آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

النص والتراث  .  دراسات قرآنية

دراسات حديثية    |    الفقه و الأصول    |    العقيدة و الكلام

  •     

أهل الكهف في قمران على شاطئ البحر الميت

عطية زاهدة


منهجٌ تجديديٌّ في التفسير:"أهل الكهف في قمران على شاطئ البحر الميت" – نموذجاً تطبيقيّاً 

الخُلاصـة:
ينبثقُ بحثُ: (أهلُ الكهفِ في قمرانَ على شاطئِ البحر الميت) منْ كتابٍِ أصدرْتُهُ سنةَ 1977م بعنوانِ: (أصحابُ الكهفِ والرَّقيمِ)، ومن كتابِ: (أهل الكهفِ بينَ العدّةِ والمُدّةِ) الصادرِ سنة 2002م. وألخّصُ هذا البحثَ في:
1. أنَّ فتيةَ الكهفِ كانوا منْ طائفةِ "الأسينيّينَ". والأسينيّونَ Essenes هم طائفةٌ موحدةٌ على شريعةِ النبيِّ موسى، على رسولِنا وعليْهِ الصلاةُ والسلامُ، وكانَ أعضاؤُها منَ الشبابِ. وقدِ اضطهدَها قومُها اليهودُ في أواخرِ القرنِ الثاني قبلَ الميلادِ، وذبّحوا كثيراً منْ أفرادِها مِمّا اضطرَها إلى الالتجاءِ إلى كهوفٍ في شرقِ فلسطينَ عندَ البحرِ الميّتِ.
2. وأنَّ "الأسينيّينَ" همْ: "أصحابُ الكهفِ والرقيم". والرقيمُ تعني: المخطوطَ المسطورَ. وكانَ الأسينيّونَ يسمّونَ كتبَهم باسمِ: "روقْموت". وقدْ وُجِدتْ في كهوفِ الطائفةِ، في خربةِ قمرانَ جنوبَ مدينةِ أريحا، مجموعةٌ ضخمةٌ منْ كتبِ الشريعةِ ومنسوخــاتِ الأسينيّينَ عُرفتْ باسمِ: "مخطوطاتِ البحر الميِّت" The Dead Sea Scrolls ، وتمَّ العثورُ على معظمِها بدءاً منْ سنة 1946م وامتداداً حتّى 1956م.
3. ويعتبرُ البحثُ أنَّ عددَ فتيةِ الكهفِ كانَ 18 فتىً.
4. ويعتبرُ البحثُ أنَّ مدةَ نومِهم هيَ: 390 سنةً شمسيّةً صحيحةً.
5. ويذهبُ البحثُ إلى أن الفتيةَ قد هربوا في عهد الملك المَكابيِّ: "ألِكسندر جانيوس (102 ق.م - 76 ق.م)، وأنهم بُعثوا في عهدِ الإمبراطور الرومانيِّ: دقيانوس (284م- 305م).
6. ويعتبرُ البحثُ أنَّ الكهفَ الذي رقد فيه الفتيةُ هو الكهفُ المعروفُ في قمران باسم: "الكهف الرابع" المكتشفِ سنةَ 1952م، وتنطبقُ هندستُهُ ومُشَخَّصاتُهُ معَ وصفِ الكهفِ في قصةِ القرآنِ المجيدِ تمامَ الانطباقِ، ويوجد بجواره معبدٌ، وقدْ عُثرَ في أرضِهِ عامَ 1955م على مجموعةٍ من النقودِ الفضَّيّةِ داخلَ ثلاثِ قدورٍ فخاّريّةٍ صغيرةٍ. 
وتتمثّلُ أهميةُ الربطِ بيْنَ قصة "أصحاب الكهف والرقيم" ومخطوطاتِ البحر الميت في: 
‌أ. أنه قد صدر عن هذه المخطوطاتِ ذاتِ الشهرةِ والأهميّةِ العالميّةِ حتى وقتِنا أكثرُ من 5000 كتابٍ، وما يزيد على 70000 مقالةٍ رصينةٍ وذلكَ بلغاتٍ مختلفةٍ. 
‌ب. عُثِرَ في المخطوطاتِ على أقدمِ نسخةٍ من التوراة ضمنَ أضخمِ مجموعةٍ من الوثائقِ الأثريّةِ التي اكتشفَها الناسُ في القرنِ العشرينَ.
‌ج. وأنَّ المخطوطات تعطي للقصةِ القرآنيّةِ الكريمةِ تفسيراً وافياً متناسقاً، وتجيب على أي سؤال يتعلق بها.
‌د. ويقدِّمُ البحثُ مثالاً جديداً بيّناً في ميدانِ ما يُسمّى: الإعجازَ التاريخيَّ، وآخرَ مثلَهُ في ميدانِ الإعجازِ الرقميِّ.
‌ه. ويمكنُ للقصةِ القرآنيّةِ نفسِها أنْ تساعدَ في توضيحِ بعضِ الجوانبِ الغامضةِ المحيّرةِ في أمورِ المخطوطاتِ. 


القصةُ في القرآنِ الكريمِ:
يقولُ عالمُ الغيبِ والشهادةِ، سبحانَهُ وتعالى: "أَمْ حَسِبْتَ أنَّ أَصْحبَ الكهفِ والرقيمِ كانُوا مِنْ ءايتِنا عَجَباً (9) إذْ أَوَى الفِتْيَةُ إلى الكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا ءاتِنا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلى ءاذانِهِمْ في الكهفِ سِنيَن عَدَداً (11) ثُمَّ بعثْنهُمْ لِنَعْلَمَ أيُّ الِحزْبيْنِ أحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) " [الكهف].
هذه الآيات الكريمة الأربع هي إجمالٌ لقصةٍ عظيمةٍ فصَّلها القرآن الكريم في 14 آيةً مجيدةً:
"نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِع مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)". [الكهف]

محاور الاهتمام في أمرِ "أصحاب الكهف والرقيم":
(1) الرقيم. وبما أنَّ "الرقيم" داخل في الاسم الجامـع للفتية، فإنَّه يرتبط بهذا المحورِ أيضاً: معرفة قومهم، وتحديدُ ملتهم، وأمرُ صراعهم معهم. 
(2) موضع الكهف. (3) عدّة الفتية. (4) مدة نوم الفتيةِ.

نشـأةُ الأسينيّينَ:
حاولَ اليونانُ في عهدِ الطاغية "أنطيوكس إيبيفانوس" في القرنِ الثاني قبلَ الميلادِ توثينَ إمْبَراطورِيَّتِهِمْ، وفي جُمْلَتِها سُكّانُ فَلَسْطينَ، إذْ كانتْ في احتلالِهم منذُ 333ق.م، وَهُمْ - يَوْمَئِذٍ -: مِنْ أغلبيةٍ مُنْحَدِرَةٍ مِنْ أُصولٍ عربيّةٍ، ومِنْ أقَلِّـَّيّةٍ عبريّةٍ معظمُها مُتَهَـوِّدٌ، وقدْ جرفَهُ التَّـوَثُنُ؛ وبَقِيَّتُها مُحافِظٌ على التوراةِ غيرِ المحُـَرَّفَةِ، فقاومتْ التوثينَ، واعتزلتْ مجتمعَها الكافرَ، وتَشَكَّلَتْ مِنْ بينِها: "طائفةُ الأسينِيِّينَ".. واختلفَ العلماءُ في معنى "الأسينيّينَ"، وفي اللغةِ التي جاءَ هذا الاسمُ منها، ولقدْ ظنَّ بعضُهم أنَّهُ يعني: "النِّطاسيّينَ"، ولكنّني أرى عبرَ البراهينِ أنَّهُ يعني: "النوّام".
وطائفة "الأسينِـيِّـينَ" Essenesهمْ أعجبُ طائفةٍ في تاريخِ الأديانِ. وهم أصحابُ الوثائقِ الشهيرةِ المعروفةِ باسمِ: "مخطوطاتِ البحرِ الميّتِ". 

