتأخذ المفردة في السياق القرآني معنى يتميز بالثبات من خلال الخصائص المميزة له والعلاقة السياقية أو الإسنادية للمفردة القرآنية، وكذلك الترابط بين مختلف المفردات القرآنية، هذه الخاصية تفرضها ماهية المفردات القرآنية التي لا تنفصل عن ماهية معنى القرآن، فتتحول الكلمة القرآنية في خصوصياتها وسياقها وأساليب استعمالها في القرآن الكريم إلى عالم مكتنز ومفهوم ممتلئ بالإيحاءات والدلالات.
فكما تجاوزت البلاغة القرآنية بلاغة الشعر والخطابة الجاهليين بل قلبت العلاقة بين الشكل والموضوع بالنسبة لما كان مألوفاً عن العرب، فأصبحت الصور والأشكال البلاغية تنبجس من خلالها روح جديدة وعقيدة واضحة تغير معنى الحياة وصورها، فإن اللغة القرآنية بشكل عام قدمت نسقاً لغوياً جديداً ينبغي اكتشاف خصائصه من داخل النص نفسه وبنيته وتراكيبه، لا بالقطع مع اللغة التي انطلق منها إنما بفهم ما أضافه إليها وارتقى به من مفرداتها في سياقاتها القرآنية التي لا يستقيم تفسيرها بالاقتصار على دلالة ألفاظها المعجمية، وأجلى ما تتضح به هذه النقلة القرآنية في اللغة هو المفردات القرآنية التي تعتبر بمثابة المفاتيح لفهم النص القرآني واكتناه معانيه، بما تحمله الكلمة القرآنية من خصائص حجاجية وتداولية، فللنص القرآني دلالته الخاصة التي تتجاوز البعد البلاغي والاستخدام الجاهلي للغة.
هذه الميزة دفعت الباحث اللغوي (Toshihko Izutsu ) في تطبيقه علم الدلالة على النص القرآني إلى اقتراح تسمية خاصة به (علم الدلالة القرآني : semantics of the Koran)، وذلك في إطار دراسته للمفاهيم القرآنية المفتاحية التي تكشف عن الرؤية العالمية للقرآن أو الرؤية القرآنية للكون، فالقرآن يختص بنظام مفاهيمي يتجاوز المفاهيم الفردية إذا أخذت منعزلة عن التركيب، فينبغي مراعاة كل مفهوم مفرد في علاقته بالمفاهيم الأخرى في النظام العام الكلي للنص، فتلك الكلمات والمفاهيم القرآنية ليست هي نفسها تلك الكلمات والمفاهيم الفردية التي كانت مستخدمة قبل الإسلام، فالقرآن أعاد استخدام تلك المفاهيم وأضفى عليها قيماً جديدة من خلال سياقها القرآني، وبإدراك هذا التحول في الاستخدام اللغوي يمكن الكشف عن الرؤية الكونية للقرآن، هذا التحول في الاستخدام القرآني للمفردات هو ما يعرف في مختلف العلوم الإسلامية بالأسماء الشرعية.
ويرى أنه لا بد لدراسة المفاهيم القرآنية من مراعاة معنيين: الأول هو المعنى المعجمي أو الأساسي أو المفهوم الضمني للكلمة (basic meaning) والذي تحفظ به كيانها أين أخذت وفي أي سياق وضعت، وأما المعنى الثاني فهو المعنى العلائقي أو السياقي للكلمة (relational meaning) وذلك عندما توضع الكلمة ضمن نظام خاص وتأخذ مكانها فيه مع كلمات أخرى، فتشحن بكثير من العناصر الدلالية الجديدة التي تنشأ من هذه الحالة الخاصة حتى إن السياق الجديد ليعدِّل أحياناً بشكل تام المعنى الأساسي للكلمة فنفقد المعنى الأساسي للكلمة ونشهد ولادة كلمة جديدة، وعبر البعض عن المعنى الأول بالدلالة المركزية وعن الثاني بالدلالة الهامشية ، وقريب من هذين المعنيين ما يعبر عنه اللسانيون بالمحور الأفقي/ التعاقبي ويقصدون به العلاقة الأفقية (syntagmatic) التي تربط بين المفردات الواردة داخل البنية اللغوية أو الجملة على أساس التتابع أو التعاقب، فهي علاقة تركيبية تقوم بين الكلمة وسائر الكلمات في الجملة، والمحور الرأسي/الاستبدالي ويقصدون به العلاقة الرأسية (paradigmatic) والتي تمثل العلاقة بين اللفظة التي وردت في الجملة والألفاظ الأخرى التي لم ترد في النص، فهي علاقة تصريفية تقوم بين الكلمة المذكورة وكل ما يمت إليها بصلة لفظية أو معنوية من كلمات لم تذكر في النص، هذان المعنيان يجدان جذورهما في البلاغة العربية عند أصحاب نظرية النظم واصطلاحاتهم (اللفظ الحامل والمعنى القائم والرباط الناظم) أو علاقات الجوار وعلاقات الاختيار.
