آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

النص والتراث  .  دراسات قرآنية

دراسات حديثية    |    الفقه و الأصول    |    العقيدة و الكلام

  •     

عربَّية القرآن ومستقبل الأمة القطب

طه جابر العلواني


مقدمة: اللغة والوحدة: 
بدأت المجموعة الأوربية سعياً حثيثاً وجاداً نحو الوحدة الأوربية في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وقد حققت نجاحاً في سائر المجالات الاقتصادية والنقدية والسياسية والاتصاليَّة، لكن هناك مشكلة يلاحظها الزائر إلى عاصمة أوروبا الموحدة "ستراسبورغ" والبرلمان الأوربي فيها بصورة خاصة، وهي تعدد اللغات؛ فالبرلمان الأوربي يتعامل باثنتي عشرة لغة، وهذه اللغات كلها قد ارتبطت بجذور عرقية وبثقافات مختلفة، وهي محملة بأدبيات الحروب والنـزاعات منذ كانت أوربا قسمة بين قبائل "الجرمان والنورمانديين والفايكنغ والأنكلوساكسون والغالة" وغيرها من قبائل لم تكن تهدأ الحروب بينها إلا لتثور من جديد لأتفه العوامل وأبسط الأسباب. ولم تتوقف الصراعات والنـزاعات بين الأوربيين حتى حين أخذ التطور مداه وأصبحت تلك القبائل دولاً قومية حديثة. ويكفي دليلاً على ذلك أن يشهد النصف الأول من القرن الماضي وحده حربين عالميتين أشعلت أوارهما وقادتهما دول أوربا القوميَّة المتطورة الحديثة. لكن الذي يحمد لأوربا وقادتها أنهم استطاعوا أن يوظفوا مآسي الحربين وبخاصة الحرب العالمية الثانية ليجعلوا منها مشاعل لإضاءة طريق السلام، والتفاهم والتنسيق، ثم الوحدة المنتظرة بينهم، ومع تغلُّب الأوربيين على كثير من العقبات وهم في طريقهم إلى الوحدة، لكن لا يزال هناك الكثير مما يجب عمله. ولا تزال قضية "اختلاف الألسن والثقافـات" تمثَّلان ثغرة أساسيـة وواسعة في الجدار الوحدوي الذي بنوه، فما هو الدرس المستفاد؟
ذلك ما أهدف إلى إثارته في هذه المقالة، فلست معنياً بالشأن الأوربّي ولا بتقديم مقترحات إلى الأوربيّين، بل أنا معنىٌ باللسان العربي وعمقه الإسلامي، والعمل على معرفة السبيل القويم إلى توحيد أهل هذا اللسان، ولو بعد حين، أو التأليف بينهم من جديد وتوظيف اللغة العربية في تحقيق هذه الوحدة! 
وأود أن أقر سلفاً أن ظروف أمتنا مغايرة لظروف الأمم الأوربية. وبعض أوجه المغايرة بارزة ظاهرة وبعضها ليست كذلك. ومع ذلك فإن في التجربة الأوربية الكثير من الدروس التي يمكن أن يستفاد بها فيما يتعلق بالوحدة والخطوات المتدرجة المتزنة الحكيمة لتحقيقها ويمكن أن نخطو الخطوات الأولى نحو الهدف المنشود.
نقطة البداية في طريق الألف ميل في اتجاه التأليف أو الوحدة – بالنسبة لنا نرى أن يبدأ بتوحيد اللغة، ثم توحيد الثقافة التي تبنى وتنشأ عليها، ثم توحيد أهم مصادر تكوين الثقافة وهي القوانين والتشريعات. والخطوة الثانية هي فتح كل قنوات الاتصالات والمواصلات بين بلداننا وشعوبنا العربية دون أية قيود أو سدود أو حدود؛ والتخلص من سائر الحواجز المصطنعة وما كرستها من نظم وقوانين وإجراءات وغيرها من الأمور، التي جذرت القطيعة والاتجاهات الإقليمية والانعزالية بين بلداننا وشعوبنا. أما الخطوة الثالثة فهي تيسير وتسهيل سائر عمليات التبادل التجاري وانتقال الأموال والأفراد والشخصيات الحقيقية والمعنوية كالشركات، وإزالة سائر العوائق من طريقها. وحين يحدث هذا فإن الأبواب الموصدة -كلها- ستفتح لتسهيل الفهم والتفاهم والتبادل والتنسيق الممهد لما بعده.
ولذلك فقد رأيت أن أركز على البند الأول ألا وهو "اللغة المشتركة" التي يمكن أن تكون حجر الزاوية في بناء وحدتنا كما كان لسان القرآن حجر الزاوية في تكوين أمتنا، فنبدأ من حيث انتهى الأوربيون أو بلغوا، لا من حيث بدأوا. فإن لغتنا العربية قد اكتسبت من القرآن المجيد ونـزوله بها أبعاداً جعلتها لغة غير قابلة للموت والاندثار، وأعطتها قدرة لا تشاركها فيها لغة أخرى على التجدد الذاتي، والاشتمال على الأبعاد الروحية والنفسية التي تجعل الملايين من الناس راغبين في تعلمها والمهارة فيها. فالانطلاق منها في عملية بناء الوعي المشترك والثقافة الموحدة انطلاق سليم وميسر عندما تصدق العزائم. ولعل مما يعزز هذه الحقيقة أن كل قضايا النظر الفلسفي فيما يسمى بالمعنى أو بالمغزى قد تحولت -في عالم اليوم- إلى "النظر التحليلي"، أي التحليل اللغوي للنص، فلم يعد اللفظ مجرد أحرف مرصوصة بعناية أو بدونها، كما لم تعد الجملة مجرد كلمات ترص بجوار بعضها لتعطي معنى أو لا تعطي. فاللغة بيان يفصح عما في النفس وعما في الضمير. وهي في نظر المسلم تعليم إلهي، فالذي علم آدم الأسماء -كلها- وجعل هذه المعرفة أهم مؤهلاته للاستخلاف علمه البيان، والإفصاح عما في نفسه أو ضميره بقطع النظر عن متعلقه، وعن تنوع هذا الذي في الضمير.
