استُعِيدَ سؤال الاستبداد بقوة مع سقوط النظام العراقي واحتلال البلاد من قبل الوافد "الغربي" القوي، على نحو يذكّرنا بطرح السؤال نفسه، وفي موقف شبيه للغاية، عندما بدأ الاستعمار يتقاسم تركة الخلافة العثمانية، وكأن الاستبداد دوما مجلبة للاحتلال. لكن إذا كان الحديث آنذاك يحاول تشكيل وعي ضد الاستبداد، من خلال تفكيك بنى الثقافة السياسية التي تشكّل فيها أكثر مما شكَّلها، فإن الحديث عن الاستبداد في عصر الاحتلال الأمريكي، الذي يجتاحنا في عقر دارنا، ينبغي أن يركز على تفكيك الإرث الثقافي السياسي الجديد الذي خلفته النظم الشمولية، والوعي بالكيف الذي تمت صناعته فيه.
التربية السياسية الرسمية التي خضعت لها شرائح المجتمع في الأنظمة الشمولية تحاول تكوين الاتجاهات والمعارف والقيم والمشاعر التي تعينهم على فهم وتقويم العالم السياسي الذي يحيط بهم، وتسهل لهم الانخراط والتأثير فيه على مبدأ مضمر، هو الحفاظ على النظام السياسي وإطالة أمده حتى "الأبد" ما دام ممكنا. فخلَّفت هذه التنشئة السياسية الجماعية إرثا ثقيلا، صنع بإرهاب الدولة تارة (المجازر، والتصفيات الجسدية المنظمة للمعارضة، والعقاب الجماعي)، وبالتنشئة السياسية "العلمانية" عبر حقل إعلامي مغلق غالبا (تحريم الفضائيات، والإنترنت المراقب أمنيا بأفضل التقنيات...)، لينتهي الأمر ـ حسب المنطق المضمر للنظام ـ إلى طاعة مطلقة، هي في الواقع طاعة تؤلِّه الحاكم وتستعبد المحكوم، وتحول البلاد من ملك للشعب إلى ملك للنظام، الذي أصبح ]لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون[!
وفقا لهذا النموذج، لا بد أن يحصل شرخ نفسي للجماهير، ما بين قبول علني إكراهي للسياسة الدكتاتورية، ورفض فطري مكبوت لمنطق النظام المستعبد؛ الأمر الذي لا بد أن يخلق تنشئة سياسية مضادَّة لا تلبث أن تكشر عن أنيابها في أحلك الظروف، فيجد النظام أنه لا نصير له، فقد خذله شعبه وتركه لمصيره.
لا شك أن وجود انشقاق في التنشئة السياسية، ووجود تنشئة سياسية موازية ومضادة تتعايشان في إطار تقاسم الوجود بين "الظل" و"العلن" هو ما يميز الثقافة الاستبدادية التي خلقها النظام الشمولي الجديد. ففي السابق لم يكن هناك ثقافة سياسية على هذا الحد من التناقض، بل كانت ثقافة مشتقة بشكل من الأشكال من تجربة الحضارة الإسلامية المديدة، والتصورات التي صنعها الفقه السياسي، حيث يدين الناس للولاة بالتقدير والطاعة والولاء.
"دولة الأمن" أم "الدولة العدوة"؟
وحتى عندما يحاول النظام الشمولي العربي استثمار الثقافة الإسلامية والفقه السياسي الإسلامي، فإن ثمة نفورا شديدا يخلفه، فالإطار العلماني اليساري للأنظمة المذكورة، ومواقفها الفعلية القمعية تجاه الإسلاميين يجعل المجتمعات تقطع بأنها لعبة مكشوفة و"قذرة" من النظام.
في الواقع، إن التنازع بين التنشئتين المتواجد في الثقافة السياسية للمجتمعات العربية الحديثة، الرازحة تحت سقف الشمولية، يؤدي في نهاية المطاف إلى تصور الحراك السياسي والاجتماعي باعتباره حالة عنف متبادل، تركز فعليا على مبدأي "الاستيلاء" و"الانتقام".
من المجدي، في سياق تفكيك البنية الثقافية الاستبدادية، البحث في المفاهيم السياسية الأساسية، إذ من خلالها نفهم كيف تتركب هذه البنية، وتنتظم في الوعي الاجتماعي. فبينما يتم تجاهل تأسيس عملي وترسيخ نظري لمفهوم "الدولة" ووظيفتها -باعتبارها كيانا سياسيا قائما على الجماعة والأرض والقانون- يتم التركيز في الوقت نفسه على الدولة في التنشئة الرسمية المكتوبة والمسموعة على "الأمن" و"حفظ القانون" و"تطبيق النظام"، والإشارة المرائية إلى "خدمة المجتمع"، في حين يتم التركيز في التنشئة الشفاهية على "الدولة العدوّة"، التي ما إن تقترب منها حتى تضيع الحقوق! ومن ثم، تفتقد "العدالة" بأبسط صورها... فتجليات الدولة -كما يُنظر إليها من موقع الشعب في العالم العربي- يجعل "الحكومة" أو "النظام" مكروها عموما، إذ تبدو في صورة "الدولة ضد الأمة".
وفيما يظل مفهوم العدالة مطلبا رئيسيا في وظائف الدولة في التنشئة الشفاهية السياسية التي يقوم بها المجتمع، حيث تبرر به دوما وظيفة "تطبيق الحدود"، يكون هذا المفهوم مفهوما ثانويا في تحديد وظائف الدولة، وإن كان ذلك لا يعني عدم الإشارة إليه.
