آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

النص والتراث  .  دراسات قرآنية

دراسات حديثية    |    الفقه و الأصول    |    العقيدة و الكلام

  •     

القرآن: استنهاض العقل بدلاً من محاولة هزيمته

أحمد خيري العمري


استقبل العرب القرآن باعتباره معجزة محمد الوحيدة . و لم يكن ذلك ذلك يخص المؤمنين فقط ، بل حتى المشركين الذين رفضوا الدعوة الجديدة ، و لكنهم تعاملوا مع القرآن – بالذات- بأعتباره ما يعتبره المسلمون معجزة نبيهم ، و ليس اي شئ آخر مما يتداول اليوم بأعتباره " معجزات محمدية"..
وهكذا كان هذا الخطاب وتأثيره المذهل على الناس هو بمصاف معجزات الرسل الاخرى : احياء الموتى ، المشي على سطح الماء ، اشفاء الأكمة والأبرص ،العصا التي تسعى ، والبحر الذي انشق . وهي المعجزات الحية التي شكلت حجر الزاوية الأساسي في أيمان المؤمنين بالرسالات السابقة ، والتي مجدها القرآن الكريم وأوردها بالكثير من الثناء رغم اختلاف طبيعة إعجازه عنها ..
وهكذا كان الخطاب القرآني خارقاً للحس – والوعي – والقوانين السائدة آنذاك . وما أنفك القرآن يستفز المشركين بأن يجاروه في ذاته : عشر سور أولاً . ثم سورة واحدة . ثم آية واحدة . وظل التحدي لا يواجه إلا بالمزيد من الصمت او الانضمام إلى قافلة المؤمنين ، أولئك الذين اختاروا أن يتشكل وعيهم بالقرآن ، وتفاعلوا مع الظروف المحيطة بالوسط القرآني …
وكان ايمان هؤلاء يجعلهم في حالة تماهي مع الخطاب القرآني المسترسل .وكانت صلاتهم الأولى قبل ان تفرض الصلاة بأركانها وسننها في السنة العاشرة للبعثة – محض قراءة القران . لقد كانت الأمة أمية – مهما كان ذلك يعني حرفيا-: وفي مكة – وهي حاضرة كبرى من حواضر جزيرة العرب _ لم يكن هناك اكثر من سبعة عشر رجلاً يجيدون القراءة . وفجأة صارت القراءة تعبداً وصلاة . ولم تكن ( محض ) قراءة بل كانت تعبداً للوعي الجديد ، للضمير الجديد ، في أحرف وألفاظ ( منطوقة)…
- هذا التماهي والتقديس المبكرين لكل حرف ولفظ من الفظ القران الكريم كانت هي الوسيلة التي تكفل الله بحفظ القران عبرها ، فقد دفع التقديس والتقدير الذي حظي به كل لفظ من الفظ القران حادثة التغيير والتحريف التي مرت بها الكتب السماوية الأخرى 
- حيث ان التقديس المبكر بل والتعبد بالقراءة ومن ثم بالحفظ – الإتقان – حفظ القرآن من واقعة التحريف ، وحافظ في الوقت نفسه على ثنائية شديدة الأهمية في اللغة العربية ككل وفي البيان القرآني عموماً الا وهي ثنائية (اللفظ _ المعنى) ، التي لعبت دوراً كبيراً جداً في تفسير القران في القرون الأولى _ كما يمكن ان تحافظ على هذا الدور وبأهمية اكبر في المستقبل ….فوحدة اللفظ القرآني وثراء المعاني الممتدة افقياً وعمودياً لكل لفظ يجعل من هذه الثنائية منجم شديد الخصوبة وشديد الاتساع …
وفي كل الأحوال ، وحتى في معسكر المشركين المعاديين التقليديين للخطاب القرآني _ فقد كانت حالة الإعجاز والذهول هي السائدة . لدرجة ان المشركين أنفسهم أعياهم تحديد ماهية الخطاب القرآني : اهو شعر ؟ سحر ؟ جنون ؟ ام سجع كهان ؟ .