تعريفٌ بمخطوطاتِ البحر الميّتِ:
قدَّر اللهُ سبحانَهُ وتعالى أنْ يكتشفَ رُعاةٌ مِنَ التعامرةِ الكرامِ، القاطنينَ في جوارِ بيتَ لحمَ، أولَ مجموعةٍ مِنْ مخطوطاتِ قمرانَ في العامِ 1947م؛ وقيلَ – وربَّما هوَ الأصَحُّ – في عامِ: 1946م. وإذْ إنَّ قمرانَ، منْ عشراتِ القرونِ، مقفرةٌ موحشةٌ، فقد كانتْ تمرُّ عليْها عشراتُ السنينَ دونَما طارقٍ مِنَ الناسِ. وأمَّا اليومَ – عامَ: 2006م - فتمرُّ بِها طريقٌ عامرةٌ تقودُ إلى مُتَنَزَّهاتِ عَيْنِ الفَشْخَةِ.
ومنْ بعدِ عامِ 1946م، فقدْ حدثتِ اكتشافاتٌ على جولاتٍ امتدَّتْ على زخمٍ إلى عامِ 1956م، وكانتْ حصيلتُها: العثورَ على أحدَ عشرَ كهفاً أسينيّاً، سُمِّيَتْ بالأرقامِ حسبَ تسلسلِ اكتشافِها. وأهمُّها الكهفُ الرابعُ المعثـورُ عليهِ عامَ 1952م، وآخرُها الكهفُ الحادي عشرَ المكتشفُ عامَ 1956 م.
والكهفُ الرابعُ معَ الكهفِ الخامسِ الملاصقِ لهُ، عبارةٌ عن شقةٍ سكنيّةِ صالحةٍ لِلْأَوْيِ. وهوَ وحدَهُ كافٍ لاستيعابِ عشرينَ نائـماً وزيادةٍ؛ وهو عندَ التدقيقِ يحقّقُ أوصافَ كهفِ الفتيةِ تمامَ التحقيقِ: منَ الانفتاحِ إلى الشرقِ والغربِ؛ وكونِ مدخلِهِ في ظهرِهِ منَ الجهةِ الشماليّةِ منهُ؛ ومنْ وجودِ الفجوةِ والوصيدِ؛ وغيرِ ذلكَ. وقدْ جاءَ نحوُ ثلُثَيِ المخطوطاتِ منَ الكهفِ الرابعِ نفسِـهِ. وتلكَ المخطوطاتُ تشكلُ مكتبةً ضخمةً منْ نحوِ: 875 كتاباً، رَقمَ الأسينيّونَ معظمَها بحبرٍ من صناعتِهم على رِقاقٍ منْ جلودِ الماعزِ المدبوغةِ. وقدْ رَقَم الأسينِيّونَ مُعظمَ مخطوطاتِهم بِلِسانٍ عبريٍّ. فماذا في العبـريّةِ عَنِ الرقيمِ؟.. وماذا في المخطوطاتِ عَنِ الرقيمِ؟..
يأتي الفعلُ الثلاثيُّ العبريُّ: "رقَمْ"، وُيلْفَظُ: "رقامْ"، ويعـني: خَطَّطَ أوْ طَرَّزَ؛ تماماً مِثْلَما هوَ في العربيّةِ. والمصدرُ مِنْهُ، هوَ: "رْقيمَهْ"، ويُلفظُ هكذا: "رْقيمَاهْ"، أوْ:"رْقيمَ". ومَعْناهُ هوَ: الخطُّ، أوِ التطريزُ.
وقد عُثِرَ على مخطوطاتٍ قمرانيّةٍ في لفائفِ كِتَّانٍ سمَّوْها: "القِليم"؛ لِما عليْها مِنْ خطوطٍ تُشَكِّلُ وَشْياً مُطَرَّزاً. وتُذَكِّرُنا "القِليم" المرتبطةُ بالخطوطِ بالتقليمِ؛ فالثوبُ ذو الخطوطِ، يوصَفُ بأنَّهُ "مُقَلَّمٌ". ويُقالُ للقلمِ: "مِرْقَمٌ"؛ لأنَّهُ آلةُ الرقْمِ بمعنى: التقليمِ والتخطيطِ.

ولم يُغْفِلْ بعضُ العلماءِ احتمالَ صلةِ "الرقيمِ" باللغةِ العبريّةِ؛ وخاصةً في ضوءِ قولِهم عَنِ الفتيةِ بأنَّهم منْ قومٍ يهودٍ. ففي كتابِ: "الإتقان في علوم القرآنِ" للعالمِ السّيوطيِّ، أنَّ الرقيمَ منْ غريبِ المفرداتِ الآتيةِ منَ العبريّةِ، وأنَّ معناها في العبريّةِ، هوَ: المكتوبُ.
والأَقربُ مِنْ كلِّ السابقِ رَشَداً وإثباتاً على صلةِ الرقيمِ بمخطوطاتِ خربةِ قمرانَ، هوَ ما جاءَ في المخطوطاتِ مِنْ تسميةِ الأسينِيّينَ لكتبِ الشرعِ والدينِ باسمِ: "روقْموتْ"[2]. ولا يخفى أنَّ كلمةَ "روقْموتْ" تعني: المرقوماتِ؛ ولا ريبَ أن "الرقيمَ" هي أصلاً: "المرقومُ"، أوْ لِنَقُلْ: هيَ المرقوماتُ؛ هيَ: "الروقْموت"، روقموتُ الأسينِيِّينَ. وقد ثبتَ أنَّ الأسينِيّينَ همْ أصحابُ كهوفِ قمرانَ ومخطوطاتِها، وقدْ عُرِفُوا من عهدٍ بعيدٍ بأنَّهم: "طائفةُ الكهفِ" Cave Sect، وعُرِفوا أيضاً بأنَّهم "المغائِرِيّونَ"؛ لأنَّهم - كما جاءَ في كتابِ: "تاريخِ الطوائفِ اليهوديّةِ" للقِرْقِزانِيِّ - كانوا يحتفظونَ بكتُبِهم في المغائرِ، أيِ الكهوفِ. 
ومِنَ الواضحِ جدّاً أنَّ جميعَ هذهِ الأسماءِ والأوصافِ، يتوافقُ وينسجمُ معَ قصةِ: "أصحابِ الكهفِ والرقيمِ". ومِنَ الغرابةِ بمكانٍ أنَّهُ لَمْ يَخْطُرْ ببالِ المؤلفينَ والمترجمينَ العربِ، أنْ يعثروا بِاسمٍ للأسينِيّينَ في: "أهلِ الكهفِ"، أوْ حتَّى في: "أصحابِ الكهفِ".
وجديرٌ بالذكرِ أنَّ معظمَ مخطوطاتِ قمرانَ قد انتهى إلى حوزةِ اليهودِ، وقد جعلوا لها مُتْحَفاً خاصّاً في غربيِّ القدس بجوارِ الجامعةِ العبريّةِ، ولم يقوموا بنشرِ محتوياتِ كثيرٍ منها؛ و ذلكَ - على الأغلبِ – مخافةَ أنْ ينكشفَ ما فيها مِنَ التبشيرِ بالنبيِّ محمدٍr؛ وما في أسفارِ العهدِ العتيقِ المتداولةِ – الآنَ – مِنَ التحريفِ والتزويرِ؛ ولمِا فيها مِنَ المخالفاتِ والمعارضاتِ للفكرِ الصهيونيِّ المتوارثِ في المغضوبِ عليهِم، ولِرَفْضِ كاتِبيها الاعترافَ بِهِ.

