آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

النص والتراث  .  دراسات قرآنية

دراسات حديثية    |    الفقه و الأصول    |    العقيدة و الكلام

  •     

أثر الوعي بالتاريخ في بناء المستقبل:دراسة قرآنية

عبد الرحمن حللي


تمهيد:
لقد أنزل الله عز وجل القرآن كتاب هداية للعالمين، وقد تنوعت أساليب الهداية القرآنية، فمنها ما هو مباشر ومنها ما هو إيحاء، ومن خصائص القرآن الكريم أن جميع نصوصه تتضمن جانباً من جوانب الهدي والإرشاد وإن كان موضوعها الظاهر غير مباشر في الهداية، ومن هذه الجوانب الهدائية ما أكد عليه القرآن الكريم وكرره في سور مختلفة وهو الحديث عن التاريخ وبالخصوص التاريخ الرسالي للأنبياء وحياتهم ومعاناتهم في سبيل الدعوة، فالمقصد الأساسي من ذكر الأنبياء في القرآن ليس الماضي إنما مستقبل الإنسان، ذلك أن حديث القرآني عن الحقائق التاريخية ليس تأريخاً لأحداث بقدر ما هو درس من أجل الاستفادة منه في حاضر الإنسان ومستقبله، لذلك أهمل القرآن تفاصيل الأحداث غير ذات الجدوى في الهداية والموعظة والعبرة.
فسؤال المستقبل الأبعد (الآخرة) كان حاضراً في كل الرسالات، فمن مهام كل رسول يبعث أن ينذر قومه من عواقب أعمالهم ويذكرهم بمستقبل آت عليهم أن يستعدوا له، بل إن الإيمان بالآخرة والمصير هو ركن من أركان الإيمان آمن به جميع الرسل ودعوا إليه، وبتحذير الرسل الناس من ذلك اليوم يقيم الله الحجة على الخلق يوم القيامة، قال تعالى: يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ(الأنعام:130)
من جهة أخرى فإن عنصر المستقبل يتجلى بوضوح من خلال قصص الأنبياء والأخبار التاريخية عموماً وما اقترنت به من دلائل تمثل مؤشراً على وظيفة ذكر التاريخ في الحاضر والمستقبل، يخاطب الله عز وجل الذين يرثون الأرض ليتأملوا بمصير الأقوام الذين قص القرآن أخبارهم ليحذروا من مصيرهم أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ(100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ(الأعراف:101)، فذكر القصص في القرآن إنما يقصد منه التفكر والتأمل فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(الأعراف:176) والذكرى وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ(هود:120) والعبرة لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(يوسف:111) والأسوة لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (الممتحنة:6)، كل هذه الوظائف التي تؤديها القصص والأخبار التاريخية إنما تتجه إلى المستقبل، فالتفكر والتأمل بالقصص يقود إلى استخلاص العبرة منها والدرس الذي يسدد سلوك الإنسان ويبصره بمخاطر الانزلاق والانحراف، كما يكشف له قوانين النجاح فيتخذ من الأنبياء الذين تحدث عنهم القرآن أسوة له في الحياة وبناء المستقبل، هذه الأبعاد أجملتها الآيات القرآنية بتعبير السنة والسنن التي لا تتبدل ولا تتحول سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(آل عمران:137)، يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(النساء:26)، سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً(الإسراء:77) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً(الأحزاب:62) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً(فاطر:43) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً(الفتح:23).
فالأمر بالنظر في السنن الإلهية ما هو إلا أمر بالنظر إلى المستقبل من خلال الماضي للتعرف على قوانين حركة التاريخ والكون ومراعاتها في سلوك الحاضر والتخطيط للمستقبل، ومن خلال قصص الأنبياء والأخبار التاريخية عنهم سنحاول استجلاء الإشارات إلى المستقبل، يتدبر الآيات ذات الصلة، وسنركز بالخصوص من خلال استعراض مواطن ذكر كل منهم على تجلية العناصر التالية:
- توجيه الأنبياء أقوامهم إلى المستقبل سواء من خلال دعوتهم أو من خلال تذكير أقوامهم بالتاريخ ودور الاعتبار به في بناء المستقبل.
- وظيفة ذكر كل من الأنبياء في القرآن وأثر ذلك في توجيه الإنسان نحو المستقبل في ظل هدي الرسالة الخاتمة.
- عنصر السننية في قصص الأنبياء وأثره في وعي المستقبل.
هذه الزوايا سنحاول التطرق إليها من خلال المطالب التالية:
المطلب الأول:الملائكة تتساءل عن مستقبل الإنسان (مؤشرات المستقبل في سياقات ذكر آدم )
المطلب الثاني:الظلم مؤشر انهيار الأمم (دروس المستقبل في سياقات ذكر نوح )
المطلب الثالث:أهمية الأسوة ورمزية المكان والزمان (دروس المستقبل في سياقات ذكر إبراهيم )
المطلب الرابع: المستقبل من خلال سنة الله في الأقوام (دروس المستقبل في سياقات ذكر الرسل الآخرين–عليهم السلام- وأقوامهم)
المطلب الخامس:استحضار التاريخ استعداداً للمستقبل (دروس المستقبل في ذكر موسى  ومن بعده )
المطلب السادس:البشرى بخاتم الأنبياء والتحذير من تحريف الرسالات (دروس المستقبل في ذكر عيسى )
المطلب السابع:الرسالة الخاتمة والمستقبل
الخاتمة:


المطلب الأول
الملائكة تتساءل عن مستقبل الإنسان
(مؤشرات المستقبل في سياقات ذكر آدم )