إذاً فدراسة المفردة القرآنية تقتضي تحديد الدلالة المعجمية بدءاً من الجذر وتحولها من دلالتها اللغوية إلى دلالتها الجديدة في سياقها القرآني وذلك من خلال معرفة مختلف سياقاتها في النص ومقارنتها، وربطها بمفردات أخرى تشكل معها مفاتيح بنية النص، وما يحمله اختيار تلك الكلمة وذاك الاشتقاق من دلالة دون غيره للتعبير عن المعنى السياقي الجديد.
ولا بد لتحديد هذه الأبعاد من الاستعانة بآليتين: الأولى دراسة اللفظ دراسة تاريخية تطورية (diachronic) قبل نزول القرآن إلى أن تأخذ الكلمة مكانها في سياق جديد في النص، وأهمية هذه الآلية تكمن في معرفة كيفية تحول المفردة ومدى استمرارية معناها اللغوي ودرجة انحيازها إلى معنى اصطلاحي داخل النص، وكما تتم هذه الآلية لمسيرة المفردة قبل عصر النـزول فيمكن أن تتم أيضاً داخل النص نفسه وذلك من خلال ملاحظة مسيرة المفردة القرآنية حسب ترتيب استخدامها التاريخي في القرآن أعني مقارنتها ما بين استخدامها في الآيات المكية والآيات المدنية، وهذا الجانب التاريخي يبقى ناقصاً ما لم يتبع بدراسة المفردة في سياقها النصي وفي لحظة انقطاعها عن التطور إذ تأخذ موقعها في النص ويثبت معناها في لحظتها ومكانها النصي وهذه الآلية هي ما يسميه اللسانيون بـ الآنية أو التزامنية (synchronic).
من خلال هذه الأبعاد المنهجية المختلفة يمكننا أن نحدد الخطوات المنهجية التي يمكن أن تساعد في تحديد دلالة المفردة القرآنية وذلك باتباع خطوات محددة، تتمثل في تحديد الجذر اللغوي للمفردة واشتقاقاته؛ وملاحظة التطور التاريخي لاستخدامات المفردة ودلالاتها المختلفة قبل النـزول؛ وملاحظة مدى اختلاف استخدام المفردة داخل النص القرآني ضمن تاريخ النـزول (ما بين المكي والمدني)؛ وكذلك ملاحظة مدى استمرارية الاستخدام اللغوي للمفردة داخل النص أو التحول بها إلى معنى اصطلاحي خاص؛ ومن ثم دراسة المفردة في سياقها القرآني من خلال تركيب الجمل التي وردت فيها وما حف بها من مفردات أخرى؛ ودراسة المفردة في ضوء مقارنتها بالسياقات المختلفة لاستخداماتها ضمن بنية النص القرآني الشاملة؛ وأخيراً دراسة المفردة في ضوء علاقتها بالمفردات ذات الصلة بها أو بموضوعها.
هذه الأبعاد تتشابك في تحديد دلالتها للمفردة القرآنية، لكنها ليست بالمتيسرة أو سهلة المنال، إذ من الصعوبات التي لا تخفى عند المعنيين بالقضايا اللغوية غياب معجم تاريخي للألفاظ العربية، وعدم مراعاة التطور الدلالي في المعاجم المتوفرة، ومما يزيد من صعوبة مقاربة من هذا القبيل الثقل التاريخي الذي تلقي به المصادر التاريخية المختلفة والتي تناولت أو استخدمت المصطلحات القرآنية لاسيما ما تداخل منها مع مصطلحات العلوم المتخصصة، وبالتالي فلا يمكن مقاربة المفردة القرآنية من غير الإحاطة بمعانيها في مدونات علوم التفسير والكلام وغيرهما، فتكون اللغة والاستخدام العلمي التاريخي للمصطلح القرآني بمثابة المدخل لفهم المصطلح القرآني.