أقوالٌ في موضعِ الكهفِ:
منذُ نزولِ سورة الكهفِ، والمسلمونَ في شوقٍ إلى الكهفِ عظيمٍ، تَحْدوهُمُ الآياتُ، وَتُمْطِرُهُمْ آمالَ صِدْقٍ في العثورِ عليه. فَمِنْهُمْ مَنْ أخذَ يُقَلِّبُ الأَسْفارَ لَعَلَّ أَوْراقَها تُجِيبُ فَيَظْفَرَ بِضالَّتِهِ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ أخذَ يجوبُ الأقْطارَ، يُسائِلُ آفاقَها عَنْ فتيةٍ جُثَثٍ، ونقودٍ فِضَّةٍ، والكهفِ المَرْقَدِ، والبُنْيانِ الذي عليهِم، والمسجدِ.
حسناً، قرَأَ في الأسفارِ مَنْ قرأَ، فدارتِ الأقوالُ بالفتيةِ مِنْ أهلِ التوراةِ إلى أهلِ الإنجيلِ. وضربَ في الأرضِ مَنْ ضربَ، فسافرتِ الآراءُ بالكهفِ في أقطارٍ مِنَ العالَمِ وأقطارٍ، فصارَ في حقيبتِهِ تذاكرُ سفرٍ، وتذاكرُ ارتحالٍ، وامتلأَ جوازُ سفرِهِ بأختامِ الحدودِ، وتواقيعِ الجنودِ، حتى جازَ أنْ نُسَمِّيَهُ: الكهفَ الطيّارَ، والكهفَ الجوّالَ، والكهفَ الطوّافَ، والكهفَ الرّحّالَ، والكهفَ السندبادَ. 
وعَبْرَ القرونِ رحلَ قومٌ بكهفِ الفتيةِ مِنَ اليمنِ إلى الموصلِ، قربَ نينَوى بالعراقِ، ومِنْ ثَمَّ إلى جبلِ قاسْيونَ في ظاهرِ دمَشْقَ بالشامِ. ونقلَهُ أُناسٌ إلى الأَنْدَلُسِ، وفي الأندلسِ حملَهُ فريقٌ مِنْ لوشةَ إلى طُلَيْطِلَةَ، ومِنْ طليطلةَ إلى جنانِ الوردِ. وسافرَ بِهِ آخَرونَ في رحلةٍ داخليةٍ بِتُرْكِيّا مِنْ أفِسُوسَ إلى عَربِسُوسَ. وَحَرَّكَهُ نفرٌ مِنْ نَخْجَوَانَ بالقَفْقَازِ، إلى بريطانيا مُحْتارينَ بِهِ بينَ الكنائسِ!.. ورافقتْهُ جماعةٌ من البهائيّينَ مِنْ إسكندنافيا – حيثُ الدِنِمارْكُ والسِّويدُ – إلى روما في جِوارِ بابا الفاتيكانِ حيث كهوفُ وسراديبُ "الكيتا كومز". وقدْ منحهُ البعضُ جنسيَّةَ الباكستانِ. وعادَ بِهِ حزبٌ إلى "سحابَ"، قربَ عمَّانَ عاصمةِ الأُرْدُنِّ. 
وأمَّا هذا البحثًُ فَيُقَدِّمُ له التهانِيَ بسلامةِ العودةِ مِنْ هاتيكَ الأسفارِ ومَشاقِّها، إلى مَسقَطِ رأسِهِ وفَكَّيْهِ؛ فقدْ حقَّ لهُ أنْ ينامَ في رقودٍ قريرَ العينِ، وهانئَ البالِ.
أجلْ، إنَّ الكهف الذي رقد فيه الفتية هوَ "الكهفُ الرابعُ" الرابضُ في تلة قمرانَ؛ فهو بحقٍّ يحقِِّقُ جميعَ الأوصاف التي تتوافقُ مع الكهفِ المذكورِ في قصة الفتيةِ؛ لأنه على الأقلِّ منفتحٌ إلى الجهاتِ الأربعِ، ولأن مدخلَه يأتيه من ظهرِهِ من الجهة الشماليّةِ. 

منهجي السباعيُّ مطبّقاً في بحثي: "أهل الكهف في قمران على شاطئِ البحر الميت"

أرى أنَّ هذا البحثَ المرتبطَ بقصةِ "أصحاب الكهفِ والرقيم" يمثلُ نموذجاً تطبيقيّاً لمنهجي التجديديِّ السباعيِّ في تفسير القرآن الكريم. وهوَ بحثٌ يشكّلُ اكتشافاً جديداً ذا بضعِ شعبٍ، ويقدِّمُ تفسيراً جديداً لآياتِها مشتملاً على الإعجازِ الرقميِّ، والإعجاز التاريخيّ، والإعجازِ العلميّ معاً. وإلى ذلك كلِّهِ، فإن البحث يجلّي إعجازَ القرآن المجيد في الأسلوبِ والبيان. وهذا هوَ المنهجُ السبّاعيُّ:
1. متأسِّسٌ في القرآن الكريم.
2. متلبِّسٌ متدثِّرٌ بالحديثِ الشريفِ، وخاصّةً بالصحيحِ منه.
3. متحسِّسٌ في لسانِ وبيانِ العرب.
4. مستأنسٌ بالمأثور عن الصحابةِ والتابعين.
5. محتبسٌ للإسرائيليّات. 
6. مقتبسٌ من أقوال ثقات المفسرين.
7. ملتمسٌ التجديدَ. 

أولاً - التأسيس في القرآنِ الكريم
قدْ جاءَ القرآنُ الكريمُ بياناً مفصَّلاً مفصِّلاً. إذاً، فمنْ بابِ أوْلى أنْ يكشفَ بعضُهُ بعضاً ابتداءً من معاني الكلماتِ وانتهاءً بمقصودِ الآياتِ. 
وأمّا مفهومي لتأسيس التفسيرِ في القرآنِ فيرتكزُ إلى الآتيةِ: 
1. استعراضُ جميع الآيات التي تردُ فيها الكلمةُ أو الكلماتُ موضوعُ التفسير، وذلكَ فيما لو تكرّرَ ورودُها في القرآنِ الكريمِ.
وتطبيقاً على حالة "أصحاب الكهف والرقيم"، ونظراً لمفتاحيّةِ كلمة "الرقيم"؛ لأنَّ الرقيمَ هي العلامةُ الفارقةُ التي تحددُ هويّةَ الفتيةِ من بينِ عدد آخرَ يزعمُ الزاعمونَ أنَّهم النيامُ المقصودونَ بأصحابِ الكهفِ، فإنّنا لا نجدُ لها وروداً إلاّ في "أصحاب الكهف والرقيم".
2. الانطلاق للبحثِ عن معنى أيِّ كلمةٍ في النصِّ موضوعِ التفسيرِ منَ استعراضِ جميعِ المفرداتِ القرآنيّةِ التي تعودُ في اشتقاقِها إلى الأصلِ اللغويِّ نفسِهِ. 
ففي حالةِ الآيةِ : "أمْ حسبتَ أنَّ أصحابَ الكهفِ والرقيمِ كانوا من آياتِنا عجباً؟" لا نجدُ غيرَ الرقيمِ إلاّ كلمةً قرآنيّةً أخرى تعودُ إلى الأصلِ الثلاثيِّ "رقم" الذي تعودُ إليْهِ نفسِهِ كلمةُ "الرقيم"، وذلكَ في قولِ الله تعالى: )وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ( (المطفّفين: 8-9). وفي قولِ الله تعالى: )وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ( (المطفّفين:19-20). ومنها ننطلقُ إلى أنَّ الرقيمَ في أصلِهِ ذو ارتباطٍ بالكتابة؛ لأنَّ الوصفَ بالمرقومِ قدْ تكرّرَ معَ الكتابِ بالرغمِ من تنوُّعِهِ. وإنَّ للمعاجمِ المفهرسةِ في تيسيرِ مثلِ هذا العملِ لَدوْراً كبيراً.
3. البحثُ في الآياتِ الأخرى المتحدِّثةِ عن موضوعِ النصِّ أوْ بعضِهِ أوْ ما يشبهُه، فيما لوْ وُجدَتْ. 
وبالنسبةِ لقصةِ الفتيةِ فلم تردْ في القرآنِ الكريم إلاّ في سورة الكهفِ.
4. عرضُ النصِّ على مناسبةِ النُّزولِ.. فعندي أنَّ مناسبات النُّزول، وخاصةً ما أجمعَ عليهِ الصحابةُ "وصارَ من المعروف في التفسير بالضرورةِ"، هي من مُلحَقاتِ القرآنِ الكريم. 
ففي حالةِ "أصحاب الكهف والرقيم" نسترشدُ من المناسبةِ في: 
‌أ. أنَّ الفتيةَ قد خرجوا في الزمنِ الأول والمقصودُ منهُ كما أرى هوَ فترةُ ما قبلَ ميلادِ المسيح. 
‌ب. أنَّهم يمتّونَ بصلةٍ قوميّةٍ لليهودِ.
‌ج. أنَّ بعثَهم كانَ في الزمنِ الآخرِ أي بعدَ ميلادِ المسيحِ؛ لأنَّ السؤالَ قدْ حصرَ خروجَهم في الزمن الأولِ ولم يقلْ: (كانَ حديثُهم في الزمن الأول)، أوْ: ثمَّ خرجوا في الزمنِ الآخِرِ. 
‌د. أنَّ عندَ السائلينَ أطرافاً من حديثِ الفتية: )ما يعلمُهم إلّا قليلٌ(. ] الكهف: 22[
‌ه. وجود الاسم "أصحاب الكهف والرقيم" أوْ ما هو قريبٌ منه عندَ السائلينَ.
5. تقليبُ النصِّ في القراءاتِ المتواترةِ؛ لأنَّ القراءاتِ المتواترةَ هي عندي من ملحقاتِ القرآنِ الكريم أيضاً. واختلافُ القراءاتِ قد يحلُّ كثيراً من مسائلِ الاختلافِ، ويمكّنُ من الوصولِ إلى تفسيراتٍ جديدةٍ. ففي قصةِ "أصحاب الكهف والرقيمِ" جاءتْ قراءاتٌ أخرى غيرُ التي في روايةِ حفصٍ بقراءةِ عاصمٍ، ومنها: (رُشْداً، مَرْفِقاً، تزّاوَرُ، تزوَرُّ، ونقْلِبُهم، ولَمُلِّئتَ، ولمُليتَ، رُعُباً، بِوَرْقِكم، بوِرْقِكم). 
وأرى أنَّ القرآنَ مفتوحٌ لقراءاتٍ تفسيريّةٍ، لا تلاويّةٍ، إلى يومِ الدينِ ولكنْ وفْقَ ضوابطَ وشروطٍ. 
6. استعراضُ النصِّ في "علوم القرآنِ": الناسخ والمنسوخ، المطلق والمقيّد، العام والخاص، المجمل والمفصل.. الخ . فهذهِ العلومُ بوصلةُ التوجيهِ. 
7. تدبُّرُ النصِّ ضمنَ خارطةِ السياقِ، وضمنَ مجالِ القرائن. وتطبيقاً على "أصحاب الكهف والرقيم" فإنَّ الفتيةَ أنفُسَهم هم أصحابُهُ صحبةَ امتلاكِ وعِشْرةٍ، ممّا يحتملُ بقُوّةٍ أنَّهُ من حفرِهم ومعروفٌ لهم فقطْ؛ إذْ هم مالكوهُ ومتعاشرون فيه، وهوَ معهودٌ لهم من قبلِ الأوي الأخيرِ إليْهِ، وأنَّهُ محتوٍ على الرقيم منْ قبلِ الأويِ الأخيرِ أيضاً. وأنَّ قومَهم كانوا على التوحيدِ فارتدّوا إلى وثنيّةٍ. 
حسناً، إنَّ الاستدلالَ على أنَّ "الرقيم" هوَ المخطوطُ ذو السطورِ، هوَ المقدّمةُ الأولى للربطِ بينَ "أصحاب الكهفِ والرقيم" وبيْنَ الأسينيّينَ أصحابِ مخطوطاتِ البحر الميتِ التي كانوا يحتفطونَ بها في كهوفٍ كانت من حفرِهم، وكانوا يتردّدونَ عليها سرّاً.