والأفكار حين توضع في قوالب الألفاظ تخرج عن سيطرة المفكر، وتصبح عملية الكشف عنها، ومعرفة دقائقها ملكاً للقارئ من خلال التحليل اللغوي. وقد سبق القرآن عصرنا هذا حين لم يسم اللغة لغة، بل سماها لساناً لتحصل المقابلة بين الجنان واللسان؛ وللفت النظر إلى أن اللغة تبنى وترتب وتهيأ في الجنان، ثم ينطلق بعد ذلك بها اللسان. وهذا العامل سوف يسهل للغة العربية عملية بناء الثقافة الموحدة لدى الناطقين بها. 

أولاً: القرآن واللسان:
لقد عرف القرآن الكريم بثراء معانيه وغزارتها، وانفتاح نصه على التاريخ الماضي، والحاضر الراهن، والمستقبل المنتظر. وهو حين ينفتح على كل تلك المعاني فإنه يتسع لبعضها بألفاظه الظاهرة، وأحياناً بمعانيه الكامنة، ثم بسياقه وبنظمه وأساليبه وبلاغته وفصاحته ووحدته البنائية. لذلك فإن من يتلو القرآن المجيد ويتدبر آياته يبحث عن تلك الجوانب المفتوحة في النص على مختلف الآفاق، موظفاً بيان النص وبلاغته وفصاحته للغوص على اللباب، وستكون هذه المعاني -كلها- مصادر إثراء وإغناء للثقافة المشتركة الموحدة.
ولقد أفاض الأصوليون في بيان الأدوات التي لا بد أن يحملها، أو يتزود بها المتدبر في رحلته الشاقة وراء البحث عن المعنى أو المغزى، فتكلموا عن مراتب الدلالات وعن أحوال اللفظ العربي المختلفة من عموم وخصوص وإطلاق وتقييد وإجمال وبيان، وتغير الدلالات بتغير تلك الأحوال. بالإضافة إلى أحوال النص ذاته وبجملته من أسباب النـزول، ومناسبات وإعجاز وأساليب وقوانين وضعوها، وقواعد أصلوها. ومتى يتم تبني معنى من المعاني التي دل النص عليها ولماذا؟ ومتى يتم تبني سواه؟ ولماذا؟ وما هي الأدلة التي يستدل بها عندما يراد صرف اللفظ عن ظاهره؟ وما هي القرائن التي ينبغي نصبها للدلالة على أن في الكلام تغييراً إذا حدث التغيير. 
وقد صف القرآن نفسه بأنه عربيُّ، وأكد هذا الوصف مرات عديدة في مواقع كثيرة من آياته وسوره ونجومه. وعروبة القرآن أحد أهم أوصافه؛ لأن العربية لسان الرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم فهو عربي اللسان والأصل والأرومة والنشأة والولادة والمكان، ولأن المخاطبين الأولين به عند نزوله في أم القرى وما حولها كانوا عرباً، ولأن العرب كانوا أحوج الشعوب الأمية إلى تلقي الرسالة، وأقدر هذه الشعوب على تبنيها والانفعال بها ونقلها -بأمانة- إلى الآخرين، إضافةً إلى أن العربية لم تحمل قبل القرآن رسالة دينية، كما لم تحمل بمعان فلسفية أو معرفية قد تزاحم المعاني التي أراد القرآن إيصالها للناس، وبالتالي فإنها ستكون خالصة لمفاهيمه ومعانيه من دون سائر المعاني والمفاهيم، فهي لسان محايد استطاع القرآن تطويعها لمضامينه. ومن هنا نستطيع أن نلاحظ الفرق بين العربية وغيرها من ألسن الرسل. فنـزول رسالات سائر الرسل بلغات أقوامهم غرضه الأساس هو الإفهام، أما نـزول القرآن بالعربية فغرضه مع الإفهام التحدي والإعجاز. وهذا لا يعني أن خطاب القرآن ورسالة النبي الأمي لم تكن عالمية وللعالمين كافة. فالقرآن نفسه يؤكد عالميته وعالمية الرسالة التي جاء بها النبي الأمي حتى جعل منها ضرورة دينية لا مراء فيها ولا جدال، وقد أكد القرآن على عالميته بالقدر الذي أكد فيه على عروبة اللسان الذي نزل به؛ وذلك في آيات عديدة منها: "تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا" (الفرقان:1)، "إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ" (التكوير:27).
ولفظة "عربّي" تأتي بمعنى اللسان العربي المنسوب إلى القوم المعروفين، وبمعنى الكلام الفصيح الواضح الذي لفصاحته وبلاغته يكاد يفهمه من لا يعرف لغته فضلاً عمن يعرفها، فالانتساب إلى العرب أحد معانيه لا كلها، والعرب قسمان: عرب عرباء وعُربة -أي الصرحاء أو الخلص في عروبتهم، وهم تسع قبائل هي: عاد، وثمود، وأميم، وعبيل، وطسم، وجديس، وعمليق، وجرهم، ووبار. ويقال: هم الذين تعلم إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام العربية منهم. والقسم الثاني هم الذين عرفوا بالعرب المتعربة، وهم بنو إسماعيل ولد معد بن عدنان بن آدم. والقبائل المذكورة انقطعوا منذ فترة طويلة وتفرقت بقاياهم في قبائل أخرى نشأت بعد ذلك، ولم يعد التفريق بين العاربة والمتعربة وارداً فيها، أو مما يلتف إليه. 
وينقسم العرب من حيث مساكنهم إلى قسمين كذلك وهم: "العرب" فإذا أطلقت كلمة العرب قصد بها أهل المدن والقرى مثل أولئك الذين سكنوا مكة والحيرة واليمن والمدينة ونحوها، وهم الذين يعرفون "بأهل المدن أو الحضر." والقسم الثاني هم الأعراب أو "أهل الوبر" الذين سكنوا البادية ويقال لهم: البدو، وهم معرفون بأنهم أصحاب نجعة وانتواء وارتياد للكلأ، وتتبع لمساقط الغيث. وتستعمل المادة (ع، ر، ب) للدلالة على معان عديدة منها: الوضوح والصراحة والإبانة؛ لذلك يقولون:"فلان أعرب عما في ضميره." وقيل لعلم النحو "علم الإعراب"، لأن فيه الإبانة عن المعاني بالألفاظ. ويقال للخيل الأصيلة السالمة من الهجنة "خيل عربية أو عراب" و"يوم عروبة" أو يوم العروبة هو يوم الجمعة باعتباره يوماً معظماً يظهر الناس فيه لبعضهم، ويجتمعون فيه. 
