آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

النص والتراث  .  دراسات قرآنية

دراسات حديثية    |    الفقه و الأصول    |    العقيدة و الكلام

  •     

في "التفسير العصري" للقرآن

عبد الرحمن الحاج


لا يكتسب البحث في التفسير أهميته من منظور علمي وحسب، بل يكتسب أهميته أيضاً من التفكير في مشروع النهضة والإصلاح الإسلامي، وكون موضوعه (فهم القرآن الكريم) المصدر الأول لكل تفكير في هذا المشروع، والعودة إلى هذا المصدر هو حاجة معرفية وتاريخية لتجاوز ثقل الثقافة التاريخية وفُهومها التي تفصل بيننا وبين النص الكريم؛ ثم هو "تقليد" سارت عليه كل حركات الإصلاح الديني والسياسي في تاريخ الحضارة الإسلامية، فكل تفكير بالنهضة لابد أن يتخذ موقفاً تجاه النص الكريم وفهماً يسوغ رؤيته، وهكذا جرت محاولات عديدة لنقد التراث التفسيري، وإعادة بناء تفاسير تستوعب روح العصر وتستثمر أدواته، وخلال ما يقارب قرنين من انبثاق التفكير في مشروع النهضة، برزت جهود عديدة في التفسير ومناهجه، تتفاوت في قيمة ما قدمته من جديد، وفي مستوى العلوم المستثمرة فيها.

لكن الاهتمام بالقرآن لم يكن حكراً على المسلمين وحدهم، فالغرب الاستشراقي (بدوافع مختلفة) اهتم اهتماماً كبيراً بالقرآن، وقدم في بعض الأحيان خدمات جليلة له، وإن كان ذلك لا يعفي من التذكير بأنه أساء إليه كثيراً أيضاً، ولقد أغرى تطور العلوم اللغوية (اللسانية) في الغرب في القرن العشرين الباحثين العربَ بتطبيق تلك العلوم على القرآن الكريم، بدافع المعرفة تارة، وأخرى بدافع التقليد، وثالثة بدوافع أيديولوجية محضة (وهو الغالب)، ومن الطبيعي إذاً - والحال هذه - أن نشهد محاولات كثيرة في تفسير القرآن ودراسته.

في القرن التاسع عشر ظهرت الفيلولوجيا المسكونة بهاجس الدراسة المقارنة التاريخية للغات، وتحقيق النصوص عبر منظور تاريخي واسع للغات يشمل الأسر اللغوية، وسيطرت على البحوث الاستشراقية بحيث أصبحت أداتها الرئيسة في فهم وتحليل التراث الإسلامي الضخم، وظهر في نهاية القرن التاسع عشر دراسات قرآنية تعتمد المنهج الفيلولوجي(مثل دراسة: تشارلز س. تورِّي، المصطلحات اللاهوتية الاقتصادية في القرآن عام 1893م)، وقد انتقل هذا المنهج بطبيعة الحال إلى العالم العربي عبر المستشرقين أنفسهم، لنجد دراسات عربية فيلولوجية في القرآن الكريم، لكن البحث الفيلولوجي لم يستهوِ كثيراً العالمَ العربي والإسلامي؛ إذ إن المناهج التقليدية بقيت أكثر تماسكاً وانسجاماً مع لغة القرآن العربية.

دُشِّن ما يمكن تسميته بالتفسير العصري فعلياً في العالم العربي مع الشيخ محمد عبده (ت1905م) (في تفسيره لجزء عم، وتفسير المنار) وفريد وجدي (تفسير القرآن الحكيم) وتلاميذهم، حيث شهدنا ممارسة فعلية للتفسير والتأويل مستفيدةً من معطيات العصر العلمية، وكان الشيخ عبده قد نعى على العلماء عدم الاستفادة من العلوم الغربية الحديثة، وعندما شرع في تفسيره تأوّل القرآن تبعاً لمعطيات تلك العلوم والنظريات العلمية في وقته، مما جعله يقول إن الداروينية مقولة قرآنية!، واللاماركية من سنن الله في هذا الكون! وهكذا أيضاً تأوّل المعجزات تأوّلاً وضعياً.

