|
|
الفكر السياسي . التراث السياسي |
|
|
|
تمر عملية التحول الديمقراطي في أي نظام بثلاث مراحل هي: ضعف النظام أو تفككه، ثم المرحلة الانتقالية التي تكون أكثر أماناً عندما تتم بوسائل ديمقراطية، ثم المرحلة الأخيرة وهي الاستقرار الديمقراطي وتتم عندما تصبح البنى الديمقراطية مستقرة ومتماسكة منسجمة مع الوعي الجمعي العام للمجتمع.
فالمؤشرات الاقتصادية السلبية من مثل ارتفاع نسبة البطالة وتدني فرص الحصول على وظائف عامة أو خاصة، وتدني مستوى البنية التحتية وانعدامها في بعض المناطق، إلى كثير من المؤشرات، لا تشكل عاملاً حاسماً في عملية التحول الديمقراطي، وإن كانت تمثل عاملاً رئيساً في ازدياد التذمر من سياسات النظام. فالأزمة الاقتصادية - كما يقرر الكثير من الخبراء- غير كافية لإسقاط النظام، لكن المهم فيها هو الآثار المترتبة على هذه الأزمة، لاسيما في ظل عدم قدرة النظام على تسوية هذه الأزمة الاقتصادية أو إدارتها. الأزمة الاقتصادية غالباً ما تتحالف مع الأزمة السياسية لتشكّلا معاً نفقاً صعباً لا يستطيع أي نظام أن يتجاوزه دون تقديم تنازلات حقيقية تجعله يدخل في التفاوض مع القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة الأخرى.
الضغوطات الدولية تعد أيضاً من المؤشرات المهمة على ضعف النظام وعزلته، وعلى الرغم من تقديرنا لوجهة النظر القائلة أن العوامل الدولية يمكن أن تسهم في اعتلال النظام السلطوي، لكنها تلعب دوراً ثانوياً بالمقارنة مع العوامل المحلية والداخلية في تغيير النظام أو إسقاطه، إلا أن العوامل الخارجية تلعب دوراً محورياً في تحطيم صورة النظام الخارجية التي يعتمد عليها في سياسة الخارجية والإقليمية، بخاصة بالنسبة للأنظمة الأيديولوجية التي ترتكز في الكثير من شرعيتها على صك الشعارات المنسوجة بعناية لتحاول تثبيت شرعيتها داخلياً عبر التوافق مع سياساتها على المستوى الإقليمي والدولي. لكن بكل تأكيد، لن يكون للعوامل الدولية القرار الأخير فيما يتعلق بإسقاط النظام، إذ يعود ذلك في نهاية الأمر للديناميات الداخلية التي تستفيد من توافق العوامل الخارجية والدولية لتعزيز أطروحاتها السياسية ولتعيد فتح مستقبل مختلف للمجتمع عن السياسة التي ينتجها النظام.
السياسة الدولية وتوجهاتها تلعب دوراً في توجيه دفة السياسات المحلية والوطنية، داخل كل بلد، فعندما يتبنى المجتمع الدولي سياسة تعتمد على احترام حقوق الإنسان ومبدأ تعزيز الشفافية ونشر الديمقراطية تسعى الحكومات المحلية للتكيف – ولو بشكل مصلحي ومؤقت- مع أجندته السياسية مما يكون له دور فاعل في تقوية وتعزيز نشاط المجتمع المدني الذي يرتكز في مبادئه على هذه المقولات ويستند إليها.
أما المؤشر الأخير على ما يسمى اعتلال النظام، في مرحلة التحول الديمقراطي، فهو الانتصار الساحق للفكرة الديمقراطية داخل نخبها السياسية المعارضة والمدنية. فللنخب دور مركزي في التحول باتجاه نظام ديمقراطي، إذ ليس بالضرورة أن تقود كل عمليات التحول من أنظمة سلطوية إلى أنظمة ديمقراطية بشكل آلي وعفوي، إذ ربما تنتقل هذه النظم إلى نمط من الحكم العسكري أو أنها تسقط في فخ الحكم الثيوقراطي لرجال الدين إذا افتقدت القوى السياسية للمبادرة وكان لرجال الدين فيها الصوت الأقوى داخل المجتمع.