وقد اختلف في سبب تسمية العرب باسمهم هذا، فقيل: لإعراب لسانهم بمعنى إيضاحه ووضوحه وبيانه، ولذلك عد اللسان العربي أشرف الألسن وأوضحها وأعربها عن المراد بوجوه من البيان والبديع والمعاني والاختصار والإيجاز والإطناب والكناية والمجاز والحقيقة والمساواة. وقيل: لأن أولاد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام نشأوا في عربة وهي من تهامة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "خمسة أنبياء من العرب هم- محمد وإسماعيل وشعيب وصالح وهود" وكل من سكن بلاد العرب وجزيرتها بحدودها المعروفة، ونطق بلسان أهلها فهم عرب. 
وقد ذكر ابن تيمية أنّ اسم العرب في الأصل كان اسماً لمن جمعوا ثلاثة أوصاف أحدها: أن لسانهم كان باللغة العربية، والثاني: أنهم كانوا من أولاد العرب، والثالث: أن مساكنهم كانت أرض العرب، وهي جزيرة العرب التي هي من بحر القلزم إلى بحر البصرة، ومن أقصى حجر باليمن إلى أوائل الشام، بحيث كانت تدخل اليمن في دارهم، ولا تدخل فيها الشام، وفي هذه الأرض كانت العرب حين البعث النبوي وقبله. فلما جاء الإسلام وفتحت الأمصار سكنوا سائر البلاد من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، وإلى سواحل الشام وأرمينية، وهذه كانت مساكن فارس والروم والبربر وغيرهم، ثم انقسمت هذه البلاد قسمين، منها: ما غلب على أهله لسان العرب، حتى لا تعرف عامتهم غيره، أو يعرفونه وغيره، مع ما دخل على لسان العرب من اللحن، وهذه غالب مساكن الشام والعراق ومصر والأندلس، ونحو ذلك، وأظن أرض فارس وخراسان كانت هكذا قديماً.
ومنها: ما العجمة كثيرة فيهم أو غالبة عليهم، كبلاد الترك وخراسان وأرمينية وأذربيجان ونحو ذلك، فهذه البقاع انقسمت إلى ما هو عربي ابتداءً، وما هو عربي انتقالاً، وإلى ما هو عجمي، وكذلك الأنساب صارت ثلاثة أقسام: قوم هم نسل العرب، وهم باقون على العربية لساناً وداراً، أو لساناً لا داراً، أو داراً لا لساناً، وقوم من نسل العرب، بل من نسل هاشم، ثم صارت العربية لسانهم ودارهم، أو أحدهما. وقوم مجهولو الأصل لا يدرون أمن نسل العرب هم، أم من نسل العجم وهم أكثر الناس اليوم، سواء كانوا عرب الدار واللسان، أو عجماً في أحدهما. وكذلك انقسموا في اللسان ثلاثة أقسام: قوم يتكلمون بالعربية لفظاً ونغمة، وقوم يتكلمون بها لفظاً لا نغمة وهم المتعربون الذين ما تعلموا اللغة من العرب، وإنما اعتادوا غيرها ثم تعلموها كغالب أهل العلم ممن تعلم العربية وقوم لا يتكلمون بها إلا قليلاً.
وهذان القسمان: منهم من تغلب عليه العربية، ومنهم من تغلب عليه العجمة، ومنهم من يتكافأ في حقه الأمران: إما قدرة، وإما عادة. فإذا كانت العربية قد انقسمت نسباً ولساناً وداراً فإن الأحكام تختلف باختلاف هذا الانقسام خصوصاً النسب واللسان.
فإن ما ذكرناه من تحريم الصدقة على بني هاشم واستحقاق نصيب من الخمس ثبت لهم باعتبار النسب وإن صارت ألسنتهم أعجمية. 
أما الأعجمي فهو من (العُجم أو العَجَمُ) أي خلاف العرب: وفي سر الصناعة "ابن جني" أن مادة (ع ج م) وقعت في لغة العرب للإبهام والإخفاء، وضد البيان، نقله الزبيدي في التاج، يقال "استعجمت عليه القراءة" إذا ارتج عليه فلم يقدر على مواصلتها. ويقال "أفصح الأعجمي" أي تكلم بالعربية. قال الزبيدي: وكل من لم يفصح بشيء فقد أعجمه. أي أبهمه أو جعله غامضاً -أي بالنسبة للعربي. 
وقال ابن تيمية "العجم: هم من سوى العرب: من الفرس والروم والترك والبربر والحبشة وغيرهم." وقال أيضاً: "أن اسم العجم يعمُّ في اللغة -كل من ليس من العرب" ثم قال: "فصارت حقيقة عرفية." 
ومن أهم المباحث التي يستدعيها الحديث عن عربية القرآن المجيد، ولا يسع الباحث تجاوزها المسألة التي عرفت بمسألة "المعرّب والدخيل" في القرآن فمع أن "عربية القرآن" جملةً وتفصيلاً قضية مسلمة ومعلومة بالضرورة بحيث يمكن إلحاقها بالبديهيات الخارجة عن مجالات النظر العقلي وغيره، لكن جدلاً كبيراً قد دار في الدراسات القرآنية والمعارف اللسانَّية العربيَّة بين المتقدَّمين وبقي حّياً ينـزل من جيل لآخر حتى ولج ساحته الباحثون المتأخرون حول ما إذا كان في القرآن المجيد" ألفاظ دخيلة، أو مولدة أو معربَّة"!! وقد انقسم المتناولون لهذه المسألة إلى فريقين: فريق رفض رفضاً قاطعاً فكرة وجود أية كلمة معربَّة أو مولَّدة أو دخيلة في القرآن الكريم. وقد تصدر هذا الفريق ونطق باسمه، ومثّله أفضل تمثيل الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت 204ﻫ) وانضم إليه أبو عبيد القاسم بن سلام (ت 210ﻫ) والطبري (ت 310ﻫ) وغيرهم، وقد استند هذا الفريق إلى آيات الكتاب الكريم التي وصف بها نفسه "بالعربي." وحملوها على معنى اللسان العربي، واعتبروا الوضوح والبيان والإفصاح التي وردت في المعنى الثاني لكلمة "عربّي" خاصية من خواص اللسان العربي. وقد نص هذا الفريق على أن جميع الألفاظ التي ظن البعض أنها دخيلة إما أن تكون ألفاظاً عربية اقتبستها اللغات الأخرى من العربية، لا العكس، وأما أن تكون قد توافقت فيها العربية مع غيرها من قبيل الاتفاق والمصادفة وهو أمر شائع في اللغات خاصة تلك التي تنتمي إلى أسرة واحدة مثل "أسرة اللغات السامية." فإذا وجدت كلمة يمكن أن تجد لها في اللغات الأخرى جذراً أو أصلاً لا تجده في العربية فذلك يعني أن توافقاً قد حصل بين العربية وبين تلك اللغة. 