وسنجد امتداداً لذلك في تفسير طنطاوي جوهري المعروف بـ"الجواهر" (نشر في القاهرة بين عام 1921-1932)، وهو تفسير يبرهن فيه على أن كل العلوم في الغرب موجودة في القرآن! وأن القرآن قد سبق إليها، ليطمئننا بذلك إلى أننا سبقنا عصرنا إلى كل ما يتطاول به الغرب علينا من علوم حديثة (على حد تعبير بنت الشاطئ في نقدها له)، ثم مع أبي زيد الدمنهوري في تفسيره "الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن"، والذي خلص فيه إلى استنطاق القرآن بما يتلاءم مع أفكار العالم الغربي آنذاك في المرأة، والحدود الخ، إلى أن جاء المصطلح معبّراً في عنوان "التفسير العصري" مع مصطفى محمود وظهر المصطلح لأول مرّة في مقالاته في مجلة صباح الخير المصرية، ثم جمعها في كتاب وأصدره بعنوان: "القرآن: محاولة لفهم عصري، طبع عام 1970م".

شكل التفسير العصري مرحلة متميزة في التفسير الحديث وعلاقته بالقرآن الكريم، هذه المرحلة التي امتدت إلى أواخر السبعينيّات يمكننا أن نلاحظ فيها عدّة خصائص:

1. لم تخرج عن مناهج التفسير التراثية، وذلك بالرغم من أن ثمة تطور حصل في تلك المناهج باكتشاف ما عرف بـ"التفسير الموضوعي"، الذي يبشر - إلى اليوم - بإمكانيات تفسيرية وتأويلية جديدة، ولهذا لم تتجاوز التأويلات الإجرائية، التي تناولت بعض الآيات بما يتلاءم مع مقولات الحداثة الغربية "الأخلاقية والسلوكية الشائعة"، حتى لو خرقت تلك التأويلات الأطر المنهجية التراثية في التفسير ذاتها، بل إننا نجد في هذه المرحلة كيف وصل التفسير إلى مجرد تأملات تتسم بالبساطة والسذاجة أحياناً!.

2. ثمة قطيعة واضحة مع المناهج وأدوات البحث الحداثية في هذه المرحلة، وتواصل مع الأفكار الليبرالية ونموذج الحياة الغربي، في مقابل الاكتفاء بالمنهجيات والعدّة التأويلية التراثية.

3. الاجتزاء ظاهرة واضحة هنا أيضاً، حيث لا يتم التأويل المعاصر إلا في تلك الآيات المتعلقة بالإشكالات والقضايا الفكرية المعاصرة، أو تلك التي يشتبه بها في استنطاق الاكتشافات الحديثة.

4. يبدو الاهتمام بالدلالة اللغوية المباشرة هامشياً؛ إذ لم يحظ بما يستحق الذكر، فالعناية هنا كانت منصبة عموماً على تأويل مجمل للعبارة، والجملة، والآية، والوحدة الموضوعية للسورة، وهي مستندة بشكل تام تقريباً على أدوات التفسير التراثية السابقة، فيما يعرف بالتفسير التحليلي أو التجزيئي. ونظراً لاحتكام التفسير أو التأويل - في هذه المرحلة - إلى المناهج التراثية التقليدية في التفسير، فقد ظلّ مصطلح "التفسير" مهيمناً بوصفه علماً على هذه العملية التأويلية، ولارتباطها بالعصر متجسدّاً في علومه (التطبيقية التقنية بشكل خاص) فقد كان من الطبيعي أن يبرز مصطلح «التفسير العصري» تعبيراً أميناً عنها.

وأياً ما يكن فإن تطور البحث اللغوي الغربي زاد من أهمية دراسة القرآن الكريم، فقد أحدثت الثورة اللسانية في الربع الأول من القرن العشرين نقلة نوعية باتجاه اهتمام مختلف العلوم الاجتماعية باللسانيات، وعلى الرغم من إصرار التقاليد الاستشراقية عموماً على تجنب استخدام العلوم اللسانية والاجتماعية الحديثة في دراسة الإسلام؛ فمنهجية الاستشراق في جامعة السوربون - مثلاً - لم تكن تسمح بإدخال المنهجيات أو الإشكاليات الجديدة، وأن معظم ممارسي المنهجيات التقليدية الاستشراقية في الغرب متضامنون بقوة مع الرؤية التاريخية والعرقية - المركزية الغربية، إلا أن محاولات قيِّمة أفلتت من قبضة تلك التقاليد الصارمة، وقدمّت دراسات قرآنية في غاية الأهمية، على أساس الدرس اللساني.

وفي اللحظة التي بدأ فيها استخدام المناهج اللسانية والمقاربات التأويلية المعتمدة على نتائج اللغويات الغربية الحديثة أعني بدءاً من مطلع الثمانينيات مهَّد لظهور مفهوم "القراءة المعاصرة للقرآن" الذي تأخر ظهوره حتى مطلع التسعينيات ولأسباب وظروف خاصة، وما بين "القراءة المعاصرة" و"التفسير العصري" بون شاسع.


تاريخ النشر : 25-12-2006

6355 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com