ورد ذكر آدم  في القرآن خمساً وعشرين مرة، كما قُصت أخباره في أماكن عديدة دون ذكر اسمه، ونلحظ عنصر المستقبل فيما ورد عن آدم بوضوح في الحديث عن عالم الملائكة السابق على وجود الإنسان، وقد حاورهم الله في خلق الإنسان ليكون خليفة في الأرض فكان جوابهم التساؤل عن نتيجة مستقبلية متوقعة لديهم هي الإفساد في الأرض وسفك الدماء((1 ))،لكن الله ربط الأمر بعلمه باعتبار أن علم الملائكة لا يطال الغيب وأبطل تساؤلهم بتعليم آدم الأسماء الذي يمثل معطى جديداً جهله الملائكة .
هذا المشهد إذ يعرضه القرآن إنما يحمل دلالة كونية حول مستقبل الإنسان ومصيره، فشأن الإنسان إن لم يرتبط بهدي الله أن يعبث بالكون من خلال الفساد (العبث بالطبيعة) وسفك الدماء (العبث بحقوق الإنسان) ونظراً لخطورتهما من بين المنكرات قدمتهما الملائكة على الكفر وجعلتا مقابل التسبيح لله وتقديسه، لكن الله الذي خلق الإنسان مكلفاً وأعطاه ملكة العلم بأسماء الله إنما يرشده بذلك إلى كون العلم المرتبط به تعالى هو الضامن لمستقبله وكأن الآية تشير إلى أن المستقبل ينبغي أن يتأسس على العلم، فقد حدده الله قبل خلق الإنسان، في الإجابة على تساؤل الملائكة.
وفي مقابل عنصر الأمان الذي يضمن مستقبل بني آدم أشار القرآن إلى موارد الانزلاق إلى المهالك في المستقبل وذلك في سياق الحديث عن علاقة آدم بعالم الجن وقد برز الحديث عنهم بعد خلق آدم  والأمر بالسجود له، فاستكبر إبليس وظهر معه مفهوم الكفر والاستكبار المستند إلى مقاييس تعتبر الخيرية مرتبطة بالطبيعة والمادة وأصل الخلقة  قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12] وقد تطور هذا الموقف بعد عقاب الله لإبليس بالإحباط والطرد مع الصغار بتعهد إبليس بالغواية للإنسان إلى يوم القيامة، قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ(13)قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ(15)قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ(16)ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ(17)قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ(18) (الأعراف) فحذر الله الإنسان من مخاطر إبليس في سعيه في مستقبل الأيام.
من جهة أخرى فإن هبوط آدم من الجنة قد رافقه الهدي الإلهي لاستيضاح طريق المستقبل مع تحذير من الابتعاد عنه ومصير ما يختاره الإنسان عاجلاً وآجلاً قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى(123)وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا(125)قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى(126)  [طه]، فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(37)قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(38)وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(39) (البقرة)
ومن المهم أن نشير إلى أن الحديث عن آدم  لا يخص شخصه إنما يقصد به الإنسانية كلها فمثلاً عندما أمر إبليس بالسجود لآدم وامتنع  قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ(16)ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ(17) [الأعراف] فضمائر الجمع وعلاماته يقصد بها أبناء آدم  مما يشير إلى أن الأمر بالسجود وموقف إبليس لا يخص شخص آدم، وهذا مما يوسع دلالات المفاهيم والمبادئ التي اشتملت عليها آيات القص عن آدم وأبعادها المستقبلية.
فهبوط آدم  إلى الأرض يحمل هداية وذكراً وآيات سترافق الإنسان إلى يوم القيامة وهنا يظهر مفهوم الآخرة والحساب والجزاء(2 ) فيترافق أقدم ذكر للإنسان في عمق التاريخ مع آجل موعد له في المصير والجزاء، وهذه دعوة إلى الاستحضار الدائم لطرفي الزمان الماضي بأقدم لحظة فيه والمستقبل بآخر آفاقه التي لا يحاط بها، ليكون الحاضر صلة بينهما ويتكئ الإنسان على أحدهما للعبور إلى الآخر.



المطلب الثاني
الظلم مؤشر انهيار الأمم
(دروس المستقبل في سياقات ذكر نوح )