ثانياً - التلبُّسُ بالحديثِ الشريفِ، وخاصّةً بالصحيحِ منه
لا ريْبَ أنَّ دخولَ أيِّ كلمةٍ قرآنيّةٍ في كلام رسولِ الله عليْهِ السلامُ، ستكونُ الأولويّةُ في دلالِتها مرتبطةً بالمعنى الذي جاءتْ لهُ في القرآنِ الكريمِ. ومن هذا المنطلقِ نحاولُ أنْ نجدَ الأحاديثَ التي وردت فيها تلكَ الكلمةُ أوِ المفرداتُ المشتركةُ معها في الأصلِ الاشتقاقيِّ. فماذا وردَ في الحديثِ بعُمِومِهِ مّما يؤيّدُ ما استخلصناهُ منَ القرآنِ من أنَّ الرقيمَ تحملُ معنى: "المخطوط"، أوِ "المخطوط في سطورٍ"؟
لقد أوردَ العلّامةُ ابن منظور في لسان العرب في مادة "رقم" أنَّهُ:
1. وردَ في الحديثِ أنَّ الرسولَ عليْهِ السلامُ كانَ يُسوّي الصفوفَ حتّى يدعَها مثلَ الرقيمِ، أيْ حتّى لا ترى في الصفوفِ عِوَجاً كما يقوِّمُ الكاتبُ سطورَ الكتابِ الذي يخُطُّهُ. 
2. وجاءَ في الحديثِ أنَّهُ عليْهِ السلامُ قدْ أتى بيتَ ابنتِهِ فاطمةٍ فوجدَ على بابِهِ سِتْراً مَوشّىً فقالَ: ما لَنا والدنيا والرَّقْمِ؟.. يريدُ الوَشْيَ المخطََّطَ والنقشَ، أيِ التطريزَ بخطوطٍ من خرزٍ أوْ خيُوطٍ مميّزةٍ مزركشةٍ.. وهلْ يكونُ التطريزُ إلاّ منتظماً مرتّباً؟ 
3. وقد قالَ عليْهِ السلامُ معبّراً عنْ قلّةِ أمّتِهِ بالقياسِ إلى مجموعِ الأممِ: "ما أنتُم في الأممِ إلّا كالرقْمَةِ في ذراعِ الدّابّةِ".. والرقّمتانِ في الدّابّةِ هما أثرانِ من خطّيْنِ مميّزيْنِ في ذراعيِ الدّابّةِ مثلِ الحمارِ والفرس. 
4. وجاء في الحديثِ في ذكرِ تاجرِ ثيابٍ أنَّهُ كانَ يزيدُ في الرَّقْمِ، أيْ يزيدُ في عددِ الخطوطِ التي تبيّنُ ثمنَ الثوبِ.
حسناً، لقد وردَ في الصحيحيْنِ قولُهُ عليْهِ السلامُ: "وما مثَلُكم والأمم إلاّ كمثَلِ الرَّقْمةِ في ذراعِ الدابّةِ". وجاءَ ذكْرُ الرَّقْمِ في الثوبِ في حديثٍ في سننِ أبي داود. وقد وردَ في مسندِ الإمامِ أحمد بن حنبل قولُهُ عليْهِ السلام:"وما أنا والدنيا وما أنا والرَّقمُ".
ولا ريْبَ أنَّ الرسولَ هوَ التَّرجُمانُ الأعظمُ للقرآنِ الكريمِ فما صحَّ من شرحِهِ وتبيينِهِ فلهُ الأولويُّةُ والأعلويّةُ والتسليم بالصِّحةِ. وأمّا بالنسبةِ لحالة "أصحاب الكهف والرقيم" فقدْ كانَ أمرُ الرسولِ عليْهِ السلامُ معها عجباً؛ إذْ لا تجدُ لهُ في التفاسيرِ عنها قولاً[3].. فلماذا؟
1. قد كانَ أصلاً لا يعرفُ من حديثِهم شيئاً.
2. لقدْ جاءَتِ القصةُ في إجمالٍ من أربعِ آياتٍ وتفصيلٍ من أربعَ عشرةَ آيةً، وكأنَّ ذلكَ إشعارٌ للرسولِ بأنْ لا يقومَ بتفسيرِ القصةِ. 
3. قولُ الله تعالى: )نحنُ نقُصُّ عليكَ نبأهم بالحقِّ (قد يعني أنَّ دورَ الرسولِ هنا هوَ التلقّي فقطْ للتبليغِ وليسَ للتبيين؛ فقد جاء في الآية: "عليكَ" ، لا: "عليكم"، ولا "عليهم". 
ويبدو لي أنَّ الرسولَ عليه السلامُ قد تركَ الحديثَ عنهم فهماً منهُ لأقوالِ الله تعالى: )قلْ ربّي أعلمُ بعدّتِهم(، )فلا تمارِ فيهم إلاّ مِراءً ظاهراً(، )قلِ اللهُ أعلمُ بما لبثوا(، )أبصرْ بهِ وأسمِعْ(، )وقُلِ الحقُّ من ربِّكم فمنْ شاءَ فلْيُؤمِنْ ومَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ( (الكهف). 
ونلاحظُ من المناسبةِ أنّهُ عليْهِ السلامُ قدْ سُئلَ عن ثلاثةِ أسئلةٍ: عن الروحِ، وعن الرجلِ الطوّافِ، وعنِ الفتيةِ. فأماّ بالنسبةِ للروحِ فقد جاءَ قولُ اللهِ تعالى: )وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلا( (الإسراء: 85).
وأمّا بالنسبةِ للرجلِ الطوّافِ فقدْ جاءَ قولُ الله تعالى:"وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا( (الإسراء: 83)، وأمّا بالنسبةِ للفتيةِ فقد جاءَ: )أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا( ]الكهف: 9[.. فلمْ يقلْ لهُ القرآنُ: (ويسألونَكَ.... قُلْ:...)، أيْ لمْ يأمرْهُ هنا بالقولِ لهم، بلْ أظهرتِ الآياتُ الرسولَ كأنَّهُ هوَ المتشوّقُ ليسألَ عنهم: )فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا" [الكهف: 12].
4. امتناعُ الرسولِ على حياتِهِ عنِ الحديثِ عن عدّتِهم ومدّتِهم - وهما مسألتانِ رئيسيّتانِ في أمرِهم - لا يدعُ مجالاً لتكذيبِهِ بالاستشهادِ بأقوالِ الأحبارِ والرهبانِ فيهما؛ إذْ كانَ القرشيّونَ قد وضعوهُ للاختبارِ تحتَ "التصحيحِ" من قِبَلِ هؤلاء، أيْ كانتِ الإجاباتُ هيَ إجاباتِ أسئلةِ امتحانٍ وضعهُ الأحبارُ وهمْ في نظرِ قريشٍ أصحابُ الأهليّةِ لتصحيحِهِ، فقطعَ الله تعالى عليهم الطريقَ: )قلْ ربّي أعلمُ بعدّتِهم(.. )قلِ اللهُ أعلمُ بما لبثوا(.. )وقُلِ الحقُّ منْ ربِّكم فمنْ شاءَ فلْيُؤمنْ ومَنْ شاءَ فلْيكفُرْ(. فالرسولُ عليْهِ السلامُ كانَ مأموراً، شخصيّاً، بعدمِ الحديثِ في هاتيْنِ المسألتيْنِ لأنَّهُ مهما كانَ جواباهما عندهُ فسيقومُ الأحبارُ بتخطيئِهِ مستمسكينَ بقولٍ منْ أقوالِهم التي تخالِفُ قولَهُ.