ونود الإشارة هنا إلى أن ما سجلناه من منهجية لغوية تبدو معاصرة ومقتبسة من اللسانيات الحديثة إنما هي معطيات لا تخص لغة دون أخرى، كما أنها لا تعكس توجهاً فلسفياً يمكن أن يحيد بها عن موضوعيتها، هذا فضلاً عن اتساقها مع توجهات قديمة لدى علماء العربية لم يتم تطويرها أو الاستفادة منها في الدراسات القرآنية، وبهذا الاعتبار فإنا نستبعد ما يطبق من منهجيات لغوية مقتبسة من سياقاتها الخاصة والتي تعكس توجهاً فلسفياً أو لاهوتياً فرضته حيثيات غربية لا تنطبق على السياق العربي بل تتنافى مع رؤية المسلم للنص القرآني باعتباره وحياً ورسالة من الله، وأخص من هذه المناهج نظريات التأويل والمنهج الظاهراتي والتي تستند -على اختلافها- إلى مقولة موت المؤلف وتعتبر المعنى فضفاضاً ومفتوحاً وتعتبر المتلقي هو مصدر المعنى، فتَصورُ النص القرآني على أنه رسالة من الله لا يمكن أن يتجاهل المرسل، كما لا يمكن اعتباره غير منضبط المعنى وإلا لم يعد لمفهوم الرسالة معنى، والإيمان بكونه وحياً من الله يجعله نصاً متميزاً عن غيره فله خصوصيته اللغوية وبنيته المحكمة التي ينبغي اكتشافها، وهذا الاحتراز لا يعني بالمقابل حرفية الدلالة القرآنية وسهولتها وانتفاء احتمالية المعنى وتعدد الأوجه، ففرق بين الإيمان بوجود معنى واحد في النص القرآني إما أن يكون واضحاً في أحاديته لكل متلق أو أن يكون ملتبساً تدل عليه ضوابط معينة وعلى المؤمن مقاربته باجتهاده قدر المستطاع، وبين القول إن المعنى غير منضبط أصلاً أو لا قيمة لقصد المؤلف أو الناص أو أن المعنى يقع أساساً خارج النص، إذ هذه الاعتبارات تتنافى مع طبيعة تصور المؤمن لعلاقته مع النص.
هذه المنهجية لدراسة المفردة القرآنية التي لخصنا أهم معالمها تحيلنا لإثارة تساؤل هام قلَّ من تطرق إليه وهو ما الفرق بين المفهوم والمصطلح عموماً وفي السياق النصي خصوصاً ؟ والإجابة عليه لا تخص دراسة النص القرآني فالإشكال في الفرق بين المفهوم والمصطلح عام له صلة بالمنطق واللغة والفلسفة ومن خلال هذه الأبعاد سنحاول استجلاء الفرق.
ثالثاً: المفهوم والمصطلح والفرق بينهما
إذا كانت المفردة، وهي اللفظ المتداول في اللغة أو النص، معنى واضحاً -أياً كان تصنيف أجزاء الكلام- فإن تحديد تعريف المفهوم وإبراز دلالته ومعناه يُعدّ من المسائل العويصة حتى في الفلسفة الحديثة -باعتباره في الأصل من المعجم الفلسفي- وقد شهدت المعاجم الفلسفية اختلافاً كبيراً وشططاً واضحاً في عملية التعريف سواء في المعاجم الأجنبية أو العربية المترجمة للكلمة الأجنبية (concept)، وإن الصعوبة لتزداد عندما تقارن دلالة المفهوم المتداول في السياق المنطقي والفلسفي مع دلالة المصطلح متعدد الاستعمال في مختلف السياقات العلمية، لاسيما وأن الاستخدام المعاصر متداخل بينهما، وللإحاطة بدلالة المفهوم نعرض له في سياقه المنطقي والفلسفي ثم نتطرق لدلالة المصطلح.
المفهوم: يحيل المفهوم إلى كلمة أخرى متداولة في كتب المنطق والفلسفة المتقدمة وهي: التصور والذي يعني (حصول صورة مفرد ما في العقل كالجوهر والعرض ونحوه)، بل يرى البعض أن المفردة العربية التصور، بما هو المعنى المجرد، هي الأولى في ترجمة الكلمة الأجنبية (concept)، باعتباره أكثر ضبطاً لأنه ينطوي على المفهوم والماصدق معاً (مجموع أفراد الجنس+ المتصور الذهني) فيكون التصور= مفهوم + ماصدق، فالمفهوم هو المعنى الذهني الذي يثيره اللفظ في الأذهان واللفظ دلالة كلامية عليه، أما الماصدق فهو الفرد أو الأفراد التي ينطبق عليها اللفظ إذ يتحقق فيها مفهومه الذهني، وبتعبير آخر فإن المعاني هي الصور الذهنية من حيث وضعت بإزائها الألفاظ، والصورة الحاصلة في العقل من حيث أنها تقصد باللفظ تسمى معنى، ومن حيث حصولها من اللفظ في العقل تسمى مفهوماً، ومن حيث أنها مقولة في جواب ما هو؟ تسمى ماهية، ومن حيث ثبوتها في الخارج تسمى حقيقة، ومن حيث امتيازها من الأعيان تسمى هوية، فالمفهوم بمعناه المنطقي هو مجموعة الصفات والخصائص التي تحدد الموضوعات التي ينطبق عليها اللفظ تحديداً يكفي لتمييزها عن الموضوعات الأخرى.