تحظى أخبار نوح  بحيز مهم من آيات القرآن فقد ورد ذكره ثلاثاً وأربعين مرة، وفصلت أخباره في سور (الأعراف وهود والمؤمنون والشعراء والقمر ونوح)، ومما تحدثت عنه الآيات التي ذكر فيها أهله وقومه ومصيرهم والتذكير بهم مقارنة مع أقوام آخرين .
وكان قوم نوح قد توصلوا إلى معرفة أطوار خلق الإنسان إذ استنكر نوح عليهم عدم الاعتبار بهذا العلم الدال على خالق واحد  مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا() وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [نوح:13-14]، كما تقدموا في علم الفضاء فخاطبهم نوح بعلمهم اليقيني بالتركيب الفضائي  أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا[نوح:15] فالخطاب جمع بين معرفتهم ألم تروا وبين فهمهم للكيفية، ثم يمتد الخطاب إلى ما هو أدق بالتمييز بين خصائص القمر كمصدر للنور وخصائص الشمس كمصدر للضوء والحرارة  وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا(16) ثم يحاورهم حول أصل الإنسان  وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ نَبَاتًا(17) ، ففي هذا الحوار دلالة واضحة على المستوى العلمي والحضاري الذي وصلت إليه الإنسانية في عهده، لكن هذا التقدم العلمي لم يحل دون وقوعهم في الشرك والإلحاد والطغيان الذي بلغ مداه، وترسم لنا الآيات القرآنية صورة للفساد العقدي والأخلاقي الذي وصلوا إليه فقد شاعت بينهم عقلية الاستبداد وتقسيم الناس حسب مكانتهم المادية وقربهم من الأشراف الذين يقابلهم المزدرون بالأعين(3 ) والأراذل كما سموهم وهم الذين اتبعوا نوحاً فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ [هود:27]،  قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ [الشعراء:111]، وفي هذا التعبير إشارة إلى مدى الحقد الذي يكنه هؤلاء للضعفاء من قومهم، والظلم الذي كانوا يمارسونه عليهم حتى وصف القرآن قوم نوح بالظلم سبع مرات((4 ))، وجمعوا من الإجرام ما استحقوا به وصف السَّوء((5 )).
أما على المستوى العقدي فقد جسد قوم نوح ذروة الانحراف عن فطرة التوحيد، وتتجلى مظاهر الانحراف العقدي عند قوم نوح في الشرك وعبادة الأوثان التي سموها بأسماء خاصة((6 ))، مما استدعى وصفهم بالجهالة، والعمى، والفسق(7 )، كما تكرر وصفهم بالكفر(8 )، ونظراً لهذا الانحراف جاءت رسالة نوح  في نسق الدين السماوي الواحد الذي جاء الرسل ليقيموه(9 )، وبالتالي فدعوة نوح  هي عمق للرسالة الخاتمة، حيث يلاحظ وجود تركيز قرآني على الربط بين نوح ومحمد - عليهما السلام - وبين قومهما من حيث منهج الدعوة والموقف منها، وفي هذا إشارة إلى الربط التاريخي بين الرسالات والناس وبين الأفكار وآلية تلقيها وهو ما يمكن ملاحظته مع الرسل الآخرين، وفي هذا إشارة إلى الدور الوظيفي للقصة في الخطاب القرآني من الناحية النفسية والدعوية، فاستحضار شخصية نوح وقومه في القرآن يحمل دلالة للمتلقي ليربط بين ماضي رسالة نوح ومصير قومه وحاضر رسالة محمد والموقف منها ليؤسس على ذلك نظرته نحو مستقبل. 
وبدوره بدأ نوح دعوته من حيث ما انتهى إليه طغيان الإنسان وهو التأله(10 ) واستعباد البشر والاستكبار في الأرض فكانت الدعوة إلى التوحيد هي مفتاح رسالته لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأعراف:59]، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ()أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيم [هود:25-26]، وإذا ذكر التوحيد فلا يستقل عنه ذكر المستقبل والمصير فنبه إلى الآخرة والحساب والجزاء، فاقترنت الدعوة إلى التوحيد بالتحذير من عذاب يوم عظيم وأليم يرجع فيه الناس إلى ربهم.
من جهة أخرى تضمنت رسالة نوح تذكيراً بقوانين النجاح في المستقبل مع ربطه بالإيمان فالتوبة والاستغفار كفيلة بضمان الرخاء المادي والعطاء الإلهي فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا(10)يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا(11)وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا(12) [نوح:10] (11 ).
ويسجل القرآن للقارئ هنا درساً سننياً يصلح لكل عصر وزمان وهو تحذير من مآل في المستقبل شبيه بمصير أتباع الرسالات، فقوم نوح كذبوه وابتعدوا عن الحوار والتفكر إلى الجحود والكفر الذي توج بالظلم الذي بلغوا به شأواً كبيراً مما استدعى إنقاذ الضعفاء وتسليط الطوفان الذي حسم سنين طويلة من عنادهم، وفي هذه النهاية نلاحظ التركيز القرآني على صفة خاصة بالمغرقين هي مفتاح العبرة للمستقبل هي الظلم وقيل بعداً للقوم الظالمين[هود:44]، ..فأخذهم الطوفان وهم ظالمون [العنكبوت:14]، فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون:28]، وفي هذا دلالة هامة على مركزية العدل كمقصد أساسي من دعوة نوح، وتجسيد لسنة إلهية في قيام الحضارات والأمم، وهو ما سيتكرر مع كل المستكبرين والمعاندين، فدرس المؤمن هنا أن يعتبر بمآلات الظلم بأبعاده المختلفة ويحذر منه في مستقبله لأن فيه انهيار الأمم.



المطلب الثالث
أهمية الأسوة ورمزية الزمان والمكان
(دروس المستقبل في سياقات ذكر إبراهيم )