إن عدم شعور المجتمعات العربية (الإسلامية عموما) بالعدالة، يجعلها تُقبل على شعار "تطبيق الشريعة" (التي تختزلها بعض حركات الإسلام السياسي في مسألة "تطبيق الحدود") بلهفة، إلى الحد الذي قد يجعلها أحيانا تناصر بصمت حركات العنف المضاد للدولة. وغالبا ما يُمر على مصطلح "الوطن" دون تحديد لمضمونه، إذ يأتي في معظم الأحيان في السياق التمجيدي على أنه "أرض الآباء والأجداد"، ويختلط بين مفهوم "الوطن" الجغرافي المحدود بأرض الدولة، وبين "الوطن القومي" المحدود بجغرافيا "جامعة الدول العربية"!، وفي كل الأحوال، يحدث الارتباك في تحديد المدلول، خصوصا مع عدم وجود تعاريف وتحديدات مستمرة لهذا المفهوم؛ وهو ما يجعله في كثير من الأحيان مستعصيا على الفهم، أشبه بأيقونة يصعب فهمها دون تأويل! لكن هذا الغموض يفصح عن مكنونه عندما يختصر الوطن في النظام، فتكون البلاد "بلاد الحزب القائد"، أو تنسب مرة واحدة للحاكم الأوحد.. فتوصف بـ "بلاد السيد القائد" (حسب اسم القائد واسم البلاد).
لا يعود هناك مجال للتنشئة الشعبية الشفاهية على العموم الواقفة على النقيض سوى أن تصور هذا الاختزال للوطن على تعبير رسمي مُظرَّف عن الفعل العملي الذي يمارسه النظام بحق البلاد وممتلكاتها. لهذا فإن مفهوم "الوطن" يكاد يكون غائبا، فلم ير في هذا "الوطن" سوى القهر والإذلال. بعد ذلك ليس غريبا أن نرى -في بعض هذه النظم الشمولية- أرقاما مخيفة في نسب الراغبين بالهجرة، قد تصل إلى أكثر من 90% للشباب الجامعي مثلا، وهي أرقام كارثية بكل ما تعنيه كلمة كارثة من معنى.
تضارب المفاهيم يؤدي إلى العنف
يقودنا هذا لمفهوم المعارضة، الذي لا نجد له ذكرا ألبتة، بل إن ذكره بحد ذاته "جريمة"، فإذا كان كل من يعارض النظام "خونة للوطن"، و"منافقين"، أو "أوغادا"، أو "عملاء" للاستعمار أو للأمريكان (الأمر سيّان)، فإن التنشئة السياسية الشعبية المعارضة بطبيعة الحال تعتبر كل متعاون مع النظام "عميلا" له، تكن له العداء وتضمر له الكراهية.
قلّما يشرح مفهوم القانون على نحو يكرس الوعي لدى الجماهير بأهمية التعامل معه، ولكن في كل الأحوال فإن تطبيق هذا القانون الذي يخضع في معظم الدول العربية إلى محسوبيات السياسيين والحزبيين ورجال الأمن و.. و... إلخ يجعل هذا المفهوم للقانون محط استخفاف؛ حيث "لا يطَّبق إلا على الضعفاء"؛ إذ يتحول القانون غالبا إلى "أداة سطو" و"ابتزاز"، على الأقل هذا ما تكنه التنشئة الشعبية، وإذا أضفنا إلى ذلك أنه كثيرا ما يقدم مفهوم القانون من منظور العقوبة، فإن علينا أن نتصور إلى أي حد تتكرس ثقافة القانون، والإحساس بوظيفته، فقد أصبح مبررا لعنف النظام ضد أفراد "شعبه".
أما عن مفهوم "النظام السياسي" فإنه في الوقت الذي تتنوع التنشئة الرسمية تبعا لاختلاف نظام الحكم بين "جمهوري" و"ملكي" و"إماري" فإن كل الأنظمة تركز على الطبيعة "الديمقراطية" وخصوصا "الجمهوريات" الشمولية. اللعبة مكشوفة على مستوى التنشئة الشعبية، غير أن هذه التنشئة تتوقف عن وصف الأكذوبة وكيفية تمريرها، فهي لا تمتلك تصورا بديلا، إنها تتوقف عند تصور الواقع البائس، ولا تمدنا بتصور مضاد، إنما تكتفي بمفهومي "الحقيقة" و"العدالة" كلما مرت ذكرى الانتخابات (أو "الاستفتاءات" كما تسميها هذه النظم).
الثقافة السياسية السوداء مؤسسة على هذا الانشقاق القائم في التنشئتين السياسيتين الرسمية والشعبية وطبيعته، والذي يتغذى من عنف الدولة وانعدام عدالتها، وهذا ما يعني أن إعادة الانسجام بين التنشئتين يبدأ من توقف النظام عن إرهابه، والتدرج بإطلاق حريات التعبير واستقرار الممارسات القانونية على نحو عادل، التي بدأت بعض هذه النظم بالعمل بها، ولكن المشكلة أن العمل بها جاء تحت تأثيرات الرياح الأمريكية؛ وهو ما يعزز الانشقاق، ويبرهن للشعوب على أن هذه الأنظمة لا ترغب أن تفعل شيئا بإرادتها.
بقي أن نقول إن علينا أن نعي جيدا الفرق بين الاحتلال الأمريكي الجديد والاحتلال الذي حصل عقب انهيار الدولة العثمانية، فإن الاحتلال الأمريكي قوبل باستحسان وإن كان متحفظا؛ وهو ما جعله يبدو فعلا وكأنه يحاول أن يشاكل الفتح الإسلامي بفتح "صليبي" جديد؛ فالوعي كبير بوطأة الاستبداد، ولم تعد هناك حاجة للتنوير بالوعي به.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.