المجتمع في تعريفه الأبسط هو المجتمع الحي القادر على القيام بعمليات التجدد والتواصل، كما عبر كارل بوبر، لذلك فإن سؤال حتمية التغيير ينتفي لحساب إمكانية وآلية هذا التغيير، الذي يصبح بمثابة الإجابة عن استحقاقات داخلية وخارجية أصبح من المستحيل غض النظر عنها أو استبعادها، ومن الضروري الدخول في حوار معها من أجل الإجابة عليها أو من أجل تكييفها بما يتلاءم مع المستقبل السياسي والاجتماعي. وعلى ضوء هذه المؤشرات يمكن أن نتساءل على مدى قدرة مجتمعات جنوب المتوسط على الدخول في عملية التحول الديمقراطي، ويعود ذلك إلى عدد من الإشكاليات التاريخية والفكرية:
أولها ارتباط الفكرة الديمقراطية بثنائية مركبة تقوم على الوطني اللاديمقراطي والخارجي الديمقراطي، وقدومها الدائم على المنطقة العربية عبر ما يعتبر مشاريع خارجية تحمل أجندة ديمقراطية غير بريئة، فغالباً ما ينتقص من الفكرة الديمقراطية وطنيتها ويجعلها تختلط مع أفكار أخرى تعتبر مضادة لها في تلك اللحظة كالاستقلال والقرار الوطني وهو ما حدث في لبنان، على سبيل المثال، بعد ما سمي انتفاضة الاستقلال وما يحدث يومياً في العراق، وهو ما يشغل المشهد السياسي السوري اليوم عبر ثنائية الداخل الاستبدادي والخارج الديمقراطي.
ثانيها العلاقة بين الإسلام والديمقراطية، إذ يحاجج البعض في أن رفض العالم العربي والإسلامي للديمقراطية إنما ينبع من خصوصية ثقافية في العالم الإسلامي ورثها عن ممارسة الحكم منذ العهد العباسي، لكن هذه القراءة الأنثربولوجية تجعل الثقافي هو الأصل وتهمل السياسي والاجتماعي على اعتبار أنهما فرعٌ للإشكال الثقافي دون أن تستذكر أن الثقافة بمعناها العام هي نتاج الحراك السياسي الاجتماعي، وبالتالي فتأزم هذا الحراك سينعكس بالضرورة على الحياة الثقافية.
انعدام الحرية داخل المجتمعات الإسلامية لا يعود إلى "ثقافة الطاعة"، كما تبلورت خلال التاريخ الإسلامي، بقدر ما تعود إلى غياب ممارسة الديمقراطية وانعدام الحريات الأساسية بحكم الاستبداد السياسي الذي تعيشه هذه المجتمعات مع تطور الدولة الحديثة، فالحرية تتجلى أول ما تتجلى في الفكر والتعبير، إنها الدرجة الأدنى من إحساس الإنسان بحريته، وعلى ذلك فالفكر والثقافة، إنما يكونان انعكاساً لذلك.
الكلام عن علاقة الإسلام بالديمقراطية غير مجدٍ، بخاصة عند الانهماك في البحث عن أصولٍ شرعية للديمقراطية، ذلك أن الحوار يتحول عندها من مناقشة الوسائل الأكثر فاعلية لزيادة المشاركة الشعبية، وهو المعنى الحقيقي للديمقراطية، إلى جدالات حول شرعية استيراد مؤسسات سياسية أجنبية إلى حقلٍ مختلفٍ عنها.
المدخل الذي أحاول من خلاله النظر إلى علاقة الإسلام بالديمقراطية، وأرغب من خلاله إعادة النظر في هذه العلاقة هو المدخل القائم والمؤسس على الانثربولوجيا الاجتماعية، عبر النظر إلى هذه المفاهيم وفق صيروراتها التاريخية وضمن حواملها الاجتماعية.
فالفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو يعتبر أن الحداثة حالة قائمة، فهي وفقاً لذلك ليست مرحلة من مراحل التاريخ، وعندها لا تغدو الحداثة بمثابة الحلم الذي يلهث وراءه الجميع من أجل جعله واقعاً، وليست مشروطة بتاريخ خاص بها، بل إن هناك سياقات مختلفة ومتعددة توصل جميعها إلى الحداثة. فالحداثة ليست مشروعاً ناجزاً حكراً على الغرب، إنها ما يحققه صبو المجتمعات إلى التغيير والانخراط في مشروع النهضة والتنمية.
لذلك؛ فإنّ السؤال الذي يجب أن تطرحه المجتمعات على نفسها باستمرار، كما يرى جان فرانسوا ليوتار، هو كيف نشأت الحداثة؟ وهل في الإمكان خلق نموذج خاص بالحداثة في كل مجتمع؟
البديل الذي يجب أن تطرحه المجتمعات هو الابتكار المفارق للحداثة، لا عن طريق الانزواء والانغلاق أو التماثل والتوحد، بل إعادة صياغة الفوارق، دون الحاجة إلى جعلها شرطاً مسبقاً. لذلك تبدو ثنائية الإسلام والحرية أو الديمقراطية لا تاريخية، عندما تحاول تأبيد الفوارق أو عندما تسعى إلى الغاء الاختلافات.
منطق المقاربة التاريخية بين الإسلام والديمقراطية يعود بشكل رئيس إلى منطق الثنائية المركب منها، إذ تفترض الثنائية عند تركيبها نوعاً من التناقض أو درجةٌ ما من التوفيق يقتضيها الجمع بين متعارضين، وفضُّ الثنائية وتفكيكها يغدو صعباً بعد تكّونها كثنائيات الإسلام والحداثة، والإسلام والغرب، والإسلام والديمقراطية وغيرها، فهي فضلاً عن أنها تحوي لبساً يغدو ظاهراً من طرفيها، فمثلاً هي تجمع بين طرفين ليسا متماثلين. فالإسلام دينٌ إلهي والحداثة أشبه ما تكون بالزمن التاريخي الذي تكوّن غربياً، والديمقراطية نظام سياسي، فما الذي يجمع بين الدين والتاريخ أو بين الدين والجغرافيا؟
ثنائية الإسلام والديمقراطية ليست بعيدة عن ذلك كله، فالإسلام كدين بدأ تاريخياً منذ أربعة عشر قرناً من الزمان وانطلق من أرض جزيرة العرب، والديمقراطية نظام سياسي تعود أصوله إلى اليونان البعيد وترسّخت جذوره مع الغرب الحديث على ضوء صيرورته التاريخية الزمنية في القرنين التاسع عشر والعشرين، فما الذي يجمع بين طرفي الثنائية حتى يتم تشكيلها أو تركيبها، لكن غالباً ما يكون القصد من وراء ذلك، هو السؤال المضمر في طيّاتها ويتعلق بمدى قدرة الإسلام كدينٍ على الانسجام مع الديمقراطية كنظامٍ سياسي.
لا شك أن نظرية الانسجام هذه قد نشأت مع بداية احتكاك الإسلام كرقعةٍ جغرافية مع الغرب الحديث، فأعادت النخبة العربية والإسلامية التفكير في تراثها القديم وفق المنطق الحديث، عندها نشأ ما يسمى نظرية القدرة على الانسجام أو التوافق، إذ هي -مجملاً- تدخل في خانة رد الفعل المطلوب احتواؤه والإجابة على سؤاله التاريخي الملح.
أجد أن الخلل الرئيس في فهم المجتمعات المسلمة للديمقراطية إنما يعود لتمثلهم إياها على أساس أنها "حكم قيمة" وعدم الأخذ بجانبها الإجرائي الذي يكاد يكون يمثل عمق محتواها النظري والعملي، فهي لا تحل مشاكلنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية، إنما تمثل الطريقة الأفضل أو الأمثل لحل هذه المشاكل، وهنا يجب فهمها على أساس أنها خبرة في إدارة الأزمات أكثر منها كعقيدة سياسية تتبناها الدولة أو يعتنقها أفراد الحكم.