تعتبر شخصية إبراهيم  من أهم الشخصيات في التاريخ الديني، فالمشركون وأهل الكتاب من اليهود والنصارى يعترفون بفضله ويتشرفون بالانتساب إليه(12 )، وقد ورد ذكر إبراهيم  في القرآن تسعاً وستين مرة، وقد توزع ذكره في خمس وعشرين سورة من القرآن الكريم، وكلها تؤكد على وحدة الرسالة الإلهية وذلك من خلال الربط الزماني والمكاني والذري (نسبة إلى الذرية) بين القائمين عليها وأقوامهم ومواقفهم ليؤول ذلك إلى تأكيد المضمون التوحيدي والفطري للدين من خلال مفهوم الإسلام والحنيفية الذي توالى الأنبياء على تأكيده، وقد حكى القرآن تفاصيل لمواقفه من قومه ودعوته لهم كلها بمثابة دروس وعبر يستحضرها القرآن من التاريخ لتكون منهجاً للمستقبل من خلال الأسوة بإبراهيم عليه السلام:
1 – التعليم الإبراهيمي ومنهج البحث عن الإله(13 ): في سورة الأنعام [76-79] يحدثنا القرآن عن تعليم إبراهيم  منهج الاستدلال على الخالق حين افترض ما يراه قومه صحيحاً من تأليه النجوم فسلم الأمر بربوبية نجم معين لكنه أفل وتحول عن مكانه وغاب، فوسَّع الفرَض للقمر فلما كان مصيره مصير النجم أعلن تمام الحيرة مستنجداً بالإله الحق أن يهديه فهو غير مقتنع، وتسليمه بدعوى قومه إنما هو على سبيل الفرض، فلما تكرر نفس العَرض للشمس توصل إلى أن الكواكب إنما هي مسيرة من إله لا يُسيَّر وما عبادتها إلا شرك بالله فتبرأ منها وتوجه إلى الإله الذي فطر السماوات والأرض والذي يسير هذه النجوم والكواكب، فكانت محاولته نقلاً لقومه من الطبيعة إلى الشريعة، فكان إبراهيم  يبحث في ما وراء أسمى موضوعات علم الطبيعة في عصره (الفلك) عن مبدأ يتعالى عليه، فاعتبار الآية الفلكية هو المرقاة إلى تجاوزها(14 )، وهذا المنهج إذ يذكره القرآن إنما يعلمنا منهجاً للبحث لاعتماده في المستقبل في تمحيص الدعاوى والحوار.
2 – موقف إبراهيم  من عبادة الأصنام: بدأ بالنصح والموعظة لأبيه وقومه منوهاً بطبيعة ما يعبدون ومرشداً إلى دلائل وحدانية الخالق، لكن هذا المنهج لم يفلح مع قومه الذين استندوا إلى تقليد الآباء، فما كان من إبراهيم  إلا اتخاذ مسلك عملي يستثير فيه عقولهم وإنسانيتهم، فلجأ إلى الأصنام يحطمها وينكسها مما استثار حفيظة قومه الذين اعترفوا بعجز آلهتهم، وانتصروا لها وكادوا لإبراهيم الذي نجاه الله من كيدهم(15 )، ولم يكن لديه من حيلة سوى التبرؤ من فعل قومه(16 ).
لقد كان مسلك إبراهيم  مسلك الحريص على إمساك قومه مقود التفكير الهادي الموصل إلى الحق والتوحيد، لكن رغم وصول رسالته إليهم كان العداء هو سيد الموقف، في هذا المنهج الإبراهيمي تتجلى الدروس والعبر التي يمكن استخلاصها من سيرة إبراهيم، فصلة القرابة لا تعصم الإنسان، والأمر بالمعروف قد يكون لفظياً وقد يكون عملياً بحيث يثير الفكر والنظر نحو المراجعة والتأمل، وعلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يتوقع السوء والأذى من قومه وهاهو إبراهيم عليه السلام أسوة للعالم في ذلك .
3 – موقف إبراهيم  من الطغيان والاستبداد : ثمة تلازم تاريخي بين الاستبداد والتأله أو صنع الإله أو الدين الذي يعطي الشرعية للمستبد، ولم يكن من مسلك لمواجهة هذا الظلم سوى كشف الغطاء الذي يتستر به واللجوء إلى تثوير العقل والتذكير بالفطرة لمحاربة هذه الظاهرة، ولم يكن إبراهيم  بعيداً عن تحدي المستبدين الذين تألهوا فجابههم بما ادعوه من إحياء الموتى في مغالطة واضحة لكن إبراهيم  تحدى الملِك بحجة كونية معرضاً عن كشف زيف الأولى وطلب منه قلب النظام الكوني وتحويل مسار الشمس فبهت الذي كفر(17 )، في هذه المشاهد من حياة إبراهيم  تتضح لنا دعوة التوحيد كما عاشها وكافح من أجلها وتعرض للأذى، لتكون بذلك مواساة لكل الدعاة في كل زمان ولتؤخذ عبرة لديهم في المستقبل عندما تصدم الدعوة بمواقف الناس.
5- الحج .. والتطلع إلى المستقبل وربطه بالمكان: لقد كلف الله إبراهيم وولده إسماعيل –عليهما السلام- ببناء البيت(18 )، فرفعا القواعد منه سائلين الله أن يتقبل منهما وأن يحعلهما مسلمين داعين لذريتهما أن يبعث فيهم نبياً يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم في إشارة إلى المستقبل حول هذا البيت، وبعد إعمار البيت وتطهيره جاءت دعوة إبراهيم  لربط العالم بهذا المكان((19 ))، من خلال فريضة الحج التي ربطت المؤمنين بالمكان كرمز للوحدة والتوجه، ففريضة الحج تربط الناس بين أطراف الزمان ومن خلال المكان الذي يشهد على رسالة إبراهيم  وشهد ختم الرسالات، ويستحضر المسلمون من خلال الحج هذا التاريخ الرسالي وما تحمله رمزية نسكه من دلالات وهدي في بناء المستقبل.



المطلب الرابع
المستقبل من خلال سنة الله في الأقوام
(دروس المستقبل في سياقات ذكر الرسل الآخرين–عليهم السلام- وأقوامهم)