ومن الواضح طبعاً ان القران لا يندرج تحت أي من هذه التقسيمات . ولكن الأعلام المعادي كان لا بد له ان يجد خانة يضعها تحته لضرورات دعائية وسياسية فحسب . 
… كان الخطاب القرآني فوق كل تعريف وقبل أي تصنيف . كان حالة فريدة لا مسبوقة ولا ملحوقة وكان يختار العقل – كوسيلة وغاية في نفس الوقت .
وكان هذا سراً من أسرار اعجازه .
* * *
ان اختيار الخطاب القرآني للعقل كغاية وكوسيلة في آن واحد ، ينبع من طبيعته الإعجازية أصلاً …
فبينما اعتمدت باقي معجزات الرسل على ( إعجاز) الحس والعقل بأفعال خارقة للقوانين الطبيعية المادية ، فان إعجاز القران على العكس من ذلك يعتمد على إيقاظ العقل والنهوض به …
المعجزات الحسية التقليدية – لو تتبعنا كل منها على حدة – تعتمد على خرق ، واضح للعيان لظاهرة مادية تقليدية ، يتبعها اعتراف من الشهود بعجزهم العقلي عن فهم او متابعة هذا الخرق ، يستلزم هذا العجز التسليم والانقياد التام من قبل الشهود لصاحب المعجزة ، وبالتالي التصديق بقضيته الأساسية : التوحيد وطاعة الرسول غالباً.
هذه الثلاثية المتلازمة ( التحدي – الإعجاز- والتسليم ) تسلك طريقاً اخر مع المعجزة القرآنية ، فاذا كانت هذه المتلازمة اعتمدت وبشكل أساسي على إعجاز العقل – أي إعلانه العجز والهزيمة ورفعه للراية البيضاء – عبر الانقياد ، فان أي مظهر او اثر لمحاولة من هذا النوع عبر المعجزة القرآنية غير موجودة على الإطلاق …
وعلى العكس من ذلك فان إلية ( الإبطال) القرآنية لمعتقدات وتقاليد وقوانين الجاهلية كانت تعتمد أساساً وبشكل كبير على استنهاض قيم وطرق تفكير مضادة ، قوامها استنهاض العقل بدلاً من محاولة هزيمته، وإعلان قيامته بدلاً من إعلان عجزه …
كان هذا هو محك الرهان القرآني في إعجازه . ان يقوم العقل من سباته ليكون الحكم – في قضية قديمة تعددت فيها الأقوال والأحكام والأساليب . ان يعلن العقل ثورته على (اللاعقل) السائد بكل مظاهره المتعددة ابتداء من الشرك الى مظاهر الاستغلال والقهر الاجتماعيين .
وكان هذا النوع من الإعجاز الذي اتخذ شكل الجدل حصراً ـ على الأقل في الثلاث عشر سنة الأولى من البعثة – مؤلماً وخارقاً للغاية لمعانديه، حتى انهم ـ وقد أعياهم الجدل و أعجزهم العقل – طالبوا بالنوع التقليدي من المعجزات الحسية المعتمدة أساساً على إعجاز العقل لا قيامته ، وكان هذا النوع من المعجزات يناسب لغتهم وطريقتهم في التفكير ، لانهم كانوا سيجدون حتماً طريقة للالتفاف على هذا النوع من الإعجاز – كما وجدت الأمم السابقة في التجارب النبوية السابقة …
لذلك ظلت المعجزة القرآنية فريدة ونادرة في الإصرار على مخاطبة العقل – والعقل وحده – في عملية التغيير التي هي هدف كل دين وكل رسالة وكل دعوة .
ولعل هذا الإصرار على ما هو جوهري لا في طريقة التبليغ فحسب بل في طبيعة الرسالة ذاتها كان عاملاً مهماً وأساسياً بل وحاسماً في كون الإسلام هو الرسالة الخاتمة للرسالات السماوية السابقة .
فالطابع الحسي لمعجزات الرسالات السابقة دمغ هذه الرسالات بطابع حسي يتناسب مع لغة اللاعقل التي كانت سائدة والتي استطاعت المعجزة الحسية اختراقها والتفاهم معها ، لكن الرسالة الخاتمة يجب ان تتميز عن ذلك بتقديم لغة حية تصلح مقدماتها ونتائجها لكل العصور ، لا تصلح فقط لكل العصور ، بل تُصلِح كل العصور …