ثالثاً - التحسُّسُ في لسانِ وبيانِ العربِ
قلنا إنَّ "الرقيم" هي الكلمةُ المفتاحيّةُ في محاولةِ تحديدِ مَنْ هم "أصحابُ الكهفِ والرقيم"؛ لأنّها تشكّلُ العلامةَ الفارقةَ في هويّتِهم بينَ كلِّ مَنْ يمكنُ أنْ يُقالَ عنهم "أصحابُ الكهفِ" ، أوْ: "أهل الكهف". 

جاءتْ كلمةُ "الرقيمِ" مِنَ الفعلِ الثلاثيِّ "رَقَمَ"، ومِنْ معانيهِ البارزةِ المستعملةِ: خطَّ، وكتبَ، ورسمَ، وختمَ، وطرَّز، ونقشَ. ففي (لسانِ العربِ) لابنِ منظورٍ، أنَّ للرَّقْمِ ستةَ معانٍ، وهيَ: الخطُّ، والكتابةُ، والختمُ، والرسمُ، والنقشُ، والتطريزُ، أيِ: الوَشْيُ. وواضحٌ جدّاً أنَّها معانٍ متقاربةٌ متداخلةٌ، حتَّى لَكَأنَّها مترادفاتٌ.
وفي صَرْفِ الكلامِ فإنَّ "الرقيمَ"، هيَ مِنْ وزنِ: "الفَعيلِ". وتجيءُ الفَعيلُ بِمَعْنى: المفعولِ. فالكسيرُ هوَ المكسورُ، والجريحُ هوَ المجروحُ، والحبيبُ هوَ المحبوبُ. وبوضوحٍ أعظمَ وأشملَ، فإنَّهُ بِأَخْذِ الفعلِ "خطَّ"، معنىً للفعلِ "رَقَمَ" – يكونُ "الرقيمُ"، هوَ المرقومَ، ومعناهُ: المخطوطُ. وهذا المعنى، هوَ – بلا ريْبٍ - أقوى معانِي كلمةِ الرقيمِ. وجَمْعُ الرقيمِ هوَ: الرُّقُمُ. 
ويجبُ أنْ نلاحظَ أنَّ التداخلَ غالباً ما يعتري الخطواتِ ويجعلها مترابطةً متعاضدةً، ومنْ هنا فإنَّ الربطَ بينَ "التحسسِ في لسان وبيان العربِ" من جانبٍ ، وبينَ كلٍّ من "التأسيسِ في القرآنِ الكريمِ" ، والتلبُّسِ بالحديثِ الشريفِ ، من الجانبِ الآخرِ ، يوصلُنا إلى ارتباطِ "الرقمِ" بالكتابةِ المخطوطةِ في سطورٍ مُسوّاةٍ منتظمةٍ، وبإحسانِ وانتظامِ تلكَ الكتابةِ وحِذْقِها.
حسناً، لقدْ جاءَ في القرآنِ الكريمِ: "وَالطُّور وَكِتَابٍ مَّسْطُور فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ( (الطور:1-3)، وجاءَ : )وما كنتَ تتلو من قبلِهِ من كتابٍ ولا تخطُّهُ بيمينِكَ إذاً لارتابَ المبطلونّ" (العنكبوت: 48). ويستعملُ العربُ الطورَ ليسَ فقط بمعنى الجبلِ، بل وبمعنى: الكهفِ أيضاً. ولقدْ جاءَ في الحديثِ أنَّهُ الرسولَ عليْهِ السلامُ كانَ يسوّي الصفوفَ حتّى يدعَها كالرقيمِ.
وعلى هذا فالرقيمُ هوَ: المخطوطُ، أيِ المكتوبُ وخاصّةً في سطورٍ منتظمةٍ دليلاً على الإحسانِ والخبرةِ في النسخِ وحِذْقِهِ. 
فكتابةُ الكتابِ المُحسَنةُ تكونُ بالتخطيطِ في سطورٍ. وبناءً على ما سبقَ، فإنَّ الرقيمَ تكونُ من التخطيطِ، والأدقُّ: هوَ أنَّها من التخطيطِ البارز المنتظمِ في سطورٍ: "وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ" (المطفّفين:19-20). أيكونُ علّيونَ كتاباً غيرَ ذي سطورٍ؟ 
حسناً، يُشعرُنا ما سبقَ أنَّ الرَّقْمَ يشيرُ إلى الكتابةِ المُتقنةِ الحاذقةِ كأنَّما هيَ منَ التطريزِ، أيْ تبدو كأنَّها في خطوطٍ منتظمةٍ غليظةٍ.
ولا بُدَّ أنَّ كتبَ الفتيةِ قد كانتْ من نسخِهم أوْ نسخِ طائفتِهم، وأنَّها كانتْ مكتوبةً في سطورٍ مُسوّاةٍ. وأمّا بالنسبةِ للأسينيّينَ، فقد كانوا نُسّاخاً حاذقينَ، وكانوا يكتبونَ على الرِّقاقِ في سطورٍ مسوّاةٍ تميلُ إلى الخطِّ الغليظِ.
وكانت طائفةُ الأسينيّينَ تحفظُ مخطوطاتِها داخلَ لفائفَ كتّانيّةٍ موَشّاةٍ بخطوطٍ من التطريزِ يسمونِها: "القِليم". وحتّى في العربيّةِ فإنَ التقليمَِ هوَ جعلُ الثوبِ مقلَّماً أيْ مخطّطاً. 
وفي كتابِ: (الإتقان) للعالمِ السيوطيِّ، أنَّ الرقيمَ منْ غريبِ المفرداتِ الآتيةِ منَ العبريّةِ، وأنَّ معناها في العبريّةِ، هوَ: المكتوبُ.
وجاءَ في المخطوطاتِ أنَّ الأسينِيّينَ كانوا يسمّونَ كتبِ الشرعِ والدينِ باسمِ: "روقْموتْ". وإذا ما ثبتَ أنَّ رقيمَ الفتيةِ، هوَ فعلاً: "روقموت" قمرانَ، فإنَّهُ يثبتُ تلقائيّاً، أنَّ الفتيةَ هم مِنْ أصحابِها، أيْ: أنَّهم أسينِيّونَ، كانوا في قمرانَ. 