- السنة الإلهية في رسالات هود وصالح و لوط وشعيب –عليهم السلام-: حفل القرآن الكريم بذكر أقوام اختصوا برسالات وأنبياء اقترن ذكرهم بذكر أقوامهم، وتم التذكير بمصيرهم في آيات عديدة، كما عُرف بعض رسلهم بأنهم من أنبياء العرب(20 )، وقد وردت أخبارهم والتذكير بهم في آيات متتالية في سور معظمها مكي، وقد انفرد القرآن بذكر بعضهم فلم يرد عنهم شيء في التوراة(21 )، كما ورد ذكر الأقوام ومصيرهم أكثر من ذكر أنبيائهم، وهم هود نبي عاد وصالح نبي ثمود، ولوط وقومه، وشعيب نبي أهل المدائن أصحاب الأيكة، وسنحاول أن نستعرض ذكر كل منهم في القرآن لنخلص إلى الدلالات المستقبلية من خلال ما ورد عنهم:
رسالة هود  إلى قومه عاد : تناولت الآيات التي ذكر فيها هود  التذكير بدعوته قومه إلى التوحيد والتقوى وعبادة الله ونهيهم عن الطغيان والاستبداد وتذكيرهم بنعم الله عليهم وتحذيرهم من عذابه، كما بينت موقف قومه وتقليدهم الآباء وتحديهم تهديد هود  لهم بعذاب الله إلى أن حاق بهم، وقد وردت هذه التفاصيل في آيات متوالية(22 )، أما الحديث عن قوم عاد فقد ورد في معظمه تذكيراً بالمصير السيء الذي آلوا إليه بعد أن كانوا ينعمون بالرفاه والعز وبعد أن تمكنوا في الأرض وعمروا البنيان وأشادوا المصانع وتجبروا في الحكم دون أن ينفع ذلك في الحيلولة دون عذاب الله(23 ).
ولدى التأمل في الآيات نجد أن بيئة قوم عاد قد تميزت بالبنيان والعمارة التي وصفت في القرآن بأنها آية للدلالة على عظمتها وطابع الرفاه والإسراف فيها، وكما أن الصناعة كانت متقدمة إلى درجة التخطيط فيها للمستقبل، كل ذلك التقدم المادي قد رافقه تخلف خلقي وظلم اجتماعي واستبداد سياسي فكان البطش بالعباد واستغلالهم والتجبر عليهم(24 )، ثم آل طغيانهم إلى الهلاك فلم يفلحوا في الاستخلاف فكانت سنة الله معهم هي أن الله يهيئ للناس أسباب الرقي في الحياة ويسخر لهم ما في الأرض على أن يعبدوه ويقيموا العدل بين الناس ويحققوا الخلافة في الأرض فإن لم يحققوا شرطي المعادلة المادي والروحي آلت حضارتهم إلى الزوال والهلاك، فذلك ما حصل مع قوم نوح وهاهو هود  يذكر قومه باستخلافهم بعد قوم نوح :وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ[الأعراف:69]، ويؤكد لهم أن هذا الاستخلاف مشروط بالارتباط برسالة الله وإلا سيكون المصير كمصير من جحدوافَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ[هود:57]، فالآيات صريحة في بيان أفق الرسالة الإلهية التي أؤتيها قوم عاد فجحدوا الرسل الذين جاءوهم، فختمت برسالة هود قصة طغيان عاد كما كانت القصة مع قوم نوح: رخاء مادي فطغيان وجحود فتدخل إلهي ينهي مرحلتهم ليستخلف غيرهم .
فسياق الحديث عن عاد إنما يمثل درساً للعبرة والمستقبل من خلال عرض سنة الله في الأمم التي تطغى مادياً ويسودها الظلم والتكبر وبيان عوامل استمرار التقدم المادي والحيد به عن الطغيان وذلك بربطه بالجانب الروحي والخلقي(25 )، ومن خلال عرض القرآن لهذا النموذج السنني نلحظ تكرر معالم الرسالة الإلهية على لسان هود، والتي بدأت بالتوحيد والأمر بعبادة الله وتقواه، وتذكير الناس بفطرتهم وشكر الله على ما أوتوه من نعم، ودعوتهم إلى التوبة والاستغفار وتحذيرهم من عذاب الله في الدنيا والآخرة، نموذج حواري يتكرر مع كل الرسل، كما هو الشأن بالنسبة للمصير، فمثل موقف قوم نوح ومختلف الرسل يتكرر موقف عاد من رسالة هود  وذلك بالكفر وتقليد الآباء، والجحود والتحدي وطلب الآيات من الرسل، وكذلك يتكرر المصير نفسه بزوال القوم واستخلاف غيرهم، فقوم عاد استخلفوا بعد قوم نوح فتولوا عن رسالة الله فاستخلف الله من بعدهم ثمود .
رسالة صالح  إلى قومه ثمود : تناولت الآيات التي ذكر فيها التذكير بدعوته قومه إلى التوحيد وعبادة الله ونهيهم عن الطغيان والاستبداد وتذكيرهم بنعم الله عليهم وتحذيرهم من عذابه، كما بينت موقف قومه منه وكفرهم بما جاء به وتقليدهم الآباء، والعناد وطلبهم الآيات إلى أن حاق بهم عذاب الله، وقد وردت هذه التفاصيل في آيات متوالية(26 )، أما الحديث عن قوم ثمود فقد ورد في معظمه تذكيراً بتكذيبهم الرسل وبالمصير الذي آلوا إليه(27 )، ويلاحظ في الحديث عن صالح  وقومه ثمود التشابه والاقتران مع الحديث عن هود  وقومه عاد وقبلهم قوم نوح(28 )، وذلك في سياق الحديث عن الأقوام التي انحرفت عن الرسالة الإلهية وآلت إلى الزوال بعد تاريخ من الحضارة، فجاء صالح  مكملاً لرسالة نوح وهود –عليهما السلام- مذكراً قومه باستخلاف الله لهم من بعد عاد(29 )، فالتطور في عصر نوح  توج بتقدم صناعي ترمز إليه السفينة، وقد ورث هذا التطور العاديون فطوروا الصناعة والعمارة التي ضرب بها المثل، ثم جاء الثموديون فطوروا العمارة واستخدموا النحت في الجبال وبنوا القصور في السهول فجمعوا بين الحضارة الصناعية والزراعية التي كان ابتلاء الله لهم من جنسها/الناقة والشِّرب، وآل عصيانهم بعد طلبها إلى حلول العذاب بهم. 
وكأن الآيات حول صالح  وقومه ثمود تتابع التأكيد على السنة الإلهية في الاستخلاف في الأرض الذي يشكل محور الرسالة الإلهية عبر التاريخ، وذلك للاعتبار والحذر في المستقبل من الوقوع في مظالمهم والأيلولة إلى مصيرهم، وما قوم نوح وهود وصالح إلا نماذج متتالية تؤكد أن التقدم المادي مهما بلغ وتراكم من حضارة إلى أخرى لن يكون كافياً لسعادة الإنسان ورقيه ولا بد له من ارتباط بالإلهي ليضمن استمرار الحضارة ورقيها وإلا سيكون مصيرها إلى زوال.
رسالة لوط  إلى قومه : ورد ذكر لوط  في القرآن سبعاً وعشرين مرة، بعضها في سياق ذكر بعض الأنبياء والتذكير بهم(30 )، لاسيما مع إبراهيم الذي عاصره لوط وآمن به، وبعضها في إطار متابعة الحديث عن أقوام عاد وثمود، وتتميز التفاصيل التي وردت عن لوط  باختصاصها بالحديث عن مشكلة مركزية في قومه هي الانحراف الأخلاقي الذي تمثل في الشذوذ الجنسي الذي لم يسبقوا إليه مما أدى إلى هلاكهم(31 )، حتى أصبحوا مثلاً يضرب لعاقبة الجحود والطغيان(32 ). ويبدو المقصد من سياق القص عن لوط  واضحاً، فكان انحرافهم أخلاقياًً، فأرسل لوط لتقويم سلوكهم(33 )، ويتضح من مواضع ذكر أخباره مع قومه في القرآن متابعة التأكيد على السنة الإلهية في التاريخ، فبعد الحديث عن قوم عاد وثمود يأتي الحديث عن قوم لوط، وذلك لتأكيد أن الانحراف عن الرسالة الإلهية سيؤول بأصحابه إلى الزوال مهما كان نوع هذا الانحراف، فهي نموذج آخر لعلاقة الأقوام مع الرسالات، وذلك من أجل العبرة والحذر من مصير مشابه في المستقبل لمن يرتكب مثل الذي أدى إلى هلاكهم. 
رسالة شعيب  إلى أهل المدائن وأصحاب الأيكة (34 ): ورد ذكر شعيب  في القرآن إحدى عشرة مرة كلها في سياق قص أخباره وتفصيلها وجاءت بعد الحديث عمن سبقه من قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط، وكان يذكِّر قومه بهم(35 )، وكانت دعوته تكرر ما جاء به الرسل قبله من أسس الرسالة الإلهية المتعلقة بالتوحيد وعبادة الله وتقواه والتذكير بالآخرة والدعوة للتوبة والاستغفار..، وكان لموقع مدين الجغرافي والوظيفة التجارية التي كانت تقوم بها على طرق التجارة(36 ) خصوصية جعلت دعوة شعيب  تركز بشكل أساسي على الانحراف في الجانب الاقتصادي المتمثل في تطفيف المكيال والميزان وبخس الناس أشياءهم والإفساد في الأرض، فضلاً عن الانحراف العقدي الذي لم يقتصر على الكفر إنما قاموا بالصد عن سبيل الله وتهديد شعيب بالإخراج من بلده ومحاولة إكراهه على الكفر وإرجاعه إلى ملتهم، حول هذه القضايا تمحورت الآيات التي ورد فيها ذكر شعيب وقومه(37 ).
فلما طغى في أهل مدين الانحراف في تعاملهم التجاري جاءت رسالة شعيب  لتعود بهم إلى البعد الروحي في التعامل الاقتصادي ولتؤكد أن الاستخلاف والقيام بأمر الدنيا لا يمكن أن يستمر من غير وصلها بالقيم والمبادئ، واستشهد لهم شعيب  بسنة الله مع من سبقهم، فالرسالة الشعيبية تأتي في القرآن تتميماً لنماذج السنة الإلهية في الأقوام والتي عرضت لجحود الرسالة الإلهية كلياً أو جزئياً في أبعادها السياسية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية، وكأن هذه الرسالات في إطارها النموذجي/القصصي، الكونية في مضمونها إنما تعرض نسق الرسالة الإلهية الكلي وتفاصيله عبر التاريخ لترشد إلى المستقبل، وتؤكد على شمولية الرسالة الإلهية لجميع شؤون الحياة وأن الانحراف في بعض أجزائها التفصيلية كان سبباً في انتهاء استخلاف القوم واستبدالهم بآخرين، ومن ناحية أخرى نجد في حوار الرسل مع أقوامهم توظيف التاريخ في الدعوة بتنبيه الأقوام إلى مصير من سبقهم ليعتبروا في حاضرهم وينتبهوا إلى مستقبلهم الذي ذكروهم بنهايته المتمثلة بالآخرة والحساب.