وقد حُدِّدت المفاهيم كأبنية في عمليات الإدراك الإنساني (أنساق)، تساعد على تصنيف الموضوعات بتجريد عشوائي أو نظامي، تأسيساً على ذلك، جاء في تعريف (المفاهيم) أنها أبنية عقلية، أو تجريدات يمكن تسخيرها في تصنيف الأشياء، وأفراد العالمين الخارجي والداخلي؛ أو موضوعات كل حقول المعرفة، والنشاط الإنساني، نحو الأشياء وخاصياتها وكيفياتها وظاهراتـها… الخ الممثلة عادة بواسطة مفاهيم؛ أو أن المفهوم بناء عقلي لتصنيف الموضوعات الفردية في العالم الخارجي والداخلي، بتجريد عشوائـي قليلاً كان أو كثيراً.
كذلك جاء في تعريف المفهوم أن المفهوم وحدة فكرية منعكسة عن تجميع الموضوعات الفردية عامة والتي يرتبط بعضها ببعض بسمات مشتركة؛ أو أنه مجموعة متماسكة من التقديرات المتعلقة بموضوع ما تأسست نواته من تلك التقديـرات التي تعكس الخصائص اللازمة لذلك الموضوع؛ أو أن المفهوم أي وحدة فكرية.
انطلاقاً من البيانات السابقة للمفهوم في تعريفاته المتنوعة، يمكن ملاحظة أن المفهوم يستخدم في بناء المعرفة وإدراك العالم المحيط، وأن المناهج الفكرية المتعددة قد قدمت تعريفات مختلفة للمفهوم.
من هذه المعطيات ندرك مدى الاضطراب وصعوبة تحديد تعريف جامع ومانع للمفهوم، بل إن إيجاد تعريف جامع له غير متناول في الزمن الراهن على الأقل -كما يرى البعض- لاسيما مع قلة المشتغلين في تحديد دلالات الألفاظ والمفاهيم، فهي كلمة مشكلة، لكن يمكننا أن نقول استنتاجاً مما نقلناه أن المفهوم وبصيغة مبسطة هو: مفردة تحيل على مجموعة من المتصورات داخل سياق خاص.
ويرتبط تحديد المفهوم وإنتاجه بالثقافة والمعرفة عموماً سواء تعلق الأمر بالعلوم الثقافية أو العلوم الطبيعية، فهو يتكون في المحيط بشكل لاحق وتابع، وهو وثيق الصلة بالرمز واللغة والحقل الدلالي ومختلف الأبعاد التي تسهم في تشكله، ويتخذ المفهوم صفته النظرية والإجرائية من ارتباطه أو انبثاقه من مجال معرفي معين يختص به.
ولقد أخذ المفهوم يزداد تعقيداً وتشويشاً بعد أن خرج من سياقه الفلسفي المعقد أصلاً ليتم تداوله في سياقات مختلفة لاسيما مع تداخل العلوم اللغوية والفلسفية وغيرها من العلوم المتصلة بهما، فأصبح المفهوم يستعمل مرادفاً للمصطلح وهذا ما يحيلنا على دلالة المصطلح لندرك علاقته بالمفهوم.
المصطلح: جذر صلح الذي ترجع إليه مفردة مصطلح يدل على المسالمة والاتفاق، وهذا المعنى يدل على خاصية أساسية من خصائص المصطلح وهي الاتفاق على دلالة خاصة لمفردته بعد اختلاف في الدلالة كان يتنازع المفردة قبل تمحص دلالتها العلمية بشكل واضح على مضمونها، فيضاف إلى خاصية الاتفاق صفة الوضوح والعلمية والتجريد، هذه الخاصيات عندما تجتمع في مفردة للدلالة على معنى خاص يتبادر من سماعها في سياقها التداولي تغدو مصطلحاً، لكن التكرار والاستمرار في التاريخ هو الذي يكسب المفردة اصطلاحيتها وثبات دلالتها الجديدة الخاصة.