رابعاً- الاستئناس بأقوالِ الصحابة والتابعين
تأرجحَ الاهتمامُ بالتفسيرِ، وتأرجحتْ قوةُ التفسيرِ باختلافِ القرونِ والأوضاعِ العامّةِ السياسيّةِ والاقتصاديّةِ للأمّةِ الإسلاميّةِ، وتفاوتتِ المجتمعاتُ الإسلاميّةُ في نصيبِها من المساهمةِ فيهِ كمّاً ونوعاً. وهناكَ منَ الأسبابِ ما جعلَ المسلمينَ ينظرونَ إلى التفسيرِ المنسوبِ إلى الصحابةِ والتابعينَ على أنَّهُ ذروةُ سنامِ التفسيرِ؛ وكادَ البعضُ يعتبرُ ما نُسبَ إليْهم نصوصاً مقدّسةً. وبالنسبةِ لمساهمةِ هؤلاءِ في تفسيرِ قصةِ "أصحاب الكهف والرقيم" فليسَتْ هذهِ العجالةُ بكافيةٍ لها، ولكنّنا نتعرّضُ لشيءٍ ممّا نُسبَ إلى عبد اللهِ بنِ عبّاسٍ في تفسيرِ القصّةِ.
لقد درجَ أكثرُ العلماءِ على النظرِ إلى ابنِ عبّاسٍ بأنَّهُ رأسُ مفسري الصحابةِ، وسمّوْهُ حبرَ الأمّةِ وتَرجُمانَ القرآنِِ؛ إذْ دعا لهُ الرسولُ عليْهِ السلامُ بأنْ يفقِّهَهُ في الدينِِ، ويعلّمَهُ التأويلَ. 
1. أمَّا بالنسبةِ للرقيمِ فقد جاءَ عنهُ أنَّهُ لا يعرفُ معناها، وجاءَ بأنّهُ مترددٌ في معناها بينَ الكتابِ والبنيان، ووردَ بأنَّهُ يفسّرُها بالكتابِ، ونُسِبَ إليْهِ أنَّها لوحٌ كُتبتْ فيه أسماؤهم. 
والقولانِ الأخيرانِ يؤنسُانِنا في اعتبارِ الرقيمِ بمعنى: المخطوط.
2. وبالنسبةِ لعدّةِ الفتيةِ فقد نسبوا إليْهِ أنّهُ كانَ يقولُ بأنَّهم سبعةٌ، وبأنَّهُ من القليلِ الذي يعلمُهم. وأستبعدُ أنْ يكونَ هذا القولُ صادراً عنِ ابنِ عبّاسٍ على ظاهرِ معناه؛ لأنّهُ لوْ كانَ عددُهمْ سبعةً فإنَّ علْمَهُ بهِ يكونُ معتمداً على: "ويقولونَ سبعةٌ وثامنُهم كلبُهم"، وبذلَكَ لا يكونُ العالمونَ بهِ قليلاً. وأيّاً كانَ الأمرُ، فإنَّ وجودَ قولٍ لابن عبّاسٍ في العدّةِ يؤنسُنا إلى أنَّ البحثَ فيها أمرٌ غيرُ محظورٍ. ومنْ جانبٍ آخرَ فإنّهُ، وعلى فرضِِ وجودِ سندٍ صحيحٍ لقولِ ابنِ عبّاسٍ بأنَّهم سبعةٌ وبأنَّهُ من القليلِ الذي يعلمُهم، فإنَّ معرفتَنا بدعاءِ الرسولِ عليهِ السلامُ لهُ بأنْ يعلّمَهُ اللهُ تعالى التأويلَ، يجعلُنا نتساءلُ فيما إذا كانَ ابنُ عبّاسٍ يريدُ منّا أنْ نفهمَ كلامَهُ على التأويلِ، أيْ أنَّهُ قدْ قدّمَهُ في ثوبِ أُحْجيةٍ أوْ لغزٍ. فهلْ يمكنُ تأويل "سبعة" إلى ثمانيةَ عشرَ وهوَ عددُ الفتيةِ الذي أقولُ بهِ اعتماداً على كشوفِ قمرانَ؟ 
أرى أنَّ العربَ كانوا يعرفونَ حسابَ "الجُمَّلِ" ويستعملونَهُ، وهمْ فيهِ يأخذونَ بترتيب الحروفِ أبجديّاً: أ، ب، ج، د، ه، و، ز.. الخ. ونلاحظُ أنَّ الموضعَ في الرقمِ "سبعة" كانَ من نصيبِ الحرف "ز" واسمُهُ: "زاي"، وفي حالةِ حساب قيمةِ "زاي" جمّليّاً فإنَّها تساوي 18 (ز=7، أ=1، ي=10). 
ولقد وردَ في التفسير غيرِ المختصرِ لابن كثيرٍ قولٌ عن ابنِ عبّاسٍ أنّهم ثمانيةُ نفرٍ، ولكنَّ ابنَ كثيرٍ يشكّكُ في نسبتِهِ إليْهِ[4].
3. وتوردُ كتبُ التفسيرِ أنَّ ابنَ عبّاسٍ كانَ يقولُ بأنَّ الكهفَ موجودٌ قربَ أيْلةَ دونَ فلسطين[5]. 
فكيفَ نستأنسُ بهذا القولِ لمصلحةِ قولي بأنَّ الكهفَ موجودٌ قي قمرانَ؟
على الأقلِّ، قدْ ربطَ ابنُ عبّاسٍ الكهفَ بفلسطين، ولوْ قمنا بالتحديدِ الجغرافيِّ لفلسطينَ حسبَ ما كانتْ تعني لقريشٍ، وعرفْنا الطريقَ التي كانتْ قوافلُ قريشٍ تسلُكها إلى الشامٍ مروراً بأيلةَ (إيلات) وبالبحرِ الميّتِ، فلا بدَّ أنْ نستأنسَ إلى أنَّ ابنَ عبّاسٍ كانَ يشيرُ إلى أنَّ الكهفَ موجودٌ في فلسطينَ بجوارِ البحرِ الميتِ نفسِهِ. وفهمُ المواضعِ قديماً لَمْ يكنْ مثلَهُ اليومَ، فَلَمْ يكنْ هناكَ خرائطُ، ولْم تكنِ التقسيماتُ السياسيّةُ والإداريّةُ مثلَما هيَ في عصرِنا. وكانَ الناسُ يُشيرونَ إلى بلدٍ بِذِكْرِ بلدٍ آخرَ، قدْ يبعدُ عنهُ مسيرةَ القافلةِ لبضعةِ أيّامٍ.
لماذا أميلُ إلى جعلِ التحسسِّ في اللغةِ، بشكلٍ عامٍّ، مقدَّماً على الاستئناس بأقوالِ الصحابةِ والتابعينَ؟
1. لأنَّهم هم أنفُسَهم كانوا يلتمسون التفسيرَ في بيانِ ولسانِ العرب، وقدْ وصلَنا بيانُهم ولسانُهم على حالٍ حسنةٍ منَ السلامةِ، فلْنتدبَّرْ نحنُ فيهِ مستأنسينَ بتدبُّرِهم. 
2. يتوفّرُ لنا من الكتب من معاجمَ ودواوينَ وغيرِها ما لم يكن يتوفّرُ لهم. 
3. يتوفرُ لنا معلوماتٌ وحقائقُ لم يكونوا يعرفونها. 
4. لم يقمِ العلماءُ بتنقيةِ تلكَ الأقوالِ المنسوبةِ إلى الصحابةِ والتابعينَ؛ فقدْ دسَّ البعضُ آراءَهُ في التفسيرِ من خلالِ نسبتِهِ إليهم.
5. لا نستطيعُ معاملتَها معاملةَ الحديث الصحيحِ؛ فقدْ جاءَ الكثيرُ منها فاقداً للسندِ أوْ مضطّرباً.
6. وجودُ اختلافاتٍ كبيرةٍ في الأقوالِ المنسوبةِ إليهم. وبعضُهم لم يقبلْ بآراءِ بعضٍ آخرَ، وقد تكونُ الأقوالُ المنسوبةُ لأحدِهم متناقضةً لا مجالَ للتوفيقِ بينَها. 