- ذكر إسماعيل واسحق ويعقوب –عليهم السلام-: يتمحور ذكرهم في القرآن حول شخصية أبيهم إبراهيم ، فقد منَّ الله على إبراهيم  بهم بدءاً بالبشارة والهداية والمباركة عليهم وجعل النبوة والكتاب في ذريتهم(38 )، ويتتابع ذكرهم في آيات أخرى لتأكيد ما ورد في حق إبراهيم  من حيث انتماؤه إلى الدين الحق وانتسابه إلى الإسلام، وكذلك أبناؤه يتجهون للمستقبل ويوصون أبناءهم بالإسلام وأبناؤهم ينسبون الإسلام إلى آبائهم(39 )، ويؤمر أتباع الرسالة الخاتمة بالإيمان بما أؤتي إبراهيم وأبناؤه إسماعيل وإسحاق ويعقوب –عيهم السلام-(40 ) وذلك وصلاً بين الماضي والحاضر، وينفي القرآن التصنيف الطائفي اليهودي أو النصراني لإبراهيم وأبنائه(41 )، ويؤكد على وحدة الوحي إلى نوح وإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وغيرهم(42 )، فهم فريق من مجموع الأنبياء الذين ورد ذكرهم مجموعين في آيات من القرآن(43 )، ويختص إسماعيل  بتكليفه مع أبيه إبراهيم  ببناء البيت والقيام برفع قواعده ودعائهما لأهله وأن يبعث الله فيهم نبياً(44 )، ويذكر القرآن بصدقه الوعد ونبوته ورسالته(45 )، يينما يختص ذكر يعقوب  بتوصية بنيه في طريقة الدخول على ملك مصر في قصة يوسف(46 )، وبدعاء زكريا أن يهبه الله ولداً يرثه ويرث من آل يعقوب(47 )، وواضح من خلال السياقات التي ورد فيها ذكرهم أنها تأتي لتأكيد وحدة نسق الرسالة الإلهية التي ربط القرآن بين مختلف تجلياتها عبر التاريخ.
- ذكر يوسف  : ورد ذكر يوسف  في القرآن سبعاً وعشرين مرة ويكتسب ذكره خصوصية عن غيره من الأنبياء إذ ورد القص عنه متكاملاً وفي سياق واحد في سورة واحدة حملت اسمه، ولم يرد ذكره في غيرها إلا في موضعين الأول يؤكد انتساب يوسف إلى ذرية نوح (48 )، والموضع الثاني في إطار تذكير مؤمن آل فرعون قومه ببعثة يوسف إليهم قبل موسى وتذكيرهم بما جاء به(49 )، أما ما ورد عن يوسف  في قصته في سورة يوسف فهو يسير بتسلسل بدءاً من رؤيا يوسف وهو صغير وتبشير والده بإتمام نعمة الله عليه وعلى أبويه إبراهيم واسحق [الآيات: 4-6] ثم يأتي ذكر حسد إخوته له وكيدهم به [7-18] ثم انتقاله من الجب إلى بيت الملك [19-22] ثم يأتي ذكر فتنة امرأة العزيز والقصة مع النساء [23-35] ويؤول الأمر به إلى السجن [36-42] أين سيبدأ الدعوة مؤكداً براءته من ملة الكفر وانتسابه إلى ملة التوحيد والإيمان بالله ملة إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ويدعو محدثيه ويحاورهم في قضية الإله وضرورة توحيده وعبادته وأن ذلك هو الدين القيم، ومن خلال تأويله الرؤيا لأصحابه في السجن يصل خبره إلى الملك بعد أن يرى رؤيا يعجز من حوله عن تأويلها ويؤولها يوسف [الآيات:43-55]، ومن خلال ذلك الموقف يخرج يوسف من السجن ويمكِّن الله له في الأرض وتعاد قصته مع إخوته لكن هذه المرة من طرفه إذ يتم فيها تذكيرهم بما فعلوه ويستدعي والديه ومن ثم تأويل رؤياه عندما كان صغيراً [الآيات:56-101] .
هذه المشاهد التي وردت عن يوسف  تتضمن أسس الرسالة الإلهية ومضامينها من دعوة إلى التوحيد وعبادة الله، كما تضمنت جوانب من صراع الإنسان في الحياة من أجل القيم العليا التي تفرضها الفطرة والدين، فنجد في القصة الحديث عن العلاقة الأسرية والعائلية بوجهها الإيجابي/بر الوالدين والإخوة، ووجهها السلبي/العقوق والحسد والمكر، وكذلك نجد الحديث عن العفة والحصانة الأخلاقية والوفاء لأهل الإحسان والوجه المقابل لذلك الخيانة وإتباع الشهوات والإكراه على المعاصي، وفي السجن نجد ممارسة يوسف  للنصح والحوار والإرشاد حتى في الظروف القاسية، وعند نجاته من السجن نجد الأخذ بأسباب الحياة والنهوض بالمجتمع بمجالاته المختلفة من خلال التخطيط للمستقبل على المستوى الاقتصادي والسياسي وإقامة العدل بين الناس، وفي هذا المشهد يظهر درس آخر هو خلق العفو والصفح وعدم الاغترار بالمال والملك .. فيعيد يوسف  شمل العائلة رغم ما فعله به إخوته .
فإذا لاحظنا في قصة يوسف  بعدها المتكامل لحياة رسول عاش كواحد من الناس في ظروف مختلفة تعرض فيها لمختلف الاحتمالات في حياته وفي قيمه واستطاع فيها كبشر أن يحافظ على البعد الروحي للرسالة التي يحملها والتي وصفها بالدين القيم، يمكننا أن نعتبرها نموذجاً حياً لما تبغيه رسالة الله من الإنسان أن يكون عليه، لاسيما وقد وصف القرآن قصته بأحسن القصص، فهي نموذج في منهج الرسالة ومضمونها العقدي والأخلاقي، وبالخصوص ما ذكره القرآن عن وعي يوسف عليه السلام بأهمية المستقبل والتخطيط له، بل إن كل شي في قصة يوسف هو دعوة للاعتبار والأسوة من أجل مستقبل أكثر وعياً وسلامة . 