هذا الفهم من شأنه أن يوفر جهداً وطاقة كبيرتين صرفتا من أجل التأصيل التاريخي أو البحث عن المقابل الشرعي أو استحضار مفهوم موازٍ، له تجربة تاريخية مغايرة ومختلفة تماماً، وعندها يضيع هدف الديمقراطية القائم على توسيع حجم المشاركة الشعبية في صنع القرار وتحقيق الغاية من ذلك، وهي تأمين أفضل الطرق وأسلمها من أجل التداول على السلطة. إذ يتحول النقاش إلى أدلة تاريخية وشرعية وفقهية تحمل من التأويل أكثر مما تحمل من الحقيقة.
السؤال الذي يجب أن تطرحه المجتمعات الإسلامية على نفسها هو قدرتها على ابتكار نموذجٍ للديمقراطية منسجم مع سياقاتها التاريخية والاجتماعية، من أجل تحقيق حراك سياسي واجتماعي، يفسح المجال لمشاركة أوسع وأكثر عمقاً بين الشرائح والفئات المختلفة، لكن دون الوقوف أبداً عند انغلاق المجتمعات على نفسها، وإنما بالانخراط في مشروع النهضة المستديمة والمتكاملة.
نموذج الديمقراطية البديل المنسجم مع الإرث التاريخي الإسلامي لن يتم اختراعه أو تطويره إلا من خلال البناء على نموذج الديمقراطية القائم الذي يفسح المجال لصيرورة تاريخية خلاقة. لا شيء يفسح النقاش حول ماهية الديمقراطية وآليات تطبيقها في المجتمعات المسلمة غير فتح باب الحرية واسعاً أمام النقاش الحر والمفتوح. فالديمقراطية هي المفتاح الرئيسي والوحيد للتنمية التي تنشدها المجتمعات المسلمة، فهي التي تفتح المجال واسعاً أمام التحول والتغير في المجتمع، إذ من الصعب أن يشهد المجتمع تنمية حقيقية دون أن يمر بتحولات وتغييرات عدة يشكل تراكمها نهضة المجتمع. كما أن الديمقراطية هي شرط الاستقرار؛ فالديمقراطية ضرورية من أجل الاستقرار، والاستقرار ضروري من أجل الديمقراطية، بل إنها تحقيقٌ عميق لمعنى الاستقرار وليس ذلك الاستقرار المؤمّن بالخوف والقهر والاستبداد.
الديمقراطية يجب أن ينظر إليها، كما عبر أوبر فيدرين وزير الخارجية الفرنسي السابق في إحدى مقالاته، باعتبارها الناتج النهائي لعمليات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية مديدة وليس كنتيجة لتحول فوري، إذ الديمقراطية ليست قهوة سريعة التحضير، إلا أن التوجه نحو التحول الديمقراطي يشكل بداية تأسيس الوعي الديمقراطي الذي هو الضامن الوحيد لأن تسير العملية الديمقراطية وفق خطها السليم.
تاريخ النشر : 25-12-2006
|
|
|
|
|
|
|
الصفحة الرئيسية
l
دراسات قرأنية l
دراسات حديثة l
الفقه و الأصول l
العقيدة و الكلام l
فلسفة التجديد
قضايا التجـديـد l
إتجاهات الإصلاح
l
التعليم و المناهج l
التراث السياسي l
الدين و الدولة l
الحقوق و الحريات
مفاهيم و مصطلحات l
الإسلام السياسي l
الظاهرة الدينية l
فلسفة الدين l
فلسفة الأخلاق l
قضايا فلسفية
المـــرأة و النسوية l
الإسلام و الغرب l
عروض و مراجعات l
إصدارات l
حوارات و شخصيات l
مـؤتـمـرات و متابعات
جديد الملتقى l
سجل الزوار l
رأيك يهمنا l
اتصل بنا
©2024
Almultaka جميع الحقوق محفوظة
Designed by
ZoomSite.com
|
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.