وقد اهتم القدامى بالمصطلح والذي كان يعبر عنه بالحد أو التعريف، فكثرت الكتب المتخصصة في تحديد دلالات المصطلحات سواء في مختلف العلوم أو في سياقات علمية خاصة، إلا أن هذه المدونات تتسم بالتعميم وينقصها تحديد السياق التاريخي، وفي العصر الحاضر أصبح المصطلح موضوع علم مستقل يدعى علم المصطلح الذي يدرس علمياً المفاهيم و المصطلحات المستعملة في لغة الاختصاص، والمصطلحية (terminology) كعلم يعنى بصياغة المصطلح وتحديده أو صناعته، ففي كل لغة توجد مساحة للغة الأغراض العامة وأخرى للغة الأغراض الخاصة ويوجد قطاع واحد من قطاعات لغة الأغراض الخاصة يتضمن مفردات خاصة هذا القطاع هو النطاق الرئيسي للمصطلحية.
فالمصطلح = مضمون (قيمة دلالية) + تعبير (الصيغة اللغوية الإيصالية)، أو رمز اتفاقي لتصور ما يتألف من أصوات منطوقة أو الشكل الذي تمثل به كتابياً (بالحروف)، وقد يكون المصطلح كلمة أو عبارة، فالمصطلح علامة معرِّفة داخل نظام من الدوال المحددة للمفاهيم وبالتالي فهو مدخل للمفهوم وعلامة على مرجعه، فإذا كان المفهوم: تمثيلاً فكرياً لشيء ما (محسوس أو مجرد) أو لصنف من أشياء لها سمات مشتركة ويعبر عنه بمصطلح أو برمز، فإن المصطلح: كل وحدة (لغوية) دالة مؤلفة من كلمة (مصطلح بسيط) أو كلمات متعددة (مصطلح مركب) وتسمى مفهوماً محدداً بشكل وحيد الوجهة داخل ميدان ما، أو مفهوماً خاصاً يمثل تصوراً وظيفياً للخصائص المعرِّفة للمصطلح.
هذه الضوابط للمصطلح تزيد الغموض في علاقته بالمفهوم، فيبدو المفهوم من خلال تعريفات المصطلح في مختلف المصادر -لاسيما الغربي منها- أخص من المصطلح ويستعمل بمعنى التصور، فالمفاهيم هي شرط التواصل اللغوي وجوهر اللغة وبها يفرق الإنسان بين شيء وشيء، والمفاهيم بحاجة إلى نسق يضم بعضها إلى بعض، وتمثل المصطلحات أطراً تصورية وتعبيرية للمفاهيم، هذا الاستخدام للمفهوم بين المصطلحيين لا يلغي دلالة المفهوم التجريدية فهناك مفهوم ومفهوم تجريدي وهناك مفهوم ينتمي إلى اللغة العادية وآخر إلى اللغة التقنية الاصطلاحية، بل نشأت نظرية للمفاهيم ينظر إليها في علم المصطلحات كوسيلة تمدّنا بتفسير دقيق لحوافز الإدراك في تشكيل المصطلحات، وتزودنا بأساس بناء الألفاظ، فالمصطلحات رموز للمفاهيم بحسب إدراكنا لها، الأمر الذي يعني أن المفاهيم قد وجدت وتشكلت قبل المصطلحات، وباعتبار خصوصية المفهوم بالنسبة للمصطلح فإن علم المصطلحات يربط المصطلحات بالمفاهيم وليس العكس، وهو لذلك، لا يهتم بأنظمة مفهومية مطلقة ولكن فقط بأنظمة موضوعة لغرض خاص تسهيلا للتواصل، لكن هل هذا التوضيح للعلاقة بين المفهوم والمصطلح كاف لإزالة الالتباس بينهما في الاستخدام ؟، وما هو الفرق بينهما؟
الفرق بين المفهوم والمصطلح:
ما أوضحناه من تعريف المفهوم والمصطلح يعيدنا إلى الإشكالية التي انطلقنا منها أعني تحديد الفرق بين المفهوم والمصطلح، إلا أن دراسة مفردة المفهوم واختصاصها الأصلي في السياق الفلسفي ومفردة المصطلح واختصاصها في السياق اللغوي زاد المفردتين غموضاً في دلالتهما، وبقدر هذا الغموض نجد الاستعمال الشائع يرادف بينهما ببساطة ووضوح، حتى إن المعاجم والموسوعات التي اعتنت ببيان دلالة المفهوم والمصطلح، دون أن تفرق بينهما، اتخذت من المفهوم والمصطلح عنوان رديفاً لمدوناتها، مما يشير إلى وضوح في الاستعمال يناقض الغموض في التعريف، وإنها لمن المفارقات أن المفردات التي هي عنوان المعرِّفات غير منضبطة التعريف، وللخروج من هذا الاضطراب سنحاول ملاحظة ما يفيده استخدامهما.