- ذكر إدريس وإلياس واليسع وذي الكفل –عليهم السلام-: ورد ذكر كل من الأنبياء المذكورين مرتين في القرآن في آيات مختلفة(50 )، وكل موارد ذكرهم تأتي في سياق ذكر عدد من الأنبياء الذين عددهم القرآن واصفاً مواقفهم وصبرهم وكونهم من الأخيار الذين هداهم الله وأمر باتباعهم(51 )، وعنصر المستقبل في ذكرهم يتجلى من حديثهم عن الآخرة وربط الرسالة الخاتمة بهم لاستحضار العمق التاريخي للدين الحق وما لهذا العمق من أثر في رسوخ الرسالة في النفوس.

- ذكر أيوب ويونس –عليهما السلام- : ورد ذكر أيوب  بما تميز به من صبر على البلاء حتى اعتبر نموذجاً فيه(52 )، وما رافق هذا الصبر من لجوء إلى الله وعناية الله به وما وهبه له من عناية من قبل أهله وزوجه، مع الإشارة إلى الشيطان والشر وأثره على الإنسان، والغرض من قصها كما هو واضح عرض نموذج لما ينبغي أن يكون عليه الإنسان في مواجهة المصائب والابتلاء، وضرورة التحلي بالصبر والأخذ بالأسباب، وفي ذلك تمثل لخلق نبيل كرسته الرسالة الإلهية عبر التاريخ وكان أيوب  بما هو بشر متلق لهذه الرسالة نموذجاً لذلك. أما يونس  فقد ورد في القرآن تركيز على موقفه من قومه الذي تمثل في سرعة غضبه وإعراضه عنهم مما أدى إلى امتحان الله له كما في قصته مع الحوت ونجاته من الظلمات عندما التجأ إلى الله ودعاه تائباً فقبله الله وأرسله ثانية إلى قومه فآمنوا به وتمتعوا بالحياة .
ومن خلال هذا المشهد الخاص نلحظ الآيات تعطي نموذجاً ليونس الغضوب المتعجل مقابلاً لنموذج أيوب الصابر المحتسب، وهما صفتان لا يخلو منهما الإنسان، وبلحظ البعد الروحي والمنهج الرسالي يمكن للإنسان أن ينال خير المآلين فالصبر لا يؤول بصاحبه إلا إلى الخير وأما الغضب فيمكن للإنسان أن يتدارك نفسه ويرجع إلى الله ويعترف بخطئه وبالتالي يتجاوز العقبة التي أورثها غضبه وخبر يونس  يمثل هذا النموذج، وفي كلا الخبرين عن يونس وأيوب –عليهما السلام- كان جانب من شخصية كل منهما هو المركز في سياق ذكرهما مع التأكيد على كونهما من المرسلين مما يحمل دلالة على دور الرسالة الإلهية والبعد الروحي في حياة الإنسان وتقويم سلوكه وتجاوزه للأخطاء التي قد يورطه فيها طبعه عن قصد أو بغيره، وبهذا البعد نفهم الحكمة من ذكرهما والدرس الذي يمكن أن يستفيده الإنسان في حاضره ومستقبله في تعامله مع الأشياء.

لقد كان حديث القرآن عن شخصيات الأنبياء أو أقوامهم ليكونوا قدوة للأمم والأفراد أو عبرة ودرساً للمستقبل، وفي دعوة موسى  سنجد تفصيلاً لكلا البعدين، أعنى شخصية موسى وقومه معاً والرابط بينهما هو رسالة الله التي سنبحث دلالاتها والعبر فيها .