أما الفريق الآخر فقد رأى أن هناك ألفاظاً معدودة استعملها القرآن الكريم وهي ذات أصول غير عربية، ولذلك عدت من الدخيل أو المولد، وأن قلتها لا تجعل وجودها معارضاً لدلالة النصوص التي دلت على"عربية لغة القرآن" وقد ألفت بعض الكتب من هؤلاء لتناول تلك الكلمات وبيان جذورها وأصولها غير العربية، منها "لغات القرآن" للفراء (ت 206ﻫ)، و"لغات القرآن" لابن قريب الأصمعي (ت 216ﻫ)، وبعض كتب أخرى ذكرها ابن النديم في الفهرست. ومع أن المسألة لم تكن مثارة أو متداولة بقوة قبل النصف الثاني من القرن الهجري الثاني -فيما نعلم- لكن هذا الفريق قد نسب لابن عباس أثراً لا تُعلَم صحته يفيد أن في القرآن أحرفاً كثيرة من لغات العجم. وقد روج السيوطي لهذا الأثر ونقله في الإتقان، وأفرد كتاباً سماه "المهذب فيما وقع في القرآن من المعرَّب" وضم فيه أقوال العلماء الذين تبنَّوا هذا الاتجاه. وكعادة علماء التراث في حرصهم على إحصاء ونقل الأقوال المختلفة في سائر القضايا الخلافية وفقاً لمنهج الرواية فقد بقيت هذه المسألة -كما أشرنا- تنتقل من جيل لآخر دون حسم حتى وصلتنا كما هي، لينقسم الباحثون المعاصرون حولها -أيضاً- كما انقسم السابقون فيتبنى أحمد محمد شاكر (ت 1958) مذهب الإمام الشافعي ومن إليه، وذلك في تعليقاته على رسالة الإمام الشافعي، وفي مقدمته لكتاب "المعرب" للجواليقي في حين تبنى الشيخ حمزة فتح الله (ت 1918) مذهب الفراء والأصمعي والسيوطي ومن إليهم فجمع ما سماه بالكلمات الأعجمية الواردة في القرآن، وقام بطبعها سنة 1902م بأمر نظارة المعارف العمومية المصرية وظهرت بعد ذلك دراسات عديدة. 
ولم يقف الآباء اليسوعيون وبعض المستشرقين بعيداً أو في موقف المحايد في هذه المسألة، بل دخلوا بثقلهم وخبراتهم في لغة الكتاب المقدس وراء القضية!! ودفعوا بها إلى غاياتها حتى ادعى البطريرك أفرام برهوم وجود ألفاظ سريانية قديمة وردت في الكتاب المقدس اقتبسها القرآن، وذلك في كتابه المسمى "الألفاظ السريانية في المعاجم العربية" ومن هذه الألفاظ على حد زعمه "الكعبة" و"لبيك" و"بدوي" ونحوها. كما أن القسيس روفائيل نخلة اليسوعي في كتابه "غرائب اللغة العربية" ادعى وجود ألفاظ سريانية في القرآن الكريم، وزعم أنها مقتبسة من الإنجيل، منها "رب وقدس" وغيرهما. وكذلك المستشرق الألماني "برغشتراسر Bergstrasser" في كتابه "التطور النحوي للغة العربية" تحقيق د. رمضان عبد التواب، الذي زعم أن القرآن قد اقتبس من اللغات الأجنبية كماً هائلاً من المفردات. ومن بين تلك اللغات المقتبس منها اللغة السريانية. والغرض والتعصب الديني ظاهر في دعوى الآباء المشار إليهم لتعزيز فكرة اقتباس القرآن من الكتب السابقة وبشريته وبشرية الرسالة الإسلامية كلها. ومن الباحثين المعاصرين الذين قدموا معالجة جادة لهذا الموضوع د. علي فهمي خشيم. 
ترى لو أن المسألة كانت بحثاً لغوياً مجرداً هل نال كل هذه العناية والاهتمام لدى المتقدمين والمتأخرين؟ إن توافق اللغات أو اقتباس بعضها من بعض ليس بالأمر العجيب أو المستغرب، خاصة إذا كانت لغات من عائلة واحدة كاللغات السامية، لكن من البين أن هذه المسألة قد أثيرت في دائرة السجال والجدل والصراع التي برزت في تلك المرحلة وانعكست على جوانب عديدة من حياة الأمة السياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية. وزاد من تعقيد المسألة وتحويلها إلى قضية من قضايا السجال والجدل والصراع ظهور ما عرف بالأفكار الشعوبَّية التي كان من بين بعض أهم أسبابها وجود العرب واستئثارهم بالسلطة السياسية خاصة في العهد الأموي، وانصراف الموالي (أي: غير العرب) كما كانوا يسمون -في تلك المرحلة إلى العلم والمعرفة لبناء سلطة معرفية إن لم تفق السلطة السياسية وتتقدم عليها فلا أقل من أن تكافئها (وإذا كانت السلطة السياسية تمثل جانب القوة فإن السلطة العلمية والمعرفية تهيمن على الشرعية السياسية) أو توازيها. وانفتاح العقل المسلم لم يضع أية قيود على البحث العلمي والمعرفي. وقد يدل لما ذهبنا إليه منهج الأمام الشافعي في تناول الموضوع – كما يتضح من نصه في الرسالة. 
إن الانقسامات التي كانت سائدة شملت القضايا الاعتقادية لتظهر القدرية والجبرية والخوارج والشيعة والمعتزلة وتتابعت السلسلة، وكل تلك الفرق كانت في حاجة إلى تعزيز مواقفها بالتفسير والتأويل ووضع الحديث أحياناً، واختلاق قصص حول النص لحمله على ما تفيده تلك القصص خاصة القصص الإسرائيلي وعلى ما يعزز مقالات أصحاب المقالات. واللغة مرجعية لا يمكن تجاهلها أو التقليل من شأنها في علاقتها بالنص، لكن إثارة شئ مثل هذا حولها، وتفريق بعض كلمات النص بين القبائل والشعوب قد يعطي لأهل التأويل فرصة أكبر للتقليل من شأن الدليل السمعي -بعامة- وإضعافه وتقديم "الدليل العقلي" بديلاً عنه، أو لا أقل من وضعه في مواجهته وفي ذلك ما فيه وقد حدث ذلك بالفعل. 