ليس موضع إشكال كون المفهوم ينتمي إلى القاموس الفلسفي بالدرجة الأولى، ومن ثم تطور وغدا متداولاً في الحقل اللغوي مرادفاً المصطلح في مختلف المجالات، ولئن كان تحديد الفرق بين المفهوم والمصطلح والعلاقة بينهما أمراً يقر به جميع اللسانيين، فإن الاضطراب في تحديد هذا الفرق أمر لا ينفونه، وخارج الإطار التنظيري للمفهوم والمصطلح يتم تداولهما بمعنى واحد تقريباً.
ويمكننا تحديد تفريق جزئي لاحظناه من خلال الاستخدام للمفردتين، فعندما يذكر المفهوم شفاهاً أو كتابة يقترن بتعريف ما يحيل عليه اللفظ بمفردات غير منضبطة أو ما يعرف بالتعريف الإجرائي، بينما عندما يذكر المصطلح فغالباً ما يقترن بتعريف منضبط للمعنى المقصود الإحالة عليه وذلك من خلال مفردات متماسكة ومختصرة، وهو ما يعرف بالتعريف الحدي.
هذا الفرق الذي لاحظناه ينتج عنه أن المفردة التي تسمى مفهوماً يمكن أن تشاركها مفردة أخرى في التعبير عن نفس المعنى، بينما المفردة التي تسمى مصطلحاً فإن المفردة تتفرد بالدلالة على المعنى وتنبذ الترادف وهذا التفرد من خاصية المصطلح.
فالمفهوم هنا يتجاوز في الاستعمال المعنى المنطقي المرتبط بالتصور ليدل على اللفظ الدال على المعنى من غير انضباط لغوي يؤطر ذلك المعنى، فعندما نستعمل مفردات مثل: الثقافة، الحضارة، الديمقراطية...، فإنها مفاهيم تدل على معان يصعب ضبطها بألفاظ معينة لذلك يجد الباحث لكل منها مئات التعريفات المختلفة رغم الاتفاق بينها على قواسم مشتركة ترتبط باللفظ، وقد يأتي يوم وتنحصر دلالة هذه المفردات/المفاهيم وتنضبط بألفاظ معينة فتغدو مصطلحاً، بينما المصطلح فإنه ابتداء لا يحتمل تشتتاً وانفتاحاً في تعريفه فهو حدِّي وكل لفظ في تعريفه له دلالته، وقد تتعدد صيغ التعريفات للمصطلح لكنها تشترك جميعاً في حصرية دلالتها، فإن أضافت بعض التعريفات ضوابط جديدة في التعريف فإنه يغدو مصطلحاً جديداً يختص بمعرِّفه أو بالسياق المستخدم فيه، وقد تكون المفردة الواحدة أكثر من مصطلح بحسب تعدد السياقات التي تستخدمها.
فحدية التعريف هي التي تميز المصطلح عن المفهوم، فالمفهوم يعرف إجرائياً ولا يمكن تعريفه حدياً فإن عرِّف حدياً غدا مصطلحاً، بينما المصطلح يعرَّف حدياً لكن يمكن تعريفه بشكل إجرائي على سبيل التوضيح والتقريب مع احتفاظه بالضوابط التي تميزه كمصطلح.
وكما يمكن للمفهوم أن يتحول إلى مصطلح وذلك بالتطور التاريخي للاستخدام أو الضبط المؤسسي لدلالته، فإنه يمكن للمصطلح أن يتحول إلى مفهوم وذلك عبر توسع دلالته عندما يهمل كمصطلح ويتسع استخدامه لمعنى أعم، كما يمكن للمفردة أن تكون مصطلحاً ومفهوماً في آن واحد لكن في سياقات مختلفة، إما بتحولها ضمن نسق خاص من الاستعمال دون أن يعم، أو باصطلاح مؤسسي على استخدام مفهوم ما كمصطلح.
هذا ويعتبر المفهوم مثار جدل بشكل دائم إذ لكل معني به أن يتنازع معناه المشترك ليسقطه على المجال الذي يراه، أما المصطلح فليس مثار نزاع بين المعنيين به إذ هو منضبط بين مستخدميه فلا سلطة لأحد على دلالته .
هذا الذي أوضحنا لاستخدام تعبيرات المفهوم والمصطلح إنما يتعلق بالاستعمال والتداول ولا يصادر على معنى المفهوم كما هو مستعمل في سياقه المنطقي والفلسفي الخاص.