خامساً- الاحتباسُ للإسرائيليّات
أتعاملُ معَ الإسرائيلياتِ التي لا يقصُّ عليْنا القرآنُ اختلافَ بني إسرائيلَ فيها، والتي لا تخالفُ الحقائقَ علميّاً أوْ تاريخيّاً في إطارِ "لا تصديقَ ولا تكذيبَ".. أيْ هيَ لمجرّدِ الاطّلاعِ؛ فلا نؤيِّدُ بها، ولا نفنِّدُ بها. والاتجاهُ العامُّ عندي هوَ احتباسُها عن التفسيرِ. وأمَّا الاطِّلاعُ عليْها لاحتمالِ أنْ يُستفادَ منها أحياناً في مجالِ الردِّ على الآخذينَ بها فيكونُ ضمن شروط:
1. عدم وجود نصٍّ قطعيِّ الدلالةِ في القرآن ، أو الصحيح ، أوِ الإجماعِ ، في الموضوعِ محلِّ الجدل.
2. عدم تعارضها هي معَ القرآنِ والصحيح من الحديثِ. 
3. عدم التعارضِ مع الحقائق التاريخيّةِ والعلميّةِ. 
وفي حالةِ التطبيقِ على "أصحاب الكهف والرقيم": 
‌أ) لا نأخذُ أبداً بأقوالِهم في عددِ الفتيةِ ولا في مدَّتِهم.
‌ب) ولكن لمّا كانَ الأحبارُ همُ الذينَ بعثوا بالسؤالِ عنِ الفتيةِ إلى الرسولِ عليْهِ السلامُ، فمنَ الممكنِ أنْ نعتبرَ أنَّهُ قدْ حصلَ إقرارُ الرسولِ لِما جاءَ في السؤالِ، وهوَ أنَّ الفتيةَ قد خرجوا في الزمنِ الأولِ، وأنَّ حديثَهم عجبٌ. وهكذا أرى أنَّهُ منَ الكياسةِ أنْ نحاولَ الاهتداءَ إلى الأسفارِ حيثُ مصدرُ أقوالِهم فقد نستفيدُ منها علماً في جوانبَ أخرى لا تتعلّقُ في النقاطِ التي حسمَتْها الآياتُ في أمرِهم: "ما يعلمُهم إلاّ قليلٌ"؛ إذْ إنَّ هذا ليسَ استفتاءً لأحدٍ منهم، ولكنَّهُ اطّلاعٌ على ما كانوا يعلمونَ عنهم يومئذٍ. وفي هذا الخُصوصِ فقدْ وصلتُ إلى أنَّ مصدرَ علمِ أحبارِ يثربَ بالفتيةِ هو سفرُ المَكّابيّينَ الأول، وسفرُ المكّابيّينَ الثاني، ففيهما أحاديثُ عن شبابٍ ثلاثةٍ، وعنْ شبابٍ خمسةٍ، وعنْ شبابٍ سبعةٍ تعرّضوا جميعاً للتعذيبِ والقتلِ بسببِ الثباتِ على ملّةِ التوحيدِ. وهذانِ السفرانِ يتحدّثانِ عنْ عهدٍِ المكّابِيّينَ (165ق.م – 63ق.م) ويحتويانِ على تفصيلاتٍ ترتبطُ بظروفِ نشأة الأسينيّينَ الذين أرى أنَّهمُ الطائفةُ التي ينتمي إليْها "أصحابُ الكهفِ والرقيم".

سادساً- الاقتباس من ثقات المفسرين
لماذا لا بدَّ للمفسرِ من الاطّلاعِ الشموليِّ الذي قد يمثّلُهُ الاكتفاءُ بالاطّلاعِ على تفاسير الموضوعِ عندَ ثقاتِ المفسرينَ؟ 
يوفِّرُ المفسّرُ بهذا الاطِّلاعِ فرصةً للتدريبِ والتجريبِ استعداداً للقيامِ بالحلِّ المنشودِ، بلْ وبِهِ يصبحُ المفسِّرُ يعملُ بعقلٍ مركّبٍ ذي تطعيمٍ.
وذلكَ أيضاً ما يؤدّي إلى الإحاطةِ بأصولِ المسائلِ في الموضوعِ المنويِّ تفسيرُه، وإلى تعزيزِ الفِطْنة، وهما ركنان يجبُ توفُّرُهما لتشغيل الميكانيكيّاتِ الذهنيّةِ في اتجاهِ اصطيادِ والتقاطِ العقْلِ لحلٍّ نضيجٍ، ولإثارةِ الخواطرِ في عمليّةِ التفكير والتدبُّرِ. 
ووصولُ المُطالعِ إلى رأيٍ مماثلٍ لِما عند هذا أوْ ذاكَ من ثقاتِ المفسرين، ومن خلالِ صدقِهِ مع نفسِهِ بأنَّهُ ما سبقَ أنْ علمَه من قبلُ، هوَ ممّا يزيدُه ثقةً بنفسِهِ وبالثقاتِ.
ومثلُ هذا العملِ هوَ في النهايةِ اختبارٌ ذاتيٌّ وتأكيدٌ ذاتيٌّ أنّه غيرُ خارجٍ عن الخطِّ، وأنَّهُ سائرٌ في الاتجاهِ الصحيحِ.
والتحمُّسُ الأكبرُ لديَّ هو لمناصرة أهل التفسير، والابتعادِ ما أمكن عن التأويلات وخاصةً الصوفيّةَ منها، وذاتَ التنظيراتِ المذهبيّةِ.
والاطِّلاعُ الشموليُّ على ما جاءَ في المسألةِ المنشودِ تفسيرُها يفسِحُ المجالَ للتعرفِ على النقاطِ ذاتِ الاهتمامِ؛ إذْ هوَ يوفِّرُ مُدْخَلاتٍ للمسألةِ ليعملَ العقلُ على توليدِ المُخرَجاتِ المرجوّة. 
فماذا قالَ المفسرونَ في الرقيمِ ممّا يدعمُ اعتباري أنَّهُ المخطوطُ (مخطوطات قمران)؟ 
أهمُّ معانِي الرقيمِ عندَ المفسّرينَ هيَ: الكتابُ، الدَّواةُ، اللوحُ المكتوبُ، واسمُ موضعِ الكهفِ. 
الرقيمُ والكتابُ:
وإذا تَمَسَّكْنا بحرفيّةِ الكلامِ، واعتبَرْنا أنَّ الرقيمَ تَعْني الكتابَ بمفهومِهِ الخاصِّ المُخَصَّصِ، المتعلقِ بالتأليفِ، فإنَّنا نجدُ أنَّ مكتشفاتِ قمرانَ تُحَقِّقُ هذا المعنى؛ إذْ إنَّ مُعْظَمَ مخطوطاتِ قمرانَ هوَ: كُتُبٌ مرقومةٌ في صُحُفٍ جلديّةٍ مسطورةٍ سطوراً سطوراً كسطورِ الدفترِ؛ حيثُ الكلامُ المنسوخُ مخطوطٌ منْ أسفلِ هذهِ السطورِ، وليسَ عليْها.
وقد زِيدَ معنى الكتابِ تخصيصاً، فقيلَ:
1) الرقيم هو: الكتاب من شرع الفتية من دين قبل عيسى عليه السلام[6].
وبالنسبةِ لقمرانَ، فقدْ وُجِدَ فيها أقدمُ نُسَخٍ مِنَ التوراةِ والزَّبورِ؛ ومخطوطاتٌ في ملةِ الأسينِيّينَ.
2) الرقيمُ هُوَ: كتابُ تِبيانِ الفتيةِ (تفسير الطبريِّ).
وبالنسبةِ لقمرانَ، فقدْ عُثِرَ فيها على مخطوطٍ عظيمِ النفعِ والأهميةِ، يُعْرَفُ باسمِ: "مخطوطِ النظامِ"؛ لأنَّهُ يُبَيًّنُ ويشرحُ أنظمةَ الأسينِيّينَ.
3) وقيلَ عَنِ الرقيمِ بأنَّهُ كتابُ قَصَصِهمْ (تفسير الطوسيِّ).
وفي قمرانَ وُجِدَ مَرقومٌ عَنْ قصصِ الطائفةِ مَعَ قومِها؛ ومرقومُ "سِفْرِ ناحوم". والمرقومُ الأخيرُ يتحدَّثُ عنْ قصَّةِ الأسينٍيّينَ معَ "الكسندر جانيوس" (103ق.م –76ق.م)، الملكِ المَـكَّابيِّ الشِّريرِ المفتري الذي اضطَّهدَهم بجبروتٍ رهيبٍ منقطِعِ النظيرِ.
الرقيمُ والدَّواةُ:
الدواةُ هيَ: وعاءُ الحبرِ، مِدادِ الكتابةِ والخطِّ. فالدواةُ: أداةٌ مِنْ أدواتِ الكتابةِ والرَّقْمِ.
وقد عُثِرَ في قمرانَ على ثلاثٍ مِنَ المحابرِ. وكانَ الأسينِيّونَ يستخرجونَ الحِبْرَ مِنْ حرقِ العظامِ، ويخطُّونَ على الجلودِ التي يَدْبِغونَها بأَنفسِهم. وكان أفرادُهم جميعاً يُتْقِنونَ النَّسْخَ خيرَ إتقانٍ، ويُعْنَوْنَ بالدراسةِ والحفظِ. ويكتملُ عندَهم ما يجعلُهم يستحقونَ -بكاملِ الجدارةِ- أنْ يوصَفوا بِأصحابِ الرقيمِ.
الرقيمُ واللوحُ المكتوبُ:
ذهبَ بعضُ المفسرينَ إلى أنَّ الرقيمَ لوحٌ مكتوبٌ. وجاءَ في نوعِهِ: أنَّهُ مِنْ نُحاسٍ، أوْ أنّهُ مِنْ رصاصٍ، أوْ أنَّهُ مِنْ حجر[7]ٍ. ولم يكتفِ بعضُهم بلوحٍ؛ فذهبَ "القُمِّيُّ" إلى أنَّ الرقيمَ لوحانِ مِنَ النحاسِ المرقومِ. ورأى "الألوسيُّ" في "روح المعاني"، أنَّ اللَّوْحَيْنِ كانا في فمِ الكهفِ. فماذا في قمرانَ؟
عُثِرَ في قمرانَ على لوحيْنِ مِنَ النحاسِ المرقومِ -نقراً بالإزميلِ- يُشَكِّلانِ معاً مخطوطاً واحداً يُسَمّونَهُ: "مخطوطَ الكنْزِ". وكانَ اللوحانِ في مدخلِ الكهفِ الثالثِ. وما مدْخَلُ الكهفِ إلَّا فَمُهُ. وقدْ ذهبَ بعضُ المفسرينَ إلى القولِ بأنَّهم كانوا صيارفةً!
فيا لَهُ مِنْ توافقٍ عجيبٍ!.. فهلْ كانَ المفسرونَ يُطْلِقونَ أقوالَهم، في مثلِ هذهِ الأمورِ، عَنْ علـمٍ، أمْ عَـنْ رجمٍ بالغيبِ؟.. أَلَـمْ يَقُـلِ القـرآنُ المجيدُ: )ما يعلمُهم إلاّ قليلٌ(؟