… وكان هذا سراً اخراً من جوانب إعجاز الخطاب القرآني …
كان ولا يزال، لولا …
* * *
وقبل ان نسترسل اكثر في الثناء والتمجيد والاعتزاز بهذه الحقيقة الساطعة ، يجب أن نتذكر أن رياح التاريخ لم تسر دوماً باتجاهات السفن القرآنية . فالخطاب القرآني تم تكريس بعض جوانبه – عبر قرون الانحدار ومن ثم الانحطاط – بالضبط إلى الصف المضاد للقيم التي أستنهضها القرآن الكريم . وسادت تأويلات وتفسيرات لبعض آيات القرآن الكريم تحارب العقل ولغته والقيم العقلانية التي كانت أساس الأعجاز القرآني .. هذا بالإضافة إلى أن عدم الفهم الحقيقي للطبيعة العقلانية لمعجزة محمد الخالدة والوحيدة – القرآن – قاد الفكر الأسلامي إلى ارتكاب شنائع بحق هذه المعجزة ، وذلك بتوظيف حوادث أو – بأختراع – معجزات حسية ونسبتها أليه عليه أفضل الصلاة والسلام بأعتبارها معجزات أخرى إلى جانب معجزته الأولى : القرآن ! – تمتليء كتب السيرة والحديث عموماً بمفاهيم من هذا النوع. وسواء صحت هذه الوقائع أو لم تصح فأن أطلاق لفظ المعجزة عليها هو تجاوز على معنى المعجزة أصلاً ، وعلى المعجزة القرآنية أساساً . فهذه الحوادث حتى لو صحت لا ينطبق عليها تعريف المعجزة باعتبارها فعل خارق للعادة يستهدف تحدي الغير مصدقين لهدف جلب ايمانهم ، بينما جرت معظم هذه (الحوادث ) ضمن مجتمع المدينة المؤمن ودون ان يعرف معظم حضور المشهد حدوث حدث خارق اصلاً – كما في حوادث معينة مثل (نبع الماء من يديه عليه افضل الصلاة و السلام الى أن توضىء ما بين الستين و الثمانين نفراً ) وغيرها من الحوادث المشابهة(راجع صحيح مسلم كمثال ، كتاب الفضائل باب المعجزات الحديث رقم-2279 و الاحاديث التالية) ومن الواضح طبعاً في هذه الحالة وسواها غياب طابع التحدي والاعجاز تماماً مما ينفي عنها تعريف المعجزة جملةً وتفصيلاً … لكن سيادة لغة ومفاهيم ( اللاعقل) بالتدريج على الفكر الإسلامي جعل من الضروري اختراع معجزات حسية – حتى لو كانت مبنية على حوادث حقيقية من اجل تزييف التنسيق بين الطابع اللاعقلاني الحسي الذي غزا الفكر الإسلامي وبين شخصية الرسول(ص) وطبيعة الدعوة - خاصة في ظل وضوح التناقض بين الطابع العقلاني للخطاب القرآني والاتجاه الذي ساد الفكر الإسلامي هادفاً الى تغييب العقل و أقالته او أحالته على التقاعد المبكر …
وفي الحقيقة لم يكن اختراع المعجزات الحسية هو الوسيلة الوحيدة التي انتهجها ( فكر اللاعقل) الذي سيطر على الفكر الإسلامي، فقد كون هذا الفكر ثقافة لا عقلانية كاملة بكافة مفرداتها وتأثيراتها الاجتماعية والسياسية. انه هو الفكر الذي اودى بالحضارة الإسلامية في درك الانحطاط شيئاً فشيئاً ، والذي لا يزال يمارس تأثيراته على الفكر الإسلامي وعلى مئات الملايين من المسلمين الذين ازدردوا عناصر هذا الفكر وتربوا عليه باعتباره يمثل دينهم الحقيقي …
نقطة نهاية السطر : معجزة واحدة فقط للرسول الكريم و لا داعي للمزيد! 
 



تاريخ النشر : 02-03-2006

6337 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com