مصادر المفاهيم والمصطلحات :
يمكن تحديد مصادر تكون المفاهيم والمصطلحات في ثلاثة: الأول تاريخي وهو الغالب إذ يلعب التاريخ الخاص بسياق معين في انتخاب بعض مفردات لغته لتكون علامات ومنارات مفتاحية يفهم من خلالها ذلك السياق وفي هذا النوع من المصطلحات يكون التدوال والاستخدام هو المحدد الرئيسي لدلالة المصطلح ويصبح التنظير اللغوي والفلسفي للمصطلح استكشافاً وليس تكويناً أو تدخلاً في تحديده، أما المصدر الثاني للمفاهيم والمصطلحات فهو المصدر الشخصي أعني الذي يقترحه ويتداوله شخص من المختصين في مجال معين ويعين مفردة ما للدلالة على معنى معين يحدده فيكون هو مصدر تعريف المصطلح الذي ابتدعه، فيكون ما حدده من مفاهيم ومصطلحات هو المدخل للتعرف على فكره وفهم نصوصه، وقد يكون هذا المصطلح نحتاً أو اشتقاقاً من مصطلح سابق أو صناعة جديدة وربما يُتداول من بعده فيغدو مصطلحاً تاريخياً، أما المصدر الثالث لتكون المصطلحات والمفاهيم فهو المصدر النصي وذلك عندما يكون للنص خصوصية لغوية ويكون نصاً متميزاً عن غيره من النصوص وتوجد فيه بعض المفردات المتداولة والمتكررة في أماكن مختلفة فتشكل مفاتيح لفهم النص واكتشاف معانية، ولئن كان هذا المعنى ينطبق على النصوص التي هي من صناعة البشر فإن النص القرآني بما هو نص إلهي وله لغة خاصة تسمو على لغة العرب التي نزل بلسانها هو أثرى النصوص التي تحتوي على مفاهيم ومصطلحات خاصة تمثل مفاتيح لفهمه وتدبره.
المفردة القرآنية بين المفهوم والمصطلح:
يحفل النص القرآني بالكلمات المفتاحية التي ينبغي اكتشافها، لكن إلى أي حد يمكن التفريق في المفردات القرآنية بين ما هو منها مفهوم وما هو مصطلح باعتبار الفرق الذي لاحظناه؟ مما هو متفق عليه بين جميع المسلمين على اختلاف مذاهبهم ومناهجهم كون بعض المفردات القرآنية هي من قبيل المصطلح الذي لا يختلف في معناه وإن اختلف التعبير عن معناه لكنه يبقى حصرياً، فالمفردات القرآنية مثل: الصلاة، الزكاة، الحج.. هي مصطلحات لا يختلف في تعريفها، ويعبر عنها في التفاسير بالألفاظ الشرعية المنقولة عن معناها اللغوي، كما هناك مفردات قرآنية أخرى غير منضبطة في تعريفها مع اتفاق على مجمل المعاني التي تحيل عليها كالتقوى والعمل الصالح... ويمكن اعتبارها من قبيل المفاهيم بالمعنى الذي أوضحناه، وهناك مفردات قرآنية أثارت جدلاً في التاريخ وحفلت المدونات في دراستها ومقاربتها وبني على الاختلاف فيها جدل كبير فهي مفردات متنازع عليها بين كونها مفهوماً أو مصطلحاً بالمعنى الذي أوضحناه، ولعل من أبرز الأمثلة لهذا النوع من المفردات ألفاظ: الإيمان، النبي، الرسول، الكتاب..، وهذا النوع من المفردات كان ولا يزال محل اختلاف في تحديد دلالتها، وما دام تحديدها موضع اجتهاد فإنها تبقى من قبيل المفهوم ولا تتحول إلى مصطلح إلا باعتبار دارسيها، ودراسة هذا النوع من المفردات هو الذي يمكن أن يضيف أفقاً جديداً في تدبر القرآن.
وعموماً فإن المفهوم والمصطلح كلاهما مفتاحي في النص، وكلاهما يتجاوزان الاستخدام اللغوي للفظ ويدلان على معنى قرآني خاص، فاللفظ القرآني قد يتفق على تعريفه ولا ترادفه مفردة أخرى فيكون مصطلحاً، أو لا ينضبط تعريفه وتشاركه مفردات أخرى في معناه فيكون مفهوماً، أو يتردد بينهما.
وعليه يمكن أن نصنف استعمالات المفردة القرآنية إلى أربعة، تكون المفردة في الصنف الأول لفظاً لغوياً: وذلك في الاستخدام اللغوي للمفردة في السياق القرآني سواء في وضعها الأصلي أو المجازي، كالصلاة بمعنى الدعاء. وتكون في الصنف الثاني مصطلحاً قرآنياً: وهي منضبطة الدلالة وحدية التعريف ولا تدل عليها مفردة غيرها، كالصلاة بمعناها الشرعي. وتكون في الصنف الثالث مفهوماً قرآنياً: وهي مفتوحة الدلالة وغير منضبطة التعريف مع إحالتها على معنى مشترك قد تدل عليه مفردات أخرى، كلفظ التقوى. وتأتي أخيراً المفردة القرآنية المترددة في نظر متدبري القرآن بين كونها مفهوماً غير منضبط التعريف أو مصطلحاً حدي التعريف، كلفظ الإيمان.
