آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

النص والتراث  .  العقيدة و الكلام

دراسات قرآنية    |    دراسات حديثية    |    الفقه و الأصول

  •     

الفطرة الإنسانية وتجاذب الخير والشر في الرؤية الإسلامية

هشام منوّر


يتناول الفلاسفة مفهوم الفطرة الإنسانية في سياق نزاعهم حول الهيئة أو الحالة التي خُلق عليها الإنسان, ونزوع تلك الهيئة أو الحالة نحو كل من الخير أو الشر أو كليهما معاً, ففي حين مال بعض الفلاسفة (سقراط والرواقيون) إلى اعتبار الإنسان كائناً خيرّاً بالطبع، وأن صيرورته شريراً تكون بمجالسة أهل الشر، والميل إلى تحصيل الشهوات والاندفاع في سبيل ذلك في كل وجه, دون النظر إلى حسنها وقبحها. وذهب آخرون (الفيلسوف المصري أفلوطين ومن تابعه) إلى الرأي القائل بأن الناس مطبوعون على الشر، ولا يصلح من حالهم أو يعدل منها سوى التأديب والتعليم والتربية، لكنهم يستثنون من الناس صنفاً هو في غاية الشر لا يصلحه التأديب أو التعليم أو غير ذلك.
ورأت فئة أخرى (الفيلسوف الألماني (كانط) وغير من الفلاسفة التجريبيين) أن الطفل منذ ولادته إلى سن محدودة ليس له حياة أدبية، فلا تنسب فطرته إلى الخير ولا إلى الشر، لأنه لا يعقل ما يفعل. ورأى البعض أن في الناس من هو خيّر بالطبع، وهم قليلون، وليس ينتقل هؤلاء إلى الشر. ومنهم من هو شرير بالطبع، وهم أيضاً قليلون، وليس ينتقل هؤلاء إلى الخير، وبين هذين الصنفين من هو متوسط بينهما، وهم القسم الأكبر من الناس، وهؤلاء ينتقلون بمصاحبة الأخيار إلى الخير، أو بمصاحبة الأشرار وإغوائهم إلى الشر. 
والواقع أن أصل مناقشة هذه القضية من وجهة نظر فلسفية تمتح من العقل وبراهينه وحده دلائل على ما يقول كل فريق، هو أمر مجانف للصواب، إذ إن مجال البحث في هذه القضية (افتطار الناس على النزوع إلى الخير أو الشر) هو أمر غيبي لا مجال للعقل البشري بمفرده إلى معرفته واكتناه حقيقته، بل إن مجاله _ أي العقل _ يكاد ينحصر في تتبع ظواهر تلك الفطرة أو الخلقة البشرية وآثارها الخارجية من سلوك وأفعال، في ظل جهل العقل, بمفرده, لمبدأ خلقة الإنسان على أي من النزعتين, وتقلب الإنسان ذاته في سلوكاته بين الخير والشر دون وجود حواجز واضحة وحاسمة في تصنيف الناس بناء على ما يظهر من أفعالهم، وبالتالي، فمن هو الشخص المخول تصنيف الناس وتقسيمهم دون أن يطاله, في الوقت ذاته, التصنيف نفسه؟!.
فإذا استبعدنا موضوع هذه المسألة من حقل المعرفة البشرية المرتكزة على العقل وحده، كنا في غنى عن مناقشة هذه الآراء على حدة، وهو الأمر الذي قام به العديد من العلماء المسلمين في سياق نقدهم لهذه الآراء، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، تسنى لنا أن نعلم أن المنهل المعرفي الوحيد الذي يمكننا أن نستقي منه الجواب الشافي في هذه القضية هي نصوص الكتاب والسنة؛ لأن موضوع هذه القضية أمر غيبي لا يملك العقل إزاءه سوى التلقي من الوحي والفهم عنه، ثم الانطلاق لتعزيز ما تحصل لديه من علم من خلال دلائل الواقع وبراهينه.
وهو الأمر الذي مارسه العلماء المسلمون في تناولهم لهذه القضية، فبعد قراءتهم لسيل الآيات والأحاديث المتعلقة بها، من مثل قوله تعالى: {إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً}[الإنسان:3]، وقوله:{وهديناه النجدين}[البلد:10]، وقوله عليه الصلاة والسلام: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا». وقوله: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ». ذهب العلماء المسلمون إلى اعتبار معرفة كل من الخير والشر أمراً أصيلاً في فطرة الإنسان، وأن في الفطرة استعداداً لقبول ما يطرأ عليها من الخير والشر، فالإنسان مفطور على معرفة مايصلح أفعاله وأخلاقه وتمييزه، وعلى معرفة ما يفسدها، وميسر له أن يسلك طريق الخير وطريق الشر، ثم يختار الإنسان بعد ذلك أي الطريقين شاء: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له»، فيألفه ويتعوده ويتطبع به حتى يصبح له طبعاً وملكة بمحض اختياره وإرادته، وهو ما يجعله مسؤولاً أمام الله عز وجل عن أفعاله، والأمر الذي أثار الالتباس حول كون بعض الناس مفطورين على الخير فقط أو على الشر فقط، هو ما قد يلاحظه في الواقع من ميل لبعض الناس تجاه الخير أو الشر على حساب الطرف الآخر، مع إغفال أن الإنسان كلٌّ مركب، وأن ميله أحياناً إلى أحد الطرفين لا يعني انتفاء الطرف الآخر فيه تماماً، فضلاً عن نسبية مفهومي الخير والشر وعدم حسم ثبوتهما على أشياء معينة بالذات.
فالنصوص التي تحدثت عن مصير الناس إلى الجنة أو النار بناء على ما علم الله من أفعالهم ليست أدلة حاسمة في اختصاص فريق من الناس بالخير، وفريق منهم بالشر كفطرة أصلية لهم. بل إن النصوص التي تحدثت عن استواء خلق الإنسان واعتداله ظاهراً وباطناً: {ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}[التين:4] وتزويده بالعقل وكافة الملكات المساعدة له على تحمل أمانة ومسؤولية التكليف في مقابل المؤثرات والعوارض الخارجية: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» لتجعل من فطرة الإنسان _ على احتوائها لمبدأ الشر وقابليتها له ولو نظرياً _ أقرب إلى الخير منها إلى الشر، وهو ما يلحظه المرء من ألد الناس وأكثرهم شراسة ونزوعاً للشر، فإن بذرة الخير مهما ضمرت تبقى موجودة فيه، وإن كان غارقاً في الملذات والشهوات والشرور ومنغمساً فيها, بل إن البعض يرى كون الإنسان خيراً بطبعه وجبلته بدلالة توجه الرسالات ونزولها إلى الإنسان بقصد هدايته وإرشاده إلى معالم فطرته الخيرة التي قد يشرد عنها ويتيه، فلو «افترض أن الشر أصل الإنسان وفطرته التي فطر عليها، لكانت الدعوة إلى الدين من العبث». 
وبذلك يكون الفلاسفة المسلمون قد استمدوا نظرتهم في هذه القضية من نصوص الوحي(القرآن والسنة)، فالإنسان هنا ينظر إليه باعتباره مهيأً ومُعَدّاً فطرياً لقبول كل من مبدأي الخير أو الشر والتزامه، وحالة الاستعداد الفطري تلك هي جزء من مهمته التكليفية الملقاة على عاتقه أصلاً.
تاريخ النشر : 14-04-2005

6510 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com