والانقسامات لم تقف عند الدائرة الاعتقادية بل سرعان ما تجاوزتها إلى الدائرة الأصولية والفقهية فانقسم المنشغلون بهذه العلوم إلى "أهل حديث وأهل رأي" وحتى مدارس النحو واللغة آلت إلى مدارس فكرية أبرزها مدرستا الكوفة والبصرة. واللغة كانت ذات أثر كبير في الفقه والأصول والقراءات والتفسير والحديث وغيرها؛ وقد تغلغل أثرها في سائر المجالات الثقافية والمعرفية. والقول بعدم انحصار لسان القرآن بلسان قريش التي نزل القرآن المجيد بها -وحدها- وإليها ينتمي لسان رسول الله  وسلم يفتح للتأويلات أبواباً واسعة، ويجعل المرجعية اللسانية أمراً مشاعاً بين القبائل والبطون بل والشعوب المختلفة. وفي ذلك ما فيه "ولسان العرب أوسع الألسنة مذهباً، وأكثرها ألفاظاً." وكون رسول الله  وسلم بعث إلى الناس كافة لا يمكن أن يقوم دليلاً على اشتمال القرآن على ألفاظ تلملم من ألسنة الشعوب المختلفة، وإلا لوجدنا فيه ألفاظاً صينية وفرنسية وروسية وإنجليزية ولم يقل أحد بذلك. فالثابت الذي لا مراء فيه أنه عليه الصلاة والسلام -بعث بلسان قريش خاصة فهم قومه ولسانهم لسانه، وإذا كانت الحكمة الإلهية قد اقتضت أن تختلف ألسنة الأمم والشعوب بما لا يفهمه بعضهم عن بعض إلا بالتعليم آية من آياته -جل شأنه- فلا بد أن يكون بعضهم تبعاً لبعض فيتعلم من لا ينطق بذلك اللسان منه ما هو بحاجة إليه؛ فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد به أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله، وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير، وأمر به من التسبيح، وما ازداد من العلم باللسان الذي جعله الله لسان من ختم به نبـوته، وأنزل به آخر كتبه كان خيراً له ولا غضـاضة على أحد في ذلك فالله -تبارك وتعالى- قد اختار أن يخاطب البشرية خطابه الأخير بهذا اللسان، واختار لحمل هذا الخطاب وتبليغه للناس رسولاً من أنفسهم، ناطقاً بلسان قومه ليبدأ بهم، ويجعل منهم أول الحاملين للرسالة يبلغون عن الله تعالى وعنه ما أنزل إلى رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم. لقد أخرجت هذه اللغة بعد نزول القرآن بها من المحيط الواقعي الذي تكونت وتشكلت فيه ومن الإطار القومي لتصبح لغة أمة قطب بين الأمم شاهدة عليهم. وليصبح ذلك اللسان لساناً ثقافياً يبني ويؤسس لثقافة عالمية، ويعبر عنها، وكل من نطق بها باعتباره لسان الأمة، أو تعلمه بعد ذلك فإنه عربَّي فهي اللغة الوحيدة التي صارت وسيلة انتماء لثقافة وحضارة وأمة. وإسهام العلماء غير العرب في بنائها وإنمائها ووضع قواعدها وقوانين نحوها وصرفها وبلاغتها أمر من البديهيات. وقد تجاوزت هذه اللغة العرب في ذلك كله وجعلت من الناطقين الجدد بها مراجع في ذلك للعرب أنفسهم. وقد سأل هارون الرشيد عن أبرز علماء العربية في عصره فذكروا له عدداً كلهم من غير العرب، ثم ذكروا الكسائي من العرب حين رأوا تغير وجهه. 
وهكذا فإنه يمكن القول إن القرآن المجيد قد خلا بفضل الله تعالى من سائر عيوب الألسن بما في ذلك "اللسان العربي" نفسه فلا تناقض فيه ولا اختلاف، ولا غموض ولا إبهام، ولا زيادة ولا تكرار، ولا ترادف ولا اشتراك فهو قد استوعب محاسن اللسان العربي وتجاوز أي عيب فيه بإعجازه وتحديه، وعصمته وإحكام آياته وتفصيلها بعلمه تبارك وتعالى، فيستحيل أن يخالطه غيرها، ويستحيل أن يناله تغير أو تبديل. 
وقد تعرض الإمام الشاطبي إلى هذه المسألة "المعرب والدخيل" في كتابيه الاعتصام والموافقات وفيها عقد مسائل خمس نص في أول المسألة الأولى على "أن القرآن ليس فيه كلمة أعجمية عند جماعة من الأصوليين" ثم ذكر ما يشير إلى حِيدته في هذه المسألة أو قلة اكتراثه بها، لأنّ العرب إذا تكلمت به صار من كلامها عنده ثم قال: "والخلاف في أصل المسألة لا يترتب عليه حكم شرعي "لأنه اعتبر المراد من نزول القرآن بلسان العرب وأنه عربي أنه لا عجمة فيه وأنه نزل على معهود العرب في ألفاظها الخاصة وأساليب معانيها: فالعبرة عنده بالأساليب وبما ينبئ عنه الكلام بجملته من معان. لكنه عاد في المسألة الثانية ليتحدث عن العربية باعتبارها ألفاظاً وعبارات دالة على معان مطلقة أو مقيدة وقسم دلالتها إلى دلالة أصلية وأخرى تابعة. وخلص بعد ذلك إلى القول بتعذر ترجمة القرآن إلى اللغات الأخرى إذ لا يمكن ترجمة المعاني التي ينبه إليها الأسلوب والسياق ونحوها. وفي المسألة الخامسة استكمل ما أورده في الثانية حول دلالة الكلام على المعنى الأصلي والمعنى التبعي، وذكر الخلاف في ذلك وأدلة المختلفين وناقش أدلة الفريقين ثم خلص في نهاية الأمر إلى تبني موقف المانعين في أن يكون للكلام دلالتان -معاً- أصلية وتبعية، وأكد أن المعاني الزائدة عن المعنى الأصلي هي آداب شرعية وتخلقات حسنة يكون لها اعتبار في الشريعة في هذا المستوى. 