الرقيمُ واسمُ الموضعِ:
ذهبَ بعضُ المفسرينَ إلى احتمالِ أنْ يكونَ "الرقيمُ" اسماً لكلبِ الفتيةِ، أو اسماً لمكانِ الكهفِ، أو القريةِ التي هُمْ مِنْها. وبالرَّغْمِ منْ ضعفِ هذهِ الأقوالِ، فإنَّهُ لا يَضيرُنا أنْ نعرفَ أنَّ اسماً مِنْ أسماءِ كلبِ الفتيةِ، هوَ: حُمرانُ. 
وقدْ يسألُ السائلونَ: وبِماذا حدَّثَ "معجمُ البُلْدانِ" عَنْ قمرانَ؟.. ومتى بدأتِ المعرفةُ بِهذا الاسمِ؟.. فَيُسارعُ ياقوتٌ الحمويُّ إلى: "لا شيءَ"؛ جواباً لِلسائلينَ.
وأمَّا اسمُ خربةِ "قمران"، فَأصلُهُ في نظرِ الراصدينَ، هوَ: قَمَرانِ؛ فَمِنْ ذلكَ المكانِ في ليالي الصفاءِ، إذا ما أطلَّ البدرُ بدا قمرٌ في الماءِ، وبدا قمرٌ في السماءِ! والمكانُ الممتلِئُ بضياءِ القمرِ، والمستنيرُ بهِ، يقالُ لهُ: قَمْرانُ. ومِنَ المفارَقاتِ أنَّ القَمْرانَ أيضاً، هوَ المكانُ الخِصْبُ بالعشبِ؛ ولكنَّ قُمْرانَ أرضٌ جدباءُ، وإنَّ جارَها هوَ البحرُ الميِّتُ "المسجورُ". وهذا الكتابُ ملتزمٌ بالاسمِ المشتهرِ: "قُمْرانَ"؛ رغمَ كاملِ الثقةِ بأنّهُ: قَمَرانِ؛ فسورةُ الكهفِ مليئةٌ بالإشاراتِ إلى تلكَ المنطقةِ منْ خلالِ ما يدلُّ على قمريْنِ.
وما دُمْنا في الحديثِ عَنِ الموضعِ، فَلا يَجْدُرُ بِنا أنْ نُغْفِلَ رأياً يَرْبِطُ بينَ الرقيمِ، وبينَ رَقْمَةِ الوادي. يقولُ الطبريُّ – رحِمَهُ اللهُ تعالى – في تفسيرِهِ: "يُقالُ: رقمتُ كذا وكذا إذا كتبتُهُ، ومِنْهُ قيلَ للرَّقْمِ في الثوبِ: رَقمٌ لأنَّهُ الخطُّ الذي يُعْرَفُ بِهِ ثَمَنُهُ؛ وقيلَ للحيَّةِ: أَرقمُ، لِما فيهِ مِنَ الخُطوطِ والآثارِ. والعربُ تقولُ: عليك بِالرَّقْمَةِ ودَعِ الضفةَ الجانِبةَ؛ وأرى أنَّ الذي قالَ: الرقيمُ هوَ الوادي، ذهبَ بهِ إلى رَقْمَةِ الوادي"[8]. 
ورَغْمَ أنَّ مجيءَ الرقيمِ مِنْ رقمةِ الوادي، يشكو مِنْ ضعفٍ وبُعدٍ، إلَّا أنَّ واقعَ الكهفِ الرابعِ الذي أراهُ "فُنْدقَ" أصحابِ الرقيمِ، يشهدُ أنَّهُ قائمٌ على رَقْمَـةِ وادٍ، هوَ: وادي قمرانَ.
حسناً، إنَّ رَقْمَةَ الوادي هيَ الخطُّ المرتَسِمُ فيهِ مِنْ أثرِ مرورِ الماءِ أثناءَ سيلِهِ في الشتاءِ. وفي قمرانَ يقعُ الكهفُ الرابعُ، والكهفُ الخامسُ الملاصقُ لَهُ، وهما يُشَكِّلانِ معاً، شقةً سكنيةً رائعةً – على رقْمةِ الوادي؛ حيثُ يسيلُ الماءُ في فصلِ الشتاءِ مُتَجَمِّعاً مِنَ الجبالِ الوَعِـرةِ، على بُعْدِ مئاتِ الأمتارِ إلى الغربِ مِنْ موضعِهما. ورغْمَ هذا فإنَّ محيطَ الكهفِ الرابِعِ: أرضٌ جُرُزٌ.
وجاءَ في كتبِ التفسيرِ أكثرُ مِنْ قولٍ عَنْ أنَّ كهفَ أهلِ الكهفِ قريبٌ من بيتِ المقدسِ. وهناكَ رواياتٌ عنِ الرسولِ r، أراها تشيرُ إلى وجودِ الكهفِ في جِوارِ أريحا في فلسطينَ.
تاريخ النشر : 18-08-2006

6528 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com