ضمن هذه الاحتمالات تتوزع المفردات القرآنية، والوعي بالفرق بينها أساسي في منهجية دراستها التي يمكن أن تسهم في تصنيفها إلى ما هو استخدام لغوي وما هو مفهوم وما هو مصطلح، وبالتالي اكتشاف معاني النص القرآني من خلال كلماته المفتاحية التي تجلي بنيته المتكاملة وتناسقه المعجز.
الخاتمة:
رغم عناية المسلمين الفائقة بالقرآن على مدار العصور، إلا أن الظروف التاريخية التي مرت بها المعرفة الإسلامية جعلت الدراسات القرآنية أسيرة لمدونات تفسيرية معينة، ولم تكن هناك إضافات نوعية فيما استجد من دراسات، بما في ذلك دراسة المفاهيم والمصطلحات، ويرجع ذلك إلى أزمة المنهجية في تلك الدراسات، فالإسقاط كان ولا يزال آفة الدراسات القرآنية سواء لرؤى عقائدية أو مذهبية، ودراسة النص من خلال مفاتيحه بعيداً عن القبليات كمخرج من هذا المأزق بحاجة إلى تأطير وضبط منهجي، فكانت مقاربتنا محاولة لتسليط الضوء على الآليات المفترضة والمتاحة التي يمكن أن تسهم في تجلية معاني المفردات القرآنية، ولا تنفصل هذه الآليات عن علوم اللغة المجال الرئيسي لفهم المعاني، فحاولنا توضيح المدخل اللغوي لفهم المفردات القرآنية، وأشرنا في هذا الصدد إلى دور الدراسات اللغوية المعاصرة في تطوير هذا المنهج، وخلصنا إلى تحديد عناصر وخطوات يمكن من خلالها الإحاطة بالمعنى المحتمل للمفردة، لكن خطوات أساسية في هذا المجال تصطدم بعائق لغوي أشمل هو انعدام التدرج التاريخي في المعاجم العربية، لاسيما فيما يخص مرحلة ما قبل النـزول، إذ معرفتها أساسية لإدراك التحول القرآني بالمفردة، وكذلك الأمر بالنسبة لخطوات أخرى تتعلق بجوانب تاريخية يمكنها أن تضيء جوانب من المعنى المبحوث عنه، لكن عناصر أساسية في المنهج الذي رسمنا ملامحه متوفرة، فيمكن من خلال جمع موسوعي للمادة اللغوية للمفردة أن يتوصل إلى معنى مركزي لها يستضاء به في رحلة المفردة في السياق القرآني، ومن خلال استعمالها المستقصى والمقارن مع إدراك علاقاتها بالسياق الخاص في موضوع ورودها وفي بنية النص القرآني عموماً -كما أوضحناه في الخطوات المنهجية- يمكن اكتشاف المعنى المركزي القرآني وإدراك تنـزلاته في مختلف السور والآيات، وبالتالي معرفة التحول القرآني بالمفردة من معناها اللغوي العام إلى معنى قرآني يؤسس مع المفردات المفتاحية الأخرى النظام الشامل الذي يجليه القرآن حول الإنسان والكون والحياة. ولعل في هذه الخطوات المختزلة ما يمكن للأفراد القيام به، في انتظار أعمال موسوعية هي لغوية بالأساس وتحتاج إلى مؤسسات علمية تشرف عليها، كي تمكن من استكمال ما أشرنا إليه من خطوات منهجية أشمل، وهذه المنهجية كفيلة فيما نرى بالإضافة النوعية في تدبر القرآن، والكشف عن وجوه جديدة من إعجازه، وفهم عالميته وطرحه الكوني.
لقد انطلقنا في بيان ما ذكر على افتراض البعد المفتاحي للمفردة في النص، ووجدنا أنه من الضروري الوقوف على معيار المفتاحية في المفردات أو ما يعبر عنه بالمفاهيم والمصطلحات، فوجدنا فيها تداخلاً واختلافاً وخلطاً سواء في التعريف أو الاستعمال، مما اضطرنا لدرس المفهوم والمصطلح في مجالاته اللغوية والفلسفية والتداولية، وحاولنا التفريق
تاريخ النشر : 06-05-2005
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.