ثانياً: الأميُّ والأميّون والمراد بهما: 
مثلما تحدث الشاطبي عن عربية القرآن فإنه تحدث كذلك عن الأمية ودلالاتها في القرآن الكريم. فالمسألتان الثالثة والرابعة من المسائل الخمس التي أوردها تتعلقان بسحب صفة "الأمية" من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته ولسانه على الشريعة ذاتها وكأنها لم تأت لتخرج الأميين من أميتهم وتجعلهم حملة وأهل أهم كتاب نزل ألا وهو القرآن، بل لتكرس "الأمية" فبدلاً من أن ترفع مستواهم إلى مستواها العالي تهبط هي إلى مستوى الأمية ذلك لتصف هي نفسها بالأمية وتعززها كذلك، فقال رحمه الله: "هذه الشريعة المباركة أمية، لأن أهلها كذلك فهو أجري على اعتبار المصالح" ثم أورد الأدلة التي رآها دالة على ذلك. وهو يهدف إلى الوصول إلى تأكيد مقولة إن الشريعة في مستوى فهم العرب وطاقات وقدرات الأميين منهم؛ إذ أنها لو ارتفعت عن هذا المستوى لأعياهم فهمها، ولما أمكنهم تطبيقها وكان تكليفهم بها تكليفاً بما لا يطاق. قلت: وهذا منطق عجيب لو أخذ على ظاهره فانه قد يعزز ما ذهب إليه كثير من المستشرقين وتلامذتهم من تاريخانية هذه الشريعة، وارتباطها انحصاراً في زمانها ومكانها وحملتها الأولين لا تتعداهم فكيف يمكن القول -بعد ذلك- بعمومها وشمولها وكمالها، وصلاحها لكل زمان ومكان وإنسان وعالميتها وخلودها؟ وبقائها ودوامها واشتمالها على المقاصد الخالدة؟ لاشتمالها على سائر الخصائص التي تؤهلها لذلك كله كما دلت على ذلك آيات سورة الأعراف الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. (الأعراف:157-158).
إن من البديهي الذي لا يخفى على تلامذة أبي إسحاق -وأنا منهم- أن الرسل والأنبياء إنما يبعثون إلى الأمم والشعوب ليخرجوهم من الظلمات إلى النور؛ ومن الظلمات التي يحرر الرسلُ البشرَ منها "الأمية" فهي من وسائل الشيطان المهمة في إخضاع الإنسان لما كان عليه الآباء بقطع النظر عن طبيعته، وجعل الإنسان الأمي -بهذا المعنى- الذي يتبناه الشاطبي مستعداً لقبول الخرافة والشعوذة وسائر الانحرافات. ثم إن القرآن العظيم لقب اليهود والنصارى الذين كانوا أميين قبل نزول كتبهم "بالكتابيين" ولم يلقبهم "بالكاتبين" فلم لم يصبح العرب -في نظر أبي إسحاق ومن إليه- أهل كتاب هو القرآن بعد أن نزل عليهم أعظم كتاب وآخر الكتب وأهمها؟ أيخرجهم الكتاب من الظلمات إلى النور ولا يخرجهم من الأمية؟ وهو لإخراجهم منها نزل. ولقد سمى الله تعالى بعض أهل الكتاب الذين لم يتقنوا فهم الكتاب وعلمه بالأميين فقال تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ. (البقرة:78) فلو أن القرآن نزل ليكون في مستوى البدو والأعراب والعرب -القادرين منهم والعاجزين- فهل يمكن أن يرتقي فهمهم إلى الآفاق التي استهدف القرآن الارتقاء بحملته في مختلف العصور إليها؟ وقد أوصلهم إليها فعلاً. وهل كان الصحابة في مستوى واحد في فهمهم للقرآن، وفي أخذهم عن رسول الله؟ لو كانوا كذلك فما الذي ميز قرّاءهم عن عامتهم وما الذي ميزّ أولئك السبعة عن غيرهم؟ وبم تميز الخلفاء الأربعة وابن عباس وابن مسعود وبقية العبادلة وأم المؤمنين عائشة وزيد بن ثابت عن الآخرين؟ أم أن الأمية -في نظر أبي إسحاق- قدر ثابت لا يتغير، وكأنها آدمية الإنسان وإنسانيته لا تزايله ولا تفارقه. ومما استدل به أبو إسحاق آية سورة العنكبوت وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ. (العنكبوت:48)، والآية صريحة بأنه بعد نزول الكتاب عليه صار تالياً يتلو عليهم آيات ربهم، وهذا قد قاد بعضهم إلى تبني فكرة زوال الأمية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد نـزول القرآن فالذين فسروا الأمية بأنها صفة لمن لا يقرأ ولا يكتب قالوا: إنه لم يرد ما يدل على تعلمه صلى الله عليه وآله وسلم الكتابة، والتلاوة وحدها لا تكفي لزوال وصف الأمية عنه. والذين قالوا بأن القرآن أو التلاوة وحدها كافية لإزالة وصف الأمية قالوا: بأنه عليه الصلاة والسلام لم يعد أمياً بعد بدء نـزول القرآن عليه. 
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية يقول "إن الأموَّة -يعني الأمية- صفة نقص، ليست صفة كمال، فصاحبها بأن يكون معذوراً أولى من أن يكون ممدوحاً" وتحدث كذلك عن أمية العرب فقال: "فلم يكن لهم كتاب يقرؤنه منـزل من عند الله كما لأهل الكتاب ولا علوم قياسية مستنبطة كما للصائبة ونحوهم، وكان الخط فيهم قليلاً جداً، وكان لهم من العلم ما ينال بالفطرة التي لا يخرج الإنسان بها عن الأموّة العامة كالعلم بالصانع سبحانه وتعالى، وتعظيم مكارم الأخلاق وعلم الأنواء والأنساب والشعر فاستحقوا اسم الأمية من كل وجه" كما قال الله تعالى فيهم "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ" (الجمعة:2)، وقال تعالى: "وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا" (آل عمران:20) قال شيخ الإسلام: فجعل الأميين مقابلين لأهل الكتاب فالكتابي غير الأمي، ثم قال تغمده الله برحمته: "فلما بعث فيهم رسول الله ووجب عليهم اتباع ما جاء به من الكتاب وتدبره وعقله والعمل فيه -وقد جعله تفصيلاً لكل شيء، وعلمهم نبيهم كل شيء- صاروا أهل كتاب وعلم، بل صاروا أعلم الخلق وأفضلهم في العلوم النافعة، وزالت عنهم الأمية المذمومة الناقصة، وهي عدم العلم بالكتاب المنـزل، إلى أن علموا الكتاب والحكمة وأورثوا الكتاب. كما قال فيهم سبحانه "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ" (الجمعة:2)، فكانوا أميين من كل وجه. فلما علمهم الكتاب والحكمة قال فيهم "ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ" (فاطر:32)، وقال تعالى: "وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ" (الأنعام:155،156) وقال تعالى: "لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ" (آل عمران:164) وقال تعالى "رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (البقرة:129).