المطلب الخامس
استحضار التاريخ استعداداً للمستقبل
(دروس المستقبل في ذكر موسى  ومن بعده )

تحتل شخصية موسى  مساحة مهمة في القرآن الكريم فقد ورد اسمه:136 مرة، فهو أكثر الأنبياء ذكراً في القرآن، ويتكرر حديث القرآن عن مرحلة الوحي والنبوة من حياته، والصراع مع فرعون، في ظروف كان موسى  أعرف الناس بها عندما نشأ طفلاً في بلاط فرعون في بيئة أصبح الظلم والاستبداد والطغيان عنوانها الأبرز(53 ) .
وقد حمل موسى الرسالة إلى فرعون -كما هو منهج الرسل – محاوراً فرعون ومن معه مذكراً إياهم بتوحيد الله ربهم ورب آبائهم ورب المشرق والمغرب وما بينهما(54 )، داعياً إياهم إلى التفكير في الخالق من خلال التاريخ والجغرافيا والماضي والحاضر قبل أن ينتقل بهم إلى البينة الخاصة التي أيده الله بها والتي تحمل دلالة على صحة كونه رسولاً من الله(55 )، مما كان له أثر في إيمان فريق من أتباع فرعون، ويتبع هذا الموقف ما يتبعه من تحد آلَ بفرعون إلى الغرق، فكانت رسالة موسى  في مواجهة طغيان فرعون مباشِرة حيث بدأ معه من قمة الطغيان الذي وصل إليه، فكما مر معنا في دعوة نوح وإبراهيم –عليهما السلام- عندما يستشري الظلم ويطغى الاستبداد فإن العودة إلى قضية الوجود والتذكير بالقوة المطلقة والدعوة للتوحيد هي المنطلق لمواجهة الطغاة، وقد فصَّل القرآن هذا الحدث الحواري بين موسى وهارون –عليهما السلام- من جهة وبين فرعون، وبطبيعة الحال فإن قضية التوحيد لا تنفصل عنها الإيمان بالمستقبل والمصير الأخير (البعث والحساب) الفكرة التي عبر عنها من آمن من سحرة فرعون والتي زادتهم ثقة وشجاعة في مواجهة تهديد فرعون[الأعراف:125]، والمحور الثاني الذي ركز عليه موسى في دعوة فرعون هو تحرير بني إسرائيل وتمكينهم من الاستجابة لرسالته وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ()حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِي بَنِي إِسْرَائِيلَ [الأعراف:105](56 ).
لكن رسالة موسى ستأخذ بعداً أكثر تفصيلاً مع أتباعه ممن آمن معه ومع بني إسرائيل الذين خصهم القرآن بتفاصيل هي بدورها في صلب رسالة موسى، فبعد أن أنقذ الله موسى  وبني إسرائيل من فرعون بدأ موسى  رحلة جديدة في دعوته مع قومه بدأت مباشرة بعد الخروج من اليم وغرق فرعون إذ كان تكليم الله له وتلقي الألواح التي تتضمن مواعظ وتفصيلاً لكل شيء مما كلف به بنو إسرائيل(57 )، وفي فترة التكليم هذه والتي استخلف فيها موسى  أخاه هارون على قومه بدأت معاناة موسى مع بني إسرائيل الذين نسوا التوحيد وعادوا إلى الوثنية(58 )، لكن موسى  تدارك الأمر واستغفر لقومه وطلب الرحمة من الله معلناً أن قومه هادوا ورجعوا إلى الله، وجاء وعد الله بالرحمة للمتقين والمؤتين الزكاة والمؤمنين بآيات الله(59 )، لكن مع ذلك تتتابع معاناة موسى مع قومه باحتيالهم على ما كلفوا به وأخذهم ببعض الكتاب وترك بعضه الآخر(60 ).
موسى  مع بني إسرائيل : لئن كانت دعوة موسى  إلى فرعون تركزت مباشرة على قضية التوحيد وتحرير المضطهدين الذين يكابدون ظلم فرعون وفتنته(61 )، فإن دعوة موسى  إلى قومه ستتركز على محورين أساسيين الأول: إخراجهم مما هم فيه وتمكينهم من الحرية التي تؤهلهم للهدف الثاني من رسالة موسى وهو استئناف تاريخهم الرسالي وهو ما عبرت عنه الآية: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ[إبراهيم:5]، فنجد هنا أن المسؤولية المستقبلية التي كلفوا بها قد تأسست على الوعي بالتاريخ واستحضار أيام الله، واستئناف الماضي، وتذكر نعم الله عليهم:وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ [المائدة:20]، وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [إبراهيم:6]، فأراد موسى أن يبعث في بني إسرائيل تاريخهم الذي نسوه والذي فضلهم الله فيه بفضائل لم تتوفر لغيرهم، فذكرهم أن دعوته ليست بدعاً، فهم قوم نسبوا إلى الأنبياء فلهم تاريخ رسالي وعندهم جذور عقدية وتشريعية فهم أَولى من ينبغي أن يعرف فضل الله ونعمه عليهم التي بدأت بالنبوة والكتاب(62 )، وتستمر معهم بإنقاذهم من بطش فرعون وتحريرهم ليشرعوا في حياة جديدة، وتتوالى عليهم النعم لكن الجحود هو المسيطر عليهم(63 )، مما عجل في غضب الله عليهم فكان الأمر الإلهي بإجبارهم على قبول التعاليم والوفاء بالميثاق وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:63].
ونجد القرآن يجعل رسالة موسى في نسق الدين الواحد والتعاليم المشتركة التي شرعها الله لهم(64 )، ووحي متشابه لجميع الأنبياء بما فيهم موسى(65 )، فهو دين واحد تكرر الحديث عنه وأمر بإقامته من قبل الجميع، وفي ذلك ربط مزدوج بين الحاضر وماضي الرسالات وبين المستقبل.

- ذكر داود وسليمان ، عليهما السلام : ورد ذكر داود وسليمان-عليهما السلام- في القرآن متتالياً باعتبار اشتراكهما في النبوة والملك، ومن العبر التي يمكن استخلاصها من الحديث عنهما، أهمية الع
تاريخ النشر : 02-12-2006

6551 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com