فصارت هذه الأمية: منها ما هو محرم ومنها ما هو مكروه، ومنها ما هو نقص، وترك الأفضل. فمن لم يقرأ الفاتحة أو لم يقرأ شيئاً من القرآن يسميه الفقهاء في "باب الصلاة" أمياً. ويقابلونه بالقارئ فيقولون: لا يصح اقتداء القارئ بالأمي ويجوز أن يأتم الأمي بالأمي. ونحو ذلك من المسائل وغرضهم بالأمي هنا الذي لا يقرأ القراءة الواجبة سواء كان يكتب أو لا يكتب، يحسب أو لا يحسب. فهذه الأمية منها ما هو ترك واجب يعاقب الرجل عليه إذا قدر على التعلم فتركه. ومنها ما هو مذموم كالذي وصفه الله عز وجل عن أهل الكتاب حيث قال: "وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ" (البقرة:78) فهذه صفة من لا يفقه كلام الله ويعمل به، وإنما يقتصر على مجرد تلاوته. كما قال الحسن البصري "نـزل القرآن ليعمل به فاتخذوا تلاوته عملاً" فالأمي هنا قد يقرأ حروف القرآن أو غيرها ولا يفقه بل يتكلم في العلم بظاهر من القول ظناً. فهذا أيضاً أمي مذموم كما ذمه الله لنقص علمه الواجب سواء أكان فرض عين أم كفاية، ومنها ما هو الأفضل الأكمل كالذي لا يقرأ من القرآن إلا بعضه ولا يفهم منه إلا ما يتعلق به، ولا يفهم من الشريعة إلا مقدار الواجب." 
ليت أبا إسحاق ومن إليه التفتوا إلى المعنى اللغوي الآخر لكلمة "الأمي" الذي التفت إليه كثير من الأئمة ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية فصحيحٌ أن المعنى الأول هو المتبادر إلى الذهن وهو ما فهمه الشاطبي ومن إليه، من أن الأمي من لا يقرأ ولا يكتب، وإليه مال الأكثرون فلم يتعرضوا للمعنى الآخر الذي لا يتبادر إلى الذهن -من اللفظ مباشرةً- بل يحتاج إلى شيء من النظر. وهو أن الأمي تعني المنتمي إلى قوم لا كتاب لهم من مشركي العرب وغيرهم وقد ذهب إلى ذلك المعنى ابن جرير الطبري وبمثله قال النيسابوري بهامش الطبري (3/169). وقد نقل الفخر الرازي في تفسيره الكبير عن ابن عباس نحوه فقال "وقال ابن عباس: يريد (يعني بالأميين): الذين ليس لهم كتاب ولا نبي بعث فيهم" وقال ابن عطية في تفسيره "الأميون يراد بهم العرب، ثم قال في قوله تعالى وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ (الجمعة:3) يراد بهم الفرس، ونقل عن سعيد ابن جيبير ومجاهد أن المراد بهم الروم والعجم. وذكر نقولاً وأقولاً أخرى تدل على أن المراد بالأميين الشعوب التي لم تتلق كتاباً ولا رسالة، ونقل الأصبهاني في المفردات عن الفراء قوله "هم العرب الذين لم يكن لهم كتاب." 
فإن قيل: لا يجوز صرف اللفظ عن ظاهره أو المتبادر إلى الذهن منه إلا بقرينة. قلنا: ما أكثر القرائن على هذا؛ من ذلك أن القرآن الكريم جعل الأميين في مقابلة أهل الكتاب ولم يجعلهم في مقابلة "المتقنين للقراءة والكتابة" كما مر ذكره عن ابن تيمية في استشهاده بقوله سبحانه "وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا" (آل عمران:20)، فالله تعالى بعث رسوله والناس صنفان -كما قال الأمام الشافعي "أهل كتاب بدّلوا (وأميون لم يؤتوا كتاباً) كفروا بالله فابتدعوا ما لم يأذن به الله. وهذه قرينة كافية لجعل "الأمي" بمعنى من لا كتاب له مقابل الكتابي الذي أنعم الله عليه بكتاب."
ومن القرائن قول الكتابيين "لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ" (آل عمران:75) مع قولهم لبعضهم "أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ" (البقرة:76) فالذي فتح الله عليهم ويتواصون بكتمانه عن أولئك الأميين الذين تبرؤا منهم، ومن أية مسئولية عن دعوتهم أو النصح لهم، أو الوفاء لهم بعقودهم وعهودهم معهم يدل على أن المحور الذي يدور حوله كل شيء هو الكتاب وليس الكتابة.
ومنها أيضاً قوله تعالى "هَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ" (الأنعام:155-157). فهذه الآيات صريحة بأن ما كان العرب وغيرهم من الشعوب الأمية يتطلعون إليه ويتمنَّونه إنما هو نـزول كتاب عليهم يجعلهم قادرين على التفوق على أهل الكتاب من الطائفتين اليهود والنصارى في مجالات الهداية، لا تعلم القراءة والكتابة وحدهما؛ إذ أن تعلم ذلك متاح دون وحي ولا حاجة للناس بتمني نـزول الوحي ليحصلوا على تلك المهارة.
ومنها كذلك آية الدين في سورة البقرة، وفيها "إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ" (البقرة:282) فهذا خطاب لقوم يكتبون ويحسبون وإلا لكان تكليفاً بما لا يطاق والله لا يكلف نفساً إلا وسعها.
وقد تضافرت الأدلة التاريخية على شيوع القراءة والكتابة بين العرب، وخاصةً في قريش وديارها في أم القرى وما حولها، فبيئة قريش بيئة تجارية، وذات علاقات وتجارة خارجية مع الشام واليمن، وهي تجارة تعتمد على تجميع أموال من أفراد متعددين والاتجار بها، ولذلك فإن الحساب والكتابة في هذه الحالة مما لا يمكن الاستغناء عنه.
وكانت العرب تكتب شعر شعرائها المتقنين وتعلقه على الكعبة، وقد تواتر وجود المعلقات السبعة والعشرة، كما كانت تكتب أنسابها وانساب خيولها وبعض كلاب الصيد النادرة، وكذلك اتفاقات قبائلها في بعض الأحيان، وكل ذلك يشير إلى شيوع الكتابة بينهم. قال ابن تيمية: "ويقال: الأمي لمن لا يقرأ ولا يكتب كتاباً ثم يقال لمن ليس لهم كتاب منـزل من الله يقرءونه، وإن كان قد يكتب ويقرأ ما لم ينـزل، وبهذا المعنى كان العرب كلهم أميين"؛ ثم قال: "وقد كان في العرب كثير ممن يكتب ويقرأ المكتوب وكلهم أميون (يعني أن ذلك -أي معرفة القراءة والكتابة- لم يزل وصف الأمية عنهم) فلما نزل القرآن عليهم لم يبقوا أميين. 
وقد نص المؤرخون لكتابة العربية على"أنها قد تكونت بين القرنين الثالث والسادس الميلاديين وأنها كانت معروفة في الحجاز والحيرة في منتصف القرن السادس الميلادي." وقد استخدم رسول الله  لكتابة الوحي واحداً وستين كاتباً وكتاباً آخرين لكتابة رسائله إلى الملوك والحكام المعاصرين له، ولولا وجود أعداد كافية منهم لما أمكن ذلك. واستخدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسرى قريش وأهل مكة لتعليم أهل المدينة -وهم مزارعون- ومعهم غير القادرين على الكتابة من أصحابه القراءة والكتابة، وذلك يدل على شيوع الكتابة في قريش وأهل مكة، وحرص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على إشاعتها بين المسلمين كافة في المدينة وغيرها كذلك.
ربما أغتر بعض الكاتبين بوصف "الجاهلية" الذي شاع بعد الإسلام ليوصف به "أهل الفترة" والجاهلية مصطلح قرآني لم يستعمل للدلالة على الجهل بمعنى عدم القراءة والكتابة، بل الجهل المقابل للحلم أو هو: معنى يحمل الإنسان على إيقاع أفعاله على غير نظام، أو على فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل سواء اعتقد فيه اعتقاداً صحيحاً أو فاسداً، ولذلك قال سبحانه "إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّة.ِ" (الفتح:26) و"الحمية" هنا من الغضب للشخص أو عليه يقال "حميت على فلان" بمعنى إذا: غضبت عليه "وحميت لفلان" غضبت له ولأجله. 
ولعل ما قدمناه يرجح أن المراد "بالأميين" العرب ومن إليهم من الشعوب التي لم ينـزل عليها كتاب ولم يأتهم رسول من قبل. ومن هنا نجد أن الخطاب القرآني قد تدرج بشكل دقيق فأخرج العرب من أميتهم، وجعلهم قاعدة ومنطلقاً لهذه الرسالة: فلم ينتقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا وجزيرة العرب -كلها- قد غمرها نور الإسلام لينطلق حملة الرسالة الأولون -بعد ذلك- لدعوة الشعوب الأمية الآخرين من فرس وترك وبربر وأكراد وهنود ومن إليهم. أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة التصديق على الكتب السابقة والهيمنة عليها، وإخراج أهل الكتاب من التحريفات التي أضافوها إلى كتبهم ونسبوها إلى الله تعالى "فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ" (البقرة:79) وحين يتم ذلك يكون القرآن المجيد قد قام بتجديد وبناء وإعادة بناء "الدين كله"، وآنذاك يصبح الدين كما جاء القرآن به ظاهراً على الدين كله في العالم كله وبين البشر أجمعين "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ" (التوبة:33)، ويصبح القرآن مرجع البشرية بلا منازع.
إن من الواضح أن الشاطبي قد برزت في عهده مخالفات خطيرة وزلزل المؤمنون في عهده زلزالاً شديداً، وابتليت الأمة بفتن داخلية وغزو خارجي. فلذلك كتب كتابيه المهمين "الاعتصام، والموافقات" في الأول وقف ضد البدع بكل أنواعها، وأكد على أن إنقاذ الأمة يتوقف على عودتها إلى التمسك بكتاب الله تعالى، والاعتصام به وبسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان بمثابة المقدمة التي أراد أن يقيم عليها إعادة بناء الشريعة كما يفهمها أو منهجه التجديدي ومشروعه للتجديد -كما يليق به أن يسمى. ولذلك فإن الكتابين في حاجة إلى إعادة قراءة في ضوء "علم اجتماع المعرفة" فذلك هو الذي سيساعد على فهم شخصية الشاطبي ومشروعه التجديدي، وأطروحاته التي حفل بهما الكتابان. ولأن هذه الدراسة في حد ذاتها مشروع مستقل لا يسعنا إلا انتظار الأستاذ الذكي أو الباحث النجيب ليقوم به، فإننا نبادر بالقول إن أطروحة أبي إسحاق حول حصر فهم القرآن المجيد والسنة المطهرة "بمعهود لسان العرب وأساليبهم في التخاطب" في عصر التنـزيل، وعدم قبول الأفهام المستحدثة بعد ذلك، وكذلك أطروحته حول أمية الشريعة تبعاً لأمية الأمة وعدم جواز فهم معان متعمقة من وراء النص، هاتان الأطروحتان إضافة إلى قضايا أخرى حفل بها كتابا أبي إسحاق -إن هي إلا رد فعله تجاه التأويلات الفلسفية، والتفسيرات الباطنية، والاعتبارات الرمزية والإشارات التي حفل بها عصره، وبعض العقود التي سبقته. فأراد بموقفه المتصلب ذلك أن يغلق الطريق أمام أصحاب تلك التأويلات، ولذلك كان في مواقفه خاصةً في هاتين القضيتين ما هو جدير بالمناقشة.
وقد ناقش ابن عاشور في تفسيره مقولة الإمام الشاطبي مناقشة مستفيضة، وذلك في مقدمته الرابعة من مقدمات تفسيره نورد منها قوله: 
"ولاشك أن الكلام الصادر عن علام الغيوب -تعالى- لا تنبني معانيه على فهم طائفة واحدة ولكن معانيه تطابق الحقائق، وكل ما كان من الحقيقة في علم من العلوم وكانت الآية لها اعتلاق بذلك. فالحقيقة العلمية مرادة بمقدار ما بلغت إليه أفهام الب
تاريخ النشر : 28-10-2005

6154 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com